تتغلغل القضية الفلسطينية في نسغ الرواية السورية بشكل عام، ويقتنص الروائي السوري هنا بعضا من النصوص التي تعاملت معها، على مد فترة طويلة من تاريخ الرواية السورية، ويكشف لنا عن مدى ثراء الكثير من تلك الروايات بالرؤى والتأويلات، مع اختلاف قدرات الكتاب وتباين عوالمهم الروائية.

فلسطين في الرواية السورية

في روايات حليم بركات وأديب نحوي وهاني الراهب

نبيل سليمان

 

على الرغم من أن الزلزال الفلسطيني الذي تسمّى بالنكبة عام 1948 كان زلزالًا سوريًا بامتياز، فقد تأخر الحضور الفلسطيني في سورية روائيًا قرابة العقدين، دون أن نغفل الالتماعة في رواية (قوس قزح – 1946) لشكيب الجابري (1921 – 1996)، وذلك في مشهد (صهيوني يتكلم). ومثل ذلك ما جاء في رواية (جيل القدر – 1961) لمطاع صفدي (1929 – 2016). أما تأخر هذا الحضور الفلسطيني فيتعلق بالاشتغال الروائي بخاصة بالوجود والماركسية والقومية العربية. حتى إذا كان الزلزال الذي تسمى بالنكسة عام 1967، أخذ الحضور الفلسطيني روائيًا يتواتر في سورية. وتبرز هنا رواية (عودة الطائر إلى البحر – 1969) لحليم بركات (1933 – 2023). وكانت باكورة الكاتب (ستة أيام) قد صدرت عام 1961، وساد اعتبارها نبوءة بحرب الأيام الستة عام 1967، على الرغم من أن الكاتب نفى عنها ذلك مرارًا.

تتمحور الرواية الثانية حول شخصية رمزي الصفدي الذي يعود إلى عمّان من الخارج بعد هزيمة 1967، ويصعقه تدفق اللاجئين ملء الشوارع والمخيمات. وبينما تضيق الرواية بالمبالغات عن المعارك في أريحا أو القدس، وبنتوء الخطاب الأيديولوجي، تنير مشاعر رمزي كلمة (الفدائي) وتعيد له اعتزازه بعروبته. فالفدائي بحسبه شقّ ليل الهزيمة، والفدائي هو جسر العبور العربي الوحيد إلى المستقبل، والفدائي "يقتنص الحياة من خلال موته". وتحدّث سلمى رمزي عن أم الفدائي التي ترفض أن تتلقى العزاء، بل تطلب التهنئة باستشهاد ابنها، وهي "ترى في موته عرسه".

بعد سنة، أي في عام 1970، تظهر رواية (عرس فلسطيني) لأديب نحوي (1920 – 1998). وليس هذا العرس سوى عرس الفدائي فهد البصاوي الذي مضى إلى قبر والد عروسه فاطمة خلف الحدود ليطلب يد الابنة من أبيها الشهيد، كما ذهبت فاطمة إلى قبر أمها للغاية نفسها. وقد عاد العريس على أكتاف رفاقه شهيدًا، وكانت لنا هذه الرواية القصيرة التي تنبض بالملحمية وبالتراجيدية وهي ترسم البطولة الفردية، والجماعية، والطبيعة (السيل). ولأديب نحوي روايته الأخيرة (آخر من شبه لهم – 1991) التي تتقد فلسطينيتها، باللغة التي أبدعها الكاتب لجميع رواياته، حيث النفحة الشعبية والحكائية. وقد أوقف الكاتب ثلثي روايته الأخيرة على العملية الفدائية التي نفذها خالد محمد أكر ورفاقه في 25/ 11/ 1987 بالطيران الشراعي، وأعلنت عنها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة.

وفي هذا الشطر الأكبر من الرواية، والذي يطيل في تقديم الجنرال آمنون شاحاك (رئيس الأركان الإسرائيلي فيما بعد)، تصور الرواية تنفيذ العملية الفدائية، والبحث الإسرائيلي المحموم عن فدائي، فآخر، فآخر ... وكلٌّ يظهر ثم يختفي، كما في الحكايات. لكنها الحكايات الحقائق، كما نرى في ثلث الرواية الأخير، في زمن الانتفاضة، حيث ملاحقة الفدائيين في إصبع الجليل، والكلاب التي تقصّ الأثر، والمجهول الذي يظهر في الخليل، ويخطب في الخليليين مطلقًا الشرارة التي تجعلهم يحررون مدينتهم. ومن بعد يظهر الفدائي المجهول في جامع الشجاعية في غزة، وفي الكنيسة الارثوذكسية في رام الله، وفي مخيم جباليا في أربعين الشهيد أبو جهاد ... وتبلغ الرواية ختامها بالقناص الإسرائيلي الذي يطلق الرصاص على آخر من شبه له أنه الفدائي المختفي.

ومن الملحوظ أن الشخصيات الروائية، من شاحاك إلى الفدائي، شكت من يباسها، وهو ما يبدو بجلاء لدى المقارنة بين الفدائيين فهد البصاوي ومحمد خالد أكر.

هاني الراهب المسكون بفلسطين

من روايته الأولى (المهزومون – 1961) إلى (شرخ في تاريخ طويل) ومن بعدها إلى رواية (ألف ليلة وليلتان – 1977) يواصل هاني الراهب النزوع الحداثي في البناء الروائي واللغة الروائية، ليرسم شخصيات شبابية بخاصة، مهجوسة بالجنس والوجودية والتمركس والقومية في إهابها البعثي بخاصة. حضرت فلسطين في العديد من روايات هاني الراهب (1939 – 2000). ففي رواية (شرخ في تاريخ طويل – 1970) يقيم أسيان – الشخصية المحورية - علاقة مع الفلسطينية لبنى (26 سنة) والمتزوجة من ضابط، وتدرس في الجامعة حيث حملت لقب (شجرة الزنا) بسبب تعدد علاقاتها. وحين غاب زوجها في مهمة عسكرية في موسكو صارت تلتقي أسيان يوميًا، وقررت الانفصال عن زوجها. ولكن حين عاد الزوج عاد الوئام بينهما.

ويربط الكاتب بحساسية بالغة ورهافة، في نهاية الرواية، بين لبنى المرأة ولبنى الفلسطينية التي تتطلع إلى مربع الطفولة: يافا. أما مجد شقيقها فهو طالب جامعي يكتب الشعر، وعاشق لتركية التي يشبّهها بفلسطينه التي انتزعها اليهود منه. ولفلسطين مجد عشاق كثر، وليس بوسعها أن تكون له، وهو الذي يضطرم تعلقه بها كلما تضاعف عشاقها. وقد تزوج مجد من بعد بطبيبة الفقراء شجن التي تناقض تركية في كل شيء. لكن مجد يخفق أيضًا مع شجن، ويقرر الهجرة إلى غينيا طلبًا للبدائية وفرارًا من الحضارة، وثمة، في مهجره ينتحر. أما أسيان فيقيم علاقة مع شخصية فلسطينية ثانية هي مرام. وبعد بتر العلاقة تقضي بالسم منتحرة، أو أن شقيقها سمّمها عقابًا على ما هو نشوزها بحسبانه.

في رواية (بلد واحد هو العالم – 1985) يتألق هاني الراهب في بناء شخصية روائية بالغة التألق، هي (أم عبودة) الفلسطينية الصفدية التي قضى من قضى من ذويها بين سنتي 1947 – 1948، فلجأت إلى دمشق، واضطرت إلى العمل خادمة، تتجرع الثقة العمياء بالراديو الذي سيعلن نبأ استرداد البلاد. لكن زوجها قتل عام 1970، وابنها عبودة قضى عام 1977، والراديو لم يعلن نبأ العودة. في الدار الكبيرة التي تتوزعها أسر عديدة، تلتقي أم عبودة بالشخصيتين المحوريتين علوان وزوجته نازك. وستكون الدار مسرح صراعات على طرد المستأجرين وتشييد البديل الذي يضاعف ثروة أم اللولو – رايدة تعمل كيوبيتز، كما تقول أم عبودة – ومن يقع في الشبكة واجهة لها: علوان. لكن أم عبودة بالمرصاد، وبخاصة بعدما أطلق علوان الرصاص ليبعد الأولاد (الأشقياء).

بعد هزيمة 1967 تقول أم عبودة لنازك إن أسرًا كثيرة نازحة – والنازحون هو لقب من نزحوا من الجولان بعد احتلال إسرائيل له – حلمت بالعودة السريعة، ولكن "يا حسرة مثل رجعتنا". وعندما سال الدم دفعت أم عبودة بالخرقة المدماة إلى وجه علوان، وصاحت: "الصهاينة لطخوا أيديهم بدمنا. خذ أنت لطّخ وجهك"، وهدرت: "يمكن إحنا مكتوب علينا يجري دمنا، لكن لا بد ما نجري دم عدوّينا. خد بالك. مش كل مرة نقبل نصير لاجئين. هالوكيت، يا الموت يا الدار. وأوتيلات وسياحة على جثثنا ما فيش".

أما علوان الذي أنجز انسلاخه الطبقي والفكري، وتبرأ من ماضيه، فيخاطب أم عبودة، هو كممثل لجمهرة من علية القوم، وهي كممثلة للفلسطينيين، بعدما تحولت صفة (الفلسطينية) من الوطن إلى المنفى: "تعالوا اركبوا علينا لأنكم لاجئون. صارت فلسطين قميص عثمان، وهات يا تجارة. عندكم أصحاب ملايين أكثر من أي بلد في العالم". وبينما يتحد الرعاع والفلسطينيون ضده وضد سيدته أم اللولو، يتابع "خلّي هالأولاد يشتغلوا فدائيين بدل هالانحطاط والحيونة". وقد انتصر وسيدته بانتزاعهم من البلدية قرار الهدم، فخرجت أم عبودة من الدار مع من خرج، وسُمع صوت سعدون معرّضًا بزلزال 1967: هذه نكسة لا هزيمة.

حاضرة على الدوام هي فلسطين في عالم هاني الراهب. ويتجلى ذلك في رواية (ألف ليلة وليلتان) عبر أسرة أم خلف التي لجأت إلى دمشق بعد (النكبة) مخلفة زوجها الشهيد، ومسكونةً بالذكريات، وبما آلت إليه الأحوال من أخبار الفدائيين، إلى الغارات الإسرائيلية قبيل حرب 1967. ويشكل ابنها محمود النحات وعامل المطبعة والمثقف، مع السوري العامل إمام - وأم إمام فلسطينية أيضًا – البديل الثوري العمالي الذي ترسمه الرواية لما بعد الهزيمة/ النكسة/ الزلزال (1967).

وإذا كان محمود يعامل أمه كالخادمة فهو الذي يجلجل "نريد شعبًا من الديناميت الآن وليس غدًا". وهو يرى الكادحين العرب مخصيين. وقد التحق مع إمام وآخرين بدورة للعمل الفدائي بعد الهزيمة، لكنه يقتل في البيان التدريبي في نهاية الدورة. وفي تشخيص محمود للوضع السوري عشية الهزيمة ما لعله يرسم ما هي عليه سورية اليوم: "عجيب أمر هذا البلد. الإنسان فيها غير قادر على الفعل، ولا حتى على التحريض. كل شيء يبدو مهجنًا ومدجّنًا. الناس يعرفون كل شيء، ويفهمون في كل شيء، ولكنهم لا يملكون شيئًا سوى أرواحهم القلقة".

بدأت جماليات الرواية عند هاني الراهب تنعطف مع رواية (الوباء – 1981)، وسواء بحفريتها التاريخية أم بالاشتغال على الأسرة أم بمغادرة هاجس الجنس والوجودية. فما هو هذا الوباء الروائي الذي ضرب في سورية، وأصاب فلسطين؟ يشكل (الميراث) بؤرة الصراع وذروته بين الورثة، يتصدرهم العميد عبسي. ويتطلب الميراث العودة إلى الكنية المضيعة، ورفع يد الدولة عن الأرض/ الكنز الموعود. وفي غمرة ذلك يظهر الأخ الغائب المنسيّ كنعان – لاحظ الاسم – وهو الذي اختفى مع الجيش الإنكليزي، ثم أقام في فلسطين، وحمل الهوية الإسرائيلية زمنًا قبل أن يرميها ويلتحق بالفدائيين. وها هو كنعان يظهر في حمأة الصراع على الميراث، بلا هوية، فيخفيه عبسي في بيته ريثما ينجز معاملات الميراث التي جرى فيها توثيق موت كنعان. وعندما تسلل السوري الفلسطيني كنعان إلى بيت قريبه الفارّ، داهمت المخابرات البيت واعتقلت هذا الذي تنكّر له شقيقه عبسي، بينما صار كنعان صيدًا ثمينًا: عميل إسرائيلي. ولحديث الحضور الفلسطيني روائيًا في سورية، صلة.

فلسطينية الرواية في سورية:
من الروائيين السوريين من أوقفوا روايةً، أو أكثر على فلسطين، مثل حليم بركات في "عودة الطائر إلى البحر"، أو أديب نحوي في روايتيه "عرس فلسطيني
"، و"آخر من شبّه لهم"، أو بديع حقي في روايته "أحلام الرصيف المجروح"، أو كاتب هذه السطور في رواية "قيس يبكي". وإذا كان عدد هذه الفئة محدودًا، فالكتّاب الذين كان لفلسطين حضور أكبر فأكبر في رواياتهم كثر، وفي جماع ذلك انتسج ما سميته منذ عقود فلسطينية الرواية.
وأبدأ مع بديع حقي (1922-2000) في روايته "أحلام الرصيف المجروح" (1973)، حيث الشخصية المحورية هي محمد ماسح الأحذية الفلسطيني الأرمل المتعلق بزوجته فاطمة الراحلة، وبابنته المشلولة زينب. وفضاء الرواية هو حارة قولي الدمشقية العتيقة. وكما توقّع للرواية نقراتُ الفرشاة على ظهر صندوق (البويا) توقّع وصية فاطمة لمحمد وهي تحتضر بأن ينقل عظامها إلى المقبرة في المحلة الشرقية في حيفا. إذا كانت "أحلام الرصيف المجروح" تؤكد التجربة الفنية المميزة لبديع حقي في الريادة المبكرة لموسيقية الرواية، فهذه الرواية ليست إلا واحدة مما كان لفلسطين في كتابات وكتب صاحبها الذي أبدع في القصة القصيرة مجموعة "التراب الحزين" (1960)، وجرى تدريسها في المدارس السورية سنوات، وكان لي من ذلك نصيب في بداية عملي مدرّسًا في مدينة الرقة. ولست أنسى منها قصة "يوميات خيمة". كما ترك لنا بديع حقي كتاب "فلسطينيات بديع حقي"، وكتاب "حين يورق الحجر"، وهو مقالات عن أطفال الانتفاضة.

في سنة صدور رواية بديع حقي هذه صدرت رواية "الزمن الموحش" لحيدر حيدر (1936 - 2023)، التي تعجّ بالشخصيات المعطوبة روحيًا، والمهجوسة بالجنس، والمسكونة بأحلام وأفكار التمرد والتغيير، ومزاوجة الماركسية بالفرويدية، وهذا كله يتصادى في رواية هاني الراهب "شرخ في تاريخ طويل"، و"ألف ليلة وليلتان"، مع ملاحظة أن أغلب الشخصيات في روايات حيدر والراهب هذه منتمية إلى حزب البعث. من الشخصيات المحورية في "الزمن الموحش"، منى، التي حاولت الرواية أن تجعل منها رمزًا للحب والثورة، ورمزًا للانتصار على الصهيونية. أما الشخصية الفلسطينية فقد بدت مثل سائر الشخصيات السورية معطوبة، فكما يموت سامر البدوي قتلًا، ووائل الأسدي ضابط المخابرات السادي في حادث سيارة، يقتل مسرور زوجته ديانا التي مارس الجنس معها الراوي شبلي عبد الله، صديق زوجها.

أما في رواية "شموس الغجر" (2000) فيختلف الحضور الفلسطيني الذي يتجسد في شخصية ماجد زهوان اليساري زميل الراوية راوية في الجامعة، والذي يفجر نفسه داخل السفارة الإسرائيلية في نيقوسيا، في الذكرى الثالثة عشرة لاغتيال ماجد أبو شرار. وكان قد كتب لحبيبته راوية أنه محبط وهالك وعابر في أزمنة التسفيل العربية، وأنه هامشي ولاجئ وبلا أمل مهزوم وثقته بنفسه مفقودة، وهو بذلك يذكّر بالسمات الكبرى لشخصيات "الزمن الموحش" التي زلزلتها هزيمة 1967.

مع رواية "البرتقال المر" (1974) لسلمى الحفار الكزبري (1923 - 2006) ننتقل في سورية إلى حرب 1973، وفيها يتساءل عصام عما إن كانت ابنة عمته الفلسطينية منى، وهي التي تركها تكمل دراستها في أميركا، تفكر مثله "بأننا وضعنا في حربنا هذه حجر الأساس لمخطط عربي صحيح لا أثر فيه للارتجال والنفاق، وأنه بحجم طموحنا وحجم المستقبل الذي نريده لأولادنا". ويؤكد عصام من بعد لمنى أنه وصحبه بانتظارها لتنفيذ مخطط جديد وعمل منظم من أجل العودة إلى فلسطين. لكن العاقبة أسرعت بنقيض ذلك كله ابتداءً بكامب ديفيد. وكانت عمة عصام قد تزوجت وجيهًا فلسطينيًا يملك مزرعة سنة 1945. وبفعل "النكبة" كان النزوح إلى دمشق، حيث عمل الزوج خبيرًا زراعيًا ومشرفًا على عدد من المزارع، وعملت العمة في التطريز، وفي حياكة الصوف. وقد رضعت منى مع عصام فحرمت عليه.

وفي روما، حرمت منى عصير البرتقال بعدما قرأت على برتقالة (يافا - إسرائيل). وكانت تنتقد ما تسميه احتلال اليهود لأميركا، وتخشى أن تكون القضية الفلسطينية قد قتلت بالكلام والغناء. أما عصام فيرى أن القضية الفلسطينية هي سبب كل ما في بلاد العرب من تخلف واضطراب. وفي رسالة من عصام إلى نزار المنتسب لحزب البعث يؤكد أنه ما إن يعود إلى البلاد حتى يعمل كي يستقطب مع نزار ومع الآخرين طاقات الشبيبة لدعم العدالة والمصالحة الوطنية و"الحركة التصحيحية"، التي قام بها حافظ الأسد في 16/ 11/ 1970. أما نزار فقد كتب لعصام بعد الحركة منتقدًا العسف والانحراف اللذين كانا للحاكمين قبلها. ويعلن نزار أننا صرنا في بلد مفتوح على العالم، وأننا في حاجة إلى التضامن والتآلف، كادحين وميسورين، فما تهدم في سبع سنوات ـ والإشارة هنا هي إلى ما بين 1963 و1970- لا يمكن بناؤه في بضع سنين.

إلى ما نتأ في رواية "البرتقال المر" من القراءة القاصرة لزمنها ـ سبعينيات القرن الماضي ـ نتأ فيها أيضًا الإهاب الفني المتواضع الذي يذكّر برواية "ثوار من بلادي" ـ 1950 لصلاح مزهر (1915 ـ 1989)، وفيها يمضي أحد أبطالها إلى فلسطين بعد فشل الثورة السورية الكبرى. وفي فلسطين ينخرط هذا السوري في ثورة الشيخ عز الدين القسام. كما تذكر روايتا الكزبري ومزهر في تواضعهما فنيًا برواية "الجائع إلى الإنسان" (1974) لكاتبها ع. آل شلبي (1922 ـ 1992)، حيث تكون من شخصياتها المحورية عائدة على صلة وثقى بالفدائيين. وبعد خراب علاقتها بزوجها تبلغ به الحال أن يتجسس لصالح الصهاينة.

ومن هذه الأرومة الفنية هي رواية "أزاهير تشرين المدماة" (1977) لعبد السلام العجيلي (1918 ـ 2006)، بخلاف العهد برواياته المتألقة كلاسيكيًا. ففي هذه الرواية المتعلقة أيضًا بحرب 1973 تتميز شخصية الممرضة الفلسطينية ياسمين، من الطيرة شرقي حيفا، والتي نزحت إلى طولكرم، ثم إلى دمشق. وهي مطلقة محمود الفلسطيني الذي كان مع الملازم المجند السوري سامي. وقد خاطبت ياسمين سامي بأن ليس لكم علينا جميل، أنتم السوريون ونحن أبناء فلسطين، فإذا حاربتم إسرائيل، فأنتم تدافعون عن أرضكم وأنفسكم، لا عنّا، فرد سامي أنه ما من أحد يحارب عن أحد "نحن شعب واحد". أما محمود المعقد من العسكر والهزائم، فقد كانت ياسمين تتهمه بالجبن والتشاؤم. وبعد الطلاق هاجر إلى الخليج، ثم عاد إلى سورية، وتطوع في الجيش، وقضى في حرب 1973.

بالوصول إلى روايات خيري الذهبي (1946 - 2022) يبلغ الحضور الفلسطيني روائيًا مبلغًا متقدمًا في سورية، مما تلامح في رواية "طائر الأيام العجيبة" (1977)، وإن يكن الحضور هنا ثانويًا، عبر تذكر سعيد شعبان لصديقيه اللذين التحقا بالعمل الفدائي بعدما شاركاه القيادة الطلابية والإضراب والاعتصام في الجامعة التي تضرر من رفعها للأقساط فقط الفلسطينيون والفقراء.

في رواية "حسيبة"  (1987)، يتأكد امتيازها الفني، وبخاصة في بناء شخصية حسيبة التي رافقت طفلةً أباها صياح أثناء الثورة السورية الكبرى في عشرينيات القرن الماضي. ولما أراد الأب أن يخرج من عباءة هزيمة تلك الثورة، ويلبي نداء سعيد العاص في فلسطين، حاولت حسيبة الشابة منعه، وخبأت سلاحه، وحاولت تزويجه، لكنه مضى إلى فلسطين، حيث سيلقى حتفه في الهجوم على كيبوتز هاشوفيت، في السياق الذي هيأ لثورة القسام 1936. ومن بعد، سيحذو فياض الشيزري الذي أحبته حسيبة، لكنه فرّ من إسارها، حذو صياح، ويلبي نداء فلسطين عام 1948. ولما عاد مهزومًا اعتكف في دمشق خزيان.

أخيرًا، نصل إلى رواية "أعدائي" (2000) لممدوح عدوان (1941 ـ 2004)، والتي عادت إلى مطلع القرن العشرين وبدايات المشروع الصهيوني في فلسطين. وتقوم الرواية على مطاردة عارف الإبراهيم الجواسيس اليهود، فتلك معركته الدائمة من بيروت إلى دمشق إلى القدس. وقد ظفر الرجل في بيروت بالجاسوس اليهودي ألتر ليفي، لكن جمال باشا السفاح عاقب الصياد بنقله إلى القدس، وكان أن ظفر الصياد ثانية بطريدته في القدس. لكن ليفي فرّ من السجن، فتجددت المطاردة أثناء احتلال الجنرال اللنبي للقدس. وقاد عارف الإبراهيم صيده إلى الشام التي بلغها اللنبي والأمير فيصل، وثمة يخسر الصياد معركته الأخيرة، ويفلت الجاسوس.

تحفل الرواية بالأحداث التي وسمتها بالبوليسية كما تحفل بالجواسيس: الألمانية آنا ليستر اليهودية القادمة من روسيا: ليديا، وهي التي حوّلها عاشقها ألتر ليفي إلى مناضلة بين المستوطنين العجائز في زخرون يعقوف. وإذا كانت رواية "أعدائي" تخاطب في افتتاحيات فصولها تغريدة بني هلال، فقد ناءت في مواقع عديدة تحت وطأة المعلومة في الوقفات السردية التلخيصية الطويلة والعديدة، سواء في مطالع الفصول، أم في ثنايا السرد. على أن الحوار هو الحامل الأكبر للرواية، وعبره جرى استرجاع حيوات شخصيات هامة وكثيرة، كما في قصة سارة وزوجها حاييم، وعشق أفشالوم لسارة، وعصبة التجسس (منظمة نيلي). على الطريق من القدس إلى دمشق، يخاطب ألتر ليفي من ظفر به عارف الإبراهيم بأن اليهود يسعون إلى تأسيس وطن، بينما العرب يسعون إلى استعادة وطن، والزمن هو بعيد الحرب العالمية الأولى.

وسيترجَّع من ذلك الزمن في زماننا قول ألتر ليفي: "سيكون عليكم التخلص من الإنكليز والفرنسيين، ثم من تخلفكم، ثم من حكامكم الذين سيورثكم إياهم الإنكليز، ولن يصعب علينا شراؤهم (...) خلال ذلك سنكون قد حققنا ما نريد". وإلى هذا القول يخاطب عارف الإبراهيم عدوه بما يترجّع أيضًا في زماننا "عندكم المال والعلم، ونحن عندنا الأرض، لماذا لا نتعاون؟" تلك هي صور خاطفة فيما كان للحضور الفلسطيني في سورية في روايات عدد من الكتّاب الراحلين، فكيف توالى هذا الحضور في روايات من لا يزال عطاؤهم يتدفق ويتألق؟

 

عن (ضفة ثالثة)