يكشف الباحث الأردني هنا عن الجانب اللغوي في أعمال تشومسكي الذي أسس مكانته العلمية في حقل تخصصه باقتدار كبير، يجعله عنده آخر الديكارتيين، ثم انطلق بعد ذلك ليقوم بدور المثقف في مواجهة السلطة الغاشمة، والأيديولوجيات الاستعمارية المغلوطة بالحق والكلمة القادرة على إثارة الفعل والتفكير.

تشومسكي… آخر الديكارتيين

إبراهيم خليل

 

تناقلت وكالات الأنباء مؤخرا أخبارا مفجعة عن اللغوي الأمريكي نعوم تشومسكي Noam Chomsky وعن إصابته بجلطة في الدماغ وهو في عمر تجاوز التسعين عاما. وكان قد ولد في فيلادلفيا عام 1928 ودرس الرياضيات والفلسفة واللغة في جامعة بنسلفانيا، وتابع دراسته العليا فيها إلى أن نال درجة الدكتوراه. ثم تابع الدراسة ونال الدكتوراه ثانية من جامعة هارفارد، ليغدو عضوا في الجمعية اللغوية الأمريكية. ونشر الكثير من الكتب والمقالات الصحافية في موضوعات الفلسفة واللغة والسياسة. والسمة الغالبة على مواقفه السياسية معارضته حكومات بلاده بسبب حروبها العدوانية في فيتنام، وفي أفغانستان، وفي العراق، وتأييدها الأعمى للصهيونية النازية في فلسطين. وآراؤه هذه معروفة لدى الأوساط السياسية في العالم، على الرغم من أنه ينتمي لأسرة يهودية العقيدة، لكنه ينظر لأباطيل الديانة اليهودية، وادعاءاتها بالحق التاريخي في فلسطين بازدراء، ويعدّها ضربا من الأساطير التي يرفضها العقل الحديث، ويأباها المنطق الموضوعي.

وتشومسكي يعد سليل دوحة من الباحثين اللغويين الأمريكيين، تمتد من فرانز بواز مؤلف «دليل القارئ إلى اللغات الهندو- أمريكية» مرورا بإدوارد سابير صاحب كتاب «اللغة» وليونارد بلومفيلد مؤلف كتاب «اللغة» وزيليغ هاريس المعروف بنظريته التوزيعية والواضحة في كتابه القيم «تحليل الخطاب» وقد أفاد تشومسكي من مصنفات المذكورين مثلما أفاد من معظم التيارات اللسانية الأوروبية، ولاسيما من مدرسة جنيف والشكليين الروس، وحلقة براغ اللغوية وأساتذتها وعلى رأسهم رومان ياكوبسون، وأفاد أيضا من المدرسة اللغوية البريطانية وتراثها اللغوي، بدءا بهامبولدت مرورا ببرونسلافسكي وانتهاء بفيرث. واختط لذاته على الرغم من هذا التوليف المتنوع نهجا خاصا يعتمد على أفكار جديدة لم تخطر لأي من المذكورين ببال.

فعلى مستوى الاكتساب اللغوي، لا يرى تشومسكي أننا نكتسب لغتنا وكلامنا عن طريق التقليد أو المحاكاة، ولا عن طريق المثير والاستجابة، على رأي واطسون، فالطفل منا حين يولد، يولد وفي دماغه خلايا مهمتها أن تقوم بوظيفة بيولوجية وهي التكلم، والاستماع، والفهم، والاسترجاع، والتخزين، فمثلما نولد مزودين بأعين نرى بها، وبألسنة نتذوق بها الطعام، وبأقدام نمشي عليهما، ونزاول اللعب بكرة القدم، كذلك يقوم هذا الجزء الموجود في الدماغ بهذه الوظائف العليا للعقل الإنساني. واكتساب اللغة في رأيه ليس غريزيا، بل هو اكتساب له صلة بالممارسة والخبرة والتعلم، بدليل أننا نستطيع أن نتكلم بلغات عدة. ونستمر في اكتساب اللغة مدى العمر، ولا نتوقف عن ذلك مثلما نتوقف عن تعلم المشي مثلا.

ومن أفكاره الجديدة التي صحح بها مفاهيم شيوخه من بلومفيلد إلى هاريس فكرة القاعدة التوليدية، وهي القاعدة الأساسية التي يحتفظ بها المتكلم من بداية اكتسابه للكلام، وهي لا تتضمن سوى العناصر الأساسية المؤلفة للجملة. ويستعيدها عند بناء أي جملة يريد التعبير بها عن فكرة ما، لكن هذا المتكلم يكتسب علاوة على تلك القاعدة الأساسية قاعدة أخرى سماها تحويلية. وهي تلك القاعدة التي تسمح بها الأعراف النحوية للغات، كي يدخل المتكلم على القاعدة الأساسية ما يشاء من التغيير بالزيادة، أو الحذف، أو التقديم والتأخير، أو الانتقال من العام للخاص، أو من المعلوم للمجهول، أو من غير المؤكد للمؤكد، أو من زمن ينم على الماضي لآخر يدل على الحال، أو الاستقبال، أو من الإيجاب للنفي، أو من الاستفهام لغير الاستفهام، أو من الشرط لغير الشرط.

فمثلما تسمح القوانين النحوية للمتكلم أن يقول أنا غريب، فلا يعترض السامعون على هذا، يستطيع أن يقول أيضا: غريبٌ أنا. وقد انطلق من هذه الفكرة للتفريق بين القواعد التوليدية والتحويلية؛ فالأولى أنا غريب توليدية، وغريب أنا هي قاعدة تحويلية لتقديمه الخبر على المبتدأ. والقواعد التحويلية منها ما هو اختيار، كبناء الجملة للمجهول، فهو اختيار من المتكلم، لكن حذف الفاعل في هذه الحال ليس اختيارا، بل هو مجبر على ذلك. لأن الأعراف النحوية توجب علينا عند اختيارنا لقاعدة تحويلية أن نعيد النظر في سائر عناصر الجملة، وهذا ما نبه عليه زيليغ هاريس في تأكيده على توافق محوري التحويلي والتوليدي؛ أي الركنين: ركن المجاورة والركن الاستبدالي.

أما عن معرفة المتكلم بلغته الأصلية، وقواعدها الأساسية، وهي في جل اللغات قواعد محدودة، يمكن احتسابها بالعدد، فتوصف لدية بالقدرة أو السليقة. وهذا يستدعي سؤالا: وهو إذا كان المتكلمون باللغة يعرفون القواعد التوليدية بسليقتهم التي هي المعرفة باللغة، فلماذا يختلفون، فنصف أحدهم بأنه فصيح طليق مبين ذرب اللسان، وآخر عييٌّ بكيءُ اللسان؟ جوابا عن هذا يشير اللغوي الأمريكي لتفاوت الناس في الأداء. والأداء يتجاوز المعرفة بالقواعد الأساسية، أي التوليدية، للمعرفة بالقواعد التحويلية، وهي غير محدودة. والممارسة الأدائية هي التي تضيف للمتكلم بلغته ما يفتقر إليه صاحب السليقة الذي يوصف بالعيي أو بكيء اللسان. لذلك ثمة فرق واسع بين المعرفة باللغة أو السليقة، وبين الأداء.

 فالنحاة على سبيل المثال، ومصنفو المعاجم، وكتب فقه اللغة، أمثال جونسون أو سيبويه والمبرد لا ريب في أنهم على معرفة فائقة باللغات، لكنهم أدنى من غيرهم في الأداء. فقد زعموا أن أبا عليّ القالي، وهو من هو في اللغة، ارتجَ عليه، وقعد به عجزه عن ارتجال كلمة في حضرة أمير الأندلس عبد الرحمن الثالث، وقام عوضا عنه إمام المسجد بارتجال الكلمة، وهذه حكاية معروفة جدا، وقد أوردها صاحب النفح. وكان المبرد وهو من هو في النحو، وفي اللغة، إذا أراد كتابة رسالة في تهنئة، أو تعزية، يكلف أحد طلابه.

واللافت للنظر أن لتشومسكي فكرة جديدة وجيدة عن تأليف الجملة لا نظن أحدا سبقه إليها أو اقترب منها. فقد زعم أن الجملة تمر لدى المتكلم بسلسلة من العمليات العقلية المركبة والمعقدة. ففي البداية لا بد من مادة (خام) إذا ساغ التعبير، تمثل شيئا غامضا مبهما في نفس المتكلم، وذلك ما سماه البلاغيون العرب وعلى رأسهم عبد القاهر الجرجاني المعنى الذي في النفس. وما أن يتفوه المتكلم بالكلمة الأولى، أو الأداة حتى تبدأ الاختيارات تتابع تتابعا يقوم على مبدأ التناسب والاختيار مع الانسجام، وفقا للقاعدة التوليدية الأساسية. وهذه المرحلة من الجملة توصف بالبنية العميقة. لكن المتكلم وقبيل أن يلفظ ما يريده من القول يرى في تلك الجملة عبارة تحتاج إلى ما يجعلها أكثر قوة في الدلالة، واتساقا في التركيب، وجمالا في السمع، فيقوم باختيار ما يشاء من التحويلات، فقد يزيد أو يحذف أو يقدم ويؤخر لتصبح الجملة أكثر إبانة عن ذلك المعنى الذي في النفس. ولا ضير في إعادة النظر فيها من جديد ليضفي عليها اللمسات الأخيرة المتأتية من قواعد الإسقاط؛ فهل تحتاج ها هنا إلى نغمة معينة، أو نبرة، أو علامة إعراب، أو تغييرٍ في صيغة صرفية إلخ. وهذا المراحل التي تمر بها الجملة تتوالى بسرعةٍ، وتلقائيةٍ، تنم على عجائب العقل البشري الذي تتجلى قدرته في الاستعمال الدائم المستمر للغة.

فتخيل عزيزي القارئ كمْ من الجمل في الكتاب الذي يتألف من مئات الصفحات، أو كم من الجمل في الخطبة العصماء التي يلقيها أحدهم في مناسبة من المناسبات، وكم من العمليات العقلية المركبة التي نقوم بها كي نملأ ذلك الكتاب أو الخطاب بالمادة الكلامية. إن العقل الإنساني هو الذي يميز البشر عن سائر الكائنات الحية، ولذا يمكننا أن نعد اللغة معيارا يفترق به بنو الناس عن غيرهم من الأحياء. ذلك ما تقول به الفلسفة العقلانية، وهذا ما يوصف به تشومسكي من حيث إنه أحد اللغويين الديكارتيين.

كاتب أردني

 

عن (القدس العربي)