وليست اليمن بافضل من غيرها من البلدان العربية، إلا ان طبيعتها الجغرافية، رشحتها للمزيد من الاقتتال، والحروب الداخلية، فانعكس ذلك على مبدعيها، كما تكشف هذه الرواية التي تعيش المجتمع، بأحاسيسه، ووجوده المادى داخل هذه الصراعات. "حيث تجري مشاهد الدماء والمتفجرات والعواطف والقتلى والمجانين. لتكون صورة من واقع معيش على الأرض اليمنية.

بر الدناكل (رواية العدد)

محمد الغـربى عمران

 

-1-

جلس "شَنُّوق" عارٍ إلا من نافذة يراقب حركة زقاق أسفل الدار.. يرقب قدومها.. يتمتم: ستظهر الآن فقد حان موعدها!. ثم يرفع ناظريه متأملاً تحول لون أفق المغيب.. تسحره واجهات دور صنعاء العتيقة..حوائط الجبال البعيدة. يتابع اسراب الحمام تلوب قبل هبوطها.. بهاء قباب المساجد ومناراتها الباسقة.. غاص قرص الشمس خلف شفاه الجبال العالية.. لتبهت الألوان.. وتتماهى زخارف المنارات الياجورية وواجهات الدور.. لحظتها ارتفع أذان مؤذن الحي .. أنه صوت صديقه طنهاس الذي يميز سعادته من حزنه من نبرته.. قدر أنها لن تأتِ.. عاد يتسلى بمضغ وريقات "القات". منشغلا بمراقبة تدفق ذرات المساء الهابط من شواهق الجبال.. ليحيل دور المدينة إلى كتل معتمة إلا من ثقوب أضواء خجولة هنا وهناك.. تنصهر الملامح المحيطة رويدا رويدا.. تتحول إلى أشباح غامضة. يواصل مضغ قاته محاولاً الحفاظ على طيب مزاجه.. تباغته لفحة برد عبر النافذة.. يشاهد قوافل الريح تأوي أزقة المدينة العتيقة.. يتمتم: لقد فات موعد "سقوة" ولن تأتي بعد الآن!. يغلق بعدها نافذته.

يُجيل شنوق ناظريه في عتمة ما حوله.. يعرف مواقع أشياءه: طاولة قصيرة أمامه عليها جهازه المحمول.. وإلى جواره باقة أغصان قات لُفت بمنديل مُبلل.. "متفل" معدني تحت الطاولة.. نارجيلة قصيرة يمتد خرطومها حتى فمه.. يومض رأسها بين وقت وآخر.. إلى الشمال متكأ "سقوة" فارغاً.. إلى يمين الباب شماعة شُنقت عليها ملابسه.. وأعمدة كتب متجاورة تستند إلى إحدى الزوايا.

بعد وقت عاود صوت صديقه مؤذناً لصلاة العِشاء.. تمتم: سأقضي ليلتي وحيداً!.

 تعود أن يعيش  ظلمة لياليه.. مستمتعاً بعرية.. يحفظ محتويات سكنه عن ظهر قلب.. فحين يخرج من غرفة مقيله يسير حتى موقد نحاسي وسط حجرة تتوسط بقية الأبواب.. يقلب الجمر لينعكس شذاها على ملامح وجهه الكبير.. يلتقط عدة جمرات ويعود لمتكئه مواصلاً ليلته وسط ظلمة يأنس لها.

لا يستقبل أحداً في سكنه. "سقوة" هي الاستثناء..  فتاة تعرف عليها عبر النت..وهو من كان يفضل الأربعينيات.. جاءت لتغير كل شيء في حياته. تتسلل خلسة بين ليلة وأخرى إلى سكنه في الدور الرابع لتشاركه عريه لعدة ليال ثم تغادر لشؤنها. وكذلك صديقه زوج الشريفة إمام مسجد الحي.. يأتيه بين جمعة وأخرى.. يدير المفتاح بعد عودته من إقامة صلاة العشاء.. ليشاطره مضغ القات ورشفات من دموع الأسد.. أو المُكَحل  كما يحلو أن يطلق علي.. يصعد ما تبقى من ليلته إلى زوجته الشريفة مالكة الدار في الدور الخامس.. وما أن يهل حتى تتأبط قامته القصيرة صاعدة به سلم "طيرمانة" السطح.. وقد أشعلتها بروائح البخور.. وصُفت كؤوس نقيع الزبيب وأطباق مختارة.. مزيلة الشفيف من ملابسها.. موقنة بأن ذلك ما يثير بقايا كوامن فحولته.. نوافذ الطيرمانةمطلة على الجهات الأربع.. ومنظر ليل صنعاءيرفع من نشوته.

يحاول شنوق وحيداً التماهي بظلمة سكنه.. متلذذاً باستحلاب أوراق قاته.. وليزيد من وجده يحتضن جهاز "الابوتب". بحثت أصابعه على زر التشغيل.. لينعكس ضوؤه على عينيه الجاحظتين ووجنتيه المتكورتين.. يبتسم لظهور صفحته على الفيس "ابن الحاج". وقد ظهرت صورة قط بعيون زرقاء.. يعرج بعدها على صفحة سقوة.. قبة خضراء.. وجملة كُتبت بخط كوفي "حسبي الله ونعم الوكيل". يدعك تكويرة خده بتلذذ.. يعرج على  صندوق الرسائل.. رقن إليها "يا عيباه.. انتظرتك على الموعد.. ليست عادتك أن تخلفي. أتمنى أن يكون المانع خيراً...". ثم ضغط على زر الإرسال.. متمنياً تواجدها ليقضي الليل في دردشة معها.. ظل منتظراً. ثم أضاف "انتظر ردك فلا تتأخري... ". شغل نفسه باستعراض الرسائل الجديدة.. عادة ما تستهويه رسائل الإناث.. أو كما يصفهن بـ "قطط الفيس". وطالما اربكته الأسماء المستعارة.. وحسب تجربته فإن من يتخفين خلف واجهات قرآنية هن أكثر جرأة.. يصنفهن إلى مجموعتين: قطط وديعة.. وقطط مخربشة. ما يخيفه تخفي بعض الـ "جحندلات"كما يحب على فئة الذكور الذين يتخفون خلف رموز واسماء  أنثوية.. ما إن يكتشف أحدهم حتى يسارع إلى حظره.  هذه الليلة لفتت انتباهه رسالة جديدة.. يطلق مرسلها على نفسه "adel". خمن أن يكون أحد الـ "جحندلات". حك أنفه محاولاً تذكر إن كان قد مرت عليه تلك الحروف"adel". وحين لم يتذكر أنها مرت فتح الرسالة: "أخيرا وجدتك.. شكراً لمستر مارك.. أنتظر ردك!".

توقف فكه الضخم عن هرس القات!. أعاد قراءة كلماتها القليلة.. يلوك تلك الأحرف a. d. e. l ببطء.. ليس لديه معرفة بأي لغة غير العربية.. يفكر عمن يكون وراء تلك الرسالة.. أنتقل إلى صفحة المرسل.. الصورة  العامة أفق بحري مفتوح على سحابة قطنية وحيدة!. الصورة الشخصية غراب يحلق وحيداً.. بحث عن معلوماته الشخصية عله يجد خيطاً بصاحب أو صاحبة الصفحة.. لكنه لم يجد.. لا منشورات.. ولا أصدقاء.. فقط صوراً مكررة لشواطئ بحرية.. وقوارب صيد.. سواحل رملية طويلة.. خمن أن يكون  المرسل صياداً.. بحث في بياناته المخبأة.. لا شيء!. تضاعفت حيرته.. متسائلاً: هل هي رسالة قطة أم جحندل؟!.

قطع بحثه دوي ورجفة عنيفة هزت ظلمة ما حوله!. خُيل له أن جدران الدار تتساقط.. نهض بعريه بعد أن قذف ما بين يديه.. وقف مذعوراً يسمع تعاقب دوي يصم مسامعه.. سمع صراخ الدور المجاورة.. فتح نافذته.. ليرى وميضاً مبهراً يصبغ واجهات الدور بألوان نارية.. وهدير الأزقة المحيطة يتعالى. ظن صنعاء تُدك بنيازك فضائية. خطى بين ظلمته يدفعه خوف باتجاه الحجرة الخارجية - لم تعد الأشياء في أماكنها- باحثا عن موطئ قدم لخطواته.. بحث عما يستر عريه.. حاذى الموقد الذي تبعثر جمره أرضاً.. وصل باب سكنه.. رأى سلم الدار مكتظاً بأشباح كائنات الدار.. وبكاء أطفال وعويل متداخل.. وقف متردداً أمام وجوه نسوة بعيون فزعة.. شق طريقه صاعداً وسط من يصعدون.. تجاوز سلالم الدور الخامس ليصل إلى سطح مكتظ بالنواح.. هي المرة الأولى التي يرى "طيرمانة" صاحبه وقد تربعت على أعمدة سوداء.. تطل على المدينة العتيقة.. كما تحتل الواح الطاقة الشمسية التي تغذي الدار بالكهرباء مساحة واسعة من السطح. وقف أطراف زحام منشغلاً بمتابعة تفجر لهب في الأحياء الغربية لصعاء.. وقد انعكست على جروف الجبال المحيطة بالمدينة.. يهتز لهيبها على واجهات الدور والمنارات العتيقة.

بعيد حين سُمع نعيق طائرات عابرة.. ما لبث أن لاحقتها رصاص مضادة من قمم جبال قريبة.. ترتفع خيوطها الملتهبة لتعود ماطرة أسطح وشوارع المدينة.. يختلط دوي متجدد ترتج له أنحاء صنعاء.. تتحول السماء مظلة ملتهبة.

يرتفع صوت زوج الشريفة من أعلى سلم "الطيرمانة" بحماس "الله أكبر.. الموت لأميركا.. الموت لإسرائيل.. اللعنة على اليهود.. الخزي لآل سعود.. النصر للإسلام

ظل شنوق منزوياً يتابع من حوله في خو ام". تردد أشباح من في الأسطح "الله أكبر..." ملوحون بقبضاتهم باتجاه السماء.

 

-2-

ظل شنوق منزوياً يتابع ما حوله بخوف.. حضرته ذكريات نهار جمعة بعيدة.. حين وقف "الفرانصي" أمام باب مسجد الحي.. ما أدهش شنوق رؤيته ببزة عسكرية ذات الثلاث نجوم. يردد صارخاً: لا يجوز وجود عزابي في دار تسكنها عوائل!. تجمع المصلون ينتظرون زوج الشريفة.. يطالبوه بطردهشنوق من دار الشريفة.

التفتوا لحظتها يتأملوا شنوق وكأنهم يكتشفوه بينهم لأول مرة.. بينما ظلت نظراته تحرث الأرض.. لا يعرف ما عليه فعله. صرخ أحد المتجمعين زاجراً نساء أطللن يتابعن ما يدور. خرج زوج الشريفة "طنهاس". بقامته القصيرة وثيابه البيضاء.. يتأمل متعجباً تجمعهم. أشار الفرانصي هائجاً باتجاه طنهاس: أيرضيكم ياحاج بقاء هذا العازب بيننا؟!.

تنحنح طنهاس يجيل النظر في وجوه من حوله.. مسح أطراف لحيته ناظراً في عيني شنوق..لتخفف تلك النظرات شيء من اضطرابه. ثم التفتطنهاس باتجاه الفرانصيمبتسماً: "يا سبحان الله عليك يا فندم فرانصي". ثم صمت يتأمل وجوه من تجمعوا.. وأردف: "بدلاً من رفع ابتهالاتكم إلى الله أن يتقبل صلواتكم.. تأتمرون على طرد جارٍ لكم!".

صمت يسير بقامته القصيرة وسط المتجمعين.. مدركاً وقع كلماته عليهم. وأردف بصوت هادئ.. مشيراً إلى شنوق: "هذا جاركم الخمسيني لم نسمع حوله أي مثلبة منذ سكن بيننا.. فعلام تريدون طرده؟". صمت قليلاً ليمنح عقولهم الوقت تقليب كلمته..ثم تابع بصوت أعلى: "هيا انصرفوا إلى دوركم يغفر لكم الله.

تفرق الجميع وبقيالفرانصي يحدث طنهاس بصوت منكسر: "لا نريد أذية أحد.. لكن...".

الذي قاطعه: "تذكر النبي الذي أوصنا بسابع جار. كان الأولى بك أن تتق الله.. وأن تقتدي بنبي الهدى...".

ثم أمسك بذراعه يخطو به نحو باب الدار هامساً: "ألم يكن من الأولى أن تحدثني بما في نفسك قبل أن ترفع صوتك بالحديث إلى الناس؟".

يتذكر شنوق أن خطبة الجمعة التالية  كان قد خصصها زوج الشريفة لتبيين حق الجار على جاره.. مستشهدا بلمحات من سيرة الرسول وأحاديثه المتعددة. وتلك هي طريقته لإيصال ما يود قوله حول أي قضية.

ويتذكر شنوق أن صاحبه "طنهاس". قال له ناصحاً في أول مسامرة لهم بعد تلك الجمعة:

- عليك بتجنب منتسبي الأمن...

قاطعة بعصبية:

- لكني لم أحتك بالفرانصي يوماً!.

- من اليوم خذ حذرك.. واعرف بأنه قد وضعك ضمن حساباته.

- لم أكن أعلم حتى أنه عسكري.. حتى فاجأني ببدلته!.

- دوماً العسكري متسلط بطبعه.. يبحث عمن يؤذي كإثبات وجود.. فما بالك وهو في قسم مكلف كل من فيه بملاحقة المشتبه بمعارضتهم لنظام صالح.

- لكني لم أعارض أحداً.

- أعلم بأنه لا يظهر ببزته العسكرية إلا نادراً.. وحين يلبسها يكون قد أضمر بأحدهم شراً.

- لن يراني بعد اليوم!.

- المشكلة لا تقتصر على خطره الآن.. المشكلة أنه لفت انتباه الجميع إلى وجود عزابي بينهم.. وبذلك ستكون مرصودا من الجميع.

- وما العمل!

- عليك أن تظهر بمظهر التقي.

- كيف؟!

- لا يكفي حضورك صلاة الجمعة. بل عليك بالمواظبة على الصلوات الخمس في المسجد.

- انتظم.. وفي المسجد؟!.

- الناس ياصاحبي تسيرهم ظواهر الأمور.

- هذا صعب...

ابتسم الحاج مربتا على كتفه:

- أقلها صلاة الفجر حضوراً.. وبذلك تكسر عيونهم.

- مقدور على الفجر.

- وأنبهك الحذر من أبسط زلة.. فكما قلت لك لقد وضعك الفرانصي هدفاً للجميع.

- صدق الشاعر حين قال "العسكري بليد للأذى فطنٌ.. كأن إبليس للطغيان رباه"

صمت يحاول إخفاء قلق يغزو ملامح وجهه الكبير.

يتذكر بأنه ومنذ ذلك اليوم رسم بنفسه إيقاع.. أن لا يحتك بأي كائن.. يستعرض ذاكرته كم هي المرات التي رأى الفرانصي فيها.. كانت نادرة وعادة ما يلمحه من بعيد.. فهو في غياب دائم.. وإن عاد كان ليوم أو يومين ثم يختفي من جديد. في البداية ظن بأنه يعمل في التهريب.. لكنه بعد أن فاجأه ببزته العسكرية.. عرف بأن غيابه كان لتنقله في مهمات سرية بين المحافظات.

في الوقت الذي كان الجميع يتساءلون حول علاقة زوج الشريفةبشنوق... إلا أنهم كانوا يرون فيه شخص انطوائياً.. بل وظن البعض بأنه رجل من أهل الله.. ولذلك يعطف عليه زوج الشريفة ويرعاه لوجه الله.

 وبدوره كان طنهاس يحرص في حديثه حول شنوق أن يثني على ورعه وأمانته.. وهو يعرف أن لحديثه أثر على مستمعيه. فهو زوج الشريفة مالكة أعلى دور الحي.. المنتسبة لفاطمة الزهراء بنت النبي.. وجدها لأبيها كان من رجال الإمام أحمد المقربين. وهو في الوقت نفسه إمام وخطيب مسجد الحي.. الذي يذهب إليه لإقامة الصلوات الخمس.. معتمراً عمته البيضاء.. وقفطانه المخملي الأسود.. المزينة حوافه بخيوط مذهبة.. شاداً سامعيه بصوته الذي يتعمد رخامته.. وكلماته المنتقاة.. وهو كاتب عقود النكاح.. وصكوك البيع والشراء سكان الحي.. والمُتحَدِث في الأعراس.. والواعظ في المآتم.. ومنشد الموالد.. وسارد مظالم آل البيت. وفوق ذلك هو صاحب وجاهة بحكم منصبه مديراً عاماً للإرشاد بوزارة الأوقاف.

ظل يستعيد تلك الأيام حتى قطع عليه حبل ذكرياته صراخ من في السطح.. تنبه لما يدور.. ليرى الجميع يتدافعون حول صبي ممدٌعلى السطح.. تزايد عويل من حوله.. عرف بأن ذلك الصبي هو "تاج الدين" وحيد الشريفة إضافة إلى ثلاث بنات. هرع الأب من سلم "طيرمانته" مفزوعاً.. حتى أن عمته البيضاء سقطت بين سيقانهم.. وقد سلطت أضواء يدوية على رأس الصبي الذي كان ينزف دماً غزيراً.. وقد أتسعتبقعة دم داكنة تحت رأسه.. وتشبع شعره وملابسه.

زاد العويل وعمت الفوضى بعد أن عرف الجميع أن رصاصة راجعة من السماء أخترقت رأسه.. فر البعض خوف الرصاص الراجع.. وتبقى جمع حول الشريفة بعد صعودها.. هوت راكعة بجسمها الممتلئ.. تلطم وجهها نائحة.. لينكشف وجهها وشعر رأسها.. سارعت بعض النسوة لمنعها تمزيق ثيابها.

يتابع شنوق ما يدور بخوف ورهبة.. وهو يرى وجه زوجة صاحبه بشعرها المتناثر.. دمعت عينه لنواحها الحزين. بعد برهة تمددتجواره فاقدة الوعي.. يلوب زوجها كمن فقد الحيلة.. ثم ركع حاسر الرأس ليحمل ابنه هابطاً بقامته الضئيلة تتبعه نسوة يحملن زوجته. وقد اختلطت ولولتهن بصريخ صغارهن.. تطأ أقدامهم قطرات لزجة على أحجار السلم. لم يطل المقام الصغير حتى أسلم الروح.

 

-3-

عاد شنوق ليقضي بقية ليلته وسط ظلمته.. يفكر في مصاب صاحبه.. جلس عارياً خلف نافذته المشرعة على نواح يتداخل مع هزيم الانفجاراتالمتعاقبة.. فكر أن يعود إلى جهازه لمتابعة تلك رسالة الأحرف adel. لكن رعب تلك الليلة يسكنه.

عادت به ذاكرته إلى تلك الأيام.. وتلك العبارة لازالت عالقة حين قال له  صاحبه في إحدى مسامراتهم: "الناس يثنون على استقامتك بعد أن درجوا على رؤيتك بين صفوف صلاة الفجر".

في واقع الحال لم يكن لأحد معرفة الوجه الآخر لذلك الشخص الوديع المستكين. وما يعرفونهعنه أنه يعيش وحيداً.. حريص على صلاة المسجد.

بينما كان يعيش في الدور الرابع حالة انكفاء ورعب من كل الناس.. معوضاً كبته بقضاء أوقاته عارياً وسط ظلمة وسكينة يستلذ بها.. متحركاً في أنحاء سكنه كخفاش دون إشعال أي سراج.. يقضي شطراً من لياليه ماضغاً لقاته إلى جوار نارجيلته القصيرة.. مستمتعا بإيقاع قرقرتها..

مبحراً في مواقع النت كحياة يفتقدها.. متنقلاً بين صفحات التواصل الاجتماعي.. باحثا عن "قطط الفيس". مفضلاالصنعانيات منهن.. اللواتي يستطيع الوصول إليهن دون عناء.. بعد أن أمسى يتقن اصطيادالمناسب من هن.. فلا يفضل من تحت الثلاثين.. أو الخمسينيات.. وإن أستهوى دوماً الأربعينيات.. فعادة يكُن مهجورات.. والكثير منهن تنتابهن مراهقة متأخرة.. صبورات.. قليلات الطلبات.. ذوات خبرة. إضافة إلى قدرتهن على تدبر أمكنة لقضاء ليلة أو ليلتين معاً.. وهكذا حافظ على سكنه بعيداً عن مغامرات قد تجلب له مشاكل لا تحل. وهو لا يقدم أي معلومات قط عن نفسه.. وبالمقابل يسعى لأن يعرف عمن يحاورها كل شيء: عمرها.. تعليمها.. عملها.. حالتها الاجتماعية.. أفكارها.. كما يجدّ في الحصول على أحدث صورها.. وحين يقرر لقياها..  يختار أحد الأسواق الشعبية.. مثل: سوق الزمر.. باب اليمن.. باب السبحة.. شارع جمال.. قاع اليهود.. الصافية.. هايل...إلخ تلك الأماكن المكتظة بالباعة والمتسولين.. وعادة ما يصل قبل الموعد.. يرقب وصولها.. وما أن يلمحها حتى يتأملها.. راصداً حركاتها وسكناتها.. ثم يقرر بعد ذلك إن كانت تستهويه.

متخذا في بداية تواصله على النت أسلوب الحديث العام.. مترفعاً عن الكلام المبتذل.. ثم بعد ليال ينتقل لأحاديث الذات..مبدياً ثقافة واسعة ومعرفة متنوعة بهدف ادهاشها.. حتى إذا ما تعودت تواصله الدائم.. يبدأ بهدم جدران وفواصل تتصنعها.. منتقلاً إلى الحديث حول الاهتمامات المشتركة.. والهوايات الممتعة.. ثم تأتي خطوة الحديث حول الميول والهموم.. وأخيراً يسهب فيما يثير غرائزها.. واستثارة غلمة تكمن في أعماق وعيها.. وللياليستمر بما يثير شبقهما.. حتى يصلبها إلى ذروة متعة تشتهيها.. بعدها تكون الطريق قد مُهد للقيا.. وقضاء ليلة أو ليلتين حميمية.. لا يكررها.. بعدها يسارع بحضر التواصل بها وإنهاء كل شيء.

يتذكر أن "سقوة" كانت الاختلاف بين من أصطادهن.. فهيمن كسَّرت قواعده.. لم تمكنه منمعرفة سنها.. أو مهنتها.. أو حالتها الاجتماعية.. أو صور لها.. تلك المعلومات التي كان يحدد بموجبها اللقاء من عدمه. ظل يحاول إلا ان غموضها ظل يجذبه إليه.. فهي من بادرتهبما يثير من الكلام.. ليصدم يوم لقياها بأنها في بداية العشرينات من عمرها.. كما أنها غير ممتلئة كما يفضل من يعاشرها. ومن بعدهالم يعد باحثاً عن غيرها!.

يتذكر.. بأنه قبل مواعدته للقياه وجدهاتستجوبه.. وهو يجيب على أسئلتها:

- هل لديك رقم هاتف لأسمع صوتك؟.

- ليس لدي هاتف.

- هل من صورة لك؟.

ليصمت قليلاً.. ثم أجاب:

- ولا صورة!

- لكني لا أعرف عنك شيئاً.

- حثتك بالكثير.. أنا من لا يعرف عنك شيئاً!.

- إذاً حدد موعد لنلتقي وتعرف بعدها عني ما تريد.

ظل لبعض الوقت يفكر في إيقاف ذلك الحوار.. أن يقطع تواصله بها. لكنها بادرته: لماذا ترددك.. هاه ألا زلت معي؟.

- نعم معك.. فقط كنت أفكر!.

- بمَ تفكر.. أليس لديك رغبة لتلتقيني؟.

- بلى.. لكن...

- جرب لن تخسر شيئاً.

توقف مرة أخرى عن الرد.. ثم كتب:

- أترك لك أن تحددي أحد الأماكن!.

- هل يناسبك سوق قاع اليهود؟.

أعجبه اختيارها.. متخيلاً ذلك السوق المفتوح.. ليرد:

- نعم يناسبني.

- إذا بعد ظهيرة الغد.. ستجدني وسط صف بائعات الخبز.

- جيد.

لكن كيف أميزك وسط من يتسوقون.

- انا من أطلب منك أن تصفي لي نفسك لأهتدي إليك.

- أفضل أن تصف لي هيئتك.

توقف يتساءل: لماذا أنا مُسير لها؟!. ليجد الإجابة لصدى تساؤله: ما الضير إن جربت!. كتب إليها:

- لي قامة طويلة.. أعتمر طاقية سوداء تغطي نصف جبهتي.. ولتعرفي.. سأكرر حك حنكي بأصابع كفي الأيسر.

يتذكر بعيد ظهيرة ذلك اليوم.. وقد وصل أطراف السوق.. راضياً أن يقوم بدور الطريدة. أخترق زحام  باعة الخضار والفواكه حتى وصل رصيف بائعات الخبز.. أخذ يستعرضهن واحدة بعد الأخرى.. ناقلاً ناظريه بين أطباقهن ووجوههن.. تلك العيون الطالة من خلف أخمرتهن.. ترحب به إحداهن كمشترِ محتمل.. تلوح ثانية بكفها المنقوش بالحناء بطريقة للفت انتباهه.. وثالثة تريه أقراصها.. ورابعة تحرك طبقها المليء بخبز رش بحبة البركة.. عيون إحداهن ترسل ابتسامة فاردة ستارتها الملونة في حركة لجذبه.. يبتسم بوجهه الكبير.. حاكا حنكة عل من يبحث عنها تستدل عليه.. ثم يداري وجهه خجلاً لشعوره بالخيبة.. تشاكسه إحداهن بصوت يصله إلى طرف صفهن: هل ضيعت شيئاً ياطويل؟.

التفت مبتسماً ظاناً بأنها هي.. عاد باتجاهها مكرراً حك حنكه.. حتى وقف أمامها.. لتمد له بخبزها:

- القرص بمئة ريال.

 أقترب بوجهه الكبير هامساً:

- أنا شنوق!.

نظرت إليه تغمز بإحدى عينيها:

- وما لي ولأسمك!.

رنت ضحكات جاراتها.. عندها أدرك بأنه على مرمى من سخريتهن.. قرر التراجع إلى نهاية صفهن.. وقف متسولاً بعينيه  واحدة تلو الأخرى. فجأة داهمه إحراج.. ومضى يلعن نفسه لشعوره بعبثية ما يفعل..حتى أطراف السوق باتجاه شارع جمال.. ومنه عبر إلى ميدان التحرير حتى سوق السبحة.

 

-4-

يذكر بأنه قاطع جهاز المحمول لليالٍ.. وظل غاضبا من نفسه مضمراً حظر صفحتها.. ثم تراجع مكتفياً بعدم التواصل بها.. ومع نشوة قات إحدى الليالي أشتاق إلى معرفة إن كتبت إليه أم لا.. زادت نشوته حين وجدها وقد كتبت:

- أين أنت؟.

كررتها عشرات المرات.. أبتسم لشعوره بالرضا وهو يقرأ لهفتها.. رد عليها:

- لا أريد التواصل بك.

- أنت حر.

- أتسخرين؟.

- أنا جادة.

 - لو كنت جادة.. لانتظرتني حسب موعدك.

- وإن وصفتك؟.

- تصفينني!.

صمت قليلاً.. ثم أردف" إذن كنت موجودة بينهن.. فلماذا...؟!.

-  أصارحك.. لقد أخفتني!.

- أخفتك؟.

- لم أتصورك بذلك الطول.. رجل كبير.. بحنك شبيه بحنك الحصان!.

- حصان.. وماذا بعد؟.

- أنفك.

- .......!

- عيناك الضيقتان.

شعر بضيق من وصفها له.. وإن كان يعرف نفسه كذلك.. وكأنها خمنت ما يدور في خلده.. أردفت: ليس ما أصفه قبيحاً.. أو حسناً.. بل غريباً.

- توقفي.. وإن أردت الحديث فتحدثي عن نفسك.. وإلا فليذهب كل منا لحال سبيله.

- أمرك غريب.. ألا تعرف بأنك من الرجال الذين أستهويهم!.

- فلماذا تقولين بأنك خفت مني؟.

- لم أحسن التعبير...

قاطعها:

- أين تسكنين؟.

- بل عليك أن تخبرني أين تسكن أنت!.

- وماذا بعد.. الا تلاحظين بأني أحدثك عن نفسي.. ولا تحدثيني أنت.. هيا صفي لي نفسك!.

- ستعرف حين تأتِ غداً.

- لن آتي.

- سأنتظرك مع آذان الظهيرة.

- لن آتي.

- لا تتصبين عليَّ!.

يتذكر بأنه أغلق الجهاز لحظتها بعصبية.. يفكر فيما هو فيه.. وكمن لدغته عقرب يتساءل: ماذا لو كان "جحندل" متخف في قناع قطة؟.

قرر أن يمض إلى آخر نقطة.. مستغرباً لتلك الرغبة التي تقوده لمعرفته.. وقبيل آذان ظهيرة اليوم الثاني وجد أقدامه تقوده عبر أزقة أحياء المدينة العتيقة.. هابطاً "السايلة".. مخترقاً زحام سوق باب السبحة.. ثم التحرير وشارع جمال غرباً حتى قاع اليهود. يفكر طيلة المسافة في وسيلة يعود للعب دور الصياد.. لا الطريدة.. يبحث عن حيلة. وما أن دخل وسط زحام القاع حتى واتته فكرة..أن يتوارى وسط نهر العابرين.. حتى وقف على الرصيف المقابل لرصيف بائعات الخبز.. يراقبهن من بين غابة الجموع.. واحدة تلو أخرى.. وجوه من يقف هناك من الرجال.. توقع مع ذيوع أصوات مؤذني الظهيرة أن يبدأ من يترصد له بالالتفات بحثا عنه.. بين القادمين.. ثم نقل ناظريه إلى صف وجوه بائعات الخبز.. يرقب حركات أيديهن.. نظراتهن.. لفتاتهن.. بعد وقت لاحظ إحداهن تحرك عنقها يميناً وشمالاً بقلق.. زاد نبض قلبه مبتسماً وشعوره بالرضى يتزايد.. تمتم: قد تكون هي.

أخترق الجموع متسللاً باتجاهها.. راقبها زادت حركتها القلقة.. تيقن من أن من ينتظره ليس"جحندل". أقترب من صف بائعات الخبز بحذر أكثر.. تعجب لم تكن من بائعاتالخبز.. وقد احتضنت بين فخذيها سلة ريحان و"لزاب" وزهور الزعفران. توقف عن التقدم.. متمتماً: أخشى أن تكون...

للحظات التفتت لتلتقي عيناه بعينيهاالواسعتين.. كانت أصغر مما توقع.. بقد ناحل لف بستارة ملونة.. صدمته تلك المفاجآت.. ركع أمام سلتها يقتعد عراقيبه.. لاحظ رعشات كفيها.. تهرب بعينيهاوالنظر فيمن ولها.. التقط باقة صغيرة.. سألها:

- بكم "مشقُرِك"؟.

تصنعت عدم الاهتمام.. بينما ظل مركزاً على صفاء عينيها.. زادت رعشات كفيها.. ولم ترفع ناظريها إليه. تيقن لحظتها بأنها هي أردف  بصوت هادئ: لم تجيبيني.. بكم مشقُرك؟.

صمت ينتظر عودة عينيها إليه.. ثم هامسها مبتسماً: إذن أنت "سقوة".

ردت بصوت مضطرب دون أن تنظر في عينيه:

- هيا أذهب الآن.. وعد بعد أن أفرغ.. قبيل آذان العصر...

ثمتشاغلت بترتيب محتويات سلتها.. يحاول إضافة كلمات أخرى.. لكن همسها عاود:

- أرجوك انهض.. هيا أذهب!.

نهض بشعور المنتصر.. يسير متسائلاً: هل أعود أم أتركها وصغر سنها؟!.

 جال دون هدى حتى وجد نفسه مع آذان العصر يعود إلى سوق القاع.. كان معظم المحلات قد أغلقت.. وساحة السوق وأرصفته عارية عدى مخلفات الفاكهة والخضار تغطيأحجاره الرطبة.. وقلة من المارة.. وبعضالباعة ركنوا إلى زوايا ظليلة يمضغون القات.. ولم يتبقى إلا صناديق متهالكة كنت بائعات الخبز يجلسن عليهن.

رأى سلة سقوة على الرصيف وحيدة.. تلفت عله يلمحها هنا أو هناك.. لام نفسه على تأخره.. أقترب.. قليل من المشاقرتبقت في قعرها.. هم بالانصراف.. لكن نداء أعماقه دعاه للتريث. دار في ذلك المكان يبحث عنها.. فجأة ظهرت تسير نحوه بخطوات متعثرة.. أالتقاها لتجثوا أماه دامعة.. وعيون من تيقوا تتجه نحوهموقد أمسكت بمعصمه هامسة بصوت جريح: أرجوك خذني بعيداً عن هنا.

 

-5-

سار بها بعيدا عن السوق صامتاً.. وقد تشبثت به عبر شارع "باب البلقة".. هبوطاً نحو شارع القصر حتى حاذيا سور السفارة الصينية.. نظرت إلى وجهه هامسة: أذهب بي إلى"باب اليمن".

لم يعلق وقد تلبسه شعور من فقد القدرة لتحديد ما يريد.. متسائلا حول ما جرى لها!. عبر الشارع الخلفي للبنك المركزي ومنه محاذياً "بستان شارب" ثم أزقة "بحر رجرج" ليخرج  بها باب اليمن.. وقفت به:

-سأذهب للحظات وأعود.. هي لحظات وأعود انتظرني هنا.

أشارت إلى مبنى "القشلة".وتركته على رصيف بائعي "البردقان". وقف يرقبها وقد عبرت الشارع حتى رصيف "القشلة" المقابل. اتجهت نحو امرأة تفترش الرصيف.. تجاور عدة نساء بسلالهن.. بقايا أقفاص طيور.. وحُزم ريحان. يرقبها وهي تحدثها باكية.. لا يفهم ما يدور.. زاد عجبه وقداحتضنتها ماسحة دموعها.. أثارت المزيد من تساؤلاته: عمن تكون هذه الفتاة.. وتلك المرأة؟. زادت رغبته لمعرفة ما يدور. وإن ظل في صراع مع نفسه بين أن ينتظرها أو يتركها وينصرف.. لم يعد يميز ما يريد. بعد حين عادت وقد خالط خطواتها نشاط.. تحدثه بصوت واضح: والآن إلى أين تريد ان تأخذني؟.

أدهشه تغيرها.. وجرأتها.. وقد تخلصت من دموعها.. تردد.. ثم حزم أمره وقال لها:

- أستودعك.. أنت الآن أحسن حالاً.

التفتت إليه متعجبة وقالت.. بمرح غير متوقع:

- ألا تريد أن أرافقك؟.

- لا!.

- فلماذا تلاحقني إلى السوق؟!.

- .......!.

- وتلك الليالي التي قضيتها تلاحقني على الفيس بوك!.

وقف محتاراً أمام جرأتها.. وكانه أمام اختبار لم يستعد له.. ثم أستدار دون أن يتفوه ومضى مبتعداً. باتجاه باب اليمن.. ليفاجأ بها تتبعه عبر أزقة الأسواق القديمة.ظل صامتاً يعاتب نفسه: أي ورطة أنتَ فيها.. وأي شهامة تدعيها مع فتاة صغيرة؟.

ظل يسير دون هدى.. بينما كانت تجدخلفه وسط روائح التوابل والعطارة وأصوات الباعةوهي تتبعه.. قاربت الشمس على المغيب.. حينها أحس بغرائبية تهبط على أحاسيسه.. تمتم: لن أدع هذه الفتاة تلهو بي. وقف وسحبها جانباً.. ينظر في عينيها صامتاً.. سألته:

- ماذا بك!.

- أريدك أن تذهب في حال سبيلك.. أنت صغيرة...

قاطعته ممسكة بكفه.. ليتسرب دفء أصابعها.. أحس بتيار يتخلل أوردته

- من في مثل سنك يلهثون وراء الصغيرات.. وأنت تتمغنج!.

همسها لامس شغاف قلبه.

- وأنت تلهثين خلف من؟..

ابتسمت ناظرة في وجهه:

- حين تصل بي إلى سكنك ستعرف.

عاود السير يفكر فيما هو فيه.. بعد تردد قرر أن يكسر القاعدة ويتوجه بها إلى سكنه.. أخترق أزقة  يعرفها.. ولم يمض وقت حتى كانا في الحي الذي يسكنه.. مع مغيب الشم أقترب بها من الصرحة الواسعة التي تتوسط دور الحي:

- والآن أبقي هنا....

- تتركني!

- راقبيني وإذا ما دخلت ذلك الباب.

مشيراً إلى باب دار الشريفة.. ثم أردف: عليك باللحاق بي بعدها.. وانتبهي أنيلحظك أحد.

- لا تخاف.. أسبقني وستجدني في أثرك.

- إذا ما صعدتي.. باب سكني في الرابع.. سأتركه موارباً.

 

-6-

مضى مشتت الذهن.. محاولاالتماسك.. أجتاز الصرحة دون أن يرفع عينيه أو يلتفت.. خالطته قشعريرة مباغتة عند لحظات دخوله الدار.. تمتم: لماذا أضع نفسي في موقف قد يكون فيه فضيحتي! 

لم يمض حتى تسللت في أثره.. أغلقت الباب تبحث وسط عتمة المكان.. سمعت صوته:

- هل رآك أحد؟.

ترددت في الرد.. وقد غشتها ريبة عتمة المكن.. ردت:

- أبدا.

قالتها وهي تحاول معرفة أبعاد السكن. تنتظر أن ينير ضوءٍ.. أن يرحب بهاويرشدها إلى غرفة يلتقيان فيها..أستمرت تنتظره في مكانها.. رويداً رويدا بدأت تميز الأشكال المحيطة.. جدران حجرة مستطيلة خالية إلا من موقد كبير.. أفزعها صوته المفاجئ:

- هذه أنت في سكني الذي أردت أن تكوني فيه!.

لم تفهم ما يعنيه بتلك الكلمات.. ثم أردف: لكن.. ماذا بعد؟!.

تذكرت بأنها تمنت في أكثر من ليلة أن تعيش كما كان يحدثها عن عرية.. كما تتذكر بأنه حدثهابأنه أل جميع لمبات الإنارة في أول يوم يسكنه.. ليعيش لياليهوسط ظلام دامس.

لكنه الصمت يرعبها .ولم تكن تتوقع أن رُعابمفاجئ قد يصيبها.. وقد  بدأت حواسها تتبلد.. وشكوك تراودها بأنهاقد وقعت بين يدي سفاح.. حاولت أن تحتفظ بتماسكها.

بعد حين لاحظت صوته يقترب.. لتميز شبحه العاري كأنه غول يقف بموازاةموقد الحجرة.. ينفخ كومة فحم.. لتتوهججميراتتنعكسعلى تفاصيل جسده..تجرأت بتأمله: أرداف متهدلة.. ظهر مسطح  باهت.. ذراعان يهتزان جانباً.. ساقان يماثلان مقلاعاً ضخماً مقلوب.. لمحت شيئه.. هالها حجمهوهي تتابع شبحه العائد من حيث أتى يحمل جمراً.. ليتضاعف الظلام ويسيطر على ما حولها.. تيقنت بأنه ينوي شراً بها..تفكر في نفسها وقد أمست في وكر وتخشى نهايتها فيه.. كانت تنتظر أن يلاطفها كما هي بداية اللقاءات الحميمة.. التفتت تحددالباب الذي دخلت منه.

وقتها تهادى صوت مؤذن قدرت أن يكون لصلاة العشاء.. لم تعد تسمع لشنوق أي صوت عدى قرقرة نارجيلة.. فكرت أن ترفع صوتها وأن تسأله ماذا عليها القيام به.. لكن الصمت والسكون كان أقوى من ارادتها.

صمت المؤذن إلا منسكون بارد. ظلت على وقفتها دون حراك.. تسأل نفسها وقد ذهبت بها الظنون بعيداً: هل سأخرج من هذاالمكان سالمة ؟!.

كان الباب على مقربة منها.. قررت الهروب.. دارت بجسد مرتجف وأنفاس مضطربة.. خطوتين إلى الخلف..مدت كفيها تبحث عن مزاليج الباب.. محاولة ألا تصدر صوتاً.. بهدوء خشية سقوط ما ينبهه.. تاهت أصابعها.. وداهمتها أحاسيس خوف.. عاودت استجماع حواسها. قاومتالإحساس بالهزيمة.. حشدت قوها من جديد.. نبذت فكرة تراودها بالاستسلام لقدرها.. جاست بأصابعها مرة أخرى حتى لامست المزلاج .. سحبته بهدوء.. ثم أخذت بسحب مصراع الباب على مراحل حتى لا يصدر أي صوتاً.. كانت أصابعها ترتعش.. لينتقل إلى باقي جسمها .. شهقت وأنفها يستنشق رائحة السلالم.. كادت تنهار عند وضع قدمها اليمنى خارج الباب.. أخافها صمت السلم وظلمته.. تركت الباب خلفها دون أن تغلقه.. تسابق نبض قلبها الهابط.. تخشى مصادفة أحد سكان الدار.. أو أن يكون شنوق قد شعر بهروبها فلحق بها.. أستمرت تهبط بقامة مترنحة.. بعد جهد كانت خارج باب الدار.. لا أحد سوى العتمة وحفيف رياح باردة تداعب خوفها.. استعادت بعض توازنها وهي تعبر الصرحة الواسعة دون أن تلتفت.. بعد ولوجها أول زقاق "غرقة القليس" شعرت ببعض الأمان. لتحجب دموعها رؤية أحجار الزقاق وتلك الجدران الهرمة.. أحست بوحدتها في هذه الحياة.. بضعفها أمام كل من تصادفه.. لا تعرف في أي اتجاه تسير.

 

-7-

يضحك شنوق كلما تذكر هروب سقوة في تلك الليلة.. يتذكر بأنه ظل ينتظر دخولها عليه بعد أن هيأ لها متكأها.. وغسل باقة من أغصان القات.. وهو يفكر بأساليب جديدة لإثارتهافي أو لقاء حتى يصلها بها إلى عتبات الفردوس.يتذكر أنها ظل يتمتم: لا زالت غضة.. ومن السهل تأجيج غرائزها. ثم يعاود يصيخ السمع عليها في دورة المياه.. لكن انتظاره طال.. فكر بأنها خجلت من عريه.. وأنها بحاجة إلى وقت كي تتغلب على خجلها.. وبعد وقت نهض باحثاً عنها.. دُهش لخواء الأمكنة.. وحين رأى بابه مشرعاً صُعق.. عاد يفكرفي دوافع هروبها وهي من الحت باصطحابه له.. جالَسَ قلقه يفكر.. وجد بأن رضوخه لرغباتها كان غلطته التي لا تغتفر.. ذهبت به الظنون أنها تكون لصة. ثم ابتسم مرددا: وما عساها أن تسرق!.

تناوشه التساؤلات مُستعيداً حواراتها على الفيس.. فجأة شعر بمس يصعقه: هل يكون لها صلةبالعسس.. وقد استخدموها لمعرفة عنوان سكنه.. احتضن جهازه عله يجد لمخاوفه مخرجاً.. لكنه وجدها وقد حظرت التواصل بها.

يتذكر أن الأقدار قد ساقته بعد أشهر إليها دون أراده منه.. ففي الوقت الذي  تأجج الصراع فيه بين أحزاب المعارضة ونظام صالح.. تضاعفت ساحات الاعتصامات.. وتعاظمت المسيرات.. أمسى شارع الزبيري خط التماس الذي يشطر المدينة إلى جنوب تسيطر عليه السلطة. والأحياء الشمالية لأنصار التغيير.. وقد بلغت حدة الصدامات بين الطرفين ذروتها.. وأرتفع سقف مطالب المتظاهرين بتغيير النظام.. وبالمقابل ارتفعت أعداد القتلى والجرحى جراء الصدامات العنيفة.

 وأنه كان منذ وقت يشارك في تلك المسيرات المناهضة للنظام.. حتى تلك الظهيرة.. حين جابت الجماهير شوارع العاصمة في محاولة تجاوز خط التماس "شارع الزبيري" والوصول إلى معسكرات الأمن المركزي.. ومنزل عفاش.. انتهاء بدار الرئاسة.. لكن تلك المسيرات جُوبِهت بعنف العسكر.. لتسقط أعداد كبيرة من القتلى والجرحى في جولة "كنتاكي" و"الدائري". تفرقت بعدها الجموع.. خوف الرصاص والغازات المسيلة للدموع.. هرول شنوق بين الفارين عبر الخط الدائري المتجه إلى جولة الجامعة القديمة.. فجأة لمح سقوة.. وقد بدت كعصفورة تخلفت عن سربها.. كانت جاثمة جوار سور كلية الآداب.. شعر تجاهها بالشفقة. اقترب منها ليمسك بمعصمها:

- هل أنت بخير؟

رفعت كفها لتدعك عينيها الدامعتين.. عرف بأنها لا تميز ما حولها لغزارة الدموع.. عاود حديثه إليها: هيا أنهضي سأساعدك على الابتعاد من هنا.

أخذ يحاول انهاضها.. مردفاً: أي الجهات تودين المضي بك إليها؟.

خطت بمساعدته صامتة.. كانت لا ترى شيئاً.. حاول مواساتها: لا تخشي شيئاً.. سأرافقك حتى تكوني في أمان.

قاطعته بصوت واهن:

- إلى أين ستذهب بي وكل المدينة تحترق...

- أين تريدين؟.

- أريد قاع اليهود.

أنحرف بها شرقا عبر سوق القات الموازي لسور الجامعة.. هابطاً باتجاه القاع.. تمنى لو أنه التقى بها في ظروف أفضل حتى يسألها سبب فرارها.. أستمر بالسير صامتاً حتى كانت على رأس سوق القاع.. تركها دون أن ينبس بكلمة.. مكتفيا بابتسامة باهتة.. مبتلعاً مرارة غصته.. متوجها نحو شارع جمال. ظل طوال الطريق  يتمنى لو أنه عرفها بنفسه.. ليفاجأ بعد ذلك اليوم بأنها أزالت الحظر.. وكتبت عبارة مقتضبة:

- غداً أريد رؤيتك...!.

لم يجد تفسيراً لكلماتها.. فضل رفض عرضها.. لتضيف: لا تغلق بابك.. سأهبط إليك مع آذان مغيب نهار الغد!

ليرد عليها متعجباً:

- تهبطين عليَّ؟!

- ستعرف حين نلتقي!.

- لكني لا أريد لقيا أحد.

- لك الحق أن تغضب.

- لا عتب بيننا. وستجدين بابي مغلقاً.

- إن وجدته كذلك سأقرعه حينها.. وعليك بتحمل النتائج!.

 

-8-

مع صوت مؤذن المغيب أنسل شبحها.. رآها تضع سلتها جانباً.. ثم التفتت تغلق الباب بهدوء.. فوجئ لرؤيتها تسقط ستارتها.. ثم خمارها.. غطاء رأسها.. لتتسع عيناه الصغيرتين دهشة وهو يتابع شبحها وقد تحرر من آخر قطعة.. ليندلق أحد ثدييها.. ثم لحقه الآخر.. أقترب منها لتلتفت تتأمل عريه المنتصب.. مادة بكفها تداعبه بجرأة لم يتوقعها.. ركعت  مالت برأسها لينثال شعرها غزيراً.. قبلته ثم استقامت تهامسه بغنج.. شك أن تكون ليست هي.. مالت بوجهها نحوه وكأنها عرفت ما يدور بخاطره..هامسة:

- أليست هذه قواعدك؟

ذابت الكلمات بين شفتيه.. يتلمس قوامها الناحل.. ما لبثت أن مدت أصابعها تداعب أشيائه.. تضحك عالياً.. مد كفه كاتماً صوت قهقهتها.. التصقت بعريه الفارع لفحت أنفاسها صدره.. سألها:

- لكنكِ في المرة السابقة...

قاطعته:

- وماذا كنت أنت؟!.

- أنا؟

- لو وقفت في موقفي لهربت مرعوباً!.

- كيف كنت؟!.

- غول في وكره!.

صمت في حيرة.. لتواصل: لكنك الليلة غير تلك الليلة.. فهذا أنت تستقبلني.. تبادر إلى...

- ووكري!

- هذا ما أريد التعرف على زاوياه.

- أنت اللية.. لست أنتِ.

- ولا أنتأنت.

- كيف لك هذا التغير؟.

- لم تغب من ذهني من وقت قدتني كالعمياء.

- ظننتك لم تتعرفي عليّ!

-  بل دلني صوتك.

- هل كنت مع المتظاهرين؟

- لم أكن مع أحد..كنت بسلتي أبيع مشاقريفي "شارع هايل". لكن المظاهرات لجأت إلى تلك الشوارع.. بعد أن لاحقها العسكر بالرصاص.. هربت مع الهاربين من الموت.. في البداية ظننت الأمر بسيط.. ظللت أجري بين جموع الناس. كنت أسمع من يصرخ: أهربوا.. غازات سامة.. غازات سامة..رأيت بعضهم وقد جثوا أرضاً بعد أن أصيبوا بالاختناق وحرقان العيون.. ظللت أهرول وأنا أشعر بالاختناق.. والحرقان حتى فقدت الرؤية.. تلمست بكفي أول سور.. جثمت أرضاً أسمع وقع أقدام وبكاء من حولي.. أيقنت بالهلاك.. أصرخ عل أحداً يساعدني.. حينها شعرت بكف تمسك بمعصمي.. وسمعت صوتيستنهضني.. لم أكن في البداية أعرف من يكون.. وحين سرت بي بعيداً بدأت أميز صوتك.. بداية أصبت برعب...

- لماذا الرعب؟!

- قبل أن أجيب.. ها أنا عارية أمامك.. فهل تبقى طقس آخر أخر أقوم به؟

- أن تراقصيني.

قالها وقد أمسك بكفها.. مرسلاً ذراعه الأخرى تطوق خصرها.. أضاف: هل تعرفين الرقص؟

- ساترك نفسي لك.

لم تكن من حركة محددة.. ولا يوجد ما يلزمهم من إيقاع.. ظل كل منهما بتحرك وفق حالته النفسية..خطوة إلى الأمام.. وخطوة إلى الخلف.. لم ينتظم دورانهما.. ارتد بحركات بندولية متتالية ليصطدم بها.. استكانت حين ضمها إلى صدره.. كانت تنتظر منه ذلك...

قال مندهشاً:

- أنتِ راقصة بارعة.

انفجرت ضاحكة.. وقالت:

- وتسمي هذا رقص!

- وكيف تريدين أن ترقصي؟

- سأعلمك ما أعرفه.. بعد شروق الشمس.

- تقصدين الضوء.

- لكن من حبب إليك الرقص؟.

- فتاة مجنونة مثلك.

- فتاة!

- ربما قبل أن تولدي.

- مجنونة ومثلي.. كيف؟!

- تشبهينها كثيراً.

- هاه.. حاكني عنها.

- في أول لقيانا هامستني: "إذا أردت أن تشعر بمتعة اللقاء فلنبدأه برقصة". سألتها: أبدون موسيقى!. ردت ضاحكة "على إيقاع قلب من تراقص.. وإن لم.. فعلى إيقاع قلبك". لم يكن لي معرفة بالرقص ليلتها.. أخذت تدور بي بداية الأمر وأنا أحاول تقليدها.. وليلة بعد أخرى تزايدت نشوتي كلما رقصت.

- وحياتك عارياً؟

- هي أيضاً.

- كيف ذلك؟.

ظلا يرقصان حتى غمر المكان ظلمة حالكة.. شعر حينها بذوبانها وقد التصقت به.. ليهبط بكفه رافعا ردفيها.. لتقفز مطوقة خاصرته بساقيها..يدور بها ويدور.. ملتصقة بصدره.. دسة وجهها في رقبته.. هامسة في دلال: دعني امتطيك أرضاً..وأترك نفسك لي.

لم يتوقع جرأتها تلك.. تمدد.. بدأت بلثم شفتيه.. هابطه تطرز رقبته مروراً على صدره.. وهكذا حتى تصلب جسده كما لم يتصلب قبل.. لم يتوقع أن تثيره بكل ذلك القدر. بينما هيكانت تُشعر بلذة مضاعفة وهي تناغي مواطن إثارته.. وقد جعلتها الظلمة امرأة أخرى.. تسبح في اللا مرئي من الوجد.  بعد وقت أدارت ردفيها.. تدعوه لإثارتها.. حاول مجاراتها بأن يبتكر أساليبه.. ولم تتوقف هي.. بل ضاعفت من استخدام أصابعها.. أنفها.. ثدييها.. شفتيها.. ليجد نفسه في حالة لا تحتمل.. تجتاحه بعنفها.. يصرخ بلذة.. واصلاً  لذروة لم يذقها قط. رفعت وجهه تزغرد بفرح صبياني. ثم همست:

- يعجبني الحديث ونحن نخرمش اللذة!

- إذا حدثيني عن سبب فرارك!

 - سأبدأ من الوقت الذي عدته فيه تبحث عني.. حينها كنت داخل محل الفكهانيالذي أبيع مشاقري على رصيفه.. وبفضل وقوفك أمام بابه تخلصوا مني خوفاً أن تكون مباحث.. كانت صفعاته لا تزال تدوي في مسامعي.. لكن دخولي إلى مسكنك مثل لي صدمة جديدة.. ظلام المكان.. إهمالك لي وانصرافك إلى شؤونك جعلني أتصورك سفاح وقعت في شركه!.

- سفاح!

- كل شيء هنا كان يوحي لي بأنك استدرجتني لغرض غامض.

- أمجنونة أنت!.

- كنت في حالة بائسة بعد الفكهاني.

- لم أفهم!.

- كنت أتواطأ مع نزواته بين وقت وآخر.. مقابل حمايته لي من بائعات الخبز اللواتي يختلقن الشجار بهدف طردي من بينهن.

كانمن الصعب إثارته.. طالباً المزيد من المداعبات الغريبة.. أن أدخل إحدى أصابعي دبره.. أو بأنفي ولساني.. وأشياء تثير الغثيان.  

ودوماً يختار فراغ السوق مع صلاة العصر.. يخرج من محله باتجاه المسجد.. مشيراً عليَّ بالانتباه على محله حتى يعود.. أتظاهر بتكنيس المكان. لأتعمد في الأشهر الأخيرة الانصراف قبل الأذان وبذلكأنجو بنفسي. حتى يوم تواعدنا.. تأخرت أنت حتى الأذان فبقيت أنتظرك.. وحينها أشار عليَّ أن اخذ بالي ريثما يعود من المسجد.. تمنيت ظهور قبل عودته.. لكنك خيبت ظني.. وحين عاد كان بصحبته اثنين.. هممت بالهرب.. لكنه أدرك نواياي وسحبني خلف الرفوف.. وقال ضاحكاً: أنت بارعة.. وما كفى واحد كفى ثلاثة.

اعترضته مهددة بالصراخ.. لينهال علي باللطم..جثوت أرضاً أنتظر فرصة للهروب.. لكنه سحبني بعنف حتى الزاوية.. أمراً أن أخلع  سراويلي بسرعة...!

دار بينهم نقاش حول من البادئ.. كانت فرصتي الأخيرة.. هممت بالنجاة مرة أخرى.. لكنه تبعني وأمسك بستارتي: لن تجعليني أضحوكة! وأشار على أحدهم بإغلاق باب المحل والعودة.. ضللت أقاوم حتى عاد الذي ذهب لإغلاق الباب مذعوراً:

- هناك من يتربصبنا!.

رد عليه رفيقه بعيون زائغة:

- يتربص.. من يكون؟

- رجل غريب الملامح لم أراه من قبل.

لحظتها عرفت  بأنه أنت.. زادت مقاومتي للفكهاني.. لينهال عليبالضرب.. قاومته وأخذت أصرخ.. أمسك أحدهم به زاجراً: قد يكون من رجال المباحث.. دعها هذه المرة!.

خرجت أتعثر لتستقبلني أنت.. لكن...

 

-9-

في ليلة تالية أستقبلها بحبور لتعويضها عما سلف منه.. وبعد أن رقصا لبعض الوقت.. قفزت بخفة تحتضن خاصرته بفخذيها.. تسأله بدلال: لا أصدق بأنك لا تفضل الصغيرات.. فهل أشبعتك في الليلة الماضية؟.

 -  لقد امتعتني.. وجعلتني أتساءل...

 - وأنت ماذا لديك؟. 

لم يدعها تكمل سار يحملها على خاصرته.. حتى غرفة جانبية.. وضعها على فراش أحست بنعومته.. تسأله:

- أين نحن؟

- في غرفة النوم!

- حسبت غرفة المقيل هي كل شيء. 

يمرر لسانه صعوداً بادئاً من قدميها.. يهامسها: قدمان جميلتان.. ثم على أحد ساقيها مرورا بفخذها: ساقان رشيقان.. يعود بلسانه منحنياً.. يهمس: دغل كثيف الرغوة يذكرني بينابيع خمر الجنة.. والأروع ردفيك الوفيرين. يمعن.. تصرخ مبتهجة.. تنتفض.. يعاود همسه: انهرٍ من حليب. ثم يصعد: بطن ضامرة.. سرة الجوهر المكنون.. صدر مثقل بحمولته.. حلمتان نافرتان يتوقان للقضم.. عنق يدعو فمي للمكوث طويلاً.. يلثم شفتيها.. يعانق لسانه لسانها.. تشهق مادة أصابعها تمسك أشياءه.. تنخر متلفظة: أبقه داخلي أيها الفسل الحقير.. أحبك قُحبي...

تهويبكفهيا على رأسهبالضرب واللطم.. تعمل أظفارها في صدره.. وبأسنانها وهي تعوي في نشوة.. وأخذ جسدها ينتفض.. يئنشنوق بإيقاع رتيب عاضا شفتيها حتى لا تتواصل أصواتها عالية.. تمازج عرق جسديهما.. رويدا رويدا هدأ جسدها.. حاول شنوق أن يضعها جانباً.. ليسمع صوتٍ يتوسل: أبقنيعليك.. ودعني أسمع صوتك!.

يتعجب من طلبها أن يحكي.. يبحث عما يقوله:

- في ماذا أتحدث!

- تحدث فحسب.. يعجبني وأنت بداخلي.

- حدثيني أنت.. أين ذهبت تلك اللية بعد هروبك؟.

صمتت قليلاً تجمع خيوط الحكاية وهي تموضع عليه:" همت على وجهي في أزقة تقودني إلى أخرى.. حتى وجدت نفسيبجوار الجامع المقدس.. قادني قلبي لأن أدخل بابه.. لم يصدني أحد.. رأيت بشراً يتناثرون أمام مصاحف مشرعة.. وعند حواف الجدران.. والبعض يستند إلى الأعمدة والجدران الكثيرة.. محتارة.. سألت أحدهم:

- هل يسمح لي بالصلاة؟.

تعجب مبتسماً وكأنه لا يعرف الجواب على سؤالي.. حرك رأسه بالإيجاب.. ثم قال: لكن الوقت ليلاً!.

ينظر نحوي كثر بعمائمهم الكبيرة.. أشار أحدهم عليَّ: يمكنك الصلاة في الزاوية القصية.. ولا تجهري بصوتك!.

وقال آخر: ولا تستقبلي القبلة إلا والجدار خلفك!.

سرت حيث أشاروا.. انزويت أدعو الله دامعة.. ظننت نظراتهم ستكف عني.. لكنها ضلت تختلس..بهمس متقطع.. بعد لحظات ارتفع صوت لا يُرى لإقامة الصلاة.. رُصت صفوف كثيرة.. استقمت الهج بصوت مكتوم. أن يستر الله ليلتي.. اكرر الركوع والسجود متمنية أن تمر على خير.

بعد وقت انصرفت الجموع.. وتبقت بعض عيون المؤمنين التي ما برحت تشيعني.. تكومت بقلب خافق متكومة على نفسي.. رويدا رويدا خِلا المكان إلا من أعمدة كثر.. وأطفئت الأنوار.. ما لبثت أن زارتني مخاوف.. أتخيل فيها عدداً من المعممين يتربصون بي.. وقد حلقوا حولي.. يمزقون ثيابي.. بدني.. يخرشون وجهي. أسأل نفسي.. ماذا كنت لو بقيت في وكر العاري.. ترى ما يكون. استحضر تصرفاتك.. عريك.. برودة تصرفاتك.. أتذكر تجاربي مع بعض الرجال. أحدهم بادر إلى اقتحامي على مقاعد سيارته.. أتذكر  أنه أقلني ذات عصاري.. ولم ينتظر حتى يصل مخدعه.. جنح بسيارته أطراف مقبرة.. وبين قلة من الأشجار باشر بتمزيق ثيابي في هياج يمرغ وجهه على صدري.. بطني.. بين فخذي.. ولم يفعل غير ذلك. وآخر لم يكتفِبإيلاجه في موطن لذتي.. بل أخذ ينقل شيئه من فتحة إلى أخرى.. ما أخافني.. حتى أنه مر به على مسامعي.. ليختتم بإسالته في إحدى عيني. بينما أنت تماهيت بطقوس ظلمتك في تلك اللية.. ولم تقترب حتى مني.. وأتذكر بأني لمحت شيئك.. ولاحظت بأنه لا ينقصه شيء. حتى أنك لم تلمسني بيديك.. وكأن وجودي لا يعنيك.. أو أنك تتصنع تلك البرودة ضمن خطة.. هكذا فكرت بأنك تنتظر توغل الليل لتتخلص مني.

كنت أرتجف رعباً وأنا أستعيد لحظات وجودي في وكرك.. أتخيل أساليبك في التخلص ممن يقعن بين يديك.. أتصورك مدمن اصطياد للحريم.. كنت سعيدة أنني فررت...

صمتت قليلا تسترد أنفاسها ثم واصل صوتها: ظلت القشعريرة تسري في أنحاء جسدي منذ هروبي وحتى مكوثي في الجامع.. متخيلة أصابعك الطويلة وقد أطبقت على أنفاسي. أو أنك تستخدم فأسا لتهشم جمجمتي وأضلاعي.. ظللت في جدل مع نفسي.. حتى غمرني نوم عميق.. لم أعرف كم من الوقت مضى.. حتى سمعت صوتاً أيقضني: الصلاة خير من النوم.. الصلاة...! فتحت عيني.. جذبني الضوء وقد تسلل.. لملمت نفسي أحاول النهوض.. شعرت بفتور وكانت مفاصلي تؤلمني.. طعم فمي مختلف.. تذكرت كما لو كان حلماً.. رأيت نفسي عارية.. جلست أحاول التذكر.. ملامح من كان معي.. لماذا لم يتح لي أن أعرف كيف يكون ذلك في هذا المكان.. أنا على يقين أنه حلم.. أو أن معمماً قد أستغل تهالكي.. هذا التعب الذي أشعر به يشير إلى شيء قد حصل.

استقمت أستغفرت الله وقد دمعت عيناي.. وأنا ألعن الشيطان.. ظانة بأن كلما يقع لي بسبب وسوسة الشيطان.. ظللت أتعوذ منه وأنا أحاور نفسي الخاوية.. رأيت أحدهم يتجه نحوي مبتسماً.. يردد وكأنه يوجه كلامه لي "صلاة يا نائم". تملكتني رهبة وأنا أستنشق صباح الجامع المقدس.. وذلك الحلم الشفيف يفصح أكثر.. انشغلت بالنظر إلى صفوف المصلين.. صدى همهماتهم ترددها جدران وسقوف عالية.. نهضت أقف مولية ظهري صوب جدار خلفي.. ليردد أحدهم دهشته: "امرأة في الجامع.. امرأة في...." لحظتها حاصرني الخوف.. سارعت بالتسلل والخروج من الجامع.. لتستقبلني تدفئوها شقشة العصافير.. بدت جدرانها بالية وفضاؤها خاوٍ إلا من كلاب تجوبها.. وقلة من العابرين لُفت رؤوسهم بكوافي بالية.. مررت أمام صفوف حوانيت مغلقة. هي المرة الأولى التي أدخل فيها جامعاً.. وأصلي وأنام فيه.. حتى حلم اللذة كان غريباً.

 كثيراً ما سمعت عن بركاته.. غشتني سعادة وأنا أكرر التعوذ من الشيطان. ظللت أسير حتى وصلت رصيف "القشلة". كانت الشمس بهية وهي تغسل الشوارع وواجهات المباني والأرصفة.. لم تأتِ بعد بائعة الريحان.. جلست حيث تعرض حزمها.. ولم يمض وقت حتى رأيت السيارة المتهالكة محملة كالعادة بسلالهن.. وأقفاص دواجنهن وحزم الريحان.. وفي كل مرة أراهن يدهشنني بتشابههن.

عنفتني.. إذ كيف أبات في جامع.. اعترفت بما كان.. احتضنتني تهون عليَّ . ثم بصوت هامس نصحتني بالابتعاد عن سكة الخاسرين.. أخبرتها بأني لن أعود إلى سوق القاع.. صمتت بعض الوقت ثم أثنت علي.. ووجهتني باختيار مكان آخر لبيع المشاقر.. تنقلت خلال أيام بين أكثر من سوق.. فتارة أجلس على رصيف شارع المطاعم.. وأخرى في سوق الزمر.. حتى استقريت على أحد أرصفة شارع هائل:

- لكن لماذا كل ذلك؟

- هذا ما كان أيها الغول!

- غول مرة واحدة!

 

-10-

في أيامها الأولى مع أماسي شنوق ألفت سقوة طقوسه.. بل إنها أضافت له حب الأحاديث حين يمارسا اللذة.. فأمسى يسمعها بنشوة.. بل إنه كلما أرادت أن تتحدث بمعزل عن توالجهما.. يتمنى عليها الصمت حتى يبحرا معاً.. سألها: 

- في تلك الدردشة قلت بأنك ستهبطين.. وحتى الليلة لم تحدثيني عما تقصدين؟

قالها وهو يرفع ساقيها عالياً.. ردت وهي تتموضع تحته:

- من الدور الخامس!

رفع رأسه متعجباً:

- الدور الخامس.. سكن الشريفة؟.

- لن أحدثك حتى يداعب شيئك أعماقي.. هيا أرني.

مضى وقت انشغلا فيه بتلاحمهما.. لسمع صوتها المحمل باللذة: الآن أحدثك.. نعم.. أهبط إليك من سكن الشريفة.

- أمركِ غريب!.

-  حدث ذلك بعد أن أشترت مني ذات نهار كل ما في سلتي.. طالبة مني مرافقتها إلى سكنها.. تبعتها حتى دخلت أحياء صنعاء القديمة.. لم أعر الأمر أهمية.. لكني أصبت بالدهشة حين سلكت الأزقة التي تقود إلى الحي الذي تسكنه أنت.. حينها بدأت الهواجس تلعب بي.. لكن تذكري شهامتك وأنت تقودني عمياء.. خففمن خوفي وقد ظننتها تسكن منزلاً مجاوراً لسكنك. لكنها عبرت أزقة تصل بنا حتى الصرحة الواسعة.. تملكتني حيرة! وما زاد من ارتباكي.. حين سارت متجهة نحو باب دارك. كنت في صراع بين تلك الليلة التي فررت منك فيها.. وبين يوم إنقاذك لي.. وقفت مترددة. بينما هي التفتت وقد أحست بتباطئي تستعجلني.. تبعتها على مضض وأنا أرتجف مدارية  اضطرابي.. صعدت خلفها وقد غرق جسدي بعرق غزير.. جزمت بأنني قد وقعت في خديعة ما.. وأنك لست ذلك الشهم.. بل وأن تكون تلك الحرمة مرسلة من قبلك.. وما أن حاذت بابك حتى خارت قواي.. التفتت إلىَّ متعجبة.. تسألني.. لاستدرك: صعود السلم أتعبني.  ابتسمت ظانة ذلك تمجيد لقدرتها على الصعود بهمة بامتلائها. مشيرة عليَّ أن أتبعها.. التقطت أنفاسي وأنا أحاذي بابك أختلس النظر إليه.. واصلت في أثرها الصعود حتى الدور الخامس.

تعوذت من الشيطان الرجيم وأنا أهبط بعد أن نقدتني قيمة سلة أخرى.. طلبت إحضارها في اليوم الثاني. عرفت بأنها تعد لإقامة حفل ختان لابنها الوحيد بعد بلوغه السابعة.

وجدتني أقوم بمساعدتها بعد أن أحضرت ما طلبت من مشاقر.. كان سكنها مكتظاً بالنساء.. وفي السطح زوجها ومجموعة من الرجال.. ذُبحت الكباش.. ووزعت الصدقات. 

ظللت أفكر بك.. وقد غلبت شهامتك على مخاوفي.. لتتغير مشاعري تجاهك متمنية أن أتسلل إليك. وكانت المفاجأة عند مغادرتي حيث وشوشتني الشريفة"أنت شاطرة.. وأنا بحاجة لمن تساعدني في أعمال البيت". أعطيتها رقم هاتفي.. ثم قبلت وجهها بغبطة.. ومن لحظتها أخذت أخطط لغزوك.. وأن عليَّ أن أصالحك. كنت على يقين أن الله قادني لأعود إليك.

دعتني روحي للمغامرة.. فسارعت لإزالة الحضر والتواصل عبر الفيس بك لضرب موعد.. وها أنت تجعلني لا أندم على مغامرتي بالعودة أيها الغول.

دنا بوجهه يداعب حلمتيها بشفتيه.. مرسلاً يديه يداعب أسفل جسدها.. تهامسه بغنج:

- تعجبني مداعبتك أثناء الحديث.

- فقط.

هبط  بشفتيه ماراً بسرتها.. مطرزاً فخذيها.. لتضاعف نشوتها بغرز أظافرها في أضلاعه وخلف ظهره.. هامسة بمفردات نابية.. تكيل عليه اللعنات وقد غاص يداعب ينابيعها.. تتأوه بدلال.. لتسأله بصوت شبيه بالخوار:

- هيا اريد سماعك تتحدث.

- أي حديث تريدينه؟

- بماذا فكرت بعد أن اكتشفت فراري؟.

- تملكتني ريبة.

- ماذا صنعت؟

- في البداية جربت النت.. لأجدك وقد حظرتِ الوصول إليك .

- وهل خرجت للبحت عني؟.

- بالفعل.. خرجت صباح اليوم التالي أترصد ظهورك في سوق القاع.. لكنك ولأيام لم تظهري.. فكرت أين يمكن أن تكوني.. ثم تذكرت امرأة رصيف "القشلة". يوم ذهبت وأنا بصحبتك إليها.. ظننت أنها لن تعرفني.. لكني جربت وسألتها.. لتنكر معرفتها بك.

- لكن بالكاد قبلت أن تصحبني ذلك اليوم إلى مسكنك.. فكيف انشغلت بالبحث عني!.

- أصدقك القول.. كنت بالنسبة لي مجموعة من الألغاز.. فأحاديثنا على النت لم تعرفني عليك رغم محاولاتي.. كنت أود أن أعرف مالا تريدين الإفصاح عنه.. ثم بعد هروبك.. شككت بك كسارقة...

- سارقة...!

- بل وذهبت شكوكي إلى أبعد من ذلك.. بلوظننتك مرسلة من قبل العسس.

- عسس.. ولماذا يرسلونني إليك.. من أنت؟. خش عقلك.

- هكذا ظل عقلي يقول لي.. ولذلك ظللت أتردد على سوق القاع.. وأحيانا أقف على رصيف باعة "البردقان" و"الشمة" لساعات.. أراقب امرأة الريحان على رصيف القشلة. أمني نفسي بظهورك.. وفي آخر مرة تجرأت ووصفتك لها.. ردت بطيبة: هن كثر بنفس الصفات...

ثم صمتت تتأمل وجهي.. لتسألني: هل هي قريبتك؟.

هززت رأسي بالنفي. لتصرف عينيها بعيداً وقد تغيرت ملامح وجهها.. ثم قالت: "وماذا تبغي منها؟". صمتُ لأجد نفسي مجرداً من أي إجابة.. وكمن تريد أنهاء الموضوع.. أردفت دون أن تنظر إليَّ: "من يترددن عليَّ كثر.. ولا أعرف أكثرهن". 

ابتعدت متيقناً من أنها كانت تخفي شيئاً...

قاطعته ضاحكة:

- ألم أخبرك في ليلة سابقة بأني شكوت إليهاماجرى لي من الفكهاني ومنك!

- نعم.

وعليك ان تعرف بأنها كانت تخبرني في كل مرة ترددت فيها عليها.. ما كان يزيد  من خوفي منك.. وبعد أن وجدتني عمياء أخذت أفكر من جديد.

 

-11-

قطع خيط ذكرياته البعيدة صوت مؤذن الفجر مردداً "حيا على الفلاح".لاحظ تغير تهدج الصوت "حيا على خير العمل".ارتفع معها نباح كلاب الأزقة.. وأنتشر حتى عم أزقة أحياء مجاورة.. ليتحول إلى عواء حزين. وفي الدور الخامس ظل النواح مستمر وبقية  الدور المجاورة.

تذكر رسالةadel التي قرأها بداية المساء.. يردد محتواها متعجباً: "أخيراً وجدتك.. شكراً للفيس بوك.. أنتظر ردك..". استحسن التريث في الرد عليها.. متمتماً: "قد تكون رسالة أخطأت طريقها إليّ". مفضلاً التفكير بما عليه فعله أمام كارثة موت ابن صاحبه.. متصوراً حالته وقد سمع عويله قبل هنيئة.. تهادى صوت عبر مكبر المسجد "أنتقل إلى رحمة الله تعالى الشهيد تاج الدين بن الشريفة آية... رحمه الله ورحم من حضر صلاة الجنازة وشيعها.. وستقام الصلاة عليه صباح يومنا هذا في ميدان التحرير". ترددت ثلاث مرات.. ميزه لم يكن صوت صاحبه.. لتعم بعدها أصوات من مساجد أخرى.. بنداءات مشابهة.. لقتلى كثر.. صمتت الديكة.. وطغى عواء الكلاب حتى أشرقت الشمس.

أكتظ المسجد على غير عادته.. وخرج المشيعون بالشهيد على أكتافهم مرددين "الله باقي وله الحمد.. الله با..." ليسير شنوق بين الحشود.. عبر أزقة "غرقة القليس" وحي "نصير" لينظم مشيعون أخرون لجنائز أخرى من حي"سكرة". وحي "موسى" والوشلي والجلاء وحي السوق وهكذا تكاثرت الجنائز  عابرين بها أزقة "بحر رجرجر" وجسر السايلة.. حتى ميدان التحرير.

اصطخبت الحشود.. وتعالت مكبرات الصوت تردد "الله أكبر.. الموت لأميركا.. الموت لإسرائيل.. اللعنة على اليهود.. الخزي لآل سعود.. النصر للإسلام". تلتها زوامل حماسية.. وقرع طبول لصفوف راقصة من شباب يحملون رشاشاتهم.. وقد ملأت الشعارات الجدران المحيطة.. وصور عملاقة على المباني لقائد المسيرة القرآنية.. خط أسفلها باللون الأخضر "أبشر بعزك سيدي". كما ظلت تتوالى عشرات الجنائز المغطاة بأعلام خضراء تملأ قاع الميدان.. طوقتها صفوف فتيان عصبت رؤوسهم بشرائط خضراء كتب عليها لبيك ياحسيناه. ومن أسطح مباني صنعاء زغردت النساء في وقت واحد.

أدت الجموع صلاة الجنازة.. وقف شنوق أمام صاحبه ليلحظ هالات سوداء تحاصر عينيه.. واكتسى وجهه الصغير بصفرة غريبة.. وزاد قصر قامته.. بينما شفتاه تتمتمان بانكسار.

حُملت الجنائز على عربات مكشوفة تعلوها صور قائد المسيرة.. وأعلام خضراء.. وببطء خرجوا من التحرير مخترقين شارع القيادة شمالاً تُظللهم مكبرات الصوت.. مرددة خطب قائد المسيرة المنددة بالعدوان الأمريكي الإسرائيلي السعودي الإماراتي.. متوعداً عواصمهم بالتدمير.. ومهدداً منشآتهم الصناعية والبترولية بالحرق.. وشعوبهم بالإبادة..واصفاً لهم بالطواغيت المستكبرين.. بينما كانت الجماهير تهدر بصوت جماعي "الله أكبر الموت لأمريكا الموت لإسرائيل اللعنة على اليهود الخزي لآل سعود.. النصر للإسلام".

فجأة التقت عينا شنوق بعيني الفرانصي الذي أصيب بارتباك شديد.. ليفكر بالعودة من حيث أتى.. ثم تردد.. مفضلاً أن يظل في مؤخرة الجموع بعيداً عن متناول الفرانصي. كانت المسافة إلى روضة شهداء صنعاء طويلة.

يسير في ذيل المشيعين.. وقد حضره ذلك المساء البعيد. حين سمع قرعاً متواصلاً على باب سكنه.. أضطرب لأول وهلة.. فهو لا يستقبل أحداً.. وصاحبه حين يحضر لمسامرته يدير مفتاحه دون أن يقرع الباب.. و سقوة لا تأتي إلا بموعد مسبق. نهض متردداً.. أرتدى ما يستر عريه.. فتح الباب بخوف.. ليجد الفرانصي يقف وبصحبته ثلاثة جنود.. ودون أن يخاطبه أمرهم: "هيا.. أسحبوا هذا الكلب...!". باغتهم شنوق بسرعة وصفق الباب بشدة.. وظل خلفه كأرنب مذعور. كان يعرف أنه لن يعود من السجن لو سلم نفسه. ولم يتوقع ردة فعلالفرانصي الذي أخذ وجنوده يكسرون الباب بأعقاب بنادقهم.. أطل سكان الدار يستطلعون تلك الضجة.. أعقب ذلك صوت الشريفة يهبط سائلاً عما يحدث.. لكن الفرانصي لم يهتم لها.. ولا بطلبها إيقاف تكسير الباب.. يتذكر شنوق..أن شظايا خشب الباب بدأت تتقاذف من عنف الضرب. وحين ظهر زوج الشريفة صارخاً في وجه الفرانصي.. وقف الضرب.. ليرتفع  صوت الشريفة من جديد مرددة أيمان مغلظة بطرد الفرانصي من دارها.. وكأنها بذلك ترد الاعتبار لنفسها.. تؤكد بأنها صاحبة سطوة. بدوره أخذ الفرانصي يشرح لها متوسلاً بأن القبض على شنوق إنما هو أمر دولة.. وأنه أحد العناصر الخطرة التي تسير في مظاهرات تحرق وتنهب وتدمر منشآت وممتلكات الدولة.

 يتذكر شنوق أنه كان في تلك اللحظات يفكر في وسيلة للهروب. لكنه هدأ وصوت صاحبه يعاتب الفرانصي ويعنفه:

- أهكذا يافندم تكسروا أبواب الناس!.

ليرد عليه معتذراً:

- لو كنت مكاني وقد أغلق هذا المعتوه الباب في وجهك.. لفعلت ما هو أكثر.

- كان الأولى أن تخبرني بما تريد فعله قبلاً.. لا أن تقلق جيرانك.

صمتت الأصوات إلا من هياج الشريفة.. ليتهادى إلى مسامع شنوق وقع أقدام هابطة وصاعدة.. رغم سكون كل شيء. إلا أنه ظل خلف بابه مذعوراً.. حتى دخل إليه صاحبه مساءً.. ليطمئنه أن الأمر انتهى.. وأنه أقنع الفرانصي بعدم متابعته متعهداً له بإقناع شنوق عدم المشاركة في أي مسيرة.. أو اعتصام.

ثم هامس شنوق: لن يعاود قرع بابك.. لكنني متأكد من أنه سيسعى بتكليف غيره.. لاصطيادك خارج الدار.. ولذلك عليك بالحذر.. فرجال صالح لا يعيشونالامن أذية الناس.

يتذكر بعدها بأنه ظل لا يبرح سكنه.. وقد رابط يراقب حركة الزقاق المؤدي إلى الصرحة من نافذته.. حتى إذا ما رأى الفرانصي يحمل حقيبته اليدوية مغادراً.. خرج بحذر لبعض شؤونه. كما عاد يشارك في المسيرات حتى دخول الحوثيين صنعاء مشاركين في الاعتصام والمسيرات.. عرف بعدها أن الأمر تغير.. وأن تكاثر المد السياسي الديني سيجلب الخراب للمجتمع.. ومن حينها قاطع تلك الاعتصامات والمسيرات.. ووارى شنوق نفسه طيلة لفترة حتىشعر بأنه نجح في الإفلات من الفرانصي وبقية العسس. واليوم نجح أيضا في تواريه عنه رغم المسافة الكبيرة التي لم يتوقعها إلى روضة شهداء صنعاء.

 

-12-

بعد دخول المشيعين الروضة.. وحتى يظل بعيدا عن أنظار الفرانصي فضل شنوق البقاء خارج أسوارها يتأمل بوابتها وقد عُلقت على قوسها عبارة "شهداؤنا عظماؤنا. أهلاً وسهلاً بزوار روضة شهداء العاصمة صنعاء". تصله أصوات المشيعين من داخل الروضة "لا اله إلا الله الشهيد حبيب الله". ظل في تلك القفار رغم مغادرة الجميع.. وشعر بسكينة تغمر روحه.. معاوداً الطواف حول أسوار الروضة التي زُينت أركانها بأعلام خضراء.. ثم دخل من بوابتها يسير بين مراقد وضعت فوقها صور لامعةلفتيان خضر وزهور بلاستيكية.

ظن بأنه بعيدٌ عما يدور في المدينة.. لكن أزيز طائرات لا ترى ودوي انفجارات تهز الأرض تحت قدميه.. يرى من مكانه مدينة ترتجف وحيدة.. ويخيل له أنه يسمع صريخ الأزقة.. ويرى اهتزاز المنارات.. يصيخ السمع عله يحدد اتجاهات القصف.. يبحر به خوفه.. حتى ظن أن صنعاء أصيبت بالخرس.. إلا من سحب سوداء تظللها لتحجب ضوء الشمس.. فتعاود الكلاب عواءها من أرجاء تلك القفار.

لبرهة يرقب المدينة.. يشاهد جموعاً قادمة بأعلامها وصورها الخضراء.. يسابقهم ضجيج  مكبراتهم.. وقد حملوا جنائزهم على رؤوس مشعثة.  تخفى يرقب ما يدور.. كانوا نسخة ممن سبقوهم صباحاً.. هي نفس الأعلام والشعارات وصور لصبيان خضر.. وهكذا ظل يتابع جنائز قادمة وجموعاً عائدة حتى قارب النهار على نهايته.. بعدها صمت كل شيء.. إلا من كلاب تعوي من كل اتجاه.. ظل يصيخ السمع.. حتى رآها تدخل الروضة وتملأها عن آخرها.. تتشمم وتنبش التراب.. تتناحر على بقايا أشلاء.

فر مذعوراً عائداً باتجاه صنعاء.. يتبعه صدى عواء متواصل.. حتى دخل أطراف احياءها!. لتستقبله روائح غبار الأنقاض.. والبارود. أزقة أحياء  "الزمر" ثم "الطواشي" حتى "المفتون" وسار محاذياً لقبة "البكيرية"انتهاء بأزقة "الأبزر" المواجهة لـ"قلعة قصر السلاح". تضاعف خوفه وقد وجد الشوارع خالية من الأطفال.. ولم تعد منارات المدينة في امكنتها.. حتى القباب قُلبت لتشابه خوذ جنود منهزمين.. مد كفه للأعلى.. ليجدها تلامس سحباً بلون الرصاص.. وصلابة الصخور.

دُهش لزحام سيارات تسد أزقة الحي.. وخيام غطت الصرحة الواسعة.. أعلام الخضراء.. وصور صبية توسطتها صورة "تاج الدين" بضحكته البريئة.. تعجب من اتقانهم الباسه بندقاً رشاشاً بعد موته.. وعبارة "رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر". في اسفلها.. كل شيء غطيَّ بالأخضر.

صعد مسكنه مرهقاً. يتابع من خلف نافذته صفوف صِبية بملابس عسكرية وقفوا لاستقبال المهنئين.. طبالون انهمكوا بقرع طبولهم.. ليهتز المهنئون  بـ"برعة الحرب" في دوائر متداخلة.. ملوحين ببنادق أمريكية في الهواء.. حتى أن أمين العاصمة ووزير الأوقاف ومشرفي وزارات وأعضاء المجلس المحلي شاركوا رقصة البرعة.

أغلق نافذته بعد مغيب الشمس.. لاجئاً إلى رحم ظلمته.. هارباً لعرية مستعيداً حرية يسلبها الناس منه.

جَنح إلى جهازه.. ليقرأ من سقوة: "أنا بخير.. حضرت حسب موعدنا بالأمس.. لكن بابك كان مغلقاً.. عرفت بأنك نسيت تركه مفتوحاُ. فذهبت حزينة إلى بيتي". كان ذلك ردها على عتابه لها من عدم حضورها الليلة الماضية.

ثم وجد رسالة تالية منها بتاريخ اليوم: "لا أعرف ما يدور!. هل تخبرني؟. أظن بعد هذا الهول أن المدينة تخربت.. أسمع طائرات تحن فوقنا.. تمنيت لو كنت معك.. الخوف هنا يحاصرني.. طمني عليك".

ثم رسالة متأخرة: "هاتفتني الشريفة صباح اليوم.. وطلبت مني الحضور.. كان صوتها باكياً.طمني هل أنتم خير...؟ ".

الرسالة الرابعة: "عرفت بالكارثة بعد أن صعدت الدور الخامس.. كل شيء هنا يبكي "تاج الدين". وأظنك كذلك.. الشريفة لا تقوى على الحديث من كثرة حزنها.. تلك المرأة الشديدة أذابها موت صغيرها. أدعو لصاحبك بالصبر".

رسالة أخيرة: "سبحان محيي العظام وهي رميم.. لن تصدق إن قلت لك بأن الشريفة قد نفضت حزنها.. لتتلقى التهاني باستشهاد وحيدها.. فاغتسلت وتعطرت.. ووقفت تستقبل المهنئات. وقد سمعت أن مندوباً وصل من أنصار الله يلزمهم بإظهار الفرح. مردداً:هنيئاً لكم الشهيد".

لا أعرف كيف أصف لك ما يدور.. لكني على يقين أن الزغاريد تتهادى إلى مسامعك.. ووقع أقدام المهنئات المتواصل صعودهن وهبوطهن. ولم أعد أعرف هل أنا في مأتم أم في عُرس!".

كتب لها جملة قصيرة "بالأمس عشت ليلة مرعبة.. هربت إلى ذكريات لقائنا الأول حتى لا أجن.. ولم أنم حتى الآن.. متى وجدتِ فرصة للهبوط إليَّ.. أبعثي برسالة".

انتقل لقراءة رسالة جديدة مصدرها صاحب الأحرف adel "يا بن الحاج لماذا لا ترد عليَّ.. أنسيت ما بيننا من عشرة؟.. ثم لماذا لا تضع اسمك الحقيقي على صفحتك؟". شعر بالأرض تتحرك تحت قدميه.. وتيقن أن الرسالة السابقة لم تصله بالخطأ. وأنها من كائن يعرفه حق المعرفة.. وأن تلك الأحرف الإنجليزية adel ما هي إلا للتمويه. ومن لحظتها رأى أن يتعامل مع ذلك المصدر بجدية وحذر.. بادئاً بالبحث عمن يكون ذلك الـ adel.. قضى ساعات طويلة يفحص محتويات صفحة ذلك المرسل بدقة. لكنه لم يجد ما يدله عليه.

ظل يفكر بكلمات الرسالة الأخيرة.. يعرف أن التفكير في الظلام أكثر صفاءً.. وأنه سيعرف عاجلاً أم آجلاً صاحب الرسالة.. فلا يعرف تلك الصفة "ابن الحاج" إلا القلة من أطفال القرية.. بعد عودة والده من الحج.. أصبح "ابن الحاج". كان يومها فرحاً بذلك التغير. لكن بعد سنوات يغادر القرية مغترباً إلى شرق السعودية..مع سنوات عمره نسيت تلك الصفة.. وعاد له اسمه شنوق.. ليقرر استخدم تلك الصفة من جديد كاسم مستعار على صفحته في الفيس.

أنشغل بمواقع البحث عله يستدل على ذلك الـ adel.. وعبر شبكة النت تشعب في مجاهل لم يكن يفكر بها من قبل.. عابراً مواقع شخصيات شهيرة في عالم الفن والأدب.. إلى شخصيات رياضية.. ومن شركات ووكالات تجارية إلى مواقع اجتماعية وإباحية وأندية.. ومن منظمات خيرية إلى منظمات دعوية وتبشيرية إلخ... أدرك حينها أنه يلج لعبة لا يعرف أبعادها.. ولا نهايتها. ليتوقف بعد أن فشل في ايجاد ما يدله إليه.

كان لفظ "ابن الحاج" هو الخيط الذي جعله يعود إلى أيام طفولته في القرية.. ليعود بذاكرته إلى السنوات الأولى.. تلك التي قضاها بين أبويه وأخوته.. يصحبونه بين البيت والوادي.. والذهاب مع أخيه إلى "معلامة" مسجد القرية يتجمعون مع الصبيان.. حول فقيه أعور.. يلقنهم القرآن وتهجي حروفه. ولذلك مالت ظنونه إلى أن يكون من يشاغبه هو أحد زملاء "المعلامة".. ولذلك بدأ باستعراضهم عسى أن يصل لمعرفة ذلك المشاغب.. أخذ بتدوَّين أسماء من يتذكرهم.. وقد تخيلهم أمام الفقيه يجلسون القرفصاء في صفوف قصيرة.. ها هو يراهم.. في المقدمة: مارش.. القلحِدي.. قانح.. الأعجم.. المَحَفِي.. نايف.. حُسَّيني.. الزوبة.. المُعَدن.. الشويبي.. الجوس.. الردوم.. العبومي.. طامع.. هاجرة..غُمج... دوَّن الجميع.. ثم أخذ بحذف من غيبهم الموت.. وفي الخطوة التالية حذف من لم يفارقوا القرية.. وتبقى عدد قليل ممن رجح أن يكونوا على معرفة باستخدام الكمبيوتر.. الذين غادروا القرية إلى مدن داخل اليمن.. أو هاجروا إلى دول النفط بحثاً عن عمل.. أو لاستكمال دراستهم.

حدد الأسماء.. وقرر أن يحاورadel موقنا أن أفضل الطرق لاكتشافه هي البدء بتلبية دعوته بالرد عليه.. ردد في سعادة: ولمَ لا؟. أسأله مباشرة عمن يكون.. عملاً بالحكمة القائلة "إن أفضل حيلة هي ترك الحيل". فرك يديه كمن يستعد لمجازفةوأغمض عينيه يفكر بانتقاء مفرداته.. رصها في جمل محددة "ها أنا أرد عليك.. وكان الأجدى أن تعرفني بشخصك حتى أخاطبك عن معرفة.. أعترف لك بأني بدأت بالبحث عنك.. موقناً أنـ adel ليس اسمك.. ولذلك سأضع عليك أسماء.. وأرجو أن تكون صادقاً.. وتحدد لي أي اسم من بينها هو أنت" ثم ذيل الرسالة بأسماء من رجح أن يكون أحدهم من زملاء المعلامة.

 

-13-

بعد انتظار ليال وصله الرد "جمعتكم مباركة.. للأسف.. لقد ذهبت بعيداً بقائمتك.. أنا لست بينهم.. أنا أقرب إليك منهم.. ولذلك سأنتظر أن تتذكرني". وأرفق مع الرسالة صورة لإنسان معلق بين السماء والأرض.. التقطت له الصورة أثناء طيران شراعي أو هبوط مضلي. شدت شنوق الصورة.. وأخذ يبحث في تفاصيلها عله يجد شيئاً يدله: حذاءان رياضيان.. وعلى رأسه خوذة شبيهة بتلك التي يعتمرها سائقوا الدراجات النارية.. وغطت نصف وجهه نظارة معتمة.. بنطال كحلي من النايلون.. جاكيت من نفس اللون.. حزام زيتي يتداخل متصالباً على الصدر حتى مفرق الفخذين. يدان تشدان حبال المظلة يميناً ليُكون بقامته قوس هلال.. طولة لافت.. قد يكون من في الصورة مسحوباً من مركب بحري.. أو مقذوفاً في الهواء. لم يستدل حتى على جنس من في الصورة.

 رد برسالة مكونة من ثلاث جمل "جمعتكم رضوان.. شكراً لكم.. وأتمنى أن تعرفوني على اسمكم حتى أخاطبكم بصفتكم!". ضغط زر الإرسال.. وجلس ينتظر الرد بقلق.. متمنياً أن يكون adel حاضراً. ليصله رد مفاجئ " أشكرك على ردك.. تكرر سؤالك من أكون.. وأتعجب.. هل ذاكرتك طمستها السنين؟. أرسل لك صورة علها توحي لك بشيء.. عُد إلى ماضي أيامك.. قد تتذكر شخصاً أرتبط بك لفترة.. فبيننا ذكريات لا تنسى. ولذلك لن أخبرك من أنا.. وسأدع فطنتك تقودك لمعرفتي!".

فرك يديه.. وهو يرى ما يشير إلى بداية مشجعة..ستقوده لمعرفة من وراء تلك الرسائل.. أحس بدفء كلمات الرسالة وصدقها.. تيقن بأن من يخاطبه شخص يعرفه حق المعرفة.. تهدل فكه وبدا وجهه غير متناسق وهو يحاول أن يعرف من يكون.. تناثر رذاذ قاته من بين شفتيه.. معاوداً قراءة تلك الرسالة باحثا بين مفرداتها عن شعرة تقوده.. لكنه لم يصل إلى شيء. ليعاود البحث في تفاصيل الصورة.

في اليوم العاشر لمقتل الصبي فاجأته سقوة برسالة " اشتقت إليك.. سأهبط مع أذان مغيب اليوم.. فهل لديك مانع؟. أترك بابك موارباً ولا تنسَه كما هي المرة الماضية.. في شوق لظلمتك!". فكر أن يترك بابه مغلقاً.. فبحضورها سيضطر إلى إيقاف التواصل بـadel. لكنه في الوقت نفسه خشي تنامي ظنونها من تكرار غلق الباب.. ولذلك أرخى مزاليج بابه.. انتظاراً لطلتها.

مع سماعه لصوت صاحبه الحزين يؤذن للمغيب دلفت سقوة بابه بقدمها اليمنى مرددة أسماء الله الحسنى.. ثم وضعت سلتها الطافحة بفواكه وأطعمة متنوعة.. واستدارت لتغلق الباب ببطء شديد.. تلتقط أنفاسها بحبور لرائحة المعسل.. ورؤية جمر الموقد النحاسي يتقد.. تهمس: "ليلتنا ذوبان!". ثم تلتفت باحثة عنه.. ترى وميض جمر متقطع.. تصحبها كركرة النارجيلة من غرفة المقيل. تكمل خلع ملابسها.. وتخطو بهدوء مضمرة مفاجأته.. لكنه ينهض بفارع طوله.. ويقترب فارداً ذراعيه.. يهامسها:

- توقعتك حزينة!

ترد عليه وقد غطست بين ذراعيه:

- كيف أحزن ووالدته تتلقى التهاني؟

يدور بها عدة دورات ليهمس:

- ما دار في مأتم تاج الدين غريب بالفعل!

 - تساوى المأتم والفرح لديهم!.

صمتت بعد أن أسندت وجهها ببياض صدره.. مطوقة خاصرته بذراعيها.. يهتزان كبندول الساعة.. مكثا على ذلك حتى أطبق الظلام على زوايا المكان.. ليحولهما إلى شبحين يتمايلان في خدر.

 سمع صوتها يأتيه من بعيد:

- إلى متى تحبس نفسك هكذا؟

تمنى لو أنها سألته في شأن آخر.. لكنه رد عليها ببرود:

- وما عساي أن أصنع؟

- أخرج لتبحث عن عمل.

- وهل هذا وقت جدل من هذا النوع!

- لا أريدك أن تعفن بداخل سكنك.

تردد في أن يبوح لها ببعض مخاوفه.. ثم تشجع وقال:

- هناك من يتربصون بي.

احتضنته محاولة أن تشعره بالأمن.. وقد أدركت بأنها أخطأت في مثل ذلك الكلام.. لتصمت.. لكنه أحس بارتباكها فأردف يهون عليها: لا عليك هي حكاية بسيطة.

تشجعت وزادت باحتضانه:

- أتمنى أن تحكي.. ولو القليل منها.

- الفرانصي.

- زوج الثرثارة.. المتباهية؟

- هل زوجته تثرثر إليك؟

- دوما تتباهى بزوجها.. وتقول بأن الرئيس يعتمد عليه.

صمت.. وقد أعجبه ما سمع:

- حدثيني حول ما تثرثر به.. خاصة فيما يخص زوجها.

 سألته متعجبة:

- أيكون ممن ذكرتهم!.

هبط بوجهه حتى التقت شفتاه بفمها.. قبلها قبلة طويلة.. هامساً:

- سأخبرك إن حكيتِ لي ما تثرثر حول زوجها.

 

-14-

مع بداية مساء آخر تسللت لتستقبلها ذراعيه.. يراقصها في صمت.. واتتها فكرة أن تمزج بين الرقص وإرواء رغبتها.. هبط كفها بين فخذيه.. أمعنت في استثارته.. أدرك ما تود فعله.. سريعا ما تصلب.. ساعدته على الإيلاج.. أحس بسياط الرغبة تجلده.. تقدح في أوردته شررا.. بينما غمرتها نشوة لذيذة.. هامسته:

- الآن أريد سماعك تتكلم.

 ترفع كفها تلامس كتفه.. تمررها على صدره.. أعطاف بطنه.. هابطة لتداعب ما تصل إليه أصابعها. لم تعد تراه غريبا كما كانت في الأيام الأولى.. تشعر بأنه هي.. تصنع معه ما تفكر به..  وقد أمست تشتاقه في كل حين.. يعاملها بود.. يحتويها بعذوبة ممزوجة بعطف دافئ.. كما لم يعاملها أحد من قبل.. لكن ما ينغص عليها سعادتها عدم البوح لها بهمومه.. تخشى أن تكون علاقته بها صحوبية عابرة.

مسح بكفه أردافها يسالها:

- لماذا صمتِ؟.

لم ترد عليه.. أضاف: ما يشغل بالك!

- أبداً.. أخاف يوماً أن تتركني!.

- كيف ذلك؟

- لا تبوح لي بكل ما بداخلك.

ابتسم رافعاً كفه يعتصر ثديها.. يداعب حلمتها بشفتيه.. ثم قال:

- لكل منا وجه يحاول عدم البوح به.

بتلك الجملة زاد غموضه.. لكنها تصمم على استدراجه ليتحدث.. تهم بسؤاله لكن تساؤله يسبقها: أنت لك همومك.. أليس كذلك؟.

- لكني أشعر بهموم تثقلك.. وأشفق عليك منها.

- تلك الفتاة التي التقيتها يوماً في قاع اليهود.. لم تعد هي من أسمع الآن.

- أشعر باليتم بدونك.

- لديك  بائعة الريحان.. وأشعر أنها في مكانة أمك.

ابتسمت.. زامة طرف فمها كمن تزن ما ستقول:

- لكنك رجل.. أشعر أنك كنزي.. لا تسألني كيف. فدوماً أنشغل بالتفكير كيف أرضيك؟.

- لست بالفتاة الغر التي ظننت!

- لم أفهم.

- لقد نضجت أكثر.

- غيرتني معايشتك.

- وأراكِ أكبر من سنك!

 - إذاً لماذا لا تثق بي.. وتحدثني عن نفسك؟!.

- وأنتِ.. متى حدثتني عن نفسك؟

فجأة قطع همسهما.. صوت قعقة مغلقة الباب.. تحفزت سقوة.. هامسة: هناك من يحاول فتح الباب.

كمم فمها بكفه يسكتها. مخمناً أن يكون صاحبه زوج الشريفة.. همس لها: سأغطيك فلا تتحركي من تحت الأغطية مهما يكن.. نهض شنوق باحثاً عما يغطي عريها.

كانت متوجسة وهي تتابع شبحه يخرج نحو حجرة الموقد.. منذ أن عرفها لم يحدثها  يوماً حول صداقته بأحد.. أو أن أحداً يزوره ليسامره بين جمعة وأخرى.. وفي هذه الليلة لم يتوقعشنوق زيارة صديقة ظانا منه بأنه لا يزال مهموماً بفقدان ابنه. للحظات سمعت صرير مفاصل الباب.. ثم صوت شنوق متلعثما:

- أهلاً وسهلاً.. وعظم الله أجركم.

صوت صرير الباب يُغلق:

- غفر الله لكم وأحسن مثواه.

بدا لها الصوت شبيهاً لصوت زوج الشريفة.. ترهف السمع وقد أزالت طرف الغطاء من فوق رأسها.. وقع أقدام.. وصرير باب آخر يُفتح.. تفاجأت برؤية تدفق ضوء بهي على الحجرة.. لترى أجزاء من جدرانها وباب المسكن من الداخل.. عرفت أنهم دخلوا تلك الغرفة التي طالما رأت بابها مغلقاً.. زاد فضولها.. لكنها لم تميز همهماتهم.. فكَّرَت أن تخرج من تحت الأغطية.. أن تقترب من باب النور.. لسماع ما يدور.. مر وقت.. أزالت أغطيتها.. لحفت عريها بستارتها تسحبت بحذر مخالفة لكلمات شنوق "لا تتحركي من مكانك مهما يكن". اقتربت من باب الضوء.. التصقت بظلفته تسترق النظر.. مطت رقبتها.. كتمت شهقتها لرؤية وجه زوج الشريفة.. يجلس شنوق قبالته بعريه الفاضح. غرفة يشابه أثاثها أثاث الدور الخامس.. طقم كنبات زاهية الألوان.. وقد تدلت ثريا تسكب أنوارها.. شاشة مسطحة على الحائط المقابل. وجزء من صورة الكعبة تحتل بقعة من جدار جانبي.. على الجدار الآخر سجادة لفتاة عارية بخيوط ملونة.. وتحتها دواليب زجاجية.. سرير كبير بفرش وثير. وفي الزاوية البعيدة براد بلون سماوي.. على الأرض بسط متعددة الألوان.. نارجيلة منقوشة انتصبت على صينية نحاسية كبيرة بينهما طاولة زجاجية صفت عليها أطباق مكسرات وكؤوس مترعة.. قنينة بزجاج معتم. وما زاد من تعجبها أن رأت عري زوج الشريفة.. لم تستوعب ما تراه.

حين أفاقت.. كان الضوء قد تسلل.. ولازالت وحيدة بينالأغطية.. تذكرت ما كان في المساء.. نهضت لتجد باب تلك الغرفة مغلقاً.. استدارت لتدخل غرفة نومه.. وجدته ممدداً على سريره.. يغط في نوم عريه.. صعدت جواره.. تتأمل وجهه.. تتابع إيقاع تنفسه.. ميزت رائحة تعرفها.. هي رائحة العرقي تعبق مع زفيره. همت بإيقاظه لتعرف منه ما يدور. لكنها فضلت التريث.. وقد جنحت تتذكر ما تحدثت به الشريفة ذات عصاري.. أمام جمع من نساء الجيرة "الحاج لم أتزوجه إلا لِما عُرف عنه من تفقه في الدين.. والاتزام بأوامر الله ونواهيه.. وبما عُرف عنه من رجاحة العقل والاستقامة.

وفي مرة أخرى سمعتها تجادل زوجها حول ساكن الدور الرابع.. ليرد عليها بأنه متصوف من أهل الله.. وهو خير وبركة علينا. تتذكر كثيراً ما قالته.

لكنها الليلة الماضية عرفت ما لا يعرفه أحد.. ما زرع في نفسها حيرة. قطع شنوق بكلمات مبعثرة لم تفهمها حبل تفكيرها.. عرفت بأنه يهذي وقد أثقل رأسه العرقي.. عدلت من وضع رأسه الكبير.. لتنتظم أنفاسه العابقة برائحة العرقي. التي حملتها لنهار بعيد.. عرفت فيه رائحة العرقي لأول مرة.. تتذكر أنها ركبتذات نهار سيارة فارهة.. صعدت بها مرتفعات تطل على صنعاء من الجهة الغربية. "هي ساعات وتعودين بمبلغ مجز.. قد يكفي لشراء فستان شبيه بتلك الفساتين التي ترتديها أجساد العرائس.. أو يهديك هاتف جلاكسي". بتلك الكلمات أخذت جارتها أم حسين تلح عليها.. حتى وافقت أن تذهب بها قبيل صلاة المغيب في آخر المطاف.. دخلت بها مسجداً على أطراف حارة "السنينة". لتخرجا بعد أن صلتا سوياً صلاة المغرب في قسم النساء.. سارت بها بمحاذاة الخارجين حتى سيارة تقف على مقربة من باب المسجد. لتودعها على المقعد المجاور للسائق.. وقد أوصتها "لا تنسيني من الحلوى". عبر بها السائق وسط جموع باعة سوق السنينة حتى خرج  شارع الستين.. منبهرة بمقاعد السيارة وسقفها.. ورائحة العطر التي تملأ.. تتابع أشباح المارة من خلف زجاجها المعتم.. كأنها تراهم من قلعة متحركة. أنعطف بها يمينا متجاوزاً منزل نائب الرئيس "عبد ربه منصور". رمقت السائق من خلف غطاء وجهها رأت شاباً بملامح جامدة.. يقود بصمت ومثابرة.. حتى أنه لم يلتفت إليها منذ أن استوت جواره.. أستفزها تجهمه.. حدثت نفسها: حين نخلوا سأريه كيف يبتسم.. متمنية أن تسمع صوته.. قطع ما يدور في رأسها رنين هاتف.. التقطه من على "طبلون" السيارة.. وأجاب: نعم.. نعم.. اقتربت أنا في جولة عصر.

تحققت أمنيتها بعد أن سمعت صوته.. لكنها لم تفطن إلى من يتحدث إليه عبر الهاتف .. ظل يصعد بها شاقاً زحام عربات منحدرات عصر حتى حاذى نصب الجندي المصري.. ليتجاوزه بعدها حتى آخر منازل تلك المرتفعات التي تحاصرها أشجار القات.. بدأت تشعر بخوف وهو يصعد بها مرتفعات قفرة.. سألته:

- أين تذهب بي؟.

رد عليها بشكل آلي.. ودون أن يلتفت إليها:

- لا تخشي شيئاً.. هاقد وصلنا!.

 مشيرا إلى صف طويل من السيارات تقف على خاصرة الجبل.. بعد مسافة أقترب بها من تلك السيارات التي تصطف على حواف طريق يطوق الجبل.. هدأ من سرعته وهو يقترب.. ثم دخل بها بين الصفوف.. يلتفت يميناً وشمالا كمن يبحث عن شيء.. تتجه مقدمات تلك الصفوف نحو منحدرات لتطل على المدينة. وعلى الجانب المحاذي نصبت عدة أكشاك..ومجموعة من الصبيان في حركة دؤوبة.. يحملون جمراً.. وصياني القهوة مهرولين بها في كل اتجاه. أخيراً أوقف السائق السيارة وسط صف السيارات.. لتطل على منحدرات سحيقة.. ودون ان يلتفت إليها أطفأ المحرك.. وهبط بخفة تاركاً بابه مشرعاً. بهرتها صنعاء وقد بدت لها من تلك المرتفعات طبقاً يتلألأ وسط عتمة حالكة.. لم تمر لحظات حتى صعد رجل خلف مقود السيارة.. يلف وجهه بشال منقوش.. أزال لثمته بعد أن أغلق الباب وبادرها مرحباً: أهلاً وسهلاً.

ودت لو سألته عن ذلك الشاب الذي أقلها. لكنها ظلت على صمتها.. تتأمله بطرف عينيها.. ممتلئ الجسم.. بثوب أبيض.. تعلوا كرشه "جنبية" خضراء بحزام مزخرف.. وجه شكلته غضون عمودية. التفت إليها ماداً يده بغصن قات.. ثم انشغل بسحب رفٍ بينهما.. وضع على الرف كأسين فارغين.. وعاد يناغيها: هيا أزيلي أرديتك وتناولي القات سنبدأ سهرتنا هنا.. ثم نكملها في مكان آخر.

 لم ترد عليه ليواصل: أريد أن أسمع صوتك.. هيا لا وقت لدي!.

بدا قلقاً رغم ابتسامته الشائخة.. فاجأها بمد أصابعه مزيلاً غطاء وجهها.. مالت بعيداً بخفر.. ضحك: هيا بلاش دلع عادنا با قَشِع مَنزَل مَنزَل!.  صمت قليلاً ثم أردف: "القات فوق صنعاء له طعم ثاني.. هيا ذوقيه".

التفتت راسمة على طرف شفتيها ابتسامة مغرية.. مال نحوها هامساً: وأنا فدال الشفاه الكبيرة. كم عمرك؟

أشارت بأصابعها بما يعني الثامنة عشر. ابتسم ماداً بغصن آخر يهامسها في جذل: هل أكلت القطة لسانك؟. ندت منها ضحكة وأشاحت بوجهها.. واصل تساؤلاته: هل رأيت صنعاء من هذا المكان من قبل؟ أومأت بالنفي.. فأردف: يعني أنا أول من صعد بك هنا. كررت حركة رأسها بالإيجاب. عاد منشغلاً بإخراج قارورة من كيس بجواره.. ملأ كأساً ومده لها.. وحين همت بتناوله أطبق على كفها.. وأشار بأصابع الأخرى باتجاه المدينة: ذلك الشارع المضاء طولاً هو شارع الزبيري.. وتلك الخطوط المضيئة التي تحتنا شارع الستين.. أما المزهرة المتلألئة فصنعاء القديمة.. وتلك..ثم صمت هنيهة وسألها: أين تسكنين؟

ترددت.. ثم سألته بصوت خجول:

- والسنينة.

- الحمدلله أخيراً نطقتِ. هل تعرفين أين تقع السنينة؟.

- لا.

ضحك عالياً وهمس:

- سأخبرك أين تقع السنينة بعد أن تشربي.

كانت رائحته غريبة.. ارتشفت بتردد.. لتتغضن ملامحها دافعة بالكأس.. هز رأسه رافضاً: عليك بإكماله لتري "السنيني". ضحكت وارتشفت رشفة أخرى.. ثم ثالثة حتى أكملته صفق لها مشجعاً.. لتقول:

-  مذاقه شوع.

- سأريك كيف تشربين.

التقط كأسه ليتناوله جرعة واحدة.. ثم  صب لها آخر ومده نحوه:

- تناوليه دفعة واحدة كما فعلت أنا.

تتذكر بأنها تجرعته دفعة واحدة. ليهلل لها ثم قال ضاحكاً: والأن هل رأيت أين تقع السنينة؟

- لا.

أشار إلى أسفل المنحدر:

-  أنظري أسفل المنحدر.. هي تلك الكتلة الباهتة.. أترينها تحتنا؟.

بُهرت وهي تتأمل كتل المنازل التي شوشت ملامحها إلا من أنوار شحيحة.. انشغلت بتأملها.. تحاول تحديد أطرافها وتلك الربوة التي يقع بيتها عليها.. لكنها لم تستطع تمييز أي شيء.. الكل متماه في عتمته. صمتت متعجبة وهي التي ظنت بأنها قد ابتعدت كثيراً عن حيها.. تذكرت أنها كانت ترى الشارع الذي تقف عليه الآن.. ترى صفوف السيارات في أعلى الجبل. وأن إحدى صديقاتها حدثتها بأنها صعدت مع سائق أجرة ذات نهار.. واصفة رؤية كل شيء لأنه من الأعلى. ومن يومها وهي تحلم أن تصعده.

احتواها صمت وقد تخلل رأسها خدر لذيذ.. أزالت طرحتها فمد لها بكأسٍ ثالثة.. تجرعتها بصمت.. لتشعر بنشوة لم تذقها من قبل.

تنبهت إلى صوت مؤذن الظهيرة.. لتقترب من أذن شنوق تهامسه.. فتح عينيه وقد شابت ملامحه حيرة. دلفت عليه مجموعة أسئلة.. ليرد بوجه متجهم:

- عليك بنسيان ما رأيتِ.. وما سمعتِ.

 

-16-

بعد مغادرة سقوة غاضبة.. عاود شنوق البحث عن جديد لـ adel..وجد رسالة وحيدة تنتظره: لم ترد على رسالتي.. ولم تخبرني عن رأيك بالصورة التي بعثتها.. وأكرر.. إن أردت معرفتي قد تذكرك الصورة المرفقة.. أنتظر معرفتك لي".

عاد لتمعن تلك الصورة.. ثم رقن إليها "هذه الصورة لا تظهر وجه أحد.. تعمدت إبهامها.. مثل رسائلك المبهمة.. إن كنت مصر على عدم ذكر اسمك فلا بأس.. ويمكنك أن تذكر المدينة التي تسكنها.. أو جنسك.. ذكر أم أنثى.. أو تحديد السنة التي كنا فيها معاً.. وإن رفضت أرجو عدم التواصل بي.. لا أريد أن ألاحق سراباً ".

"لولا الملامة ياهوى لولا الملامة.. لافرد جناحي في الهوى زي اليمامة..  وأطير وأرفرف في الفضاااااء...".  لم يزِد adel. عن هذا. شعر شنوق بشجن بتلك الأغنية تشده إلى الماضي.. حاول تذكر أول مرة سمع فيها تلك الأغنية.. استحضر سنوات اغترابه في شرق الجزيرة العربية.. سنوات بعيدة.. كانت تلك الأغنية جديد وردة ويومها شغف بها.. وكان لديه شعور طاغ بأنها تعبر عما يجيش بنفسه.. أهداها كاسيتلـ"نجمة" كرسول محبة.. تلك الفتاة الممتلئة الضحوك.. زوجة عسكري كما أخبرته.. لكنه لم يره قط.. أو أن نجمة قد ابتكرت ذلك الزوج لغاية يجهلها.. قالت له: إذا ما أردت لقياي. اجلس تحت نافذتي.. ودندن بلحن وردة.. واحذر أن يراك زوجي.. وبالفعل ما أن يبدأ حتى تخرج وقد لفت اكتنازها بعباءة سوداء..  حريصة على إظهار تكويرة مؤخرتها.. يتبعها إلى بقالة "البلوشي".. ذلك الرجل المُسن.. الذي يصعد سلمه وقد تعمدت نجمة طلب سلعة من ارفف عالية.. ليمسك كفها يعتصره.. يمدها بهدية صغيرة مع رسالة نحتها من مشاعره العطشى.. يرمقها بعد ذلك عائدة في خطوات مغناجة. يهامس نفسه: أيعقل أن تكون نجمة.. وهل ستظل تتذكرني إلى اليوم؟. لكنها لا تعرف صفتهالطفولية "ابن الحاج.. أيعقل بأنني أخبرتها!".

قلب صفحات ذاكرته أكثر من مرة.. تذكر: أم "الهنوف". و"المكاوية" "سعاد"و"مضاوي" أخذت حبات ذاكرته تكر مستعرضا عدداً من التجارب العاطفية الخائبة كانت تلك الأغنية رسول مراهقته إليهن.

بعد عجزه أن يحدد أيهن يمكن أن تكون هي تتخفى خلف اسمadel.. فضل أن يسألها مباشرة.. أن يعرض عليها تلك الأسماء.. أسماً تلو آخر.. سألها إن تكن نجمة.. فردت بالنفي.. سعاد.. نجوى.. حصة. عائشة.. مضاوي. أم الهنوف. كررت نفيها. أعجزه الأمر.

في الوقت الذي كانت سقوة لا تزال على حنقها منه.. لرفضه كشف سر مسامرته وزوج الشريفة.. كتب إليها في محاولة لإرضاء غرورها: "أعدك بأن أتحدث إليك.. يكفي اشتقت أماسيك" وعدها أن يكون لها القلب المفتوح.. وأن يحدثها بما تريد معرفته. كتبت إليه "أريد أن أعرف فقط.. لأطمئن عليك من نفسك".

ما إن دلفت كعادتها بقدمها اليمنى همسة بأسماء الله الحسنى.. حتى لاحظ عدم خلعها لملابسها.. تقدم لمساعدتها لكنها رُفضت.. حاول تقبيلهاوغايته اظهار شوقه وهيامه لها.. لتتويهها عن تذكر ليلته وزوج الشريفة. لكنها كانت مصرة على سماعه يحدثها حول سر تلك العلاقة.. فكر أن يحدثها دون أن يبوح بكل شيء.. التصق يحتضنها:

- لن أحدثك إلا إذا تصرفتِ معي كالعادة.

- تحدث وسترى بأني طبيعية.

صمت قليلاً.. يبحث عن نسق يسير عليه في حديثه:

- أنا ريفي عشت في أكثر من مكان.. حتى أني قضيت عدة سنوات خارج اليمن.. ولي في كل مدينة لي أكثر من حكايةوصنعاء محطتي الأخيرة.. وزوج الشريفة جزء من حكاية تفضي إلى حكاياتي.. ومنها حكايتي معك.

تصغي دون أن يتبين لها ما يود قوله.. لكنها شعرت بالرضا وقد بدأ بالحديث إليها.. لتتحول إلى مستمعة.. تنهدت تهامسه:

- سعيدة أنك تحكي.. وإن لم أفهم شيئاً؟!

أنفجر ضاحكاً حين أدرك بأن خطته نجحت:

- مادمتِ رضيتِ عني.. الآن عليك بخلع ملابسك ومماسة الاعيبك.. وسأوصل حديثي متداخلين.

- سأخلع...

بدأت بأسقاط ستارتها.. ثوبها.. بقية قطعها حتى كانت تقف بهالة بياضها.. مد ذراعيه واحتواها.. أردفت: لكنك لم تراقصني!.

- أعددت لك مفاجأة!.

قالها وقد حمل عريها إلى غرفة نومه.. وبدلاً من وضعها على السرير.. طرحها أرضاً.. لترى الغرفة على ضوء شمعة تعكس شعلتها ظلال أطباق طعام على طاولة جانبية وعدة كؤوس وقارورة داكنة. فغرت فمها دهشة.. عرفت بأنه ثمل.. همست:

- هل زوج الشريفة هنا؟

أستغرب لسؤال لم يتوقعه.. وبدلاً من الإجابة عليها التصق يقبلها.. ثم أمسك بالقارورة يصبسائلها على صدرها.. وبدأ بلعقه.. أعجبها لتصرخ مبتهجة.. مادة كفيها تستوعبه.. فكرت أن  تمارس لذتها وهما يشربان ويأكلان في آن.. دعته إلى ذلك.. ليغطي بدنه مزيج من الطعام والشارب.. حتى موطن لذته.. في تجربة جعلتها تدخل في هستيريا وتصرخ باكية:

- أريد أن نكون معاً دوما.. تقسم أن لا تهجرني.

وما إن تهدأ حتى تعاود بكاؤها: ذهبت بحديثك بعيداً.. هرباً من أن تحدثني عن سر مسامرتك مع زوج الشريفة!. أم أنكما تمارسان ما نمارسه.

أرتعش بدن شنوق.. محاولاً الخروج من بين ساقيها.. ينهرها:

- ألهذه الدرجة تفكرين بي!.

- أخاف أن أفقدك.. أنا بحاجة إلى رجل يكون لي وحدي.. رجل يتحدث إلي بكل أسراره.. وأنت ذلك الرجل.

أستمرت تتحدث وتبكي محافظه عليه بداخلها.. بعد وقت صمتت.. ليدخل شنوق في حوار مع ذاته.. مالبثأن عاد يحدثها:

- لم أكن أظن بأنك تظنين بي كل تلك الظنون!

- أريدك لي.. ولا يشاركني فيك أحد فيك.

- هذا أنا معك؟

- نعم معي.. لكنك لست لي.. وإلا لحدثتني عن نفسك!

- وما أصنعه الأن معك!

- أشتاق لفسق الحديث كما كنت تحدثني في ليال النت.. أن تعود لجرأتك.. وأن تحدثني من أنت.. أن لا تكون معي صندوقاً مغلقاً.. أن نتحدث إلى بعضنا بكل ما نخبِئُه في أعماقنا.. وهذه أنا أمامك صفحة مفتوحة!.

- كلي لك.

- فلماذا لا تتزوجني؟

صمت قليلاً وقد فاجأه طلبها.. ثمنظر إليها مبتسماً:

- لكن لي زوجة.

- أمتزوج.. أينهي!

- ولي منها خمسة.

- خمسة أولاد.. وأينهم؟

- في قرية بعيدة.

صمتت بعض الوقت ثم قالت بصوت هادئ:

 - هل تزورهم؟

- مضت سنوات من القطيعة.

- ألا زالت على ذمتك؟

- لا زالت.

لجأ لصمته رغم الحاحها. وعلى مدى ثلاثة أيام أستطاع مراوغاتها دون البوح بعلاقته بصاحبه.. لتغادره بعدها.

 

-17-

 تصل شنوق رسالة منadel.. بعد ليال من القطيعة "أبهذه البساطة نسيتني.. وأنا من ظننت بأنك أسكنتني قلبك.. لكن لمن سيكون قلبك.. وقد حولته إلى ماخور تستعرض كل تلك الأسماء.. وتتذكرهن وتنساني.. أتساءل هل كنت قد أهديتهن نفس الأغنية.. بينما ظننت واهمة بأنك  لم تهدها إلا إلي.. ألَا تعرف بأني لم أنساك منذ افترقنا.. ودوما مشغولة بالبحث عن وسيلة تصلني بك.. حتى اكتشفت صفحة بتلك الكنية التي حدثتني عنها يوماً "ابن الحاج" على الفيس بوك.. خسارة حين مثل لي ذلك الاكتشاف ميلاداً جديداً.. واعتبرتها هدية من السماء. لا أريد منك شيئاً بعد اليوم.. وداعاً".

 أقفل الجهاز يفكر وقد أستطاع أن يكتشف بأن من يبعث بتلك الرسائل امرأة وليس رجل يداهمه خجل لعتابها الصادق.. وقد أستمرت تكيل عتابها.

 عاد يبحث في زوايا ذاكرته عن فتاة لم يتذكرها.. ليصرخ: هي إذا من  تعرفت عليها في "الخُبر". حفصة ما غيرها.

باشر بالرقن إليها بفرح طفولي "دوماً نرى غيرنا يقترف الخطايا.. ولا نتأمل أنفسنا.. وإن كان فنعتبرها خصوصيات.. وها أنا أعترف لك بأنني قد فشلت في تحديد من تكونين.. تعبت من لعبتك هذه.. فإما بُحتِ عمن تكونين لأنه.. لم يعد في العمر ما يستدعي لعبة "الاستغماية". أو أن تتركينني وشأني.. فما يثقل كاهلي الكثير من أماني الخير لك في كل الأحوال".

"غريب أمرك.. أخشى بأنك لست من أعني.. وأنك لست ابن الحاج الذي عرفته.. فهل أنت شنوق؟ "

"نعم ما غيره.. لكن من أنت.. هل أنت حفصة؟"

"حفصة؟. لا لست حفصة!. ولم يكن اسمي بين الأسماء التي ذكرت"

"حيرتِني!. من أنتِ؟. إما أفصحتِ.. أو دعيني وشأني!"

"مؤلم أن لا أجدني لديك.. لكن قل لي حفصة وأم العنود.. وبقية تلك الأسماء.. متى عرفتهن وأين؟"

"لا أعرف على ماذا تتألمين؟. ثم كان من الأولى أن تعرفي بنفسك من أول رسالة بعثتِها.. فضلت أن تشرقي بي وتغربي.. فما الداعي لكل هذا العذاب!".

 "أشعر بالمهانة وقد ظننت بأنك أول ما اناغيك ستعرفني.. وسيقفز قلبك لأنه يحتويني.. لأيام أحاورك.. لكنك تتذكر طوب الأرض ولا تتذكرني.. مؤلم مؤلم".

صدقت طوب الأرض.. نساء عرفتهن في مطلع مراهقتي.. يوم هاجرت إلى مدينة على ضفاف الخليج.. كان ذلك قبل أكثر من ثلاثة عقود.. وتلك الأسماء لنساء عشت معهن أحلاماً بائسة.. لم أصل إلى العلاقة الكاملة مع مع كل من عرفتهن. أكيد أنت مررت بفترة المراهقة.. وتعرفين تلك الأحلام والتجارب المعطوبة.. وبعضهن كن في سنوات المراهقة.

واليوم أفصح لك دون أن أعرف من أنت.. بينما أنت ترفضين حتى ذكر اسمك"

"لن أطيل عليك.. وسأطرح عليك سؤالاً أخيراً.. إن عرفتني.. وإن لم.. سأدعك وشأنك.. وأعتبر الأمر لم يكن. هل تتذكر أن ربطتك علاقة ما بفتاة.. وبالتحديد عام 1984؟!".

أرتبك يعيد قراءة سؤالها.. غير مصدق أن تكون هي خالطة إحساس بدوار وغثيان مفاجئ. وخيل له بأن الظلمة تتوهج بضياء قاهر.. أغمض عينيه في خوف للحظات محاولاً استعادة هدوء أعصابه.. مردداً: أيعقل أن تكون على قيد الحياة!. ثلاثون سنة منذ رحيلها.. كيف تعود لتعاتبني على نسياني لها؟. ليست هي أنا على يقين أنها ليست هي!. قد تكون إحدى صديقاتها.. ولها معرفة بما كان بيننا. 

عاد يحتضن جهازه بيدين مرتجفين.. يكرر قراءة السؤال.. وأجوبة كثيرة تتقاطر عليه.. بالكاد كتب إليها " من أنتِ؟!".

"لم تعرفني إذا.. أو أنك لست شنوق".

"هل تريدين القول بأنك "البندرية.. وأن الأموات يبعثون؟".

"الآن وقد عرفت اسمي.. أنت إذاً شنوق.. فلماذا تنكرني؟!".

" لكنك لست البندرية! فمن أنتِ؟"

"لم أفهم كيف أكون أنا ولا أكون!"

"صحيح في تلك السنة تعرفت على فتاة.. قد تكونين أنت مقربة منها.. وتعرفين بعض الحكاية.. ولذلك توهمينني بأنك هي".

"وهي أين ذهبت حتى أحل محلها؟!"

"إن كنت مقربة منها فأنت أعلم مني بذلك"

"لا أعرف إلا أنني أنا هيَ.. وإن كان لديك حكاية أخرى أخبرني"

 "كيف تكونين أنت البندرية.. وقد قتلت قبل ثلاثين سنة"

"قُتلت!. أتريد أن تبحث لك عن مبررات لنسياني؟"

"قضت قتيلة وأخوتها جمال وحنان في حرب 94...  يجوز بأنك إحدى قريباتها أو صديقة لها.. وأردت أن تتسلي بلعبة مكشوفة. لكن اعلمي أنه لا يجوز العبث بالأموات وحكاياتهم.. وأرجوك إلى هنا ويكفي.

وإلا حظرتك"

"أنت اليوم لم تتغير.. وعندما تريد التملص تبحث عن مهرب.. ألم تجد إلا الموت لتبرر نسيانك لي!. متوقعة منك أن تعتذر".

"دعيني وشأني ما فيني يكفي ويزيد.. ولا أريد أن أستمر في لعبة تزيد جراحي إدماء"

"قل بصراحة أتركيني وشأني.. أما أن تميتني فهذه ليست من شيم الأحبة".

"لن أزيد.. أستحلفك بخالقك.. كفى عبثاً بحرمة الأموات"

"ألم تجد مبررً آخراً.. ثم قل لي.. من متى كنت مؤمناً بالله حتى تستحلفني بخالقي؟. من الأولى بالتشكيك!. أم أنك قد رجعت إلى الله.. وتركت التشدق بأقاويل ماركس "الدين أفيون الشعوب".

"إن أردت الاستمرار في لعبتك فأنا منسحب"

"كان عليك البحث عن مبرر أقل إيلاماً من أن تدعي موتي وموت إخوتي.. لو كنت حريصاً عليَّ.. لسألت عني وبحثت عن أي طريقة للتواصل بي كما ظللت أبحث عنك حتى وصلت إليك. أكتب إليك بعد إصابتي بمرض جعلني شبه مشلولة منذ ثلاث سنوات.

 أنا البندرية.. ولست إحدى من ذكرتهن.. ولا أتلاعب بك.. أهفوا إليك. أذكرك بتفاصيل: هل ما زلت شغوفاً بالماركسية؟. وما زلت تعشق القراءة كما تركتك.. وممارستك للرياضة؟.

هل تعمل في إحدى المنظمات التي أعرفها.. أم أنك عدت لحياة الريف.. تلك التي تمنيني أن نعيشها يوماً معاً.. حين كنت أسمعك تصف لي الحياة في قريتك.. كنت أغبطك.. وأنت تتحدث عنها بشجن.. هل عدت للاستقرار فيها؟.

تبدو بعض أسئلتي غريبة.. لكني أريد أن أذكرك ببعض ما كنا نتحدث ونحلم به.

وأسألك هلما زلت تخرج فجراً كسابق عهدي بك.. عندما كنت أرافقك إلى أطراف مدينتك "ذمار". وتتركني أنتظرك بداخل السيارة.. وتذهب مهرولاً على التلال وحول المزارع.. وحين تعود مبللاً بالعرق لاهثاً.. أحتضنك وتلك الرائحة التي عشقتها تفوح منك. تشير علي َّ أن أتأمل مساكن المدينة.. تحدثني بأنك تراها في ذلك الوقت المبكر تتثاءب.. تشبهها بامرأة تنهض من فراشها قبل أن تضع الكحل والمحسنات. أحياناً أرافقك عصراً إلى أطراف المقبرة  الكبيرة.. تقف بالسيارة على مكان مرتفع.. تستأذنني بالذهاب لبعض الوقت.. أرقبك من على السيارة بعد أن أدير أغنية لفيصل علوي في مسجل السيارة.. أتابعك تشارك الشباب في مباراة لكرة القدم.. لتعود قبيل المغيب منهكاً.. تشرب الكثير من الماء.. يصطبغ وجهك عرقاً غزيراً.. أرقبك تصعد خلف المقود وأظل حتى تودعني على مقربة من سكني.

إنها أنا البندرية وقد حدثتك بما لا يعرفه أحد.. فهل أنت مُصر على قتلي؟!".

بعد تلك الرسالة قرر عدم التواصل بها.. وقد أوقعته في حيرة شديدة.

 

-18-

لم تعد لياليشنوق تسيرها طقوسه.. فمنذ أول ليلة له مع سقوة غيرت فيه الكثير.. فلم يعد يلهث بالبحث لإيقاع الأربعينيات.. وجدها معه تسابق الزمن.. تغتنم الملذات واستهلاكها في وقت واحد.. بل وتبتكر أساليب يقف أماها منقاد.. فمن الجمع بين الحب والرقص.. إلى الحديث.. والجميع به والطعام والشراب.. يفكر في دوافعها لكل ذلك النهم.. يبحث فيأحاديثها عن نفسها.. وتزيد من حيرته حين سألته:

- هل جربت استخدام كل أجزاء بدنك؟!.

يرد متعجباً:

- أنت لم تبقي شيئاً!

- أريد كل شيء.. حتى الأواني.

امسكت وهي تتأمل عينيه مبتسمة بإحدى قدميه.. ووضعتها بين فخذيها.. وقالت هامسة:

- سأحدثك الليلة وأنا أمارس مع أصابع قدميك.. سأحكي لك عن نفسي شريطة أن تحدثني بعد ذلك عن نفسك وقد أخترت شيء من بدني.. وعليك أن تستمتع وتفكر في طريق جديدة للمتعة.

يهمس متعجباً:

- خذي راحتك مع أصابعي.

- لي أخوة الأكبر من زوجة أبي المتوفاة.. وأخ وأخت من أمي التي تزوجت بعد وفاة والدي إلى قرية بعيدة. تعلمت إلى الصف السادس.. وأجدت القراءة والكتابة.. ولو رأيت شهاداتي لتساءلتلمَ لمْ أكمل دراستي.

- وهذا أنا أسألك!

- بعد موت أبي أخرجني أخي الكبير من أول إعدادي...

- مؤسف.

- كان أبي يناديني على الدوام بـ الدكتورة.. ويردد "إن أعطاني الله العمر فستدرسين حتى تعرفي تعالجي الناس".  ودوما يسمعه أخي يردد تلك الكلمات ويتبرم معاتباً له:

- البنية مالها إلا الزوج أو القبر يا أبي.!.

فيرد عليه بصوت حانٍ:

- العلم سلاح.

- إذا كان كذلك.. فلماذا أخرجتني من المدرسة؟.

- أنت أكبر أخوتك.. وأنا كما تراني كبرت.. فمن يعولهم؟.

- وبالفعل كان أبي قد بلغ من السن ما قيد حركته.. ولم يبقى لي..فبعد موتهتزوجت أمي.. وقام أخي الكبير مقام والدي.. فمنعني من الدراسة.. لأجد نفسي ربة بيت.. فأنا من يحطب ويجلب الماء.. ويغسل ويطبخ. لم أكن لأتذمر.. وكنت راضية بما أنا فيه.. ومع ذلك ظل ينهرني ويشتمني.. بدوري كنت أجاهد لأرضيه.. لكن ما بدأ يقلقني تلك النظرات التي كان يرمقني بها.. وقد تحولت كلماته لينه وغريبة عليَّ.. في بداية تغيره ظننته يشجعني ويستحسن ما أقوم به.. ليتجاوز الأمر إلى أن يطلب مني الجلوس عند تناول الطعام إلى جواره.. يمسك بيدي ويتأمل عيني كأنه يريد أن يقول شيئاً.. حتى ذلك اليوم الذي أرسل فيه أخي وأختي لزيارة والدتي على غير عادته.. وحملهما حبوب ذرة هدية لها.. طلبت منه أن أذهب معهم لكنه زجرني: ومن يقوم بواجبي.

 ليفاجئني مساءً وقد هبط علي بثقل مخيف.. وقد أزال سروالي دون أن أشعر.. أطبق على فمي بكف.. وبالأخرى يمرغ شيئه بين فخذي.. كانت أنفاسه ولعابه ينسكبان على رقبتي.. حاولت مقاومته.. لكنه ظل يرجوني: لا تخافي.. لن أفعل شيئاً.

ظل للحظات يدلك شيئه حتى بدأت أطرافه ترتعش.. وكلماته صارت مبتورة حين أنزاح من عليَّ.. لم يكن قد المني.. لكنه أخافني. تحسست بين فخذي لأجد سائل لزج.. ومن تلك الليلة تغيرت معاملته.. بل وأخذ يدللني.. كنت أخاف أن يعاود إرسال أخوتي.. لكنه فاجأني ذات مساء بتسلله إلي فراشي.. لم أقاوم خوف سماع أخوتي ما يدور.. تركته ينجز ما يريد.. وهكذا أمسى يتسلل إلي بين مساء وآخر.. كان دلكه بين فخذي قد أمسى ممتعاً.. حتى أنني أمسيت أتمنى تسله إليَّ.. وذلك السائل لم تعد رائحته مقرفة.. إلى إحدى الليالي.. وقد تملكتني لذة عارمة.. ودون إدراك مني أمسكت بشيئه.. محاولة إدخاله. لينهال علي "بملاطيمه".. وهو يهمهم: أيتها الوقحة أتريدين تمريغ شرفنا!.

 خلال تلك الأشهر تفتحبدني.. نمى صدري.. وبرز ردفيَّ. ولاحظ أخي الأوسط تدللي على الأكبر.. خاف الأكبر أن ينفضح سرنا.. فسارع إلى الزواج من فتاة كانت صديقة لي.. لكن ما حلت بيتنا حتى وجدتني أكرهها.. ودوماً أبحث عما ينغص تواجدها.. أحس أخي بتلك الحرب الصموتة.. ولم يكن لأحد غيره أن يعرف سبب مضايقتي لها.. فسارع إلى تزويجي لأول طارق.. وكان أرمل من قرية مجاورة.. كان يكبرني بعشرين سنة توفيت زوجته أثناء ولادتها الخامسة.. ولذلك عاهد نفسه أن يسكنني صنعاء حيث يعمل عسكرياً بأحد معسكراتها.

غادرنا القرية وقد ترك أولاده عهدة والدته العجوز وأخت له لم تتزوج..  أسكنَّني بيتاً من غرفتين على سفوح أحياء "السنينة". هناك حيث تتجاور منازل العسكر والفقراء.. تلك المنازل الشبيهة بصناديق متجاورة.. يسيل بين أزقتها سوائل تفوح بروائح تعود عليها السكان.. كنت سعيدة بحياتي الجديدة.. أمست لي صديقات من الجيرة. فجأة أخبرني زوجي بأنه سينتقل مع انتقال معسكره إلى محافظة "صعدة". كنت أظن أن صعدة قريبة.. لكن غيابه تجاوز الشهر.. بعدها عاد لليالٍ قليلة ثم تركني لأشهر.. كنت خلال غيابه أعاني العوز والحاجة.. في بداية الأمر كانت تنشب الخلافات بيننا.. وفي كل مرة يقمعني مهدداً بإعادتي إلى القرية.. مع الأيام شكوت حالتي لصديقاتي وجاراتي.. لأكتشف بأن مثيلاتي يتدبرن أمورهن.. حتى عودة أزواجهن.. تغيرت حياتي بالتدريج.. وتناقصت مشاجراتنا.. وقد عاد ليجد ما يأكل ويشرب.. وأحياناً أوفر له ما يكفي من القات لنمضغه معاً.. يحدثني عن هول الحرب هناك ضد الحوثيين.. فأدعوا له بالسلامة.  يسألني مستفسراً كيف أتدبر أموري.. فأخبره بأن أخوتي قد زاروني في غيابه.. وأنهم يسلموا عليه. مع الأيام تحولت اهتماماته إلى طلب ما ينقصه.. وأحيانا يطلب مني أن أتدبر أجرة العودة إلى معسكره في صعدة. لا أعرف إن كان يتواطأ معي.. وأنه يعرف كل شيء.. أم أنه كان يجهل ما يطرأ في غيابه!.

شهر بعد آخر تعرفت على حريم ميسورات.. يعشقن الحياة.. نلتقي في صالات الأعراس ومناسبات أخرى. وأصبح لي صديقات من أحياء بعيدة. لكن ما غير حياتي عاشق كان يغدق علي بكرمه.. واعتمدته سندي للملماتألجأ إليه في الشدائد فلا يبخل.. استقرت حياتي إلى ذلكاليوم الذي وصل أحد الجنود يبلغني بخبر قصم ظهري: "نبلغك بشرف أستشهاد زوجك وهو يدافع عن حياض الوطن ببسالة منقطعة النظير" تلك الكلمات لا زلت عالقة في ذهني..كان ذلك في الحرب السادسة على "الحوثي" في جبال "صعدة".

حضر إخوتي وأقارب زوجي.. أدركت يومها أنني أمسيت على مفترق طرق.. وأن أيامي في صنعاء قد انتهت.. وأن تسلط أخي يلوح في الأفق. بعد يومين من خبر استشهاده تم استلام الجثة.. وتأهب الجميع للرحيل إلى القرية لدفنه هناك.. حمل إخوتي امتعتي إلى السيارة التي ستقلنا.. وتأهب الجميع للرحيل عن منحدرات "السنينة". قبل أن تتحرك السيارات بدقائق.. وقفت وحيدة في غرفتي الخاوية تغشاني حيرة وتتقاذفني الرغبات.. سائلة نفسي: أبهذه البساطة ينتهي كل شيء.. تمنيت لحظتها لو أني لم أعرف صنعاء.. وأن زوجي أسكنني القرية.. وقفت لبرهة وقلبي يركض بشدة حتى تخيلت أن الجميع يسمع طبوله.. لا أعرف ما عليَّ فعله بينما الأصوات من خارج البيت تستعجلني: هيا أخرجي.. الناس قد تحركوا!.

فكرت فيما أنا فيه وقد تملكتني رغبة بالبقاء.. صور صديقاتي تقاطرت في ذهني.. تلك الأماكن التي اعرفها.. رأيت صنعاء كبيرة.. ذلك العاشق الكريم.. سمعت نداء أعماقي: ستهربين ولن يعفروا طريقا إليك.. هيا فري بسرعة.

لا أعلم أي جرأة تلك التي كانت تملكتني حين خرجت مرتدية ستارتي.. لأواجه أخي:  

- لحظة سأذهب لأودع جارتي.

صرخ في وجهي غاضباً:

- لا دقيقة ولا ثنتين هيا السيارة تنتظرنا! 

وأراد سحبي من ذراعي.. إلا أن نفراً ممن كانوا يقفون إلى جواره راجعوه.. تركني ولم يعرف بأنه سيندم على فعلته.. لتمتد الدقيقة تلك إلى أيام وشهور بل سنوات.. حتى اليوم لا زالت تلك اللحظات ماثلة أمامي. لم أحمل معي غير ستارتي.. حتى هاتفي لم أتذكر أين غطس!. هرولت عبر الأزقة كالمجنونة.. حتى صرتأسفل المنحدرات.. ابتعدت وأنا أتخيلهمبعد تأخري ينظرون في عيون بعضهم مذعورين.. ثم يهرولون في كل اتجاه.. يطرقون الأبواب.. يسألون العابرين .. ارتجف وقد تصورتهم يلهثون في إثري.. بل أنني كنت أشعر بلهاث أخي الكبير يلفح رقبتي.. لأهرول دون هدى.

 

-19-

تلك التفاصيل الصغيرة التي أوردتها في آخر رسالة.. بدأت تزعزع قناعته.. وإن ظل يقاوم.. غير معترف بأنها هي.. كان بحاجة إلى وقت ليزيح قناعة أثقلت روحه لعقود ثلاثة.. ظل على موقفه مقاطعاً لها عدة ليال.. ليجد نفسه يرقن إليها.. وكأنه مسير.. أو أنه في حلبه نِقار "مهما أوردت من تفاصيل تظنين بأنها مقنعة.. فأنا غير متقبل بأن الأموات يبعثون.. فقد أوردت صحف أيام حرب 94.. أن قذيفة g .b. rأصابت السيارة التي كانت تقلالبندرية وأسرتها.. وأفاد المصدر بأنها احترقت ولم يجدوا إلا بقايا متناثرة ممن كانواعليها. هي لم تمت بداخلي.. ولم أبحث عن مبررٍ لنسيانها.. فأنا لم أنسها.. فقط لم أتوقع يوماً أن أتلقى رسالة من متوفاة.. فإن كنت تجلينها أتركي العبث بها وبي".

"لا يهمني هذيانك.. فقد عرفتك يوماً إن انحزت تعاند حد التطرف.. وما يهمني هو أنني وجدتك.. وأن تكون بخير.. فمرضي جعلني أكثر قلقاً.. لذلك  تصيبني نشرات الأخبار بالرعب.. ما دفعني للبحث عن وسيلة للتواصل بك.. لأطمئن عليك..وأؤمل بأن ألتقيك يوماً بعد أن تأكدت بأنك لا زلت على قيد الحياة. الأمر الثاني خوفي على صنعاء المدينة التي أعشقها أيضاً من التدمير.. وأشعر بانتمائي إليها.. أرجوك أن تحدثني عن وضعها.. هل تضررت؟. حدثني عن عقد باب اليمن الملونة حجارته.. الذي كان يشعرني حين أعبره بأنه يحتضنني.. وهل ما زالت روائح التوابل في السوق القديم؟ حدثني عن صخب مارتها.. سكون أزقتها.. الوجوه المستبشرة وهي تسير في دروب الصباح. الزخارف التي رأيناها معاً من أسطح سمسرة النَّحاس.. دور الأحياء القديمة وقد احتشدت متجاورة كأنها في عرس جماعي.. منارات الجامع المقدس المشرئبة نحو السماء.. دار الذهب بعلوه المبهر. حماماتها الجماعية.. مطاعمها ومقاهيها؟. أرجوك جُل وتسكع في ظلالها من أجلي.. وأترك لروحك أن تصلي على أرصفة حجارها العتيقة.. ولعينيك أن تبتهل في بياض قبابها؟. وتغتسل بدفء رذاذ أمطارها.. زرها مرة.. وصل لأجلي.. ولا تنس أن تكتب إليَّ عن زيارتك وتجوالك بها.. لأطمئن بأنها غلبت الحرب."

شعر بدموع عينيه أثناء قراءته لرسالتها تحرب خده.. ليظل بقية ليلته فريسة لصراع يقينه وشكه.. واكتشف أن بداخله حزن كامن.. أيقظته كلماتها. في أثناء قراءة رسالتها وكأنه يسمع صدى صوتها.. ذلك الصوت المحبب إليه.. ليتراءى له بأن ظلمات مسكنه تتوهج بلون لم يره من قبل.. ظن بأنه الجنون.. لكنه أستعاد بعض توازنه مع ضوء الصباح.. في المساء أعاد قراءة ما كتبت.. ثم أخذ يرقن "حتى لو كنت البندرية.. فأنا بحاجة إلى سنوات وسنوات كي أشفى من موتك.. فكيف اتجاوز ذلك اليقين بموتك.. فإن كنت أنتِ هي هلا ساعدتني على تجاوزه.. سأعترف لك.. بأني ومنذ ادعائك بأنك البندرية أمسيت شخصين.. شخص يكتب إليك متصنعاً قناعة زائفة.. وشخص آخر بقناعة مقتلك منذ ثلاثة عقود.. فهلا حاولتِ أن تساعديني لأعود كما كنت بشخصية واحدة. حاولي شفائي من تأثير السنين.

حزين ياسيدتي جدا جدا لحالتك الصحية.. وسعيد لأنك على قيد الحياة.. وإنهلأمر يبعث على الحيرة.. فلو كنت قد قُتلتِ ما كاتبتني.. فهل زودتنيبعنوانك.. هل تسكنين مدينتك "عدن". أم أنك الآن في مدينة أخرى؟. فقلقك وشوقك لصنعاء يوحي بأنك بعيدة عنها.

سأزور المدينة العتيقة من أجلك.. وأطوف أحيائها وأصلي كما طلبت على حجار أزقتها.. وسأكتب إليك بما هي تعيشه".

للحظات يقتنع بنجاتها.. تغشاه حالة من السعادة.. يرى في الشك بذلك مرض وعليه أن يعمل على الشفاء منه.. لاجئا إلى ذكريات أيامه البعيدة.. تلك التي عاشاها معاً.. متلهفا لأن يكتب لها المزيد من التفاصيل الحميمة.. ليتعافى من يقين موتها.

لكنها لم تترك له فسحة للحوار مع نفسه.. بادرته بردها على عجل"مضحك أمرك.. فبدلاً من أن أتلقى اعتذارك.. أجدك تصور نفسك ضحية.. منكراً بأني من تخاطبك.. مصمما على قتلي.. ألم تخبرك تلك التفاصيل الصغيرة.. ألتي تعرف أنه لا يعرفها غيرنا.. فلماذا تمضي في قتلي.. عد لأيامنا إن كان ما كنت تردده عن حبك لي صحيحاً.. ثم أسأل قلبك.. أم أنك لا تحمل قلباً؟. ورغم  ذلك ما زلت أعشقك وأشتاق إليك.. لم يعد شوقاً غرائزياً بل شوقاً روحياً.. أتمنى رؤيتك.. أن أتأمل وجهكالضخم.. عينيك الصغيرتين.. فمك حين تضحك وقد فتحته على اتساعه كأنك تصهل.. ليتحول وجهك الى وجه دمية بلاستيكية.. وتلك الندب المنتشرة على حواف وجهك.. أن  أرى ظلال قامتك البلهاء.

حين نلتقي ستجدني أحتفظ بتلك المشاعر التي حملتها يوما تجاهك.. ولم أدع السنين تعبث بها.. صحيح هي سنوات قليلة التي قضيناها معاً. لكني أشعر بأنها أعطتني ما تبقى من عمري.. فيها تذوقت أولى المشاعر.. ولذة النشوة.. هي عوالم سكنتني ولم تبرح تتفاعل فيَّ.

وأعترف لك بأني حاولت ألتخلص من مشاعري نحوك.. حتى أعيش حياتي.. أن أنظف ذاكرتي منك.. بسحق مشاعري نحوك.. لأجد أن حبي متجذر في كياني.. فكلما سعيت لحب رجل.. أجدك وقد استبطنته.. وأجده يذكرني بك بدلاً من أن ينفيك.. فكل محاولة حب لي تنتهي بالفشل.. لأكتشف أن حبي لك مثل لي عاهة.. أحرمني أن أعيش كبقية النساء.

هذا المرض الذي أقعدني كنت أنت السبب في ابتلائي به.. وكان أملي حين أجدكأن تساعدني على استعادة حياتي.. لكني أجدني قتيلة لديك.. مرفوضة منك.. فلماذا كل هذه القسوة والصلف؟ أرجوك ترفق بي.. فقد ابتليت بأحزان كثيرة.. كنت أنت المسبب لها..."

 

-20-

اللية الأولى كدت أن أنام في الشارع.. بعد لجوئي لصاحبي الكريم.. اتصلت على هاته من محل اتصالات.. وما إن سمعت صوته حتى أجهشت باكية: "أستنجد بك.. لقد قُتل زوجي ويريد أخوتي إعادتي معهم إلى القرية.. هربت منهم ولم أجد مكاناً يأويني بعد أن.. أريد..." فجأة أنقطع الاتصال.. ظننت الأمر خلل في الشبكة.. عاودت الاتصال به عدة مرات.. ولا أسمع إلا ذلك الرنين الكريه. كنت على يقين من أنه لن يخذلني.. أخبرت عامل المحل بأن هناك خلل.. طلب مني الرقم.. وبعد أن جرب هز رأسه كمن يواسيني وقال:

- التلفون الذي تريدينه مغلق.

- مغلق!. أرجوك جرب مرة أخرى.. لقد رد عليَّ قبل قليل.

- إذاً أغلقه بعد سماع صوتك!.

قهرني ذلك العامل بتأكيده ذاك.. خرجت من المحل وقد عرفت بأنني أخطأت في تقديري للأمور.. وقفت بعدها محبطة أنظر في كل الاتجاهات بخوف ورهبة لم أذقهما من قبل.. استعرض صديقاتي.. لم يعدن كثر كما في الأمس.. أخترت أقربهن إليَّ مكانة.. طرقت بابها شارحة لها حالتي.. لكنها اعتذرت من فورها دامعة العينين.. ثم ثانية وثالثة.. ومع قرب المساء تملكني ذعر وقد أمسيت مهددة بالبقاء هائمة على وجهي.. كل شيء حولي برائحة الضياع.. جلست حيث أنا وقد أصابني شلل مفاجئ.. زادت دموع عينيَّ..واشتقت لأمان منزلي.. لدفء فراشي.. في لحظة عجز فكرت بالعودة إليه.. أفتش بين الأعذار ما يشفع لي.. لكن وجه الكبير أطل مكشراً.. وكفاه تنهال عليَّ.. عندها عرفت أن المضي بعيداً أجدى من مغامرة العودة إليه. مسحت عيوني.. أردد ما حفظته من القرآن الكريم.. عاودت البحث عن بقية صديقاتي.. ومن وسط ظلام يأسي أشرق وجه أحداهن في خاطري.. أرملة تعيش مع أمها الهرمة.. جمعتنا القليل من ليال المتعة.. هي مرحة وعطوفة.. سرت باتجاه بيتها وأنا أردد دعواتي لله أن لا يخذلني.. طرقت بابها متهالكة.. شرحت حالتي باكية.. بعد تردد أدخلتني خلسة خوف أمها.. أمست تتقلب جواري تنتظر الضوء لأمضي.. وبالفعل ما إن أقبل الصباح حتى جلستْ جواري  تنظر إلى وجهي.. وبادرتني بصوت منكسر:

- والآن ماذا تنوين؟

- لا شيء.. سأعود للشارع!

- الم تفكرين في العودة لأخوتك؟!.

-  سيقتلونني!.

نظرت إلي ساهمة.. ثم احتضنتني:

- تقدرين وضعي.. فأنا أعيش مع أمي.. وأمي إن عرفت...

حاولت كتم بكائي.. فزادت من ضمي إلى صدرها تشاركني شهقاتي. ثم احتضنت وجهي بكفيها تمسح دموعي مبتسمة: لقد فكرت لك بحل!.

تأملت وجهها.. كانا بؤبؤي عينيها يهتزان وفمها مشرع على ابتسامة.. لم انطق بشيء.. أضافت: هيا سأخرج بك.

سرت بجوارها تحدثني عن امرأة تستقبل من يردن التفقه في دينهن.. قالت بصت فرح: بيتها ليس ببعيد عن هنا.. حدثتني عنها بعض من حضرن دروسها.. فقط إياك أن تعرف بأنك هاربة.. أو أنك أرملة.. عليك أن تفكري بحكاية مقنعة تحكيها لها.. هي امرأة بنت شيخ علم كبير.. والأهم أن تنسي حياة الأمس.. وصلاتك ببنات الأمس.. حتى أنا انسيني.. أنسي حتى مجرد التفكير بحياة الأمس. وجودك إلى جوارها يعني بأنك فتاة وهبت نفسها لله...

أوصلتني إلى أول الشارع.. دست في صدري القليل من المال.. ودعتني دامعة وهي تلهج بالدعاء.

عرفت بعد أن التحقت ببيت تلك الحرمة.. أن تلك الدروس التي تنظمهاهي بهدف تربية البنات ليتبعن حزب أبيها.. وقد توزعت تلك الدروس بين الدروس المنزلية ودروس دينية.. الحقتني ضمن من يخدمن في بيتها.. أحضر حلقات درس بيتها.

يوم قابلتها اختلقت حكاية لاستدر بها عطفها.. حكيت لها بأني قادمة من الريف.. وأني خفت الله من زوج أمي الذي أراد مني ما يريده الرجل من زوجته...

سألتني: ألم تتزوجي.

أشرت بهزة من رأسي وعيني دامعة.

رددت وهي تتفحصني من خلف نظارتها: لا بأس عليك.. سيرزقك الله بالزوج الصالح.

كانت تتحدث بصوت هادئ.. تسبق كلماتها ابتسامة آسرة أشعرتني بأني في أمان. أردفت: ستبقين في خدمتي وهنا ستعرفين الكثير عن دينك.

وأمسيت ضمن عدد كبير من الخادمات.. لأجد نفسي خادمة للخادمات.. ظننتها  فترة وتنقضي.. لكنها دامت أشهراً.

في أول درس حضرته كان بعيد صلاة المغرب.. كنا في باحة مسجد ملحق بذلك العدد من المباني .. جلستْ شيخة على كرسي وثير في قلب "صوحه" وقد تحلقن حولها حريم كثر.. كان الدرس حول أخلاق حريم النبي.. لم أفهم شيئاً من تلك الدروس.. فدوماً كنت أحضر بعقل شارد وعيون زائغة.. تجاوزتاشهراً هناك ولم أشعر بأي سكينة أو أمان.. فالجميع هنا يراقب الجميع. كان الظاهر عكس الباطن.. فتلك الدروس تعد الحريم لمآرب غامضة.. فأرى وجوهاً تختفي وأخرى تظهر.. وذلك الحضور كان بينه المصرية والشامية والسودانية.. وأسمع عن مجموعات يكلفن بأعمال خيرية تخدم الشيخ الأب وجماعته.. كنت قد بدأت أقلق.. وبدأت أفكر بالهرب من ذلك الحصن. وقبل أن أقدم على ذلك.. قالت لي إحدى الشيخات: عليك بالرحيل...   

فجأة شعرت بالإهانة.. وكأني لا أفكر بالهرب.. سألتها عن السبب!. ردت بصوت قاسٍ: أنت كذوب!. ثم أحمدي ربك أن تركتك الشيخة دون عقاب.

عندما أصبحت خارج أسوار ذلك القصر "ببقجة" أحملها من ملابس وأشياء أخرى. لم يعد يهمني إلا أن أتدبر أمري.

أحكي لك ما أكتمه بداخلي عن جميع الخلايق.. لتعرف ثقتي بك.

- ولماذا تحكي لي!.

- أريد أن أتقرب إليك بمتاعب تعذبني.. وأعترف لك أيضاً أن اسم سقوة ليس باسمي.

 

-21-

رسالة بعد أخرى تؤكد له بأنها هيّ.. وإن ظل موتها قناعة مستقرة في أعماقه.. لينتابه صراع أثناء كتابته إليها أنه يكتب لكائن لا وجود له. فمنذأولى رسائلها وهو في حوار مع نفسه.. يحاول إقناع نفسه أنه لا يكتب للفراغ.. متمنياً أن تشعر بما هو فيه.. وأن تقدر وطأة النزاع الذي يمزقه.

لعدة ليال بعد قراءة رسالتها الأخيرة.. منح نفسه فسحة من الوقت عله يصل إلى بر الأمان.. أن يجد نفسه حين يكتب قد تجاوز الإحساس بأنه يكتب للفراغ.. وأن يمحو سنوات موتها من داخله. أن يكتب بمدارك جديدة.   

"سيدتي أرجو أن تدركي أن ظهورك أعادني إلى أيام أحبها.. ومثلما تعانين من ظروف الحياة ومن ذكريات الماضي.. ومثلما مَثَّل لك وجودي حالة أمل.. أنا بالمثلمثلت لي عدوة أجمل أيامي.. نافذة جديدة.. أريد أن تتيقني بأني لم أبتكر موتك.. أنت تعرفين ظروف حرب 1994 وكم التهمت من الناس.. ويمكنك العودة لصحف تلك الأيام.. تلك الحرب مثلت لليمن كارثة وانفصام خطير لازال الشعب يدفع فاتورته حتى اليوم.. آلاف القتلى وأضعافهم من الجرحى.. ما ترك شرخاً اجتماعياً في نفوس الجميع. حتى هذا النقاش المحتدم بيننا حول موتك من عدمه.. هو صراع مع ذواتنا.. أن اتخلص من يقين يسكنني حول حبيبة سفك دمها.. أنا اليوم أحاول التخلص من معايشتي لموتك طيلة ثلاثين عام.. أن أرسخ قناعتي بوجودك.. قد لا تدركين صعوبة  ألتخلص من سنوات طويلة عشعش الموت في كل تفاصيلها.. أن يعيش شخص ثلاثين سنة دون أن يرى الشمس.. أو بصيص ضوء.. ثم يجد نفسه وسط أضواء متداخلة.. لتتقاذفه النزاعات بين الظلمة التي سكنته والنور الذي حل. أرجو أن تعرفي مقدار الارتباك الذي أعيشه.. وهكذا كل أفراد المجتمع اكتشفوا بأن الحرب لم تغادرهم منذ ثلاثين سنة.. ولذلك حين أكتب إليك عن سعادتي بوجودك في هذه الحياة فإنني أكتب بصدق.. ولا أريد أن تتحسسي من بعض كلماتي.. فقد عرفتك صاحبة روح نقية لا تتعثرين بالأمور الصغيرة.. فأنت من كنتِ  تثيرين البهجة أينما حللت.. أنت وطن من التسامح والمحبة.. وعودتك تساعدني على استعادة نفسي.

تلك الأيام التي عشناها معاً.. تحولت إلى إكسير متجدد من الجمال والأمل.. الجأ إلى استحضارها كلما تلبد الأفق أمامي.. فلم يأت بعد تلك الحرب إلى التشرد والشقاء.. هي دعوة لك أن تغفري.

كم هي سعادتي بخوفك عليَّ.. وخشيتك على المدينة العتيقة من الدمار.. بالأمس طفت أزقة أحياءها المتداخلة.. وأسواقها التي تعج بروائح الماضي.. وأصوات باعتها.. جلت "سماسرها".. وهبطت حمَّامات باطن الأرض الساخنة.وقرأت سلامك على منارات صادفتها.. ولكل قباب أطلت ببياضها.. ولسكون أزقتها.. ثم صلت عيناي من أجلها.. من أجل زوال الحرب التي هدمت كثير من القيم الإنسانية.. وقتلت وشردت.. ولا زالت رعشات الرعب تغشى مدينتك.بعد عودتي من التجوال في أحيائها.. أصعد لأكتب لك من خلف نافذة غرفتيفي الدور الرابع..حيث أسكن إحدى دورها.

تلك الأسواق تعج كعادتها بالعابرين.. والزحام كما عرفتِها على أشده.. لكن الكل يشكوا ركود ثقيل.. الحرب استهلكت الأخضر واليابس.. وحتى أن أمراء الحرب لجأوا لنهب مدخرات ومتاع الناس.وقد رفعوا راياتهم الخضراء على قباب المساجد.. وغُطت جدران الدور بصور صبيان استهلكتهم الحرب.. الجميع يعيشون حالة ترقب وخوف.. المدينة تعيش حالة سريريه لبطش وتسلط رايات الدم.. فلا كهرباء ولا ماء.. ورغم ذلك الجميعينتظرون الفجر.

سألتني عن عملي.. وهل أعمل في إحدى المنظمات.. فلم تعد هنا أي منظمة خارجية منذ اندلاع الحرب.. لقد أُغلقت جميع المنظمات الأجنبية.. وغادر من كانوا يعملون بها إلى بلدانهم.

ذكرتِنيفي رسالتك بأني كنت أمارس رياضة الجري ولعب كرة القدم.. الناس هنا ينامون بُعيد مغيب الشمس.. لتحتل عتمة الشوارع.. قطعان الكلاب.. ومجاميع المسلحين والباحثون بين أكوم المخلفات عما يفيد.. لم يعد لأحد أن يجرؤ على الخروج عند الفجر ليمارس الهرولة.. ولعبة كرة القدم مضيعة للوقت.. أزقة الأحياء هوامش معتمة.. وكأننا نعيش في مقبرة تحتضر. فقط القراءة تذكرني بأني لم أنفق بعد.. وأعترف لك بأن تلك الكتب التي كنتِ تهدينها لي لم تعد بحوزتي.. ولا أتذكر مصيرها.. فقط ظلت رواية البؤساء ترافقني.. تذكرني بك. واليوم أجدني ورثت عنك الكثير.. ومنها القراءة.

أجدني منذ سنوات أتخفى بعيداً عن عيونهم المنتشرة في كل مكان.. حتى الريف الذي ظننته يوما نظيفاً من عيونهم.. وجدتهم قد سبقوني إليه.. فكل الوجوه هنا دون أفواه.. فقط تغطيها العيون. الكل يراقبك.. يعد أنفاسك.. وأجدني لصيق سكني.. أتنفس الظلمة وعريي. ومتعتي حين أًصحوا.. أفتح نافذتي لأطل على النهار متعتي مراقبة المارة عارٍ.. باعة تلك الحوانيت المحيطة بالصرحة الفسيحة.. عراك الصبيان.. أصوات النساء حيث يتسرب غناء شجي من نوافذ الدور الشاهقة.. انزلاق خيوط الشمس على القمريات الملونة.. تهجد المآذن والقباب البيضاء.

بدوري أذكرك بلحظاتعشناها معاً..تلك الليال التي كنت تقفين كتمثال أبنوس مصقول.. تهتزين بقامتك الرشيقة حد الإغواء.. سرتك التي تدعوني لتقبيلها ضفائر عانتك تتطاير كسياط نارية حين تهتزين راقصة.. ولم يكن أجمل من لمعان سمرة جسدك.. تظلين على الدوام عارية إلا من منديل أسود تحكمين به على رأسك.. ولم أرَك قط بدونه.. حتى في لحظات نشوتنا.. لتدفعني رعونتي إلى محاولة إزالته مستغلاً لحظات الذروة.. لكنك تفاجئينني بصفعة مدوية.. ظل صنينها يصم مسامعي لبعض الوقت.. لم تكُوني لحظتها أنت.

 بتلك الذكريات أحاول تجاوز يقيني بموتك.. أخاطبك كما لو لم أقرأ ذلك الخبر يوماً...".

"أسعدتني برسالتك وقد طفت من أجلي شوارع صنعاء.. ذلك جميل منك.. لطف أن تتذكر شذرات من حياة عشناها معاً.. لكنك أفسدت ذلك وأنت تذكر كف كان دون إرادة مني.. وأتذكر بأني بكيت يومها بين يديك معتذرة.. ظانة بأني محوت ذلك من نفسك.. لكنك حتى اليوم لا زلت تتذكره.. فلماذا تفسد رسالتك بذكر ذلك!. ماذا تريد؟. ألم تفكر بأنك ستجرحني.. ألا زلت مثلهمترى كف امرأة  في وجه رجل خطيئة لا تغتفر.. حتى لو كان دون وعي مني. وبالقابل لا تتذكر قسوتك عليَّ. أو ثوراتك التي لا تعد.. وأذكرك بها في حين كنت تنفجر لأتفه الأسباب في وجهي.. تحطم كل ما تجده أمامك من أواني.. وإن لم تجد ما تحطمه تأتي على زجاج النوافذ.. وتقذف بأصص نباتات الزينة.. لتتركني أنكفئ على نفسي دامعة.

أذكرك هنابذلك المساء وقد شاركنا في لقاء زملاءنا.. لقاء سنوي لموظفي المنظمة.. يناقشون فيه ما أنجز.. وكان لقاءً حميمياً أكثر منه رسمياً. كنت  سعيدة بذلك الجمع لأنهمثل لي فرصة التعرف على أكبر عدد من العاملين في مختلف محافظات اليمن.. وكان بين الحضور طبيب فرنسي يعمل في منظمة أخرى.. له سمعة جيدة. وبعد نهاية اللقاء تقدمت نحوه.. صافحته وتحدثت إليه معرفة بنفسي.. وما أدهشني أنه ذكر لي بأنه قد سمع عني أخباراً جيدة.. ماداً بكرتٍ تعريفي عرفت أن أسمه "جيرال". ثم ودعني بقبلة على خدي كما كان الجميع يقبلون بعضهم البعض.. ولا أعرف أنك كنت ترقب ما يدور.. وقد تميزت غضباً.. لتمسك بذراعي عند خروجي وتسحبني بصورة مهينة لفتت انتباه من كانوا بقربنا.. وفي الخارج أنهلت علي باتهاماتك الجارحة.. أتتذكر...؟".

 

-22-

"وكأنك تبحثين عن سبب لتكيلي اتهاماتك لي.. حين ذكرت منديل رأسك.. لم أأكن أقصد ذكر الكف.. وما قصدته أن تجيبي على سؤال ظل يحيرني إلى اليوم.. فطوال وجودنا معاً تلك السنوات القليلة لم أراك دون ذلك المنديل.. ولذلك حرصك على إخفاء رأسك ظل عالقاً في ذاكرتي.. رغم أننا عشنا ليال وليال كثيرة عرايا!.

وأسألك.. هل تبقى من هفواتي شيئاً لم تذكرينها؟. لن أغضب مثلك.. فقط أستغرب لماذا لا تغفرين؟!.

لم تكوني يوماً بهذا النزق.. ولذلك ياعود الشك يداعبني هل انتِالبندرية؟!".

حين كتب تلك الأسطر القليلة.. ظن بأنها ستكف عن انتقاء مساوئه.. وأنها ستدرك تحاملها.. ليفاجأ بهاتنبش الراكد في أعماقه.. وأدرك بأنها لم تعد هي تلك النسمة التي كانت. 

" لا أكيل لك.. بل أذكرك ببعض محاسنك إن أردت تصنيفها.. وأذكرك ببعضها. مثل ما حصل في ليلة دعوتني إلى مسكنك قلت لي بأنك تعد لي مفاجأة.. كنت متشوقة.. وقبل أن تخبرني سمعنا طرق على الباب.. كان ذلك بُعيد آذان العشاء.. وقتها انتفضنا في وجل نداري عرينا وقد ظنناهم عسكر أتوا لاقتيادنا.. اقتربت أنت من الباب تستطلع الأمر.. كنت أنا أهدئ نفسي.. سمعت فتحكللباب.. أعقبه صوتك تتحدث إلى شخص لم أتبين صوته.. اطمأننت بعض الشيء لهدوء صوتك.. ثم سمعت ضحكات متبادلة لتغلق الباب بعدها خلفك ويصمت كل شيء.. ظننتكتُكمل حديثك مع الطارق خارج الباب وستعود.. لكن الوقت كان يمر.. الساعة الأولى الثانية.. نهضت محاولة أن أسمع حديثاً.. لم أسمع شيئاً.. وبدأت تنهشني التخمينات.. انتصف الليل وأنا أصيخ السمع علي أسمع صوتك.. جربت أن أفتح الباب لأسترق النظر إلى الشارع.. لأكتشف بأنك أغلقته عليَّ من الخارج!. أيقنت بأنك أمسيت سجيناً. مكثت بقية الليلة أنتظر دوري. لكنك تعود إليّ بعد شروق الشمس منتشياً.. تشرح لي كيف قضيت ليلتك مع صديق لم تلتقِ به منذ شهور.. وأنه أقسم بعد أن لاحظ ترددك باستضافته أن يستضيفك في سكنه. وأتذكر بأنك لم تعتذر لي.. فقط بررت بأنك أردت أن تصرف ذلك الصديق.. بلعت غصتك ولم أعاتبك.. فقد تعودت عبطك.. بينما كنت أنت ترى تصرفاتك طبيعية كرجل.

 أيضاً أحدثكبذكرى أخرى.. بتلك الساعات التي فاجأتني بزيارتك في سكني في الدور العلوي من مقر المنظمة.. كان ذلك بعد انتقالي للعمل في صنعاء.. وأتذكر بأنه كان يوم العطلة الأسبوع.. وكنا مفردنا.. وقد شكرتالله أن وهبني حبيباً في غربتي.. وأمسيت تمثل لي نوع من الأمان.. وأشعر بأننا نناسب بعضنا.. ولذلك حلمت بالزواج منك لتكتمل سعادتنا. وأتذكر ليلة استقبلتك.. أنا رقصنا كثيراً.. وطبخنا طبق"القطار صفر". مع سفر الليل حملك الجنون لتطلب مني الصعود عرايا إلى سطح المبنى.. تمددنا متلاصقين نتأمل سماء بدأت سحبها تزحف لتحجب ثريات النجوم الوامظة.. لم يكن غير السكون حين فاجأني بكاؤك.. هي المرة الأولى التي أسمعك تبكي فيها.. كان بكاءً شجياً.. وجدت نفسي أشاركك ولا أدري لماذا؟. كنت سعيدة لمشاركتي دموعك.. سألتك عن السبب.. لتخبرني أن منظر نجوم السماء في تلك الليلة أثار شجناً يسكنك منذ طفولة قريتك.. نسائم باردة دفعتنا لندفئ جسدينا بالالتصاق ببعض.. رويدا رويدا تشابكت أطرافنا.. لحظتها كانت السحب تواصل زحفها ملتهمة ما تبقى من نجوم.. ازدادت عتمة الوجود.. وازددنا التحاماً.. توالجت أعضاءنا.. وسط هطول مزن باردة على جسدينا.. للحظات خلتنا نطير وسطضياء البروق.. كانت تتوهج لتنعكسبقوة على جسدينا وما يحيط بنا.. تلاها  هزيم رعود..لتزداد قطرات المطر انهماراً.. كنت تصهل من فرط اللذة أحاول إسكاتك.. تمنيت تلك اللذة لو استمرت دهوراً.. فلم يرتو جسدي كما أرتوى تلك الليلة.. أو أن السماء سكبت علينا من لبنها وبقينا ملتصقين حتى توقف المطر.. لتحملني بين ذراعيك هابطاً.. بينما ظللت مغمضة العينين لاحتفظ بمتعتي.. أو أني كنت فاقدة الوعي.. فتحت عيني على دف فراشي وقد احتضنتك أرجوك ألَّا تنهض من جواري.. تخللتني نوبة بكاء وأنت تحتضنني..  لم نكن ندرك أن هناك من يرقبنا. حتى سمعنا وقع أحجار على نوافذنا.. أتذكر بأننا لم ننم ليلتها.. وقد توقعنا اقتحام خلوتنا.. وتحت وطأة الخوف شعرت وأنت تحتضنني بعنف لتمارس حبك مرات.. وفي ذروة نشوتي هامستك: لماذا لا نتزوج؟. ما أن سمعت سؤالي حتى تراخت ذراعيك من حولي.. بعدها أعطيتني ضهرك.. ولم ينطق أحدنا بكلمة بقية تلك الليلة. مع تسلل الضوء قبلتني قبلة باردة ونهضت ترتدي ملابسك ثم انصرفت في صمت عائدا مدينتك "ذمار". مكثت ساعات بعد مغادرتك بين أغطيتي وصدى كلماتي يتردد "لماذا لا نتزوج". حين قلتها  ظننت أنها نفس رغبتك أيضاً.. أردت أن نكون أمام من يرجمونا أقوياء.. أن أسير إلى جوارك في وضح النهار ولا أخشى همس الآخرين.. أن نجد ما ندافع به عن أنفسنا إذا ما اقتحموا أبوابنا. أذكرك اليومبذلك إن كنت قد نسيت ماكنت تفعله بي.

اليوم أعود إلى ذلك الماضي الذي يربكني ويبكيني كلما استحضرته.. وأسأل نفسي: هل كان يحبني حقاً كما أحببته؟.

وأتذكر بأنك بعد تلك اللية الماطرة انقطعت عن زياراتي.. حاولت التواصل بك بعد ذلك دون جدوى.. كنت أريد القول  لك بأني لا أريد منك شيئاً.. وأن طلبيللزواج كان غلطة اعتذر عنها.. فقط كنت أريدك أن تعُود إليَّ.. لكن غيبتك طالت أياماً وشهوراً طويلة.

لا أريد من تذكيرك لتلك إلا أن تخفف من غرورك.. وأن تعرف بأنك كنت تدمي قلبي مرة بعد أخرى.

أعترف لك بأنني ترددت في أرسال هاتين الرسالتين.. وأتمنى أن تحذفهما فور قراءتك لهما ".

 

-23-

في كل مرة تهبط إليه يحملها الأمل أن يحدثها عن نفسه.. لكنه ما أن يبدأ حتى يتشعب إلى مواضيع أخرى.. تثابر بدفعهلإخراج المخبوء.. تحتضنه تهدهده كطفل يتأتئ.. هامسة:

- إن كنت لا تريد فليكن. لكنني أشعر حين أسمعكبأنك تخفف عن نقسك.. كما هو إحساسي حين أحكي لك عن حياتي.

- امرك عجيب!.

لم ترد وظلت صامتة حتى انفجرت في نوبة بكاء مفاجئة.. أحست بثقل آلامها.. غير مصدقة أنها تتحمل كل ذلك دون شريك.. كان لوقع كلمته على قلبها كجمر متقد.. دمعت صامتة.. كما لو أنها أحس بما هي فيه مد أصابعه يبحث عن وجهها.. يمسح بلل خديها.. ثم ضمها إلى صدرهلتجتاحها نوبة نواح حزين.

يتمتم: لست أنا المُطارد الوحيد.. وهاهيتشاركيني نفس الهم. يمرر أصابع يديه على شعر رأسها وقد ازدادت مشاعره تجهها.وإن أمسى يراها أقوى منه. وهي من تعيش نفس ظروفه بل وأشد قسوة.. لكنها لم تستسلم لخوفهاكما فعل هو بل سعت لمواجهة الحياة.. يرى في الصداقات مكامن للغدر.. وفي عيون الناس عسس تراقبه. قبلها مواسياً.. وهو المحتاج لمن يواسيه.

فاجأته من بين دموعها ترجوه ان يحكي لها.. وجدت كلماتها في نفس أثر.. زاد من احتضانه لها ليبحر بصوته: "اعترف لك بأنني لمت نفسي بعد فرارك من سكني.. وبعد عودتك تضاعفت شكوكي وبقيت على حذري منك.. لكن حكاياتك غيرتني حتى نسيت ذلك الحذر.. تحكين عذاباتكلتجيبين على سر انجذابي إليك.. ذلك الانجذاب الذي بدأ من لحظات جلوسي قبالتك في سوق القاع في ذلك اليوم البعيد.. لم أكن أجد تفسيراً لأجدحكاياتك تكشف لي تشابه متاعبي ومتاعبك.. فها أنتِ ذا ملاحقةوشبه شريدة.. تتوقعين الموت في كل لحظة.. ومع ذلك تتوقين لحياة سعيدة.. تلك هي تفاصيلنا المشتركة ما جعلتني أراك إنسانة.

سأحكي لك شيئاًمن همومي.. سجنت لأكثر من مرة.. لأكتشفبأن من كانوا سبب سجني هم أقرب الناس إليَّ.. بعدها أتوجس من كل شخص.. ارتاب ممن حولي.. وأظنهم يلاحقوني.

- لكن علام يلاحقونك؟!

- الجميع مهووس بالتسلط.. اجتهاد عسس. فأكثرهم يعتاشون على تقارير يدبجونها كذباً. وترين الفرانصي المتحمس لملاحقتي.

- الفرانصي!. من تتحدث زوجته مفاخرة أنهدوما يتربص بأعداء الوطن.

- هذا أنا من يقصدون بعدو للوطن...

- هي لم تذكرك. بل تتحدث حول انتشارهم بين الناس.. وأنهم عملاء لدول خارجية.. وأن زوجها يلاحقهم ويكشفهم ليدعهم في السجون.

- وتسألينني عن خوفي.. أتعرفين أنهم يصنفوني تارة بالاشتراكي.. وأخرى بالاخواني لأني سرت في مظاهرات "ارحل". وهكذا لي في كل يوم تصنيف. أتعرفين أفكر بأنهم يلاحقون شخصاً آخر.. أوأن لديهم عمى..

يصمت ممسكاً بكفها الصغير.. ويضيف بصوت حنون: أجدني مشفق عليكوأبرر تحفظك من البوح بكل ما داخلك.. فهل تجدين تبرير لحذري منك في البداية؟.

- متى حكيت لي حتى تقول هذا.. ما أسمعه ليس إلا كلام عادياً.

- تخففين علي.

- لا.. لكني أريد أن أعرفك أكثر.

- لم يعد بيننا ما نخفيه.

- كيف وأنت تبالغ في التخفي.

- لقد تحول ذلك مع مرور الأيام إلى أسلوب حياة.. ولذلك أجدني  في حرية حين أسكن إلى نفسي.

- لم أفهم.. لكن هل ستقضي ما تبقى من عمرك هكذا!

لم يرد.. بعد إحساسه بأبعاد ما تعنيه كلماتها "هل ستقضي ما تبقى...". أحست بمرارة صمته.. أخذت تربت عليه.. تلتصق به..ثم هبطت بأصابعها تداعب صدره.. تقبل مواطن فيه.. عرف أنها تريد تغيير الموضوع.. أغمض عينيه وتمدد مستسلماً يحاول نسيان همومه.. أعتلته.. وأخذت توشوشه: 

- هكذا وأنت بداخلي أريد أن تسمعني.

- أسمعك!.

-  نعم حين أتحدث تتضاعف متعتي.. هيا دعنا نتحدث.

رسم على وجهه الكبير ابتسامة صامته تاركاً لها تصنع به ما تريد.. أردفت: أن أحكي في حالة الالتحام أشعر بأنك ملكي.. وأن في الوجود ما يخصني.

صمتت محركة جذعها لتتموضع فوقه بنعومة.. تفكر بالحديث عن سر يشقيها.. سر يخفيها التفكير فيه.. ليعاود صوتها:

- أريد أن أخبرك بأمر..فهل ستتفهم؟!

وصله صوتها كالأنين.. متسائلاً عما يمكن أن تتحدث حوله:

- أسمعك!

- أنا مصابة بمرض منذ آخر أيامي مع زوجي.. ذلك المرض الذي يسكنني لا أحس به حتى ذهبت يوماً إلى المستشفى لأعرف سبب تأخري عن الإنجاب.. أخافني الطبيب عندما أخبرني أن رحمي به ورم.. حين سمعتهلم أفهم ما يعنيه.. فلم أكن أشعر بأي أعراض أو الام.. وما كان يهمني أن أستطيع أحبل.. سألته لكنه أشار علي أن أجري بعض التحاليل والفحوصات قبل أي كلام. أخبرت بعض صديقاتي.. أخافني وصفهن.. عدت للطبيببفحوصاتي ليخبرني الطبيب بأن الورم في بدايته.. وأن علاجه يحتاج إلى وقت. لم أخبر زوجي.. ومن كُن يسألنني أخبرهن بأن الطبيب أخبرني بأنهورم بسيط يضحكن وينسين الأمر. قبل أشهر شعرت بآلام شديدة.. أتحسس أسفل بطني وأجدني أحس بحجر.. عدت للطبيب قبل أيام لينصحني بزيارة جمعية تهتم بمعالجة الأورام وقال بأن الورم قد تضخم.. وأن الأمر بحاجة إلى استئصال الرحم.

سألته مرعوبة:

- وهل أستطيع بعدها أن أحبل!.

- لا يمكن.

صمتت كمن سقطت في بئر.. لم يجد شنوق الكلمات التي يواسيها بها.. وقد أرتمت على صدره.. ذوى شيؤه واضمحلت رغبته.. وقد بدأت بالبكاء..  طوقها يريد أن يقول لها شيئاً.. أن يشجعها.. وجد لسانه جامداً...

شعرت ببعض الراحة وهي تتذكر رائحة أبيها.. أن يشاركها فيما يخيفها.

 

-24-

بعد مغادرتها له بأيام هبطت إليه.. لم يكن يميل للحديث عن مرضها.. بدورها بادرته بالرقص عارية كما لو لم تكن قد حدثته عن ذلك الورم..ظل يراقصها وصدى صوتها حين كانت تحدث عن الورد يتردد.. وقفت ممسكةبكفه  الكبير بكلتا يديها وسارت به نحو غرفة النوم.. ينقاد لها كما لو كان كائن خرافي ضخمة. طلبته أن يتمدد مستسلماً.. أخذت تداعبه لبعض الوقت صامتة كما لو أنها ترى تفاصيل بدنه تحت نور ساطع.. وبصورة أليه امتطته.. استوعبت شيئه.. لتهتز كما لو كانت على ظهر ناقة مسافرة.. وللذة داهمته صرخ ممسكا بخاصرتها.. لكنها وضعت كفها على فمه.. تهامسه:

- هل وصل إليه؟!.

-احتار في مقصدها.. ظنها تهذي لغلمة تجتاحها.. لكنها اقتربت بوجهها من وجهه اتعاود سؤالها: هل تحسه؟!

- لم أفهم.

- الورم.. هل تلمسه برأس...

أنعقد لسانه لا يعرف بما يرد به عليها.. لتضيف: قبيل هبوطي إليك.. دخلت حمام الشريفة.. قضيت وقت أدخل أصابعي أحاول لمسه.. فكرت بأن شيئك قد يصله.

ذهبت به التساؤلات: أحقاً أستطيع ملامسته. أمسكها من ردفيها مطوحاً بها على الفراش.. يضغط بعد أن سيطر عليها تحته.. كانت مستسلمة.. بينما ظل يتمنى أن يظل متصلباً.. متخيلاً له عين يرى بها أعماقها.. يحركه.. لترتفع أصوات شبيهة بمضغ متواتر.. تخللته  طرقعة متسارعة. وجد نفسه في صراع مع شبقه.. يحاول اطاله انتصابه.. أن يظل بين اللذة والتصلب.. فقط أن يلامس الورم.. أن يخبرها كيف يشعر عند ملامسته.. لكن لذتها تصاعدت.. صاحبها صريخ بلوغها الذروة.. ارتعشت بقوة متفوهة بكلمات نابية.. تمد يديهافي محاوله لضربه.. ثم هدأ صوتها وحركتها.. بينما أستمر شنق في مهمته.. ليعود صوتها متراخياً:

- أرجوك حدثني عما يتحسسه.. فمنذ الصباح الباكر وأنا أشعر بألم لا يطاق!.

ظل محاولا تخيل ذلك القابع بداخلها.. يتحرك ببطء عله يتحسسه.. لكن لذة عارمة اجتاحته.. صرخت وقد نشبت أظافرة في كتفيه.. لقد أطفأت كل شيء.. أطفأت الامي!.

متخيلا شنوقمايدور بداخلهاً.. ذلك الورم هل لديه فم يبتلع ما يصله.

منذ حكت له عن مرضها فقد القدرة على الحديث إليها.. كل حديث يريد قوله يقوده للحديث عن مرضها.. عادت تهامسه: قالوا بأن الورم سيقضي عليَّ.

تتحدث إليه بينما ذهب باحثاً عن مواضيعتبعدها عن مرضها.. تذكر بأنها كانت قد توقفت في حكايتها عند طردها من بيت الشيخة.. عاود ضمها إليه وقد داهمته عاطفة أبوية غريبة.. تتحسس صدره بأصابعها كما لو أنها تبحث عن أمان مفقود..أستغل ذلك ليسألها: 

- بعد طردك من بيت الشيخة.. ماذا صنعت بك الأيام؟

 سمع زفرتها.. ولا تزال تتمسح بصدره.. كانت تعرف بأنه يهرب بعيدا.. بتردد قالت:

- دعني أتذكر.

أستمرت أصابعها تتحسس صدره.. ليعاود صوتها خافتاً: بعد طردي.. لجأت إلى جمعية سمعت عنها أثناء وجودي خلف أسوار الشيخة.. قيل بأنها تهتم بقضايا الحريم وتساندهن.. أسير باحثاً عنها والخوف يلاحقني.. أرى عيون المارة تتربص بي.. وبعد وقت استدليت على عنوانها.. طرقت بابها.. ليتجمعن حولي مجموعة من البنات.. ملأت بيانات وبصمت على أوراق.. لم أخف عنهن حالتي. كنت أحكي عن خوفي وتشردي وهن يكتبن.. محتفظة بما لا يقال.. كنت سعيدة بعد أن وجدت من تشابه أحوالي أحوالهن.. حريم من مختلف الأعمار.. وشابات في مثل سني.. بعدها نقضي ليالينا نستمع لبعضنا ونبكي.. ثم نضحك لنعاود الحكي. أدخلني ضمن فصوللمعلمات يعلمنا فيها كيف نواجه مصاعب الحياة.. ما زدت من محبتي للحياة.. علَّمنا أن لا نجعل من أجسادنا سلعة.. وأن لا نمتهن أنفسنا.. وأن نقاوم الظروف بالعمل. قالت لنا إحدى المعلمات: هناك فرق بين الحب والدعارة.. لك أن تحبي وأن تمارسي الحب مع من تحبين.. لا أن تبيحي نفسك لمن يرغب ومن يدفع.. أو أن تسيرك حاجتك.

في تلك الجمعية اكتشفت أن ما تعلمته في مدرسة القرية قد جعلني أفهم ما تردده علينا معلمات الجمعية أفضل من غيري.. حتى كنت أشعر بأني أصبحت إنسانة جديدة.. وأن عليَّ أن أعيش وأن أقاوم المصاعب. أحببت من في تلك الجمعية.. وأمست بيتي ومكان أماني. لكن ذلك لم يدُم.. فقد أخبرتنا إحدى المعلمات.. أن لكل امرأة منا تقريراً لدى الجمعية.. وأن تقرير عام سيتم توزيعه. لم أكن أعرف لمن سيوزعونه .. ولا لماذا يضعوننا في تقرير.. حتى عرفت بأن ذلك التقرير توزع على الجرايد.. التي ستنشر اسمي. وعلى الجمعيات.. وعلى الدولة.. أصابني ذلك بالرعب.. لم أحدث أحداً بما نويت عليه.. أو أستأذن من أحد.. هربت من تلك الجمعية وأنا أتصور أن ذلك التقرير قد وصل لأحد معارف إخوتي.. في هذه المرة كنت أظن بأني سأجد عمل.. لكن ما إن أصبحت في الشارع حتى وجدت نفسي عاجزة حتى عن الكلام لمن أصادفهم.. ومر ذلك النهار وانا أهيم في الشوارع.. في تلك الليلة رأيت عدة سيارات في يجثمن في أطراف حوش واسعحتى تسللت إلى داخل إحداهن.. معتمدة على عتمة غروب الشمس.. كانت ليلة مرعبة فنباح كلاب لم تهدأ.. طيلة الليل ينبحن حول وتحت تلك السيارات.. خمنت أن يكون صراعهن على زيمة.. ثم أنتقل النباح بين السيارات.. وما ضاعف عذابي برد آخر تلك الليلة.. ولم يتسلل ضوء الصباح حتى كانت رائحة جسدي تفوح بعفن غريب.. كان نور الشمس قاهراً وأنا أخرج من جوف السيارة.. لأرى قطيع الكلاب يواصل العراك.. والسبب "جروة عساق". وجدت نفسي أسير دون هدى. حتى كنت وسط ضجيج باب اليمن.. وهناك مِلت لأجلس جوار مجموعة من النساء يفترشن رصيف "القشلة". بدواجنهن وخضارهن وفواكههن وريحانهن جنباً إلى جنب مع بائعات الفخار ومشغولات ريفية متنوعة. جلست أرقبهن.. إلى أن سمعت إحداهن: أنت يابنتي مالك ساهمة؟. ألتفت لمصدر الصوت.. كانت امرأة تجلس على الرصيف أمامها ربط ريحان وأغصان مزهرة.. لم أجد ما أرد به عليها.. تركتني لبعض الوقت ثم أشارت بكفها أن أقترب.. نهضت جوارها.. أمسكت بكفي تنظر في عينيَّ: أنت تايهة وإلَّا بتدوري على حدا؟.

 لم أرد عليها.. وقد اغرورقت عينيَّ بالدموع.. فاجأتني بمد كفها تمسح دموعي: لا عليشيابنتي.. صلِ على النبي.

التقطت شطيرة من وعاء إلى جوارها.. ثم كأس شاي. وابتسمت لي واضعة يدها على كتفي.. مرددة بصوت يذكرنيبصوت أمي: هيا "اصطبحي".

تركتني وانشغلت بحريم تجمعن حولها.. يشترين منها ريحاناً.. ظللت أتابعها لوقت.. شعرت بألفة تجاهها.. تجرأت وسألتها:

هل أساعدك يا خاله؟.

 هزت رأسها مبتسمة ولم ترد عليَّ.. مر الوقت حتى أرتفع صوت مؤذن الظهيرة.. سألتني:

- أين تسكنين؟

تغلبت عليَّ حيرتي.. وقد عادت دموعي تحجب الرؤية.. همست بتردد حتى لا يسمعَّنني من يجاورنها:

- ما لي سكن!

- يا لطيف.. الطف!.

توقعت أن تتحاشاني بعد ذلك.. لكنها تابعت وقد ركزت نظراتها في عينيَّ: انتظري حتى أفرغ من بيع ما تبقى من ريحان.. وسأسمعك بعد ذلك. لم أتمالك نفسي وقد اقتربت لاحتضانها.. أقبل وجهها. حينها أخذت جويراتها يتأملني بنظرات الشفقة.

مع تصاعد أصوات مؤذني العصر.. كان الرصيف خال إلا من بعض المارة.. وقد نهضت تلك الحرمة ومن حولها وبدأن بتجميع أغراضهن.. نهضت أساعدها.. ألملم معها بقايا حبال.. وخرق بالية. لم يمض وقت حتى كانت سيارة قديمة تقف جوارهن. يستحثهن سائقها سرعة الركوب.. تكومن في قاع حوضها.. ولحقت بهن تلك الحرمة.. وقفت مرتبكة.. ظننتها نستني.. حاصرتني خيبة أمل ويأس.. حتى التفتت إليَّ رافعة كفها تشير بسرعة اللحاق بها.. وجدت نفسي أندفع.. أصعد متلهفة.. أجلستني إلى جوارها كما لو كنت إحدى قريباتها.. لم أعرف بأن السيارة ستخرج بنا من صنعاء.. إلَّا بعد أن عبرت ذلك الشارع الذي أعرفه جيداً الشارع المحاذي لمنحدرات "السنينة" حيث منزلي الصغير.. ثم انعطفت إلى شارع "مذبح" ومنه إلى "شملان" ومن هناك اتجهت بنا خارج صنعاء.. فجأة تملكني هاجس مخيف بأن تعود بي إلى قريتنا.. فلا أرى غير طريق صاعدة وسط جبال قاحلة ثم تهبط.. كنت أريد سؤالها.. لكنها كانت مع من حولها يتحدثن بأصوات عالية.. أصواتهن لا زال صداها يتردد على مسامعي حتى اليوم.. يتحدثن بمرح.. وأظنهن في ذلك اليوم كن رابحات.. لم يطل بنا الوقت حتى توقفت بمحاذاة قرية صغيرة.. منازلها تتجاور أسفل  جبل يطل على واد كثير الخضرة.. بعد نزولهن جميعهن.. تبعتها عبر أزقة تربة تشابه أزقة قريتنا.. استقبلتنا كلاب مزمجرة.. أشارت بكفها  لتهدئتهن وهي تردد: هيَّه.. هيَّه!. ليخف سعارهن.. وكأنها تجيد لغتهن.. وصلنا حتى باب بيت خرج منه ثلاثة صبيان.. طوقوها بأذرعهم.. عرفتني بأسمائهم.. ثم أشارت إليَّ: أعرفكم بمساعدتي الجديدة.. ثم صمتت تتأملني كما لو كانت تريد أن أنطق أسمي.. ثم أشارت إليَّ: هيا أزيلي خمارك وعرفيهم باسمك. تلعثمت ولم أنطق.. أستمرت أعينهم تتفحصني بخجل..

في المساء كانت قد تمددت جواري.. ولم يكن أحد يشاركنا تلك الغرفة.. سألتني: هيا عرفيني عن نفسك!. ظللت مترددة.. لكنها أعقبت هامسة بحنو:

- يابنتي أشعر بأنك في محنة.. نحنا نسوان نعرف بمتاعب بعضنا.. حين رأيت دموعك صباحاً رق قلبي.. ونويت أن أساعدك.. لكن كيف لي ذلك.. ولا أعرف عنك شيئاَ. أحسبينني أختك الكبيرة...

قاطعتها مندفعة:

- لا أريد أن أثَقِل عليك.  

- لا عليك.. هيا اخبريني.

 تلك الليلة شكوت لها "غُلبي".. أستمرت تستمع ولم تقاطعني. رغم استمرار دموعي.. حتى سكت.. حينها احتضنتني صامتة..  ولم تعلق سوى بكلمات قليلة: يختار الله ما فيه الخير.

أسأل نفسي لماذا أنا هنا برفقة حرمة لا أعرفها.. ثم يعود الصدى: وهل أمامك طريق ثانية.. أنت اليوم بلا أهل.. وبلا مأوى!.  

لا أعرف كم غفوت عيني.. حتى شعرت بتسلل ضوء لطيف.. خرجت تلك المرأة بي.. لنرى حزم الريحان والشذاب مكدسة أمام بابها.. وقد اصطفت مجموعة من الصبايا يتضاحكن.. أشارت إليهن تحدثني: أترين ما أحلاهن.. لقد أتين من الوادي بهذه الحزم.. هن صبايا الفجر.

ثم أخرجت كيساً صغيراً من ثنايا ملابسها.. نقدتهن عدة ريالات ما زادمن ضحكهن وسعادتهن. مع خيوط الشمس الأولى كنا على نفس السيارة المتهالكة.. مع نفس حريم البارحة بأقفاص دواجنهن وسلال فواكههن ورياحينهن.. لترحل بنا باتجاه صنعاء. وما إن وصلت بهن السيارة إلى رصيف القشلة.. حتى هبطن.. واصطففن بسلعهن جوار بعض.. كأنهن لم يتحركن من أماكنهن.. مر بعض الوقت حتى تقاطرن اللواتي يشترين ريحانها.. التفتت إليَّ باسمة:

- ستعملين مثلهن في بيع المشاقر.

- كيف؟.

 - الا ترين هن يشترينهويذهبن لبيعه في بعد لفه في "مشاقر" صغيرة.

صمتُ محتارة.. فأردفت: هاه ما قولك؟

اقتربت بخجل أهامسها:

- أخبرتك بأني بلا مأوى!

- صحيح.

أدخلت كفها في ثنايا ثيابها.. وأخرجت خيطاً تدلى في طرفه مفتاح صغير.. قربت وجهي من وجهها: وهذا مفتاح غرفة في قاع اليهود.. أنزل بها في بعض الأيام.. ستكون من اليوم سكنك.. وستستضيفينني متى جئت إليك.. وعليك من اليوم بدفع إيجارها. وأنبهك إياك والغلط.. اليوم لديك عمل. وأنا خالتك.. فلا تسودي وجهي.

من اللحظة اسميك سقوة.

- سقوة! لكن اسمي ...

قاطعتني باسمة:

- من الأفضل استبداله.

ظللت أقلب الأمر في صمت لبعض الوقت.. أرى اسمي الذي أحببته.. يسقط مني.. أردت أن أرد عليها بالرفض لاسم سقوة.. وحين لاحظت شرودي.. وعدم تقبلي لتغيير اسمي.. أردفت: من الخطر أن تظلي باسمك سيصلون إليك به.

أدركت حكمتها من تغييره.. متذكرة تقرير الجمعية.. ابسمت راضية.. وأومأت لها.. لتواصل: ستأتين إليَّ كل صباح.. تشترين الريحان و"الشذاب" وزهر "اللزاب".. سأعلمك كيف تشكليهن في باقات صغيرة.. لتبيعيهن "مشاقراً".

ومن ذلك اليوم  أصبحت بائعة مشاقر.. وتلك المرأة أصبحت خالتي.. ألجأ إليها في كل وقت.. وأبوح لها بكل شيء.

هذه  هي حكايتي حتى يوم التقيتك فيه. فهل تحدثني يوما عن كل حياتك.. إلى أن التقيت بي؟.

 

-25-

منذ عرف بمرض سقوة يشعر بأنه يحمل هماً جديداً.. يحاول الهروب بتفكيره بعيداً فيجيده يعود به إليها. رسائل البندريةيلجأ إليها عله يجدالسلوى.. وإن كان يقلقه تذمرها ونزقها رسالتيها الأخيرتين.. لا يهمه ما تكيل لها من اتهامات متعمدة.. يتمنى فقط أن تعود كما انت تلك الفتاة السموح المحبة.

يعيد قراءة رسائلها على أمل أن يجد فتاته التي كانتها.. يغمض عينيه.. يحاول استحضارها.. عندما كان يراها وقد أقبلت كفيض مرح.. روح بهيجة.. نكتة ساخرة.. عاطفة باذخة.. يسأل نفسه: هل حقاً لم تقتل؟. إن كانت كذلك فمن أين لها الآن كل ذلك الهَرَم ؟.

يبدأ برقن رسالته إليها.. وحين يكملها يراجع ما كتبه حتى لا يترك مبرراً لها.. يراجع ثانية وثالثة.. يحذف.. ويعدل حتى يتأكد خلو رسالته من أي مفردة تدفعها للتذمر والشكوى.. متسائلاً: أيعقل أن تفعل بها السنين كل هذا.. أم أنه المرض؟. وجد نفسه يبكي مرددا: وماذا عني أنا بعد كل هذا العمر؟. هل أكون قد تغيرت إلى الأسوأ دون أن ألحظ...فالمجنون لا يعرف بأنه مجنون!. هز رأسه ساخراً من بين دموعه.. دافعاً بتلك المشاعر بعيداً. لكنها ترى نفسها وقد فقدت توازنها.. ولذلك ظل بعض الشك يراوده بأن من تمتلك هذا النزق ليست من عرفها.. متذكرا قراءته لخبر مقتلها على صفحات بعض الصحف.. وقد أورد اسمها ضمن أسماء ضحايا مذبحة "صبر".. وأفردت بعض الصحف تفاصيل بشعة.. أقترفها قناصة استهدفوا عشرات السيارات.. كانت تقل أسراً فارة من هول معارك عدن.. لم تكن قذائف R.B.G. ترحم صغيراً ولا عاجزاً. وهاهي تفاجئه ببعثها من جديد.. محاولة اقناعه بأنها لم تُقتل. بدوره يتوق للقياها ليدحض شكوك ما تفتأ تعكر عليه سعادته.. ويتشوق أن تخبره بعنوانها.. وإن كان على يقين بأنها تسكن مدينتها عدن.

يحدث نفسه كالممسوس.. وقد حمل الجهاز بين أحضانه بعصبية.. كما لو أنه في حالة عراك.. ضغط زر ارسال "نعم أحببتك.. ولذلك أنتقي من بين ما أتذكر أجمل اللحظات التي عشناها.. حتى تعرفي بأني لا زلت أعيش ذكراك.. لكنك أنت من تنتقين أسوأ حماقاتنا.. لا لشيء.. إلا لتدينينني.

لن أرد على جميع ما ذكرتِ في رسالتك الأخيرة.. فقط سأتحدث إليك حول تلك الليلة الماطرة.. حينوقعنا تحت تأثير المطر ورقصنا معاً. لا زالت روعة رقصتك تحت لمع البرق ماثلة في ذاكرتي.. وتلك مفاتنك تغتسل بقطرات منهمرة.. كنا نعيش نشوة فارقة.. حتى الأشجار المحيطةحركت فروعها العملاقة لتشاركنا رقصنا في تلك الليلة.

وأذكرك بلحظات اقترابت السماء وقد أستلقينا أرضاً.. هل تتذكرين بأنها لامست شفاهنا لتشهق سحبها من فرط غرامنا.. لحظتها شعرت باحتجاب كل الوجود إلا أنت.. لحظتها كانت من تتمدد إلى جواري مخلوق فريد بفتنته. لم نكن نحن.. ولم يعد يعنيني بعدها من كانوا يراقبوننا.. ومن قذفوا نوافذنا بالحجارة.

قد أكون أخطأت حين ودعتك بقبلة صامتة. ولا أعرف من منا كان الجاني حين تذكرين بأني بعد تلك الليلة اختفيت لشهور طويلة.. بل وتشيرين إلى أن سبب اختفائي عنك طلبك للزواج. وأذكرك أن كنت قد نسيتِ.. وإن كنت على يقين بأنك تتناسين.. وأنت أول من تعلم بأنهم أودعوني السجن في اليوم الثاني.. فكيف لسجين أن يزور جلاده؟.

هي تجربة مريرة أن يساق المرء ولا يعرف من كان وراء اقتياده.. ولا لماذا يسجن فيمبنى كان في مضىيراهمن بعيد.. متحاشياً كغيره النظر إليه لما يسمع بشاعة حكايات من باتوا في أقبيته..

وسأحكي لك بعض التفاصي.. صباح اليوم الثاني لمغادرتي لك ذهبت كالعادة إلى عملي التي تعرفينه كسائق في تلك المنظمة التي تعملين بها.. وما أن دخلت البوابة التي كنا نعمل فيها سوياً حتى فاجأني رجلان.. قال أحدهما: لا داعي لحضورك هنا!. وقفت مندهشاً.. يبدو أنهما كانا ينتظران وصولي.. وقد شيعني الآخر بابتسامة لا زالت إلى اليوم عالقة في رأسي.. ثم بادرني بصوت حازم:

- يمكنك مرافقتنا دون شوشرة.

- إلى أين؟!

- ستعرف لاحقاً!

سألتهما وقد أمسكا بذراعيَّ:

- من أنتما؟

- أمن!.

قالها كمن يصر على أسنانه. سرت مرغماً دون مقاومة.. أو حديث إضافي.. انتابني شعورٌ غريبٌ وقد أجلسونني بينهم على مقاعد سيارة كانت مركونة بالخارج.. سارت بنا من شارع إلى آخر.. أثناء ذلك كان شيء بداخلي بدأ يرتجف.. أو أني كنت أشعر بهزيمة غامضة.. دخلوا بي شارعاً موازياً لسور فرع الأمن الوطني.. ثم عبروا بوابته.. ساحة شاسعة أراها لأول مرة.. وقد تبعثرت أشجار فلفل عملاقة.. تحجب ما خلفها.. وسيارات تبدو مهملة منذ زمن على الأطراف.. مساحات موحشة تحجب أجزاءها أشجار تحركها الريح بشكل بطيء يساير هرمها.. هبطا بي لتعود أذرعهم تعانق ذراعي.. طريق فرش بالحصى الأسود.. ظهر مبنى حجري من خلف الأشجار من دورين.. صعدا بي سلماً حجرياً.. صالة خالية إلا من الخوف.. دخلوا بي غرفة واسعة يتوسطها مكتب فخيم.. دواليب زجاجية.. ومقاعد وثيرة.. طاولة اجتماعات طويلة.. صورة الزعيم بنياشينه وشنبه الكث الذي تعمد أن يطيله ليغطي شفته العليا.. وقد أُطر فخامته بإطار مذهب.. وأحتل ثلث الجدار.. انتبهت لخَبط مرافقيَّ الأرض بأقدامهما.. لا أعرف من أي باب دخل رجل خمسيني ببدلته العسكرية وشعر رأسه الكث.. يتحرك بتؤدة ككائن يحفظ بيئته عن ظهر قلب. رفع عينيه بتكاسل.. كعيني تمساح الأنهر الضحلة.

- أخيراً شرفت!

ظننته يحدث أحدهم. لكن مرافقيَّ لكزاني: أجبالفندميالوح!

لا أعرف إلا إنني نطقت مرتجفاً:

- حاضر.

فرد ساخراً:

- يحضر لك الخير.

صمت قليلا يتأملني ثم أشار عليهم: لا وقت لدي الآن.. أسحباه إلى "جيم" وبعدها سأبلغكم بما يجب عمله.

سحباني وأنا أفكر فيما يكون جيم.. هل مكان أو موظف.. هبطا بي من باب في طرف الصالة.. درجات أفضت إلى ممر طويل تحت المبنى بضوء باهت.. صُفّت أبواب حديدية على الجانبين.. عرجوا بي على غرفة جانبية غطت جدرانها برفوف عديدة.. يجلس أحدهم وحيدا هناك كفأر الجحور العميقة.. يتصرف ببرود.. أخذ يدون في سجل طويل.. طارحا عدة أسئلة: اسمك.. عنوانك ..عملك.. سنك.. أسماء الأقارب.. المعاريف.. الأصدقاء. وعناوينهم وأعمالهم وأعمارهم.. سبب قدومك. كما دون ما أحمله في جيوبي من نقود ومفاتيح وأوراق ومناديل ومقلمة أظافر.. وقلم.. حتى شال أهديتني اياه يوماً أخذوه. ثم أمرني في النهاية بخلع حزام بنطالي وجاكيتي وحذائي.. ليضعهن في كيس نايلون.. ووضعه على أحد الرفوف.. بعدها أدخلوني خلف أحد الأبواب الحديدية وحيداً. سألت مقتاديَّ: هل هذا جيم؟ فلم يردا عليَّ.. أغلقوا الشبك ومضوا. لكن سمعت صوتاً يتردد: نعم لقد أصبحت في جمهورية جيم!.

شهور عشتها دون أمل بالخروج .. عرفت لاحقا أن سجون ذلك المبنى اربعة مراتب.. "ألف" وهو غرف متصلة ببعضها تقع في أطراف ساحة المبنى.. مخصصة للموقوفين على ذمة اشتباه بسيط.. وسجن "باء".. ملحق خلف المبنى .. مخصص للمتهمين في قضايا بحاجة إلى تحقيقات مطولة.. يحجزون حتى يتم التحري والتحقيق حول التهم.. وبعدها إما يتم إطلاقهم أو نقلهم إلى "جيم".. وما أنا نزيله يقع تحت المبنى.. مقسم إلى عشرات الزنازين.. مخصص للمتهمين بمن يشتبه معارضتهم للنظام.. و "دال" لا يُعرف  له موقع.. وهو مخصص للمغضوب عليهم ومن أُدينوا.. ولا يخرج منه أحدإلا بأمر من الزعيم.. أو إلى المقبرة!.

استضافوني لأيام بأصناف متعددة التي اخجل من ذكرها.. بعدها استفاضوا في التحقيقات.. وتفننوا باستخدام أساليب عدة لانتزاع ما يمكن انتزاعه.. لأنتهي من كل جلسة بحفل يختاروا أدوات وأساليب تنفيذها.

طالبوني بتسليمهم سجلات أعضاء الجبهة الوطنية.. وما تركه والدي من وثائق.. أتهموني بعلاقتي بمنفذي بعض التفجيرات.. عن علاقتي بأشخاص لم أسمع بهم قط.. وأشخاص أسمع بهم أو أعرفهم معرفة سطحية. أدهش حين يقفوا بي خلف جدار زجاجي لأسمع وأرى من يحققون معهم ممن أعرفهم في الجهة الأخرى دون أن يروني.. ليستجوبوني بعدها عن صلاتي بهم.. وما قالوه حولي.. أستغرب من اتهامهم بعلاقاتي بجهات تخطط لقلب نظام الحكم.. ووصفهم ليكأخطر الناشطين من أعضاء الحزب الاشتراكي. لكن ما أثار رعبي اتهامهم لي بانضمامي لجماعة تدعو الشباب للتنصير.. وأنني تابع لطبيب يعمل في مستشفى جبلة المعمداني.

لم يتركوا تهمة إلا وقاسوها عليَّ.. مؤكدين في كل مرة أن لديهم معلومات تدينني.. كنت أجيبهم بصدق.. لكنهم دوماً كانوا يصروا على مراوغتي لهم.

بعد الإفراج عني عرفت بأن من قدموا ضمانات إطلاقي عناصر من الحزب الاشتراكي لا تربطني بهم صلات سابقة. زاروني بعد إطلاقي وطلبوا انضوائي إلى حزبهم.. مبررين بأن والدي يوم قُتل كان ينتمي إلى صفوفهم.. واظننيقد أخبرتك يومها بأني أصبحت ضمن خلاياهم السرية...

وأتذكر بأني بعد أيام لخروجيأحببت أن أفاجئك.. رحلت من مدينتي الصغيرة يحملني الشوق إليك.. ومع أول المساء كنت أقرع بابك.. أرتب ما سأقوله لك.. أن أشكوا ما قاسيته.. وأن نعيش ليال نعوض ما أنقط خلال أشهر سجني.. أن نبتكر أوضاع وأساليب جديدة للمتعة. لأصعق بشابٍ أنيق يجلس على أحد مقاعد صالة سكنك.. يتابع حضوري بملامح غامضة.. تملكنيغيظ مر.. كانت أتأمله ليبدو وجهه الأبيض ألوفاً.. وتلك الابتسامة الواثقة توحي بأنه رب البيت.. ظننتك تزوجتِ في غيابي.. لكنك قدمته بأنه أحد زملاء العمل. أحسست بأنه ليس عابراً.. وبأنني الفائض عن الحاجة.. فكرت بالانسحاب.. لكني ترددت.. ثم عزمت على البقاء ومواجهته حتى لو أدى الأمر إلى الضرب.. وأثناء ذلك لفتت نظري رقعة شطرنج كانت على طاولة أمامية..  تبدو من صفوف عسكرها بأن رصت لدور قادم.. أوحت لي الرقعة بفكرة دعوته لمنازلتي.. أن تكون النتيجة الحكم.. وأضمرت في نفسي إن هُزمت سأغادر.. وإلا فسأبقى ويكون ما يكون.. دعوته متصنعاً ابتسامة إلى جولة على مربعاتها.. واثقاً من قدرتيعلى هزيمته.. يبدو بأنه فهم من نظراتي ما كنت أخطط له.. جلسنا متقابلان وبدأت الجولة.. وقفت أنتِ بيننا وقد وضعت كفك على فمك تتابعين ما يجري.. ظهر في بداية نقلاته مرتبكاً.. ليلقى ثلاثة من جنوده واحداً بعد الآخر مصارعهم.. تشجعت ولم أفطن بأنه ينصب لي شراكاً.. مندفعاً إلى نقلات الواثق من ضعف منافسه.. بعد تلك النقلات.. بدأ يطيل التفكير.. ظننته عاجز عن مواصلة الدور.. لكنه فاجئني بعد عدة نقلات ناظراً إليَّ: كش ملك!.

لأدرك بأن مليكي قد صُريع.. رفعت ناظري.. لأرى وقد رسم ابتسامة ساخرة حول عينيه.

التفت إليك مستنجداً.. لأجدك تنظرين إلى بنظرات محايدة.. لم يكن ذلك هو وجهك ولا العيون عيونك في ذلك المساء.نهضت متصنعاً أخلاق الفرسان لأصافحه.. ثم  مددت كفي إليك مستأذناً بالانصراف.. فقط رددت عليَّ بصوت هادئ: إن كنت مُصراً على المغادرة فليكن!.

عرفت لحظتها إن قطع الشطرنج كُن على صواب.. وأن حضوري كان في غير وقته.. حتى أنك لم تسأليني أين كنت.. بدوري وجدت ذلك الشوق بداخلي قد ذوى.. خرجت أهيم في شوارع صنعاء ليلاً.. ثم ألعن نفسي إن بقيت فيها.. فدت من لحظتي إلى مدينتي مهزوماً.

 فهل تذكرين؟

تعرفين بأن هناك محطات في علاقتنا أفضى بعضها إلى بعض.. منها أحداث صغيرة لم نكن نلقي لها بالاً.. لكنني اليوم ندرك تأثيرها على مسارات علاقاتنا وحياتنا.. واليوم أيضاً أرى مقدار التغيرات التي أحدثتها تلك التفاصيل الصغيرة. ولذلك أتعجب لقولك بأني لم أتغير.. بينما أنا مصدوم من درجة تغيرك.. فأنت لم تعودي تبهين البندرية.. فجميع رسائلك تشير إلى تغير كبير قد حدث لك.. تغير يجعلني أقف حائراً وأنا أقرأ رسائلك.. متسائلاً: من أين لها بكل هذا التهكم والتذمر.. ومن سرق مني تلك الفتاة التي كانت يوماً!"

 

-26-

حكاية بعد أخرى تحدثه سقوة عن حياتهاحتى أمسي أمامها مستلباً.. يبيح لها تصنع به ما تريد.. ما زادت من حاجها إليه.. فكانت تدمع عيناها لأبسط خطأ.. أو كلمه لا يقصدها.. ولم يعد يراها كما هي في أو لياليه معها..يشعر بمسؤوليه تجاهها بعد معرفته بذلك الورم.. الذي يحاول إبعادها عن التفكير فيه.. وأمسى يستجيب لرغبتها بالحديث حول حياته. وتزيد غبطته حين يشعر بسعادتها لذلك التحول.. وهو يحكي لها ما تظنه من أسراره.. وبعد مغادرتها يبعث إلها برسالة: أتعلمين أن الأيام القليلة التي قضيتِها معي منذ تعارفنا قد جعلتني أفكر في حياتي.. وقد حكيتِ معاناة عمرك.. امرأة تعيش الحياة رغم من يترصدونها بالموت.. امرأة مختلفة.. فإرادتك قوية بحبك للحياة والناس.. حين أفكر فيكاقارن مشاكلي بما تواجهين لأقع في عتاب مع نفسي.. وأن ظني بقوتي التي لا تساوي أمام إرادتك شيئاً.. فهأنذا أنزوي متوارياً عن الناس.. بينما أنت تخالطين الناس وتواجهين الحياة.. متناسية أخوتكالذين يجدون في أثرك.. تتوقعين طعنة "جنبية" أو رصاصة قد تنطلق ترضي كبرياءهم. وأسألك أبهذه الجرأة تصالحتِ مع الخوف.. لقد رأيت ذاتي ضئيلاً أمام حبك للحياة.. واكتشفت طم يسيرني الوهم.. رهين مبررات ضعفي.

تأملي لحيتك يدفعني ليلة بعد أخرى لأراجع ما أعيشه من ضعف.. أنت كائن وفي وصادق.. تدعوني صلابتك لأن أفكر في تغيير حياتي.. أن أعيش ما تبقي لي من أيام.. لم أكن أعرف أن خلف ذلك الوجه الرقيق فتاة بتلك القوة.. وتلك العيون الساحرة بصفائها ارادة صلبة.. وذلك الفم قلبٌ ينبض بالمحبة والصادق.. والقد الرشيق عذوبة ملاك.. أحبك حب الحبيب والأب والأخ  فأنت حكايتي الجميلة.

ظل يكتب إليها طيلة تلك الليلة.. لإيمانه بأن للكلمات سحر ستشفيها من ذلك الورم. أو أنه بكتابته إليها يحاور نفسه ليتجاوز ما يكبله.. يريد أن يقتدي بها ليواجه الحياة.

كانت لحظتها منزوية في غرفتها.. تتابع ما يصلها دامعة.. تقبل هاتفها بين فقرة وأخرى.. لم ترد عليه متمنية استمرار تدفق كلماته. تشعر أن مع كل كلمه تقرأها تتخلق بداخلها كينونة جديدة. لتبتسم ثم تبكي لتغيرات تصنعها كلماته في روحها.

كانت تتمنى لو تمتلك الجرأة أن تقف على الرصيف لتحكي لكل الناس حكاياتها.. أن تصرخ من تكون وكيف تمردت لتعيش كما أرادت.. وتتعرف أكثر على روعة الحياة.. أن تدعو كل فرد لأن يتحدى ويعيش كما يحب.

ثم أقفلت هاتفها.. تفكر في طريقة لإقناع شنوق أن يخرج من وكره.. يبحث عن عمل ويواجه الحياة.

حين تسللت مسكنه فاجأته بجلبها عدد من لمبات الإضاءة.. ركبت إحداهن ليتدفق الضوء ويملأ الحجرة الوسطى.. بدت له غريبة.. موقد الجمر.. الأبواب زوايا المسكن.. كل شيء غريب.. سارع باتجاه المفتاح:

- هيا أطفئيها.

لكنها وقفت تصده.. أدرك أن في الأمر شيئاً.. سألها: ما الذي تفعلينه؟!

- أريدك أن تعيش.

- ومن قال لك بأني ميت!

- أن تعيش في النور.. أن تخرج لتبحث عن عمل وتكسر خوفك.

ظلا لوقت في جدل.. لم تصل معه إلى حل.. كان يظهر تجلده.. مدافعاً عن أسلوب حياته.. بينما هي أدركت أن تلك جولة وستعاود إقناعه لتحطيم رهابة.. وضعت بقية اللمبات أرضاً وانصرفت غاضبة.  

لليال ظل يسترد كلماتها.. يتأمل كيف هي تجابه الحياة ومخاطرها.. فتاة شريدة في مجتمع متربص لكل ما هو أنثوي.. يشعر بنوع من الرضا كلما أستعاد حكايتها ليراها ملهمة استطاعت أن تتحايل على قسوة المجتمع.. ونجحت في التخفي عن عيون الموت.. ترافقها تلك الخشية من كل شخص يأتيها لشراء مشاقرها. تضاعف إحساسه  بمسئوليته تجاهها.. لم يشعر بمثلها أمام زوجته. أو البندرية. فكر أن لا يخذلها.. أن يتجاوز خوفه.. ويخرج من يومه للبحث عن عمل.

 

-27-

يجول من شارع إلى آخرليكتشف أحياء طرفية تنموا بعشوائية.. يندهش لاتساعها وهو الذي كان يظن بأنه يعرف صنعاء جيداً.. ليكتشف حارات السنينة  التي كانت تسكنها سقوة.. ومذبح حتى شملان غرباً.. وهكذا هي الأسواق تزدحم بباعة العربات المتحركة وأصحاب بسطات الأرصفة.. جال جنوبا.. وشرقا بحث عن عمل.. حدث نفسه وهو يغوص في تلك الأحياء المتعرجة: حتماً سأجد عملاً.

وهكذا كل صباح يخرج وقد وضع لنفسه برنامج يزور أحياء جديدة في الأطراف: الخفجي.. السواد. أحياء بعيدة تنتشر في الأطراف.. ودوما يجد الجواب واحد: من في سنك لا يصلح لأي عمل!. ليعود منهكاًيغط في نومٍ عميقٍ استعداداً لصباحٍ قادمٍ.

لليال لم يفتح جهازه.. يريد أن يفاجئها وقد وجد عملاً يناسب سنه.. لكنه عاد يتشوق لمعرفة رد البندرية.. ظاناً بأن رسالته الأخيرة قد جعلتها تغير من أسلوبها.. أن يرى ردة فعلها حول ما ذكر لها من سجنه.. ورغم إرهاقه فتح جهازه ليجد رسالتها تنتظره "نعم عرفت عن سجنك.. لكن بعد أيام من غيابك. لكن ذكركلذلك الشاب الذي صادف وجوده زيارتك لي.. موحياً بأنك ضبطتني متلبسة.. وأنني غير مشتاقة إليك. ولتعلم بأن حيائيَّ قد منعني اظهار لهفتي وشوقي إليك أمام حضور من ذكرت.. وحين غادرتني حسبتها منك حركة ذكية متوقعة أن تمكث في زاوية معتمة ترقب خروجه.. لتعود إليَّ. أمسيت أنتظرك بين دموعي ورجائيطوال تلك الليلة.لك أن تعتب.. لكن لو سألتني حينها البقاء لرجوتك أن تغادر.. فذلك الشاب لي معه حكاية شائكة ومتشعبةقد احدثك بها لاحقاً.

تدهشني حين تضع نفسك موضع الضحية.. موحياً بأني خلف حبسك.. صحيح أنك لم تصرح لكني قرأت سطورك.. فمهما غالطت نفسك فأنت تعرف بأن مقاطعتك لي كانت بسبب عرضي الزواج. وأعترف بغلطتي إذ كيف يتزوج قبيلي بعدنية متبرجة.. ظننت ليلة طرحي للفكرة بأن الحب قد طهرك من تلك العقد. ودعني أسألك: أين تأثير تلك الكتب التي تدعي بأنك قد قرأتها.. وأين الأفكار الاشتراكية التي كنت بوق لها.. وكما قلت لك وأكرر الحب لديك مجرد ركض على الفراش.. وذلك الركض تمارسه مع أي امرأة.. وقد تضيفه مفاخراً إلى رصيد فحولتك.. ولا تعي بأن الحب سمو وأخلاق.

هذا أنت اليوم في رسائلك كما عرفتك قبل ثلاثين سنة لم تتغير.. وها نحن نختلف من جديد حول نفس الأفكار التي كنا نناقشها يوماً.. فأي تغير تدعيه؟.

واليوم أنت ذلك الجامد الذي عرفته.. كنت أظن باني سأجدك وقد اختلفتبعد هذه السنين.. لكن يتضح أن ما تدعيه من تغيّر مجرد قشور تخفي تحتها انسناً شهواني مشوهاً. مؤسف أن غرائزك هي من تتحكم في علاقاتك بالآخر.

 ها أنا أكتشف خديعتي بعد أن ظننت بأنيامسكتبحبل نجاة حين وجدتك!. وكم أنا ناقمة على مشاعري تلك.. وأنت تتعمد أن تضعني في موقع الشك.. فكلما حاولت ايقاف تواصلي بك أجدني أغرق أكثر.. أرجوك كف عن اتهامي.. يكفي ما أعيشه من الم!"

ورغم حاجته للنوم أخذ يرقن رده.. بادئا بعتابه لها "لماذا تلصقين بي كل ماهو سيء.. ونسيتِ بأننا شركاء فيما عشناه.. فأنا لا أكتب إلا ردود توضيحية لما تتهميني به.. ألا يجوز أن أدافع عن نفسي.. هل تفضلين عدم الرد على رسائلك؟. هل تعرفين بأني أقف محتاراً بعد قراءة كل رسالة منك!. وذلك السؤال يتكرر: هل هذه هي الفتاة التي أحببتها.. تلك الفراشة التي كانت تنثر البهجة كعطرٍ شذي؟. ثم أبحث عن عذر لتغيرك.. وأظن أنه العمر الذي يحولنا إلى نثارة بائسة.. ويجعلنا نرى كل جميل قبيح.. أنا على يقين أن قلبك لا يزال فتي.. وأنك ستزيلين غبار المرض كالعنقاء.

أرجوك دعينا نتفق أن نتقبل بعضنا كما نحن.. أن نضع جانباً كل ذكرى مؤلمة.. ونتحدث عما يفرح.. ننتقي أجمل ذكرياتنا معاً. بادئاً بأول يوم التقيت فيه بك. وسأبدأ أنا لأبرهن لك بأني لم أنس تفاصيلنا البكر.. تلك اللحظات التي مثلت لي السعادة الخالصة.. وما زالت أجمل ذكرياتي.. لأنك أنت من كنت أميرتها.. التي استقرت في أعماقي.. أراك الآن وقد قفزت إلى المقعد المجاور لي قبل تحركنا على  سيارة "لاند روفر".. يرافقنك خمس نساء.. ثلاث طبيبات اسكندنافيات يعملن في رعاية الأمومة والطفولة. والمترجمة أنت.. وأخرى محلية مساعدة لهن تقارب عمرك لم أعد أذكر اسمها. كانت مهمتي الذهاب بكن إلى القرى ضمن برنامج توعية المرأة الريفية على رعاية الأطفال.. والاعتناء بالحوامل والمرضعات. ما إن نخرج من شوارع المدينة حتى كان صوتك يترنم بأحد أغانيباسودان " دق القاع دقه لا تمشِ دلا.. واعط القلب حقه من دنيا السلى.. دق القاع دقه ما دامك حلا...". لتثيري جو من المرح والألفة.. بعدها تبرعمين نكاتك الساخرة.. لأجد نفسي من أول يوم وكأني أعرفك منذ زمن.. تضحكين طويلاً.. ويضحك من حولك ذهاباً وإيابا. وأعترف لك.. بأنك أبهرتني بشخصيتك المرحة.. أناقتك.. وثقافتك.. ففي كل صباح كنت تظهرين بألوان ربيعية لافتة.. وتلك العينين الصغيرتين الباسمتين على الدوام.. وجهك الوضاء ملامحه بابتسامة دائمة.. لون بشرتك الكاكوي.. شفتيك الصغيرتين. تسيرين برشاقة راقصة. كان موعد الخروج بكن بالنسبة لي موعد مبهج.. وكانت الأوقات التي أقضيها ذهابا وإياباً معكن أوقات سعادة.

أتذكر أول خلوة حميمية بيننا.. كان ذلك بعد شهور من لقاءات تخللتها القبل الدافئة.. كنا في سكنك.. في مبنى حجري أسود تقدم مالكته "المقهوية" المأكولات الشعبية.. وقد خصصت الطوابق العلوية نزلاُ للإيجار. ولذلك ظل سكناً لموظفي المنظمة.. للحظات صوبت عينيك في عيني.. أحسست بشلال ضوء يتخللني.. كان ذلك قبيل مغيب شمس شتوية وقد تسللت بقايا خيوطها الملونة من زجاج القمريات الملونة.. ما صبغ لحظتنا بسحر لا يقاوم. التصقت بعيني.. اختفت خيوط الضوء وغمرتنا ظلمة المساء.. فاجأتني  بسقوط قطع ملابسك قطعة بعد أخرى.. لتهمسي: هيا أخلع!.

مررت بأصابعي على صدرك لأجده عارٍ.. تشجعت وخلعت ملابسي.. همستِ: هيا راقصني.

لم أفهم كيف لعاريين أن يرقصا. أمسكتِ بكفيَّ ودرتِ بي على إيقاع أغنية "عطروش". وبقايا ضوء يدور حولنا.. ودار المبنى.. الشوارع المحيطة.. المدينة.. كل شيء كان يدور وعيناك الباسمتان..  دُرت معك وأنا أقلدك.. وأنت تدورين وتدورين.. دارت بي كلمات عطروش حتى فقدت بوصلتي وسط ظلمة تمازجت بنا. تلك الليلة كانت فاتحة حياة جديدة لي.. علمتني فيها أن العري حرية.. وأن الظلمة سلام. ونصحتني هامسة: حين تسكن لنفسك لا تدع ما يشاركك حريتك لا ضوء ولا ملابس.. عش بحرية.. ومن ليلتها تحضرني كل همسات ذلك المساء فلا أشعل ضوءً ولا ألبس خرقة".

ابتسم معجباً بما رقن.. متمتماً: "عداك العيب". ضاغطاً زر الإرسال.. يتخيل السعادة التي ستبث في روحها تلك الذكريات.

وضع جهازه جانباً ونهض مغمض العينين.. مد ذراعيهليحتضتها.. دار يراقصها.. أحس بأنفاسها تلفح صدره.. هامسها ليزيد ما تبقى من ليلته وجداً.

 

-28-

لم يتوقع سرعة ردها.. فما أن أنتهى من تخيل مراقصته لها.. حتى كان ردها قد وصل.. عرف بأنهلن يخرج صباحا للبحث عن عمل.. أخذ يقرأ: " حتى حين أردت أن تبدو حميمياً لم تستطيع.. ألا ترى إن ما ذكرته لم يكن أول لقاء.. وتتفاخر بأنك تحفظه كأروع ذكرى.. منتقياً ما يحلو لك.. واذكرك به كان بالتحديد في الأول من يناير من عام 1984. في مكتب منظمة "أكسفام" البريطانية التي كنتَ تعمل بها..  وما ذكرته أنت هو أول يوم عمل لك معنا كسائق في منظمة "بارنر" السويدية. تنتقي ما أدعيته كأول لقاء حتى تذكر بأني قفزت لأكون إلى جوارك.. وكأني فتاة مبتذلة.. هل تريد أن تغيظني؟. ولا تعرف بأنك كنت بالنسبة لي شاباً خاماً.. فكثيراً ما سمعت عن الريف وحياة سكانه.. وحين عرفت بأنك ريفي أردت أن أكتشف ذلك العالم من خلالك كنت تبدو تلقائياً ومدهشاً.. كنت أريد أن اكتشف ذلك الشاب.. وقد تغلبت على رهاب المجهول بداخلي.

وأعود لأذكرك بأول لقاء.. وتعلم أن الذي ينسى غير محب.

رأيتك لأول مرة حين زرنا مقركم .. وقد حضرنا بطلب إعارتنا سائقٍ ريثما يعود سائقنا المتغيب منذ أسابيع.. دعاكمديرك البريطاني ليقدمك لنا.. لحظتها لفتَّ انتباهي بطولك وغرائبية وجهك ومظهرك الفوضوي.. بدوت كشاب عشوائي.. لكن المدير أثنى على إخلاصك في عملك.. حتى أنني مددت يدي لمصافحتك من باب الفضول.. محاولة التعرف على انسان بدالي من أول وهلة غريب. انتقلت لتبدأ عملك من اليوم الثاني.. وأصبحت سائقاً لنا. بعد أيام تمنيت ألا يظهر سائقنا المتغيب.. وبالفعل لم يعْد.. حيث علمنا بعد أيام بأنه سافر للعمل في السعودية.. تحولت بمذكرة من منظمتنا لمنظمتكم  من سائق مؤقت إلى دائم.

كانت ثرثرتك وتلقائيتك تروقني.. وجدت نفسي مع كل صباح أستعد للقياك بفرح فطري.. حريصة أن أكون على المقعد المجاور لك قبل أن ننطلق.. أتعمد التساهل معك.. أن أتواضع.. أناقشك.. وأسمعك. في بادئ الأمر ظننتك لا تفهم في التأنق.. فلم أسمع منك أي تعليق على هندامي.. لأعرف بأن تجاهلك واظهار تلقائيتك كان خبثاً ريفياً.. لتقلب مفهومي عن براءة أبناء الريف.. وأعرف أنهم ليسوا كما كنت أظنهم كائنات ساذجة.. وتلك الأساليب التي كنت تتبعها لم تكن إلا للفت انتباهي.. وما أكد لي ذلك حين أخذت تتغزل بجمال عيني ولم أسمع من يتغزل عن جمالهما يوما.. فهما تشبهان عينيك بصغرهما.. وعدم جمالها.. وإلى نقاء سمرتي.. وقد أخذت تصفني بحبة البن المحمص.. وتارة بالكاكوية.. في الوقت الذي كنت أنتظر أن تتغزل بأناقتي ورشاقتي وصوتي الذي عادة ما أسمع ثناء من حولي عليه بعد كل أغنية أغنيها.. كانت كلماتك عن جمال عيني وسمرتي قد استقرت في وجداني.. وغشتني سعادة غامرة.. فكنت أقف أمام المرآة لساعات.. أتأمل تلك العينين الخرزيتين.. أتعرى علي أكتشف حبة البن التي عنيتها. حتى أني أحببت تلك السمرة التي كنت أظنها معيبة.. وأمسيت أحب عيني وأعتني بهما.

 يا لك من ثعلب أسعدني بمكره.

هأنا أُذكِرك بأول لقاء.. فهل زال يقينك بأني مع من قتلوا في مجزرة "صبر"؟. أدعوك للتخلص من ألاعيبك وخبثك الريفي.. فأنا أعرف بأنك لم تحببني  كما أحببتك.. ولو كنت قد أحببتني لما خنتني مع تلك الفتاة التي تدعي نسيان اسمها.. وتصفها بالموظفة المحلية.. التي كانت قد وضعت عينيها عليك تتابع حركاتك وكلماتك.. كانت هي تشبهك.. لترى نفسها الأحق بك.. متباهية ببياض بشرتها.. وسعة عينيها.. وتلك الأساليب التي اكتسبتها من تجاربها الكثيرة مع الرجال التي كانت تحكي لي عنها.. فتاة في مثل عمرها لها تجارب امرأة في الأربعين.. تقبل على متع جسدها بنهم غريب".

كرر قراءة ردها.. مستنتجاً بأن نزقها واحتدامها أضحى جزءً من طبعها.. وعليه رأى قبولها كما هي.. فمن الصعب أن تظل فتاته التي كانت بعد هذا العمر.. وهو أيضاً لم يعد هو.. ولا يستطيع استعادة نفسه.. بل أنه يرى من المستحيل أن تبقى كما كانت.. وعليه أخذ بإقناع نفسه بتقبلها.

لليال ترك جهازه.. مستمراً في جولاته النهارية.. ليتعرف على المزيد من أطراف صنعاء. يفكر بالبندرية طوال الوقت.. بعد أيام عاديصيغ رده  بتمهل وحرص.. لم يثرثر كما كان في الرسائل الماضية.. ولم يرد على نزق رسالتها.. أكمل ما يود قوله ضاغطاً زر الإرسال "تجاوزي كل ذكرى تفسد عليك سعادة تنشدينها.. وإن كنت ترين الماضي تعيس فدعك منه.. وأدعوك  لأن تحدثيني عما تعيشينه الآن.. عن حياتك.. وماذا تصنعين.. هل تزوجتِ.. هل لديك أولاد.. وأين تسكنين.. هل لا زلت على صلة بتلك المنظمة السويدية قائمة؟.

أرجو أن تطمئنيني عنك. فأنا في شوق للقياك.. ولى الجلوس إليك.. أن أستمع إلى صوتك.. فهلا تكرمت بذكر عنوانك ورقم هاتفك.. لأتواصل بك.. وأعتذر عن كل كلمة أو جملة كتبتها وأغاضتك."

"علام تعتذر؟. هل على اتهاماتك لي.. أم على ما اقترفته بحقي.. أم على هروبك من واقع عشناه.. لست مع أن ننتقي من ذكرياتنا ما كان جميلاً.. وتلك التي تدمى القلب أليست من خلقنا.. هل عدم ذكرها يعني أننا لم نعيشها. 

أعيش فراغاً مراً.. وأملك كل وقتي.. ولذلك تجدني أقلب أيامي وذكرياتي لأملأ فراغي.. أجد بعضها سعيدة.. وأخرى مؤلمة تبرز فجأة دون أن أبحث عنها.. تطعن قلبي بشدة. ومنها ذلك اليوم الذي احتضنتك فيه أهامسك بأني حامل.. كان ذلك بعد عودتنا من زيارتنا لعدن بداية 86.. حملتني سعادة وحبور وأنا أهامسك..ويالفرحتي بك حين نظرت في عينيَّ قبلتني.. ثم احتضنتني  تدور بي بفرح غامر.. تحدثني عن قادم أيامنا وقد أصبحنا ثلاثة حينها.. لحظاتها بذرت في نفسي ثقة بغد أروع.. ورأيت الدنيا بألوان الربيع. في اليوم الثاني جئت بملامح كئيبة أحالتك إلى كائن قبيح.. تحدثني حول ضرورة أنزال ما في بطني.. تمالكت نفسي.. بعد أن بدأ صوتك يرتفع.. ليحتدم النقاش.. وكعادتك حين تصل إلى طريق مسدود.. تحطم كلما تصادفه في طريقك. غادرتني بعدها دون وداع.. دون أن تعتذر لي. ظننت غيابك لن يطول.. وأنك ستعود مساءاً لتصالحني كما تفعل بعد كل خلاف.. لكن ذلك المساء أنقضى.. لأغرق بدموعي وحيدة.. مر اليوم الثاني.. وتوالت الأسابيع والشهور أنزوت بعد أن بدأت بطني بالظهور..وبخوف قاتل اتساءل: كيف أبرر لزميلات وزملاء العمل حين يلاحظون بطني.. أبحث عنك أستنجد بك.. فلا سبيل إليك.. مرت شهور الحمل بطيئة.. كأنها سنوات.. ووضعت ما في بطني مع أواخر 86. ومع بداية 87 سمعت عن ظهورك من جديد.. انتظرت زيارتك بفارغ الشوق.. مدى سعادتك وقد فاجأتك بوصولي إليك.. لتحمل ثمرة حبنا بين ذراعيك.. ووجدت نفسي أشد الرحال.. ليقودني الشوق إليك ذات صباح.. من صنعاء باتجاه مدينتك الصغيرة.. وصلتها مع الظهيرة.. وسريعاً ما استدليت على سكنك.. لأقف طارقة بابك بقلب طافح بالبشر.. لحظة أطل وجهك أرتبك قلبي لنظراتك الجامدة.. كانت عظامه بارزة وتلك البشرة بحرافيش غريبة.. وقد تدلى صدغك أو أنك نسيت أن تغلقه.. تتلفت يميناً وشمالاً بنظرات مذعورة.. انتظرت صوتك.. أن تمد يدك لتحتضن هديتي.. أن تدخلني بابك.. أن تسألني عن حاجتي إلى رشفة ماء أو لقمة طعام.. تضمني لتزيل خوف سنة ونصف من غيابك.. لكن نظراتك ظلت تائهة.. لتغلق الباب فجأة.. وخرجت تسير كالهارب.. وأنا أتبعك في أزقة المدينة المتربة. لم تراع إرهاقي مما أحمله بين ذراعي.. استمررت تسير وأنا أهرول خلفك حتى خرجت أطراف الأحياء الجنوبية.. هناك حيث أخذت تصعد مرتفعات قاحلة.. وعلى صخرة كبيرة استويت صامتاً.. صعدت إلى جوارك وكلي أمل أن تلتفت إلي.. أن أسمع صوتك.. نقلت ناظري لأرى مدينة شبيهة بمقبرة كبيرة.. أفقها يتلون برائحة جافة.. شجيرات وأعشاب متفرقة تحركها الرياح بين فينة وأخرى.. طال صمتك في تلك القفار.. لم أجد ما أفعله غير الجلوس صامتة.. أخبئ ما بين ذراعي من لفحات الريح.. أتذكر الآن بأنك حتى تلك اللحظة لم تلمسني.. أو تنظر في عيني.. لكن بكاء من بين ذراعي أرتفع.. حاولت إسكات ذلك الصريخ بضمه إلى صدري وإرضاعه.. كم كنت بحاجة إلى أن تلامس تلك الأصابع الصغيرة التي كانت تجدف في الفراغ حتى يهدأ البكاء.. أن تلف ذراعك حولي بعد أن بدأ البرد يتسلل فيَّ.. لكنك ظللت على صمتك تنظر للبعيد.. وأخيرا فاجأني صوتك  بارداً تسألني: ماذا أتى بِك؟.

ألتفت.. لأجد وجهاً لا يشبه وجهك الذي عرفته.. شعرت بدوار مفاجئ.. كدت أسقط. تمالكت نفسي.. وداريت دموعي وقد خجلت أن انكساري وضعفي.. تأملت الأفق البعيد.. كان قرص الشمس يميل للزوال.. تذكرت بأن لا سقف سيأويني إن حل المساء في مدينك. المدينة التي شهدت لقائنا الأول.. وفيها تلاقت عيوننا.. وشهقات أشواقنا. المدينة التي اصطخبت أياما بأحاديثنا وضحكاتنا وأمالنا.. تلك التي ظننتها يوماً ستضمنا إلى الأبد. أعدت ثديي إلى جرابه.. لففت ما بين يدي.. نفضت تذللي.. ثم وقفت دون أن التفت إليك.. هبطت من تلك الصخرة.. خطوت مبتعدة في منحدرات حجرية باتجاه المدينة.. ظللت أسير دون أن ألتفت.. لم أعد أعبأ بك.. فقط أردت أن أفر من صلفك.. وسيان أن تلحق بي أو تظل على صخرتك.. فقد صممت على المضي بعيداً.. أن لا أسمع صوتك بعد اللحظة.. أو أرى وجهك.. كان بكاء من أحمله يزيدني تصميماً على الهروب بعيداً.. بعيداً أسابق الشمس قبل أن تغرب.. اقتربت من أطراف المدينة.. التفت لأرى الفراغ.. فقط  تلك الصخرة تجثم وحيدة على المنحدرات.. لا أحد غير رياح باردة.. تساءلت: هل كنت واهمة بوجودك؟. صدقني لا زلت غير متأكدة.

سيارة عابرة.. لم أفكر إن كانت أجرة.. أو من يكون سائقها.. سيئاً أم جيداً.. فقط فكرت أن يبتعد بي بعيداً عن مكان أنت فيه.. ومن موقف العربات المتجهة إلى العاصمة انطلقت بنا "البيجوت".. ومن يومها لم أرَك. فهل تتذكر ذلك اللقاء الأخير.. أم أني واهمة؟. أتمنى أن تنكر ذلك.. لتأكد لي بأنه لم يحصل أن التقينا.. وأنك لا تحمل تلك القسوة!. حتى يندمل ذلك الجرح الذي أدمى قلبي ويدميه حتى اللحظة.

وكما هي دعوتك.. لندع الماضي وجراحه. لكن عليك أن تصدقني.. بأن الماضي يحاصر وحدتي.. لتفرض بعض الذكرى نفسها.. وأجدني أبحث فيما تكتبه عن منقذ.. إلا أن أملي يظل متعلقاً برؤيتك. أن أستعيد ملامح وجهك بعد أن أفقدتني إيه السنين.. وما أتذكره أنه شبيه بوجه تشكل من عجين الصلصال.. نبرة صوتك هي الأخرى أريد أن استردها. مللت حروف رسائلك الميته.

سألتني عن أيامي.. وكيف أعيش.. قبل أيام استطعت تحريك ساقي.. بعد خضوعي لبرنامج علاج طبيعي.. وصباح الأمس استطعت الخروج من منزلي لأول مرة.. سرت أتكئ على مشاية معدنية.. قطعت مسافة قصيرة على الرصيف الأمامي.. لكن ساقي اليمنى خذلتني لأسقط .. ولذلك أعادوني محمولة. لكني سعيدة بتلك الخطوات القليلة.. وأجدني من اليوم أثابر على تلك التمارين.. لن أستسلم. فلا يوجد ما أقوم به غير أن أستمر في تماريني.. وكما قلتَ أنت.. عليك بقهر المرض والنهوض كالعنقاء.

سأفعل حتى إذا ما جئت لزيارتي أستطيع مراقصتك.

الفراغ والوحدة يقودانني في أكثر الليال إلى الجنون.. لكن توالي رسائلك تحد من سطوته.. فكلماتك تشاركني وحدتي.. أحدث نفسي: لو كان إلى جواري.. لكان حديثة يخفف غربتي.

لكن وجود رسائلك أفضل من الَّا شيء.. تمنحني بعض السلوى.. وإن استفزتني مفردات بعينها.. تلك التي تجيد بثها بين أسطرك.. وتتعمد مواراتها.. لكنني أكتشفها.. وأيضاً كذباتك.. فها أنت تقول: يجب أن تعلمي أن قلبي كاد يختنق فرحاً حين اكتشفتك على قيد الحياة!. متناسياً أنك في رسالة سابقة استعرضت أسماء عدد من نسائك.. وأجزم بأنك كنت قد كررت على كل منهن نفس جمل الغزل التي كررتها وتكررها اليوم عليَّ.

ثلاثون سنة وأنا أبحث عن طريق تصلني إليك.. وقد ظننت بأني حين أجدك سأجد منقذي ومخلصي من أحزاني وما أعانيه في حياتي.. ويوم وجدتك ظننت بأن نافذة السعادة قد شُرعت لي. ولم أتوقع تلك الصدمة القاسية.. أن أجدك تنكرني.. بل وقد ذهبت أبعد من ذلك لتأكد موتي. فما أقسى أن يقتل الحبيب حبيبه في غيابه.. أفكر محتارة: هل كنت جاداً.. أم أنك ابتكرت موتي؟. إن كنت ابتكرته.. فأنت بالتأكيد احتفلت بابتكارك.. ظاناً بأنك تخلصت مني.. ولم تتخيل بأنني سأصل إليك يوماً".

 

-29-

واصلشنوقبحثه يسابق الزمن يريد مفاجئةسقوة.. وقد بدأ يسعى هنا وهنا للحصول على عمل.. يشغل أوقاته.

أستمر يتردد على أسواق القات.. هذه المرة لم يكن للشراء.. بل بحثاً عن عمل. ليخرج من تلك الزيارات بوعود.

زار معارض لبيع السيارات المستخدمة.. أسواق وبرادات تخزين الفواكه والخضار.. ودوماً يجد نفس الجواب.. في النهاية وجد صانع العرقي يعرض عليه أن يعمل معه.. وجدها مجازفة أن يتحول إلى موزع خمور.. أبو فاطمة.. ذلك الذي يتسلل إليه بين ليلة وأخرى مرسلاً من صاحبه ليشتري قارورة أو أكثر لمسامرتهما. قال له  الأمر بسيط هناك من يأتون إلي.. وآخرون يفضلون إيصال حاجتهم إليهم.. وهم أكثر كرماً.. ستعمل أنت على إيصال الطلبات تلك. طلب منه وقتاً ليشاور نفسه.

في الوقت الذي قرر فيه التوقف عن البحث.. لكنه أكشف أن التجوال بحد ذاته متعة.. أن يسير من حي إلى آخر.. يتحدث إلى من يجدهم.. يسمعهم يتذمرون من ركود الأسواق.. وعبث المليشيات وبطشهم.. وهكذا ما إن تشرق الشمس حتى يخرج يسير من شارع إلى آخر.. رغم قناعته بأنه لن يجد عملاً آخر غير ماعرضه عليه أبو فاطمة.. وهكذا عاد ليتعرف على طريقة العمل.

لم يكن العمل معقداً.. عدا أن عليه أن يقود دراجة نارية.. ليحمل الطلب.. وينطلق حسب عنوان يزوده به أبو فاطمة.. الذي جعل أماكن وجود الشراب في أكثر من حي.. فأسبوع يحمل المطلوب من إحدى دور صنعاء القدمية.. في حي "الطبري".. وأسبوع آخر من محل لتوزيع المياه في حي "فروة" وثالث من بقالة في "الصافية". عرف تلك المواقع التي كان أبو فاطمة يتنقل ببضاعته فيها.. حتى يكون بعيدا عن عيون المليشيات الذين ضيقوا الخناق على مروجي الكحوليات. يقضي شنوق معظم وقته على دراجته النارية في إيصال تلك الطلبات إلى عناوين متفرقة. 

 وهكذا أصبح لشنوق عملاً ينشغل به. وكان لشنوق عائداً من تلك الطلبات التي يوصلها. ولم يكن يهمه العائد.. ما كان يهمه أن ينجو من الوقوع بين يدي المليشيات التي ينتشر مسلحيهم في كل مكان.. يفتشون أياً كان لأبسط التباس.. ولذلك جعل على دراجته أكثر من "خًرج" يخفي بضاعته تحت أسفلها.. وقد تعمد أن لا يتجاوز في النقلة الواحدة قارورتين.. كان يريد أن يثبت لنفسه بأنه قادر على العيش بنمط مختلف.

لكنه واجه توبيخاً من صاحبه طنهاس.. يسأله معاتباً:

- هل قصرت معك في شيء حتى تذهب للبحث عن عمل.. وأي عمل بائع خمور؟!.

-  وما الفرق وأنا من يذهب ليجلب الشراب في كل مرة.

- فرق كبير!

- إلى متى أظل عالة.. أنت تقدم لي كل شيء منذ أسكنتني الدار.. أريد أن أخالط الناس.. وأن أسمعهم ويسمعونني!.

 - لماذا إذاً لم تسألني.. معاريفي كُثر.. وأستطيع توفير عمل مناسب لك بعيدا عن أقذر عمل.. ولو تحسن الوضع.. قد ألحقك بوظيفة في ديوان عام الوزارة.

- الأوقاف؟!

- نعم الأوقاف.. عليك بترك هذا العمل.

 

-30-

بعد أن غادره صاحبه تلك الليلة.. كانت السكرة قد طارت.. وشعور بضيق وصداع فتت كيانه.. اشتاق لمعرفة أخبار سقوة.. صحتها.. وجد منها أكثر من رسالة تعاتبه إغلاق بابه ومن أنها حضرت أكثر من مرة. كتب إليها رسالة لرفع من معنوياتها.. ولم يذكر  لها بأنه قد أخذ بنصيحتها.. ثم فضل عدم إرسال ما كتب.. ويريد أن يفاجئها حين يلتقيا.. كان يشعر بالحنق من نفسه ومن كل شيء.. ظل لبعض الوقت حبيس ضنكه.. ثم فكر أن يهرب من حاضره إلى ذكرياته مع البندرية.. أعاد قراءة رسالتها.. ثم أخذ يرقن الرد إليها:" لم يكن في حسباني أن أزور عدن لولا دعوتك لي.. هي مغامرة بالسفر إلى دولة في حالة تأزم وخلافات مع صنعاء.. ليعبر بنا الحب من اليمن الجمهورية العربية اليمنية إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.

رسالتك محملة بشجون كثيرة.. بداية بعتابك لرفضي حملك.. كنت أيامها في حالة تشتت.. ولم يكن طلبي إلا خوفاً عليك.. فكرت كيف سيتقبل الناس حملك وأنت فتاة عزباء!. لم تكن أنانية مني.. بل شفقة عليك من مجتمع أبسط عقابه الموت. ولم أهرب بعد خلافنا حول ضرورة إنزال ما في بطنك. لا أعرف كيف تتهمينني وأظن أنك أول الناس علماً بمصيري.. وأعلمي أنني كنت عائدا لأعتذر لك.. وأصالحك مساء اليوم الثاني.. ولم تكن نيتي تركك في تلك المحنة وحيدة.. لكنهم اقتادوني هذه المرة إلى أحد سجون صنعاء. فمع غروب شمس ذلك النهار كنت في طريقي إليك.. بالصدفة التقاني أصدقاء قدموا إلى صنعاء لمشاهدة حفل إيقاد شعلة الثورة في ميدان التحرير.. أقنعوني بمرافقتهم. كان بحسباني أن أحضر معهم إيقاد الشعلة. ثم أستأذنهم بعد ذلك لأذهب إليك.. غصت برفقتهم وسط جماهير غفيرة ملأت الميدان.. نسترق النظر من خلف سياج صفوف عسكر يطوقون أطرافه.. نرى رئيس الوزراء ورئيس هيئة الأركان.. وقائد الكشافة.. ومجموعة من الوزراء.. على منصة في أطراف الميدان.. ما لبثت أن ظهرت طوابير الكشافة والمرشدات بأزيائهم المميزة.. تصحبهم موسيقى صادحة تثير الحماس.. تردد الجماهير "الله.. الثورة.. الجمهورية...". ليتصاعد صداها ويملأ الفضاء.

شكل الكشافة والمرشدات على أرض الميدان دوائر متتابعة حول برج الشعلة..  بعد ذلك صعد رئيس هيئة أركان الجيش سلم البرج حاملا مشعلاً.. يتبعه مفوض الكشافة.. ووزير الشباب.. أشترك الجميع بإيقاد شعلة العام الثالث والعشرين للثورة. لتتصاعد من محيط الميدان ألعاب نارية.. في غمرة ذلك شعرت بمن يلامس كتفي.. التفت!. كان وجهاً باسماً.. عينان باردتان تنظر في عيني.. رفع صوته: الأستاذ شنوق؟! بادلته الابتسامة.. هازاً رأسي بالإيجاب.. أردف: لو سمحت كلمتين بعيداً عن هذا الضجيج وتعود. أشرت له بالموافقة.. تبعته مشيراً على أصدقائي بالبقاء.. سرت وسط أجساد متراصة وهدير الأناشيد الثورية تصم الآذان.. خرج بي إلى الأطراف.. وقد انشغلت  بمحاولة تذكر ذلك الوجه الذي بدا لي مألوفاً.. وما أدهشني معرفته لأسمي.. فمن المؤكد بأني أعرفه أيضاً. كنت محرجاً أن أسأله عن اسمه.. توقف ولازالت أثار ابتسامته على وجهه.. ونظراته الباردة تلامس عيني مباشرة.. أشار إلى شخص آخر ظهر فجأة إلى جواره:

- عفواً منك.. هل تعرف هذا الشخص؟

تأملت ملامحه.. ثم التفت إلى صاحب الابتسامة وأومأت نافياً. أردف: يدعي بأنك اقترضت منه مبلغ من المال.. وأنك تماطل في سداده!.

- كيف أقترض من شخص لا أعرفه ؟!

- إذاً لو سمحت امضي معنا إلى قسم شرطة "باب الحرية".

- ولماذا قسم الشرطة؟

- هي دقائق وتعود لمواصلة مشاهدة الحفل!

قال كلماته محافظاً على ابتسامته.. ثم صمت للحظات ليضيف بعدها: يبدو أن في الأمر لبس.. لكن علينا إنهاء الأمر هناك.

مضيت معهم وقد بدأ القلق يساورني.. تلاحقنا الهتافات الصاخبة. دلفنا بوابة  شرطة باب الحرية على أطراف الميدان.. عبرنا ساحة داخلية تقف على حوافها عربتا إطفاء. وعربة طربال.. صعدنا درجات متآكلة.. ثم دلفوا بي غرفة أفترش زواياها عدة جنود.. يمضغون القات ومشروبات غازية: تمام يافندم.. احضرنا من أمرتم بإحضاره.

ضارباً الأرض بقدمه اليمنى وقد رفع كفه ملوحاً بالتحية.. رد أحد ماضغي القات: أتركوه لنا وانصرفوا.

قالها دون أن يرفع ناظريه. بعد وقت أنهى سيجارة ظل يمجها.. ضاغطا ببقاياها على بلاط الأرض.. مشيراً إلى من حوله: هيا قوموا بعملكم!

إلى تلك اللحظة كنت على يقين أن في الأمر لبس.. لكن ثلاثة من ماضغي القات نهضوا.. وبدأوا بربط معصمي إلى الخلف.. وعصب عيني. عرفت لحظتها أني في مأزق.. حاولت الاعتراض والرفض.. لكن عدة لكمات انهالت على بطني حتى ركعت أرضاً.. كدت أستفرغ.. بعدها سُحبت معصوب العينين خارج المبنى.. ليقذف بي في جوف سيارة.. سريعاً ما تحركوا بي.. لم أعرف في أي اتجاه يسيرون. إلا أن أناشيد الميدان ظلت تلاحق مسامعي بوضوح.. حتى  بعد أن توقفوا وسحبوني ليصعدوا درجات قليلة.. كانت الهتافات تصلني.

أجلسوني على مقعد أحسست بصلابته وبرودته تحتي.. سمعت بعدها احتكاك معدن يبدو على أرضية المكان وصوت ارتطام.. ثم صدى صوت جهوري تردده جدران عالية.. يسألني بأسئلة لا تمت لموضوع من اقتادوني من الميدان بصلة.. كانت أسئلتهم تدور حول وجودي في عدن: وكم مرة سافرت إليها.. ولماذا تتكرر زياراتي.. وأسئلة أخرى حول الأماكن التي زرتها هناك.. والأشخاص الذين التقيتهم؟. تلك الأسئلة وغيرها أوحت لي معرفتهم بتفاصيل كثيرة لرحلتنا.. ابتداءً: بيوم مغادرتنا.. ويوم وصولنا عدن.. عنوان السكن.. الشواطئ التي زرناها.. الأفلام التي شاهدناها معاً في دور السينما.. الأسواق.. صعودنا برج الصمت "الزرادشتي". الصهاريج.. حتى المقاهي التي جلست على مقاعدها. أستمر ذلك الصوت الجهوري يستنهض ذاكرتي وكأنه قد رافقنا في الذهاب والعودة.. بل أنه أورد حوارات دارت بيني وبين البعض.. حتى أنه حدد محتويات حقيبتي تلك التي  ذهبت بها ومحتويات التي عدت بها من عدن. دهشت لمعرفتهم بكل تلك التفاصيل. متعجباً وهو يطالب بأجوبتي في كل مرة.

صعدوا بي تلك الليلة درجات كثيرة.. وقبل إدخالي زنزانة جماعية فُك رباط عيني.. ورباط معصميَّ.. ولأكثر من سبع ليال ينزلوني معصوب العينين.. إلى تلك القاعة حيث يتردد صدى الصوت الجهوري بأسئلته المكررة.. ثم يصعدون بي آخر الليل.. تعودت مع تكرار الهبوط والصعود إحصاء تلك الدرجات.. وكأني أبحث عن الهروب من خوف ينخرني.. أو أبحث عن ألفة ما.. يرعبني صدى ذلك الجهوري.. وقد ضرب بكفه الطاولة التي تفصل بيننا مهدداً.. تعقبها صفعات تنهال على وجهي من عدة اتجاهات وكأنه يمتلك عشرات الأذرع الأخطبوطية.. ليلة بعد أخرى ترسخ لدي انطباع بأنه فارع الطول قوي البنية. شبيه بمحققي الأفلام الهندية.. لكن ما قلل من مهابته تكرار تلك الأسلة بحماسة من يلقيها لأول مرة.. وتلك الصرخات وضرب الطاولة.. والكفوف التي  تدمى وجهي.

تطور الأمر حين أمسى من يحقق معي اثنين بجهورية متطابقة.. وما تغير أنهم تقاسموا تلك الأسئلة المكررة وقد أدخلوا أسلوباً مبتكراًلتعذيبي.. بإطلاق رائحة دخان ليضيق تنفسي.. بداية أدخل في نوبة عطاس.. تتطور إلى كحة متواصلة.. ثم ما يلبث نفسي أن ينقطع.. وأشعر بعدها باختناق لأسقط أرضاً. لكني أصحو على زخات ماء على وجهي وأطرافي.. يتبعها ضغط مسامير تخترق بدني.. ثم يتم جلدي بسوط به حزازات تقشر مواطن لسعها.. وهكذا يحولون لياليَّ حفلات تصطخب بصراخ نشوتهم.. كل شيء كان يتغير.. المحققون والأدوات والأساليب.. عدى الأسئلة التي ظلت تتكرر.. حتى أنني حفظت تسلسلها عن ظهر قلب.. سألتهم ذات حفلة.. متمنيا أن يوضحوا لي ما علي قوله.. حتى أُعتق.. لكنهم ظلوا على تراتبيتهم.. ولم تتغير كلمة واحدة.. شككت أن تكون تلك الأسئلة عبر جهاز تسجيل!.

كنت الثامن في الزنزانة.. زنزانة تجاور زنازين لا أعرف عددها.. إلا أنني أسمع صرخات ليلية متفرقة.. ما يشير إلى كثرتها.. وكذلك تعدد أدوار ذلك المبنى واتساعه.. فقعقعة الأبواب الحديدية ليلاً هي الأخرى تزيد من تصاعد الشعور بالرعب.. حيث يحلو لهم اقتياد المساجين إلى أقبية التحقيق في تلك الأوقات المتأخرة.. وكأن المحققين بحاجة إلى سكون من نوع خاص كي يديروا حفلاتهم.

الزنزانة التي ألحقوني بها تدل على أنها ضمن مبنى سكني كبير.. أو قصر قديم.. وقد حوله العسكر إلى سجن.. فعلى سقفها بقايا زخارف جصية.. وعلى جدرانها أحزمة شجرية.. وفي زواياها عدد من الرفوف الجصية.. فتحات نوافذها واسعة.. وقمرياتها عالية.. وقد سُدت بخلطة الإسمنت وأحجار سوداء صلدة.. كما أستُبدل باب زنزانتها بباب حديدي.. يسحب جزؤه السفلي من الخارج لإدخال الطعام.. وسحب الأواني بعد إفراغها. وفي الزاوية المجاورة للباب يقبع دلو دون لون لقضاء الحاجة. يداري من يقضي حاجته ببقايا خرق يمسكها أحدهم حتى يفرغ.. لا يسمح لنا بالذهاب إلى دورات مياه منذ دخولنا. وبذلك ظل الجميع دون اغتسال.. مع مرور الأيام تلبست أجسادنا طبقات دبقة وطالت أظافرنا وشعر رؤوسنا ووجوهنا.. وتعود الجميع على الروائح النتنة.. البعضتسلخت آباطهم وبين منابت أفخاذهم .. نتحايل بشطف تلك الأجزاء الملتهبة  بما يتبقى من ماء يجلب مع الطعام للشرب. ولذلك يعامل الجميع الماء كدواء نادر.

لا يوجد منفذ للضوء.. لكنا نقدر الوقت بالنظر من شجوج الباب الحديدي.. وكذلك من خلال مواعيد الطعام.. ومواعيد التحقيق.

 أدمنت انتظار اقتيادهم لي.. ليس لشيء إلا لعد درجات الهبوط والصعود.. تلك المتعة التي كانت تشعرني بأني أستطيع إنجاز شيء ما. مع الأيام طرأ أمر جديد.. فبعد عد تلك الدراجات هبوطا وصعود.. لفت انتباهي تداخل خطوط الرطوبة على جدران الزنزانة وسقفها.. لأبدأ بمتابعتها بمتعة.. وأراها وقتا بعد آخر تتجدد في تقاطعها وتوازيها مع بعضها.. لتمثل لي متاهة مفتوحة أقضي الوقت بمتابعتها.. لأرى ما لا يراه من حولي.. فتارة تشكل روافد تتدفق لنهر كبير.. وأخرى غابة من السيقان والفروع.. بل أنني كنت أرها صفوفاً لجنود  يتأهبون لهجومٍ ما.. وتارة اسراب حمام محلقة عالياً.. وثالثة حِمْلان تتكاثر على سهوب داكنة. تتماها تلك الخطوط مع الزوايا. شغلني تلك عن الاستماعلثرثرات من حولي.. تلك التي لا تنتهي.. وقد حاول بعضهم سحبي إلى عالمهم.. لكني ظللت محافظا على تلك المسافة بيننا.. فلا أشاركهم شيئاً.. عدا الطعام وإمساك الخرق لمداراة عورة احدهم عند التغوط.. مع الأيام تركوني.. يتحادثون.. يتحركون كأني غير موجود.. حتى حين يحتدم النقاش ويتطور إلى عراك فلا أتدخل.. حتى أنهم أمسوا يتحاشونني كمختل.. بينما أنا أراهم معتوهين.. خاصة حين يحتدم العراك بين أنصار "الإسلام هو الحل" ومؤيدي "الدولة المدنية".. نقاشات لا تنتهي ومشاحنات تبعث على الغثيان. تنتهي بتدخل العسكر لإخماد الجميع.

أعلم أن جل تلك النقاشات مبالغ فيها.. وأن من يحركها عسس زرعوا بيننا.. لكشف المخبوء في عقولنا.

 تلك الزنزانة كان لها رائحة المجارير.. تساءلت بقلق إلى متى سأظل فيها.. وأخشى التعفن.. ترعبني حكايات بعض من كانوا في سجون أخرى.. يعددون ما تعرضوا له من تعذيب.. أسهلها تعليق السجين بالخطاطيف إلى السقوف.. وإطفاء السجائر في أماكن حساسة.. وصعق الأعضاء التناسلية.. لا أعرف حين يعددون تلك القباحات.. هل يهذون أم أن عقولهم المريضة تدفعهم لتصور ذلك؟. لأتخيل أن مباني تلك المدينة سجون سرية شبيهة بما نحن فيه.. ويوما بعد يوم يزيد يقيني بأني لن أخرج من ذلك المكان.. فلا أحد يسمع بنا.. رغم أننا في وسط المدينة.. نسمع الكثير من أصوات الباعة.. وما تردده المآذن بأسماء من ماتوا من سكان المدينة.. إلا أن أحداً لا يسمعنا.. أو يعلم بنا.. وفي الزنازن يتساقط المساجين يوما بعد آخر بتلك الفطريات التي تسبب التسلخات.. كل من في تلك الزنازن يتشابهون بطول سوالفهم ولحاهم.. وتلك الأظافر المدببة التي سكنتها الأوساخ منذ حين.. وطبقات غيرت ألوان جلودهم.. وبقايا أسمال اهترأت تبدي أكثر مما تخفي.. ولم يعد لأحد أن يستحي ممن حوله وقد تساوى الجميع في كل شيء. يتمددون ولا يجدون ما يخفون أعضاءهم به...

لكن من في الزنزانة متغيرون.. يفاجئنا أحدهم وقد أنهار منتحباً.. يتطور الأمر إلى ضرب نفسه.. وتمزيق أذرعه  بأسنانه.. يهبون للحد من عنفه.. والبعض لا يهتم مثلي بما يدور.. انتشرت عدوى البكاء.. يتداعى الجميع في نوبة جماعية تتسلل العدوى إلى الزنازين المجاورة ليعم النحيب أرجاء المبنى. فجأة يتغير ذلك النحيب إلى ضحك. ليتداعى الحراس مهددين بعصيهم وبنادقهم.. يصمت الجميع إلا بعض الزنازين.. نسمع فيها العويل وقد اقتحمها العسكر.

ولكثرة ما كنتُ أسترجع تلك الحيلة التي استدرجوني بها.. أفكر.. كيف عرفوا بأني هناك في الميدان..وكيف استدلوا عليَّ وسط ذلك الزحام؟ وبماذا ستحدثهم  ضمائرهم بعد إيقاعي.. وتركي لمصير مجهول؟!. لكن ما كان يخفف عني هي تلك الرؤيا التي تتكرر في منامي.. حيث أرى نفسي في أزقة قريتي البعيدة.. وسط الجبال.. وكأني لم أزر سجناً قط.. ولا عرفت مدينة.. ولا يلاحقني عسس.. أحث خطاي باتجاه بيتنا.. المغروس بين البيوت.. ودوماً أصحو قبل أن أصل إليه. تلك الرؤيا أمست نافذة أرى نفسي منها حراً.. وقد بعَثت في الأمل.. ما أنعكس على حالتي.. ليلحظ من حولي عودة ابتسامتي.. إلا أني ظللت منشغلاً عنهم بتأمل خطوط تلك الجدران التي أضحت تمتد إلى خارج تلك الزنزانة.. أتابعها لأجدني أسير في خطوطها حتى خارج جدرانها.. لأرى أناساً في الشوارع.. على المقاهي.. يذهبون إلى المساجد.. وأرى كائنات لا يراها غيري. ودوما أضحك من أشكالها وحركاتها.. وأصواتها. يسألني من في الزنزانة عما يضحكني؟. فأشير إلى الجدران.. منشغلاً بتتبع تلك المناظر المتجددة.. يومها أمسك أحدهم بتلابيبي وأنهار علي صفعاً.. بالكاد خلصني الذين حولي منه.. ميزت صراخه وهو يشير إليَّ مهدداً: "إياك وتصرفات الهبل.. وما يتهيأ لك.. ستقودنا للجنون". ظل صدى كلماته يتردد.. وظل لأيام يلاحظني.. مهددا.. لأعود من تلك الحيطان وما تشكله.. وكلما دعتني أسمعه ينهرني مهدداً.  

اليوم حين أتذكر زمرة المحققين.. وتأكيدهم انتمائي للحزب الاشتراكي.. وإيماني بالمبادئ الاشتراكية.. وقد سعوا لمعرفة أسماء أقاربي .. أصدقائي.. زملائي.. مهنهم.. عناوين مساكنهم. لأعرف بعد خروجي بأن كل من ذكرت أسماؤهم قد فُتشت منازلهم.. واستجوب بعضهم.. ليعرفوا صلتهم بي.. والمزيد عن أنشطتي وعلاقتي بالآخرين.. بحثا عما يمدهم أثناء اعتقالي من معلومات ضدي. وما زاد دهشتي.. أنهم كانوا يعرفون ما كنت أقرأ من كتب. الأماكن التي زرتها.. ومن التقيت بهم.. إلا أنهم سألوني عن أسماء لا أعرفها.. وأسماء أعرفها.. ولم يسألوني عنك قط.. أو يذكروا رفقتي لك.. أو عن تحركاتنا معاً. وزياراتي معك إلى ساحل "جولد مور" وساحل أبين.. و"حقَّات".. سينما أروى.. وبقية الأماكن التي كنت عرفتني عليها. كنت أثناء ذلك إحاول ازاحة ظنوني.. وتساؤلاتي تتكاثر.. لماذا يسألوني على كل صغيرة وكبيرة.. ولم يسألوني عنك؟!.

كان المحققون يعلمون كل شيء وكأنهم كانوا يرافقوننا.. إلا تلك الأوقات والأماكن التي كنت أذهب لها بمفردي.. كانوا يجهلونها.. وكانوا يلحون بأسئلتهم على معرفتها.. خجلت أن أحدثهم بأني كنت أذهب وحيدا في تلك الليالي إلى مشرب السلام  في حي كريتر أو بار البحارة في التواهي. بعد وقت ضقت بإصرارهم.. وأخذت أحكي لهم بإسهاب ممل عن أول ليالٍ ترددت فيها على تلك المشارب.. لكنهم لم يقتنعوا. ما زاد حيرتي وصفه يوم ودعنا عدن باتجاه "تعز" أظهروا معرفتهم بالتفصيل: رقم مقعدي على الحافلة التي أقلتنا.. وألوان ونوع الملابس التي كنت أرتديها.. وبعض ما تفوهت به إلى من حولي أثناء الطريق.. لكنهم لم يذكروك رغم أننا كنا في مقعدين متجاورين.. ويضع كل منا رأسه بين فينة وأخرى على كتف الآخر مثل كل المحبين.

ليتأكد لي بأنك من وشيتِ بي.. وبعد خروجي أمسيت أرى كل من حولي عسس يتربصون بي.. عيونهم تراقبني. وأصابعهم تدبّج التقارير عن تحركاتي.. قد لا تعلمين مقدار الرعب الذي عشته وأعيشه من جراء ذلك حتى اليوم.. فلم أعد أثق بأحد.. ولا أجالس أحداً.. ولا أفضل الاختلاط بالناس. حتى أني انعزلت الناس لأعيش دون أصدقاء.. تصاحبني تلك الأيام التي عشتها بين رعب التحقيقات. وتلك العبارة التي كانوا يرددونها علي "لا تُخفي عنا شيئاً.. قد البنات قشعين جحرك" لأتساءل: من يقصدون بالبنات.. فلم يكن معي من أحد غيرك.

فلا تلومي قسوتي وقد رأيتك فجأة أمام بابي بعد خروجي من سجن سنة ونصف.. نظرت إليك مرعوباً.. نظرة الضحية للجلاد.. ومع رؤيتك أمامي.. وقفت متسائلاً: كيف استدلتِ على عنوان سكني؟. وأسئلة أخرى كثيرة أدارت صراعاً في نفسي. فكيف كنتِ تريدين أن أستقبلك.. لحظة كنت مهزوما من داخلي.. أصارع ناراً تستعر بي.. تدعوني للانتقام.. هممت تلك اللحظات أن ادخالك وتخلص منك. لم أعد أراك البندرية التي أحببت.. بل كائناً يسعى إلى موتي.. ولا أعرف كيف تمالكت نفسي.. وانتصرت على لحظة ضعفي.. خرجت أهرب منك.. سرت.. لأجدك  تجدين في ثري حتى أطرف المدينة.. وحين جلست جواري على تلك الصخرة عرفت بأنك قدري.. أستمرت نفسي تنازعني بالانتقام.. سألتك علك تدركين بأني في تلك اللحظات لم أعد أنا.. وكم تنفست الصعداء حين رأيتك فجأة تنهضين.. تسيرين مبتعدة وكأنك أحسست بنارٍ تصطلي بداخلي.. وتسأليني عن اللفافة.. لم أكن أرى شيئاً غير أصوات المحققين تلاحقني. حتى وجهك الذي أحببته لم أعد أراه.

أكتب إليك ردي الذي لم أقله في آخر لقاء بيننا.. ولم أكن قادراً على فضيلة العتاب.. فقط كنت أريد الفرار منك".

 

-31-

في أول لقاء بسقوةعاتبته على تهربه من لقياها:

- أكتب إليك بأني سآتي إليك مع المغيب.. حتى تترك بابك مواربا كالعادة.. وعند وصولي أقف أمام بابك وقلبي يخفق.. لكنني أ جدهفي كل مرة مغلق.. أشعر بحسرة.. انصرف كالمسحوبة على وجهها.. أعاود الكتابة إليك ليلاً معاتبة فلا ترد.. أتعجب فذلك ليس من شيمك.. ولم يسبق أن تهربت مني هكذا!.

صمتت دامعة.. ليحتضنها دون أن يتفوه.. تردف غاضبة: هل حصل مني شيء.. أم أنني أخطأت حين شكوت لك آلامي!. لن أضايقك بعد اليوم.

زاد من احتضانها.. وقد وضع فمه على أذنها يهامسها:

- سأصارحك بالحقيقة.

صمت لبرهة تلمس وجهه وقلبها يخفق .. بينما واصل صمته ليزيد من حيرتها وحتى تكون لمفاجأته وقعاً قوياً عليها.. ردت مضطربة:

- صارحني ومهما كان ما ستقوله مر لن أزعل منك.

- كنت خلال الأيام الماضية أخرج  باحثاً عن عمل.

- أخيراً خرجت باحثاً عن عمل!.

- وقد وجدت عمل.

- لا أصدق ما أسمع.. هاه وماذا بعد؟

- لا شيء.. فقط أعود متأخراً.

- لماذا لم تخبرني بذلك؟

- أردت ألا أخبرك إلا بعد أكون قد نجحت.. كنت أخرج باكراً.. لاكتشف أن معظم النسا بدون عمل.. تعبت في البحث حتى عشقت التجوال.

أخذت تقبل صدره بنهم.. ثم تضربه بيديها في دلال.. تتمرغ بعريها بين الدموع والضحك:

- لقد تجاوز أيامك الصعبة.. من اليوم لن أخاف عليك.. حين اكنت أتردد على بابك اجتاحني شعور بالحيرة والضياع.. أبحث عن سبب لتهربك. لتفاجئني. سعيدة لخروجك من عزلتك.. حتى وإن عانيت.. تحمل . لا تعرف مقدار ما عانيته أنا في الأيام الأولى لجلوسي بمشاقري على الرصيف.

يستمعها تحدثه بعطف وكأنها تمارس أمومة ما.. لتواصل بصوت حنون: من اليوم عليَّ أن أتحمل حرماني منك.. والقناعة بالقليل من ليال نقضيها معاً.

شعر بصدق مشاعرها.. سائلاً نفسه: هل أنا بحاجة إلى كل هذا منها. ثم يسألها:

- أشعر بأني إنساناً آخراً!.

- لا تصدق إن قلت لك الآن بأن عاطفة مختلفة تغشاني وأنا اسمعك.. عاطفة لم أشعر بها تجاه أخوتي أو زوجي. فهل تحس بما أحس.. هل تشعربما أشعر به وأنت قد بدأت تتلمس الطريق؟. لا أطلب منك العودة لأني لا أعرف عن ماضيك إلا القليل.. لكني أشعر من صوتك كمن يكتشف الأشياء من حوله رغم كبر سنك.. وترى بكارة ما تصنعه.

غشته سعادة وهي تعبر عن فخرها به.. تتمنى أن تراه في عمله الجديد.. ثم صمتت لبعض الوقت ليتحدث بصوت منكسر:

- قد أترك العمل.

- تترك العمل!

- حين علم صاحبي عاتبني.

- وعلامَ العتاب؟

- قال بأن العمل الذي أشتغل به لا يناسب سني. ولو أخبرته قبل.. لوفر لي عملاً مناسباً.

- لكن ما العمل الذي تعمل به؟.

- على دراجة نارية لتوصيل الطلبات.

- دراجة نارية!. هل ستحملني خلفك.. وتذهب بي إلى السنينة.. وعصر.. وقرية بيت بوس...؟.

- تحت أمرك.

- وأرى الأماكن التي أحبها قبل أن يفتك بي الورم.

 صمت شنوق وهو الذي كان يظن بأنه قد أبعدها بأخباره عن التفكير في ألامها.. بينما هيأدركت خطأها بذكرها للورم. تحاضنا في صمت.. يعاتب نفسه لصمته المفاجئ.. ولا يعرف بأنها كانت تخفي عليه شدة الآلام التي تمزق أحشاءها بين وقت وآخر.لتعودبصوتها مبتعدة تسأله:

- لكن لم تخبرني أين هي الدراجة تلك.. ولا ما هي الطلبات التي تعمل على توصيلها.

- الدراجة أسلمه مع نهاية النهارلصاحب العمل.

صمت بعض الوقت.. ثم أردف بصوت مرتبك: وعملي هو توصيل قوارير عرقي.

- عرقي!.

صمتت للحظات ثم واصلت: لم أتوقع منك هذه المجازفة.. الآن أدركت أن صاحبك معه حق.

- لكنني لم أجد أي عمل آخر!

قلبت الأمر في رأسها..ثم قالت:

- عاد قلقي عليك..التزم بالحذر الشديد.. ومتى ما توفر عمل آخر اترك ذلك.

فكر شنوق أن يذهب بالحديث بعيداً.. سألها:

- هل تسمعين من الشريفة عما يدور؟.

- لم أفهم.

- من خلال تنقلاتي القليلة بين أحياء المدينة لاحظت عودة كثير من نقاط المسلحين في الشوارع والأحياء.. كما سمعت الناس يتحدثون عن مواجهات وشيكة بين صالح والحوثة.

- إلَّا.. سمعتها تتحدث أن عفاش قد حول جامع الصالح إلى مخزن للأسلحة.. وأن السبعين ثكنة لعسكرة.. وتقول بأن أنصار الله هدفهم إحكام قبضتهم على تلك الأماكن.

- المسلحون في كل مكان.

- وتردد دوما "حان قطف رأس عفاش الآن". لكني لا أفهم كيف يقطفوه وهوا يعمل معهم!.

- هو صراع خفي بينهم وإن كانوا متحالفين.. وهذا يذكرني ببداية خروج الأحزاب والناسللاعتصامات والمظاهرات... وقد أختلف الوضع اليوم.. فالناس بالأمس خرجوا ضد عفاش.. ليرد عليهم بتمكين الحوثة من الجيش ومفاصل الدولة.. واليوم أشعر ببداية كارثة.. الكل يتحفز.. الكل يستعد. والضحية الناس.

- هذا كلام إن سمعه أحدهم فإنهم سيختطفوك.. أرجوك لا تتحدثبهذا لأي كان.. فأنت تعرف بطشهم وطغيانهم.

- ما يدور يحزننيياسقوة.. فإن اختلفوا فعلى دمائنا.. وإن أتفقوا أيضاً نحن من ندفع الثمن.

 

-32-

" يالقلبك السلط.. لم أكن أتوقع أن يظل حاملاًلكل ذلك القسوة.. الآن تأكد لي لماذا كنت قد أمتني.. استنجد بك.. أشكو لك حالتي فتشهر عليَّ قسوتك.. لقد أدمت رسالتك قلبي. وعليك قبل ان تتهمني أن تدين نفسك.. ولكي تفهمني.. سأفشي بما لا تعرفه عني.. قد أكون ابنة ظروف قاهرة دفعتني لأكون كما بدوت لك. تعرف منذ كنا معاً بأني قدمت هاربة من عدن.. لأجد نفسي وحيدة في صنعاء.. وتعرف ماذا يعني أن تعيش فتاة في العشرين دون أهل أو عائل في بيئة غريبة عنها.. وسط مجتمع كل نسائه حريم خانعات.

ولتعرف ما لا تعرفه عني..سأحكِ لك ما لا تعرفه عني.. فحين التقيتُ بك كان قد مضى على فراري من عدن ما يزيد عن سنتين.. فبعد أن أكملت الثانوية عام 1980. بمعدل مرتفع.. كان قدري أن أهرب إلى صنعاء تلبية  لوعد وعد به أحد أقارب والدي الذي كان في زيارة لعدن ضمن وفد رسمي لسلطات الشمال.. وقد عرج للسلام على والدي.. الذي حدثه عني وعن تفوقي.. ضمن حديث حول أحوال الأسرة.. حينها وعد قريب والدي بتوفير منحة لي لدراسة الطب خارج اليمن على نفقة سلطات صنعاء.. شارطاً الوصول بعد الثانوية إلى صنعاء. كان هذا القريب من كبار ضباط أمن صنعاء.

بعد إعلان النتائج.. وحصولي على ذلك المعدل المرتفع.. ذكَّرت والدي بذلك الوعد.. ولأسابيع حاول الحصول من الأجهزة الأمنية على إذن بسفري.. لكنهم رفضوا ذلك.. حينها رضخت لواقعي وإن ظللت أحلم بدراسة الطب خارج اليمن.. إلى ذلك الصباح حين سمعت إحدى جاراتنا تتحدث حول هروب ولدها إلى صنعاء.. تجدد الأمل لدي وسارعت بطرح الفكرة على والدي الذي بُهت زاجراً لي: لكنك بنت.. أجننتِ!.

لم أيأس.. أستعنت بأمي التي رفضت هي الأخرى.. لكنني ظللت أفكر وأبحث.. حتى سمعت عن مهرب ينقل من يريد تهريبه.. وأنه من منطقة "المسيمير" الحدودية.. طرأت لي فكرة التنكر بملابس رجالية.. وبالفعل لبست ملابس أحد أخوتي.. وأحكمت شد الكوفي على رأسي.. ودخلت بغته على والدي الذي لم يميز ما يدور.. وبدأ مرتبكاً لهذا الوافد الغريب.. لتهرع أمي التي سريعاً ما كشفت حيلتي.. ظللت ألح عليهما.. حتى وافقا على مضض وهما يوصياني بالحذر.. وفي اليوم الموعود خرجت ووالدي فجراً باتجاه حوطة لحج.. لم يكن أحد في بيتنا يعلم بما يدور خوف وصول الخبر لأجهزة الأمن.. عدا أمي التي ملأت كيساً بالطعام والملابس وملف يضم جميع وثائقي.. ولفافة قطن.. ودَّعتني دامعة كاتمة لصوتها.. كان أبي بطول الطريق يتأملني.. ثم يكرر نصائحه بضرورة أن أبدو طوال الطريق فتى شاحط.. ومن الحوطة ركبنا إلى المسيمير.. وهناك التقينا بالمهرب.. الذي قدمت له نفسي بإسم "كمال" ليعود أبي وحيداً يكتم سره أمام أولاده وصحبه.. ومن هناك تحرك بنا بسيارة متدهورة وعليها سبعة من الشباب كنت الفتاة الوحيدة بينهم على طريق ترابية وعرة.. حتى كنا بين جبال قاحلة.. ومن هناك كان علينا اجتياز المناطق الحدودية ليلاً سرنا راجلين بعد غروب الشمس.. عبر جبال تتسامق بعتمتها.. ست ساعات نسير وسط برودة قارسة.. في أول الساعات تقدمنا عبر طريق لا تراها إلا أقدامنا.. يحظر على الجميع إشعال إي ضوء أو تدخين السجائر.. أو إصدار أي صوت.. فقط السير في طابور خوف السقوط في الجروف السحيقة.. سرنا كثيراً حتى ظننت بأن لا فجر سيشرق على تلك المسالك.. لكن المهرب فجأة أمرنا بالتوقف ولا زالت النجوم معلقة فوق رؤوسنا.. ليدخلنا كهفاً يعرف موقعه.. ولم يمر وقت حتى بسط الفجر غلالته على تلك التضاريس الموحشة.. هجعنا بعض الوقت بداخل ذلك الكهف.. يحذرنا من أي ظهور حتى يتأكد.

جلت ببصري إلى جبال خلفنا ملتحمة ببعضها.. لم أصدق بأنا عبرناها وسط ذلك الظلام الحالك.. ومن أمامنا جبال تنتظرنا أشد وعورة وتلاحم.. لا يظهر فيها أثر لحياة.. أشجار مشوكة ومرتفعات متتالية.. فضلت أن ألجم خوفي ببعض كسر الخبز.. أتفقد محتوى حقيبتي: ملف شهاداتي.. سكين.. مراهم.. قليل من الملابس.. قارورة ماء.. خبز جاف. بلعت قرصاًلتخفيف الآلام كانت أمي قد وضعته إلى جوار شاش وقطن هامسة القطن لأي دم.. عرفت مغزى كلماتها.

بعد استراحة لبعض الوقت.. أرتفع صوت المهرب يحدثنا بصوت ملؤه الحبور: لقد نجحتم في عبور الحدود.. وقد أصبحتم الآن في الشطر الشمالي. خفق قلبي طرباً.. وجثمت أرضاً أمسح دموعي.. جبال متجهمة خلفنا.. أفق تملأه جبال أخرى أمامنا.. منحدرات سحيقة  تنتظرنا.. مجاري سيول غائرة.. أتساءل: من أين عبرنا وكيف وصلنا هذا المكان؟. حاولت تحريك ساقيَّ المتخشبتين.. افزعتني دماء على ساقي.. مددت أصبعي لأعرف مصدرها.. تذكرت كلمات أمي حول  وظائف القطن. انسحبت  بصعوبة خلف صخرة.. وعدت وقد اطمأننت لأتسلى بقرقشة كسر خبز جافة.. متشاغلة بمتابعة طيور عالية.. تحلق بشكل لولبي تحت قبة السماء.. لف الصمت حضورهم. بينما وقف المهرب مشيراً نحو الغرب: تلك هي بلاد ماوية.. سأمضي بكم حتى أولى قراها وبعدها ستجدون أنفسكم في أمان.. منها يسلك كل إلى وجهته.. لكن عليكم بالحذر فهناك يتكاثر المتربصون.. ففي تلك القرى بعض المتطفلين.. منهم من يعمل لأجهزة عدن ومنهم لأجهزة صنعاء.

انشغلت لحظتها بالبحث عن تلك الحدود الفاصلة.. فلم أجد ما يميز شطراً عن آخر.. جبال متلاحمة.. وديان متداخلة.. منحدرات متتابعة .. أشجار مشوكة هي نفسها في كل اتجاه. وكانت الأرض هي الأرض إلا أن الإنسان يسعى دوماً ليشطر وجهه ليشقى. عدت أفكر في نفسي.. وقد رأيتني عالقة في تلك البلاد.. سألته: كيف أصل إلى صنعاء؟. وقبل أن يجيب تقافزت أصواتهم.. الكل وجهته صنعاء.

شاب من بينهم ظل يرمقني بنظرات متتالية.. تأملته أكثر.. بدت نظراته خجلى. بعد أن ودعنا ذلك المهرب.. وقد ذكرنا أن نهاتف أهالينا بعد إيجاد أول هاتف.. لنطمئنهم  على سلامتنا.. ثم لا أعرف كيف أختفى.. بينما سرنا جماعة متوجسين باتجاه أول قرية.. لم نعد نتجنب السكان الذين  نصادفهم.. قلة يعاملونا بشفقة مقدمين لنا الطعام والماء.. والبعض يتحاشون الاقتراب.. وظل ذلك الشاب يحرص أن يسير إلى جواري.. حتى دخلنا مركز "ماوية" تلك القرية الكبيرة.. ليفاجئني ناصحاً: أنا سأمضي إلى جوارك.. وإن سألك أحد.. اجيبيه بأني أخوك!

تعجبت من حديثه معي.. أردف بعد ملاحظته انزعاجي: منذ أول لحظة رأيتك عرفت بأنك فتاة.. فلا تقلقي لن أفشي سرك.. اعتبريني أخوك. وجدتني أتبعه.. ليأوي بي في "مقهاية" تعج بالمسافرين.. وجدت "المقهوية" تعاملني بلطف.. وقد أسكنتني غرفة منفردة على سطح مقهايتها. تهامسني لا تقلقي أنت في أمان.. لن يشاركك أحد غرفتك.. سألتها عن أخي .. فردت بأنه سيظل بين المسافرين في الأسفل.. قدمت لي فتة بالسمن وجلست إليَّ بعض الوقت منبهرة من حكايتي وقد تجمعت حولي عدة فتيات. قبل هبوطها نبهتني أن أغلق الباب جيداً.. لم يمر وقت حتى غشاني نوم عميق.. لا أعرف كيف صحوت على حركة مريبة.. وشيء ما يلامس جسمي.. كما لو كنت في حلم أو كابوس.. فزعت ولم أع ما يدور.. أو أميز وسط الظلمة أي شيء.. لكني شعرت بمن يلتصق بي.. وقد نجح في خلع أسفل ملابسي.. نهضت فزعة أدفعه.. صارخة بذلك الكائن الذي لم أتبين ما يكون.. انسحب.. بينما بقيت أرتجف مرعوبة.. وأنا أسمعه: أسكتي أرجوك.. لا تخافي.. أسكتي سأخرج!. لم يمض وقت حتى تسلل ضوء من خارج الباب.. وجلبة أقدام.. لتظهر المقهوية رافعة فانوس امام وجه شاب بدافي حالة يرثى لها من الخزي.. ما إن لمحته حتى رفعت صوتها:

- ياسبحان الله عليك يافتاح!. هو أنت.. وتجي منك هذيالمخازي؟! كان يستمع إليها خانعاً. ثم رد بتلعثم:

- لميحدث شيئاً قد حدث.. حتى أسأليها.. أنا مخدوع!

لا أفهم ما كان يعني.. اقتربت مني تحتضنني: كيف يسخى قلبك تبهت بُنية مسكينة. ظل يشرح لها بكلام لم أعرف معناه.. ظننته أخطأ في تحديد المكان الذي كان يقصده.. أو أنه مخبول في عقله.

لم أعرف كيف أرتب تفكيري.. هل هي المقهوية من خدعتني.. أم أن الأمر غير ذلك؟.. تذكرت بأني نسيت إغلاق الباب كما أوصتني.

سمعت صوتها تأمر ذلك المخبول بالخروج ومن كن يتبعنها.. ثم أغلقت الباب تحتضنني. كنت أبكي لشعوري  بالوحدة والقهر.. وصدى صوت أبي يلاحقني "أنت بنت". ظلت "المقهوية" تهدئ من خوفي.. تخبرني أن من حاول معي شاب ساذج. ثم أطفأت السراج ونامت إلى جواري حتى الفجر.. بعدها أحسست بها تنسحب بهدوء.. لتعود بخبز ساخن مشبع بالسمن.. يتبعها ذلك المعتدي.. ما إن رأيته حتى تحفزت.. فقال مردداً اعتذاره:

- اعتذر.. هو من خدعني!

ردت المقهوية تهدئ من روعي:

- لقد جاء معتذراً.

ثم أخذت تقبل وجهي وأردفت: الذي كان رفيقك أختفى بعد أن أستلم ثمن خديعته.. لكن هل هو أخوك بحق!

 عندها فهمت ما يدور.. لم أعلق بشيء.

في ذلك الصباح زدت من تنكري.. ودعتني وبناتها رافضة أخذ أجرة المبيت أو ثمن الطعام.. وقالت: سيرافقك عبد الفتاح حتى يصل بك "إب". ليكفر عما أقترفه.. لا تقلقي يابِنتي.. لولا خساسة رفيقك لما كان ما كان.. الدنيا أمان. 

كنت وجلة وأنا إلى جواره على سيارة امتلأت ببائعي القات.. طوال الطريق صامتة.. بدوره أحترم رغبتي حتى وصلنا "إب" تلك الجنة التي بهرتني بكسوة جبالها ووديانها.. ودعني بعد أن أجلسني على مقعد سيارة "بيجوت" متجهة إلى صنعاء.. دافعاً الأجرة رغم رفضي.. داساً القليل من أغصان القات في حجري.. موصياً السائق بي خيراً.. عبرت بنا تلك البيجون أودية خضراء.. وصعدت تتلوى فوق جبال عالية لأرى طبيعة لم أتخيلها قط.. ولأكثر من أربع ساعات اجتازت بنا البيجوت أسواقاً وقرى ومدناً تمنيت معرفة أسمائها.. لم أجرؤ سؤال أحد. رغم محاولات السائق ومن حولي بالحديث إلي. وخلالها عبرت المدينة التي جمعتنا "ذمار".. وقد عدت لأعمل فيها بعد أكثر من سنتين.

ندمت بعدها لأني لم أتحدث إلى فتاح.. أو أملي ناظري من وجهه.. لقد كان يحمل نبلاً غريباً.. فهذا هو الفتى الذي حاول الاعتداء علي.. وهو نفسه الذي مضى إلى جواري بعد ذلك دون أي همسة أو حركة.. شغلني التفكير به طوال الطريق.. كنت أود معرفة تفاصيل ما حصل بينه وبين ذلك الأخ.. وماهي الصفقة؟. وكلما تذكرت ذلك المساء أتمنى أن تتكرم علي الأيام  بالعودة إلى ماوية.. وأزور تلك المقهوية.. والتقي بفتاح لأشكره.. لكن السنوات مرت وظلت الذكرى عالقة. ولم أنس ما حصل.

 

-33-

أستقبلني قريب أبي في منزله بصنعاء.. وخصصت لي زوجته غرفة   ضمن منزلهما الكبير.. ومنحتني ملابس عرفت بعد وقت بأنها من ملابس بناتها.. في الأيام الأولى كنت أشعر بالألفة.. تدعوني لمساعدتها في أعمال البيت.. فألبي وأجتهد.. منتظرة تحقيق ما وعد به ذلك القريب.. مرت الأيام لأكتشف بأنني قد أمسيت خادمة لهم.. وأن الجميع يأمر.. دون أن أعرف كيف حولتني تلك المرأة إلي ذلك الوضع.. ولم أعرف سبب تواطئ قريب أبي لتوجه زوجته.. هل لسمرة بشرتي.. أم لوحدتي؟. وما زاد من قلقي أنه نسي أو تناسى وعده لأبي في عدن.. كنت في حيرة من أمري.. وقد أضحيت سجينة.. انتصفت سنة من الإحباط.. لأتعرف على شاب كان يتردد عليه.. أخبرني بأنه يعمل في جهاز الأمن الوطني.. كان ذلك الشاب دمثا معي.. ودوما يسأل عن أحوالي.. شرحت له بالتفصيل حالي.. لأتفاجأ به يشجعني على الهرب من ذلك البيت.. لم أستوعب الأمر منه وقد عرفت بأنه أحد أقاربه.. ولا أريد أن أجد نفسي وقد خسرت البيت الذي لا أعرف غيره في هذه المدينة.. لكنه أخذ يلح علي وقد أخبرني بأنه أستأجر لي سكناً صغيراً آوي إليه إذا ما هربت.. وأنه  سيلحقني بالدراسة.. كما أن هناك عمل بمرتب ينتظرني.. في البداية تخوفت فأي سكن.. وأي وظيفة تلك؟. كنت أخشى أن يكون له مآرب خسيسة وينوي استغلال وحدتي.. صارحته بهواجسي.. ليزرع فيَّ الأمان بكلمات قليلة.. وبعد هروبي فاجأني بأنه الحقني بالمعهد الأمريكي لدراسة اللغة الإنجليزية. ثم وجهني لأكون عيناً أرصد ما يدور داخل المعهد.. مركزا على بعض الطلاب والأساتذة.. وأن أرفع إليه بتقارير متوالية.. مبشراً بأن راتباً ثابتًاً قد رُصد لي نظير ما أقوم به. كنت دوماً أتساءل حول هدف ذلك الشاب من كل تلك المساعدات.. فلا أجد إجابة.. بل أنه بدا لي شاباً خارق القدرات.. صاحب أخلاق عالية.. وأمسيتفي سكن يخصني.. أواصل تحصيلي المعرفي وإن كان في غير المجال والمكان الذي كنت أطمح له.. لكنني أحببت دراستي وتفوقت فيها.. وأيضاً أصبح لي مرتب شهري ثابت. وما كان يحيرني أن كل ذلك كان فوق قدرات عسكري.. لكن حيرتي لم تستمر.. فبعد سنوات عرفت السر.

بعد سنة من الحاقي بالمعهد الأمريكي.. سُجلت للدراسة في جامعة صنعاء.. كلية الطب قسم العلوم الصحية.. لأعرف بأن نقلي إلى الجامعة لم يكن إلا لمتابعة بعض الطلاب والأساتذة.. وما دراستي إلا غطاء لنشاطي.. ولم أكمل السنة في الجامعة حتى نُقلت مرة أخرى للعمل كمترجمة في منظمة أوربية تعمل في مجال رعاية الأمومة والطفولة.. وكانت مهمتي السرية رفع تقارير عما ما يدور من أنشطة داخل تلك المنظمة. ومتابعة العاملين فيها.. بعد انتقالي إلى تلك المنظمة بأشهر وضعك القدر في طريقي.. ظننتك في بداية الأمر "حربي" كما هو مصطلح رجال الأمن الوطني.. لكني مع مرور الوقت عرفت بأنه ليس لك علاقة بأي شيء. وأعرفك بما لم تعرفه عني. لتعرف بأنا نتاج لظروف فرضت علينا.. وقد لا يكون لنا يد فيها.. لكنَّا وجدنا أنفسنا في سياق حياة لا مفر من أن نعيشها.. فبعد كل ذلك وجدت نفسي مسيرة.. كانت كل خطوة تقود للخطوة التي تليها. ودوما كنت تحت رقابة غير ملحوظة.. كما هي على غيري.. عرفتها من خلال توجيهاتهم حين يذكرون بعض تصرفاتي وعلاقاتي ضمن سياق أوامرهم.. لأدرك بأني دوماً تحت المجهر..  ما كان يدفعني لأحرص على مزيد من الدقة والمصداقية.. وقد دأبت على ذلك.. إلا معك حين كنت أتعمد تدوين عموميات تصرفاتك.. وبما لا يضر بك.. كما كنت على الدوام أصفك بالساذج والعشوائي.. متجنبة ما يدينك.. مركزة حين آتي على ذِكرك أن يكون ذلك ضمن المجموع.. مثل خرجنا إلى قرية كذا وكان السائق فلان.. والتقينا في اجتماع للمنظمة وتحدث فلان وفلان وكان السائق فلان هو من أقلنا. دون ذكر لتلك المبادئ التي كنت دوماً ما تتشدق بها.. مثل المبادئ الاشتراكية.. وأقوال ماركس وماو.. وتباهيك بميولك الإلحادية.

 

-34-

وحين تقدمت إليهم بطلب السماح لي بزيارة أسرتي في عدن.. فوجئت بأنهم اقترحوا عليَّ اقناعك بمرافقتي.. وبعد أن وافقت على مرافقتي أبلغتهم.. ليوفروا لي وثائق ثبوتية جديدة باسم جديد وتاريخ ميلاد وموطن ميلاد جديد.. وبذلك عدت عدن كامرأة شمالية.. حتى أتجاوز قوائم المطلوبين عند نقاط الدخول حيث اسم البندرية ضمنهم.. كوني خرجت بطريقة غير قانونية. ويجوز أنك لاحظت حين دفعت بك للتقدم أمام ضابط تأشيرة الدخول.. وقد تلكأت عائدة إلى الخلف كمن تبحث عن شيء فقدته.. حتى لا تعرف بذلك حين يفحص الموظف هويتي وقد يبادلني الحديث.. نجحتُ في العبور بوثائقي المزورة.. لحظتها كنت أكتم صرخة كادت تخرج لشدة فرحتي بانتصاري.

بعد عشرة أيام من وصولنا سحبتني والدتي جانباً تهامسني هلعة:

- عليَّك بالرحيل قبل أن يصلوا إليك!

 سألتها وقد ترقرقت دموع عينيها:

- هل عرفوا بوصولي؟.

 هزت رأسها بالإيجاب ماسحة دمعاتها لتحتضنني.  أردفت يسألها: من يكون قد وشى بي؟.

- أنت تعرفين أكثر مني.. أن عيونهم في كل مكان.. حتى في بيتنا!

لتضج دموعها أكثر.. أياً كان من أبلغ عن وصولي.. فقد عذرته في نفس الوقت.. فهم لن يعتقوه لو وصلهم خبر وجودي من خارج بيتنا. كنت ممنونة.. كونه تركنا عشرة أيام.. ثم أنني على ثقة بأن من أبلغ عني.. هو نفسه من أوحى للوالدة بإنذاري.

رتبت مع والدتي أن أخرج خلسة من المنزل دون أن يشعر بي أحد. أتذكر بأنك فوجئت حين قدمت إلى غرفتك حيث تنزل وبصحبتي حقائبي.. هامستك:

- سنرحل فجراً!. التفت إليَّ بين مصدق ومكذب.. تظن بأنني أمازحك:

- ألم تخبريني بأنا سنقضي شهراً.

- جد جديد.. سأخبرك لا قحاً.

- الفجر.. الفجر!.

رجوتك الهدوء.. بدورك لاحظت على ملامحي الجدية.. قضينا بقية ليلتنا الأخيرة في أحضان بعض.. وكانت ألذ ليلة في  فندق بلقيس.. أجزم بأنك بذرت نطفتك في غرفة 322. وأتذكر بأن الحافلة تحركت بنا بعيد الفجر.. كنت منتعشة.. لتخرج من "الشيخ عثمان" باتجاه لحج.. ومنها إلى "كرش".. و"الشريجة". لم أخبرك بأنا في خطر.. وأن  هناك احتمال أن يلقوا القبض عليَّ وارد في أي لحظة.. وأن هناك من أبلغ  عني.. كنت أخفي خوفي بمداعبتك.. وللمرة الثانية نجحت تلك الأوراق المزورة.. والاسم المزور بخداعهم.. ومن جديد تمنيت لو أصرخ لأطرد الخوف الذي أقلقني طوال الطريق. نهضت لأرقص في ممر الحافلة وقد أصبحنا في أراضي الشمال.. أتسعت عيناك ثم غطيت وجهك بكفيك خجلا ممن حولنا وقد رفعوا أكفهم بالتصفيق. حين عدت إلى مقعدي قبلتك.. ثم أخذت أهامسك بأننا تجاوزنا عنق الزجاجة. لتنظر إلي بنظرات متسائلة.. لكنني فضلت أن أحتفظ بسري.. ثم رفعت صوتي أغني لمحمد سعد عبدالله ومن في الحافلة يرددون بعدي بصوت جماعي.

 أحكي لك ذلك لأستعيد سعادة فقدتها.. وأخبرك أنهم وقبل مغادرتنا صنعاء.. حثوني على رفع الصغيرة قبل الكبيرة من تحركاتك وأحاديثك.. وأسماء من تلتقيهم.. لكن تقاريري كما ذكرت لك سابقاً ظلت في العموميات.

أمر آخر أحدثك به.. تلك الكتب التي كنت أهديك إياك.. كانت بتوجيهاتهم.. ولا أعرف حتى اليوم.. لماذا كانوا يشيرون عليَّ بذلك.. لكن ما غفر لي أن ذلك أدى إلى زيادة معدلات قراءتك يوما بعد آخر.. ولم تمر شهور حتى رأيتك قارئاً نهماً.. وبعد هذه السنين أتساءل: ماذا كانوا يريدون من متابعه ما تقرأه ؟.

أبوح لك بما لم تكن تعرفه.. وقد وضعتك في الصورة لا لأبري نفسي ولا لأدينها.. وأعلم لو تُرك لي الخيار لما رفعت عنك أي تقرير.. ولا على غيرك.

تلك الجملة التي ذكرت بأن المحققين كانوا يرددونها عليك "قد البنات قشعين جحرك". أنت تعرف من يقصدون.. فكم أخريات في حياتك قد ألحقن الضرر بك؟. وعليك أن تبحث عمن تكون.. قد تجدها بينهن!.

أحدثك بكل صدق.. وقد أقنعت نفسي بأن أفتح معك صفحة جديدة.. أن تتجاوز كل ما ظننته فيَّ.. وأن تزيل فكرة أن أكون قد أضريت بك يوماً.. وإن بدا لك ذلك.

لكني أسألك: هل كنت جاداً في قتلي .. لقد قرأت ما ورد منك ولم يكن له وقع في قلبي.. قرأته وكأنك تتحدث عن إنسانة لا تخصني.. أظنها كذلك. ثم أتخيل حياتك بعد خروجك من السجن.. وأشعر بآلام تعتصر قلبي.. أرجوك حدثني كيف عشت بعد ذلك.. هل عشت حياتك بشكل طبيعي.. ولم تؤثر عليك تلك الظروف. هل تزوجت؟. هيا أخبرني.. أمنحني بعض الراحة بسرد أيامك.. دعنا نفتح صفحة جديدة".

أكمل قرأتها.. يفكر بأمر تلك المرأة وقد بدت على عكس رسائلها السابقة.. واضحة.. صادقة.. واقعية.. يشعر بأنها تعتذر لما ارتكبته في حقه.. وإن لم تعترف مباشرة.. فكر كثيراً وقد دعته بفتح صفحة جديدة.

 كتب: " جاءت رسالتك.. أكثر صدقاً ووضوحاً.. وأنا مع دعوتك لفتح صفحة جديدة.. لكن.. شدني ما ورد في رسالتك حول اعترافك بأنهم من كانوا يطلبون منك مراقبتي.. أيضاً طلبهم أن تقنعيني  بمرافقتك إلى عدن.. ثم بالأمر بتزويدي بتلك الكتب. وأسألك هل علاقتنا كانت بالأمر منهم؟. وحبك  أيضاً؟!. هل أجد إجابة.. حتى نمضِ بعدها حسب دعوتك بفتح صفحة جديدة.

 سألتني هل كنت جاداً في قتلك؟. لتعلميبأن من قابلته في أخر لقاء.. لم يكن أنا.. بل سجين يخاف من كل شيء.. ويخشى كل شيء.. شخص يشعر بالخديعة.. وحين خرج هارباً كنت تهرولين في إثره... 

أما حياتي بعد ذلك اللقاء.. فبعد أن عرفت الطريق إلى مسكني.. سكنني الخوف.. وكان المؤشر بأنهم في أثري.. وكنت على يقين بأنك تلاحقينني.. فكرت بالانتحار حتى أقطع عليهم الطريق.. ثم حدثت نفسي أن أعود إلى قريتي.. مكان لا يصلون إليه.. وبالفعل غادرت المدينة حالماً بلقاء من تبقوا من أصدقاء الطفولة.. أن أجتمع بهم في مقايلهم نمضغ القات ونتسامر بعيداً عن عيون العسس.. أزور المعلامة.. تلك التي كانت تجمعنا بسيدنا الأعور في أطراف ساحة المسجد الوحيد. لكني لم أجد القرية التي تركتها يوماً.. مات معظم من كانوا في سن أبي.. وشاخ البقية.. وأخوتي تفرقوا ولم يعد منهم إلا واحد.. يعمل بالأجر اليومي في مزارع الآخرين.. تاركا أرض والدنا صَلَباً. أصدقاء الطفولة لم يعودوا كما كانوا.. تزوج البعض منشغلاً بهموم الأولاد.. والبعض غادر القرية.. إلا "قانح". ذلك الذي ظل بعفويته وكأن السنوات لم تبله.. ولم يكن قد تزوج.. وبذلك وجدت من يشابهني.. دوما نلتقي أشاركه مضغ القات جالسا وسائراً.. فهو من القلائل الذين يعتبرون القات مادة غذائية.. فأجده يلوك أغصانه في كل وقت. لكن ما كان يبهجني نثره لضحكاته العفوية أينما حل. أسر إلي بأنه عضو في إحدى الخلايا السرية للحزب الاشتراكي.. وأنه مُكلف بتنشيطي تنظيميا.. نفرت منه شارحاً له خذلانهم لي.. بعد أن وعدوني بأن يحموني من أي ملاحقات أو اعتقال.. كان وعدهم لي بعد خروجي من سجني الأول.. قلت له: إن أردت أن تستمر صداقتنا أنس الموضوع.. أريد أن أعيش بعيداً عنهم.

لم يمل من ملاحقتي.. يدعوني لنتحاور: لن أغصبك على شيء لا تريده.. لكن دعنا كما كنا أصدقاء.

وجدت نفسي وقد تزوجت بشقيقته الصغري.. انشغلت بعدها بفلاحة الأرض وإضافة غرفة علوية إلى بيت أبي.. رزقت بطفلة.. ثم بأخرى ولم تمض سنوات حتى كان لي ثلاث بنات وولدين.. وامست أسرتي كل حياتي. خلال تلك السنوات تحققت الوحدة بين "البيض" و"صالح".. ما جعل قانح منشرحاً.. مردداً: ما تحقق يا "نسبي" العزيز ثمرة كفاح والدك ونضالاتنا.. دم والدك لم يسفك بدون ثمن.. لك أن تفخر بأنك من أسرة مناضلة.. وأنك ابن الشهيد.. وعليك أن تمضي في طريقه.

لم أكن أحضر مقايل القرية.. ولا مناسباتهم إلا في النادر.. تعودت تجنبهم.. وتعودوا تغيبي.. يأتي صديقي بقاته نصعد سطح منزلي المطل على جبال الوادي.. تجالسنا أخته.. نمضغ القات ونرتشف فناجين القهوة.. نتابع تلك السحب القادمة من أسفل السماء.. وتلك الطيور التي تسكن الأجواء لتشرب الريح.. أختلس النظر إلى أطفالنا وهم يتلاحقون هنا وهناك.. لم أفكر بعدها بمغادرة قريتي. وكان قانح من يزودني بآخر الأخبار.. حول خلافات السلطة.. عن خطط الحزب الاشتراكي لمواجهة تسلط صالح وتنمره على شركائه في تحقيق الوحدة.. وكان يلون لي الحياة بألوان مبهجة.. وأرى الغد بعينيه وقلبه المشرق. إلى ذلك المساء الذي ظهر فيهقانح بعد غياب أيام.. ليحذرني من حملة ملاحقات لأعضاء الحزب الاشتراكي.. وأن الخلاف الناشب بين صالح والبيض قد تطور إلى قطيعة.. شرحت له بأني في منأى عن الجميع.. وأن من يتصارعون همهم مصالحهم ولا يضعون للوطن أية قيمة.. ليؤكد لي بأني لدى جماعة صالح عضو نشط في الحزب الاشتراكي.. وأنني في خطر.. وأن من يتولون الملاحقات لا يعرفون إلا أسماء مدونة لديهم.

أختفى بعدها قانح.. وأخذت أهون الأمر على نفسي.. وعلى زوجتي.. حتى حين ترددت أخبار انفجار الوضع عسكرياً بين الحزب الاشتراكي بقيادة البيض وقوات صالح.. بدايةً بمواجهات معسكرات عمران.. ثم امتدت إلى معسكرات ذمار.. لتشمل بقية معسكرات الطرفين في عرض البلاد وطولها. ليلجأ البيض إلى عدن تاركاً صنعاء لصالح.. ومن عدن أعلن إلغاء اتفاقية الوحدة.. وإعلان عودة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.  تجلدت متمسكاً ببقائي بين أسرتي.. بعد أن أصبحت كالأعمى في غياب قانح.. لتصلنا أخبار بأنه التحق بصفوف مقاتلي الاشتراكي.

تصاعدت أخبار اتساع المعارك في أنحاء الجمهورية.. وملاحقات واسعة للاشتراكيين.. لكنني ظللت صامداً.. حتى ذات مساء عندما حضر من يقتادني إلى سجن إدارة أمن المحافظة.. لم أكن وحيداً.. وجدت نفسي بين العشرات ممن جُمعوا من مديريات أخرى.. لأدرك بأن سطوة صالح قد تغلبت على البيض وحزبه.. وأن المدن والأرياف عمها الخراب. ولم يكن السجن الذي أودعونا فيه سجناً.. بل عدة غرف بسيطة للحجز.. ولم توجه لنا أي تهمة.. ولم يخضعونا لأي تحقيق.. وقد تناسونا منشغلين بمتابعة تطورات الحرب التي عمت أرجاء الوطن.. لتنتهي بهروب البيض من عدن إلى حضرموت.. بعد دخول قوات صالح.. ثم عبر المهرة فاراً إلى عُمان.. وقيادات أخرى للحزب الاشتراكي فرت عبر البحر إلى "جيبوتي".

بعد أيام من انتصار صالح.. اجتمع بنا محافظ المحافظة الذي هنأنا بالانتصارات العظيمة وهزيمة الانفصاليين.. مبشراً لنا بصدور أمر صالح بإطلاق سراحنا.. ناقلاً تحياته إلينا.. مختتماً كلمته بهتاف: الوحدة أو الموت.. الوحدة أو الموت. لنرددها بعده وكأننا على خشبة مسرح نقوم بأدوار كوميدية.

هامسني أحد رفاق السجن بأن إطلاق سراحنا ليس إلا تمثيلية.. مؤكداً وصول معلومات مؤكدة بأن صالح أصدر أوامره بمصادرة مقرات الحزب في عموم الوطن.. وتجميد أرصدته.. وملاحقة عناصره.. ناصحاً لي بالتخفي عن عيون العسس.. وعدم العودة إلى قريتي. ليصبح عام94 بمثابة عام النكبة للاشتراكية في اليمن.

لم أعد إلى قريتي.. وبقيت أتتبع الأخبار ليصلني خبر استشهاد صديقي قانح في مواجهات بالضالع. فقدت البوصلة بعدها.. وتلك الأخبار تتواصل عن اشتداد الملاحقات لأعضاء الحزب.. كنت أود أن أصل لأعزي زوجتي بمقتل شقيقها.. أو أن أحملها وأولادها وأهرب.. لكن الأخبار كانت تأتي لتفيد بأن السجون عادت لفتح أبوابها. ومن لحظتها قررت الفرار لأولي وجهي شطر صنعاء.. ومن يومها وحتى اليوم لم أعد إلى قريتي.. ولا أعرف شيئاً عن أحوال أسرتي.. فقط تركت لهم بيتاً يأوون إليه وقطعة أرض يفلحونها.. لأعيش متنقلاً في أحياء صنعاء متخفياً.. لا يستقر لي حال بعد أن سكنني الخوف.. وعملت في عدة مهن.

ما زاد حزني قراءة خبر استشهادك في عدن.. في أكثر من صحيفة.. ليترسخ حزن روحي.. وبذلك شعرت بصفحة من حياتي تطوى.. وصفحة أخرى تبسط على المجهول.. وهذا انا في تيهي مستمر.. حتى أني حين أجالس نفسي لا أجد ذلك الكائن الذي كان أنا.  

أكتب إليك الآن.. وأنا في معركة مع نفسي.. معركة العودة لمواجهة الحياة.. لنفض الخوف والانزواء.. وتجاوز قيود الماضي. صحيح لقد تجاوزت اليوم الخمسين.. لكن عليَّ أن أعيش ما تبقى لي من أيامي. كما يعيشها غيري.. أن أقاوم الخوف وأفتح نوافذ الغد.. وأن لا أدع الماضي يكبلني.. أريد مصادقة الناس.. أريد أن أعود...".

 

-35-

مع صباح يوم قارس سمع شنوق أصوات انفجارات بعيدة.. لتتصاعد سحب دخان من جهات متفرقة.. يقود دراجته في "الدائري"بإجاه "الصافية" وسط ناس مذعورين. اختفت الحافلات وعربات الشوارع.. وسارع أصحاب المحلات لإقفال محلاتهم وأكشاكهم. تسرب شنوق مع الفارين عبر الأزقة.. لتحمله دراجته باتجاه باب اليمن ثم التحرير.. رويدا رويدا أفرغت الشوارع من العربات.. واختفى العابرون عدا قلة من المتربصين.. أقترب شنوق من أحياء المدينة العتيقة ليشعر بالأمان.. هي المرة الأولى التي يركن فيها الدراجة أسفل مدخل الدار الذي يسكنه صاعداً في ارتباك.. ما أن وصل غرفته حتى التقط جهازه ليتأكد مما يتناقله الناس حول تلك الانفجارات.. يبحث عن أخبار.. لكن فوجئ بخدمة النت معطلة.. فلا مواقع تُفتح ولا رسائل تصله.. كان يريد التأكد مما يتناقله الناس من مواجهات مسلحة تدور بين أنصار عفاش ومليشيات الحوثي.

زاره صاحبه ليلاً محذراً له الخروج أو التجوال.. قال له: صنعاء تلتهب الدبابات تنتشر في الشوارع والأحياء.. وأن المواجهات على أشدها بعد  اندلاعها صباحاًفي الأحياء الجنوبية والغربية.. وانتشارها في بقية أجزاء المدينة.. ويقال أن الحوثة سيطروا على مسجد الصالح وميدان السبعين..وقد اقتحموا بيوت بعض أنصار عفاش.. وأنهم في طريقهم لتطويق منزله.

أدرك لحظتها صدق ما كان الناس يتحدثون به.. وأن تلك الانفجارات وأعمدة الدخان وارتجاج الأرض تحت الأقدام لم يكن قصفاً جوياً من طيران الجيران. أو قصف من قوات "هادي" التي تزحف على صنعاء من جبال "نهم" شرقاً.. مدركاً خطورة الوضع.

باتت صنعاء تلك الليلة في خوف.. ويتناقل الناس أخباراً حول اقتحام المليشيات لمعسكرات طوق العاصمة.. بعد سيطرتها على الأحياء الجنوبية للعاصمة ومقار الدولة.. وأمست الشوارع والأسواق قفرة. ليظهر عفاش على شاشات الفضائيات داعياً الشعب للثورة على طغيان الحوثة.. موجها نداءاته لقادة المعسكرات وموظفي مؤسسات الدولة ومشايخ القبائل في عموم البلاد بالانقضاض عليهم.. وتطهير البلاد من شرورهم.

لكن أخبار اليوم الثالث أكدت.. أن مسلحي الحوثي أحكموا حصارهم على منزل عفاش ليعلن في يوم 4/ديسمبر مصرعه مع وعدد من قادة حزبه ومناصريه.. فدب الذعر بين السكان.. وتلك العربات المسلحة تسيطر على الميادين والساحات.. كما نشطت الملاحقات لمن تبقى من قيادات حزبه ومناصرية.. عسكريين ومشايخ قبائل.. وخلال أيام تم تصفية المئات منهم واقتيد الآلاف إلى معتقلات سرية. لتنتشر فرق الموت محمولة على "شاصات".. تتعقب من أصيبوا أثناء المواجهات ونقلهم إلى المستشفيات.. والذين فروا اقتيدوا إلى أماكن مجهولة.. تم تصفيتهم.. كما حُوصرت منازل.. وفجرت أخرى في صنعاء ومدن متباعدة بتهمة استجابتهم لنداء عفاش قبل مقتله.

 أثناء تلك الأيام ظل شنوق حبيس مسكنه.. يطل من نافذته ليرى المدينة تهزها القذائف المتبادلة.. ويتابع سماؤه وقد ظللتها روائح الموت.. ما زاد من قلقه على سقوة التي انقطعت أخبارها بانقطاع النت.

بعد أيام غامر بتسلله راجلاً عبر أزقة وشوارع المدينة العتيقة.. وقد بدت مليئة بالخوف والخواء.. خرج باتجاه التحرير.. نفير سيارات الإسعاف من كل اتجاه.. وصل إلى شارع المطاعم.. وجده مقفراً إلا من عدة مجانين ومجموعة كلاب.. صعد عبر شارع جمال.. حتى سوق قاع اليهود.. شوارع خاوية إلا من آليات مسلحة تجوب الشوارع.. كان يتمنى أن يمضي غربا حتى الدائري وشارع هائل عله يجدها.. لكن نقطة للمسلحين منعته منالعبور.. عاد باتجاه باب اليمن عله يجد بائعة الريحان.. تلك التي تقتعد ومجموعة من النساء رصيف مبنى القشلة.. أن يسألها عن سقوة.. لكن الشوارع  فارغة إلا من أكوام المخلفات.. وقطعان كلاب.. ومسلحين على عرباتهم يجوبون شاهرين بنادقهم. وقد تعرت جدران إلا من ملصقات خضراء.. وصور صبيان. تعجب لاتساع تلك الميادين والشوارع.. حتى أن الأبنية تضاءلت أحجامها. تتهادى أصوات المآذن مرددة "حسبنا الله ونعم الوكيل.. حسبنا الله...".

عاد مذعوراً.. عابراً لأزقة راجفة.. لينزوي حزيناً.. لا يعرف ما عليه فعله. غرق في القراءة لأيام.. يستيقظ قلقه على سقوة.. يحاول التواصل عبر النت.. ولا يجده.. ثم يجنح للقراءة مرة أخرى.. ثم يطل من النافذة يبحث عن جديد.. وهكذا يراوح  بين تصفح كتاب.. والتفكير في سقوة ليعاود النظر من النافذة .. هي المرة الأولى التي تخالطه مشاعر خوف عليها.. مشفقا على فتاة وحيدة مصابة بمرض عضال.. في جو مشحون بالبارود والدم. يتحسس مشاعره تجاهها.. يجدها وقد خالطتها مشاعر أبوة.. يريد أن يشعرها بالأمان وهي في تلك الظروف.

فضل البقاء بداخل سكنه.. وذلك الدوي المتواصل ليل نهار يهز دور صنعاء العتيقة.. يعاود النظر من نافذته يتابع الزقاق الخالي.. الصرحة الواسعة مقفرة إلا من عابر مسرع الخطى. تلك المحلات القليلة مقفلة. أغلق كتاباً بين يديه على وقع خلخلة مغلقة الباب.. نهض مستقبلا صديقه ببشاشته المعهودة:

- أتيت اللحظة لأتحدث إليك في أمر هام.

دُهش وقد اختفت ابتسامة صديقه وبدا بنظرات زائغة.. وكست وجهه الصغير ملامح كئيبة.. واختفت حمرة وجنتيه.. سأله بصوت واه:

- ما الأمر!

- ما دمت تبحث عن عمل.. عندي لك عمل!

- أي عمل في هذه الحال الكارثي؟

- الحوثة أعلنوا من لم يكن معهم فهو عدو لهم.

- هذا ما يرددونه منذ سيطروا على البلاد!

- هذه المرة هم جادين.. لم يعد من معارض لهم. أنت تعرف بأني أنفذ ما يملونه عليَّ حباً في السلامة. ولذلك أتيت إليك لأنك صاحبي.. وأمرك يهمني.

- أعرف.

- ورغم تنفيذي لما يملون علي.. تصلني همساتهم بعدم إخلاصي.

- أمر محير!.

- وتعرف بأن تقسيمهم للناس نابع عن عقيدة لديهم.

- لكنك زوج الشريفة.. فكيف تظل في دائرة شكهم؟!

- بل الشك والتقية.. جزء من تلك العقيدة.

- زوجتك.. سندك؟!

- بدأت تتغير.. وعند أي نقاش تردد لا أمان "للزنابيل"!

- الشريفة تقول ذلك!

- هي لا تتفوه إلا بما تُلقن.. هذا وضعي..فكيف بك؟

- ماذا بشأني؟

 - عليك من اللحظة أن تخرج لمناصرتهم حتى تأمن شرهم.

- الأمر صعب.

- على مدى وجودك بيننا عرفت قناعاتك.. لكن اليوم اختلف الأمر.

- أترضى لي في هذا السن أن أكون قاتلاً؟

 - لم يعد اليوم لأحد من خيار ثالث!.

- لكني لا أستطيع.

- هل تثق بي.

- لكني لا أثق بهم.

إذا أرجوك أن تتذكر يوم التقينا لأول مرة... لا زلت أتذكر يوم كُنت أنا عائداً من صلاة العيد.. عابراً الممر الخلفي للجامع الكبير.. لفت انتباهي جمع من الناس وقد ارتفعت أصواتهم.. وأطل سكان كوات مهاجري الجامع يتابعون ما يجري.. اقتربت أستطلع الأمر.. رأيت شخصين يمسكان بتلابيب رجل وقد جثم أرضاً.. هامين بسحبه.. التقت عيناي بعينه.. شعرتأنه يستجير بي. أرتفع صوتي زاجراً ما يصنعون به.. أحدهم نظر إلي قائلاً: "ماحدش له دخل".

لم أسكت.. محاولاً إقناعهم بتركك.. لينبري آخر: أترضى بخمار يسكن "منزلة" من منازل الجامع.. أترضى أن يدنس بيت الله؟. موجهاً كلامه الأخير إليَّ. وثالث يرد عليهم: لا يجوز اتهام المسكين بهذا.. بل قولوا بأن طردكم له بسبب مشاركته في مسيرات لرحيل عفاش.

حين سمعت ذلك تشجعت وتقدمت نحوك.. أمسكت بذراعك تحت دهشة الجميع.. وسحبتك خارج دائرتهم تحت تهديدات البعض.. تبعتني صامتاً.. وأنا أفكر في شأنك. صادف أن الدور الرابع من دارنا.. كان شاغراً في تلك الأيام.. فكرت أن أدعك فيه حتى تتدبر أمرك.

ظل شنوق يستمع.. مسترجعا لذلك اليوم صامتاً.. يومها أراد أن يكون للعيد نشوته.. وقد وفر قيمة شراب من أجرة عمله كمساعد لمهندس غسالات. لا يعرف إلا أن جاراً له في منزلةٍ ملاصقة أراد مشاركته.. وحين رفض فضحه.. وخرج يصرخ منتقماً.

أستمر طنهاس متابعاً: ما أن وصلنا باب الدار.. حتى وقفت لأحدثك بما يكون.. لحظتها لفت نظري شحوب وجهك.. ونظراتك المشوشة.. وتلك الرائحة المحببة إليَّ التي تؤكد بأنك ثمل.. لأتخيل أي رجل هذا الذي يجرؤ على أن يشرب في بيت الله؟!. أعدت  تأمل عينيك الضيقتين فلم تشي بشيء.. وجهك الغرائبي. فقط رائحتك التي جذبتني. وإن ظللتأظنك معتوهاً.. أو من أولئك الدهماء.. تأكدت لحظتها بأني وجدت فيك ضالتي.. خاصة بعد أن صعودي بك.. استمعت إليك لأندهش من أسلوب حديثك.. ومنطقك.. وفي لقائنا التالي أستأنس قلبي إليك أكثر.. وبقيت أتجاذب معك أطراف الحديث حتى وقت متأخر من الليل.. ليلتها أدركت بأنك مبتغاي. لتتعدد مسامراتنا السرية.. وأجدك أقرب إلى نفسي.. أو أنك ذلك الكائن الذي تبحث عنه روحي.. لم أبخل عليك بشيء مما يسر لي الله.. ولم أتركك من يومها تواجه الحياة وحيداً.. اصطفيتك خليلاً. وما بيننا من حياة لا يعلمها غيرنا.

صمت لبعض الوقت.. كمن يسترجع تلك الأيام.. ثم أردف: واليوم لا أريد أن أفقدك.. فتلك المسامرات جعلتني أبادلك قيماً  بقيم.. ها أنا وقد وجدت توأم روحي.. وتعرف بأن لقياك سلوتي.. أريد أن أحميك وأحافظ عليك.. أن تسمعني وتطيعني هذه المرة كما طعتك منذ أول يوم تعارفنا.

- فيمَ أطيعك؟ هل أغوي الصبيان بفضائل الجهاد.. وألقي دروساً في رفعة مكانة الشهيد زوراً.. هل ألحق المئات من المغفلين بمهالكهم .. يذهبون ولا يعودون إلا صوراً تلصق بالجدران. 

- لا هذا ولا ذاك.

- فماذا إذاً؟

-  ياصاحبي علينا أن نرضى بأقدارنا.. لكني أخاف عليك. وأخاف أن يضعوا اسمك مع من سيرسلونهم إلى جبهات القتال.

- وما أدراهم بي؟!

- بعد مقتل عفاش.. كلفوا عقال ومشايخ الأحياء بحصر جميع السكان.. وبعد تعدد جبهات القتال.. من الساحل الغربي.. إلى البيضاء وتعز.. إلى صعدة ونهم.. قلوا رجالهم.. ولذلك يسعون اليوم لتجنيد المزيد وإرسالهم.

- لهذا ياصاحبي تضيق بي الدنيا.

- نفكر سويا.. من اليوم سأعيرك قطعة سلاح.. لا تخرج إلا وهي على كتفك.. معلناً مناصرتهم. فلا نعطهم فرصة للنيل منا. أن تخالط الناس في مقايلهم.. في مساجدهم.. وكل مناسباتهم.. أن تكون عينا وأذناً لكل حرف يتفوهون به. وترصد حركاتهم.

- أنت تعلم بأني لا أطيق مجالسة أحد.. فكيف أذهب وأخالط الناس؟. ثم لا أنا ولا أنت منهم.. خدمتهم بمحاضراتك كل هذه الفترة.. يكفي هذا ياصاحبيأدعوك لنهروب معاً.

- لا أرضى لك ولا لي بالهروب.

أنت في أمان ما دمت زوجاً للشريفة.

لا تعرف ما أعانيه.. وما أكابده منها بعد مقتل عفاش.. لقد بدأت تتغير عليَّ وأشك بأنهم سلطوها عليَّ.. تلك المرأة الودودة تحولت إلى كائن متعال ومناكف.. لقد أفسدوها بعد ضمتهاالشرايف إلى دورات "الزينبيات".

 

-36-

طال النقاش بينهما.. ليتبعهشنوقإرضاءً وبغير اقتناع.. ليحضر لقاء للمكلفين بمتابعة المندسين بين عامة الناس.. أو من يطلق عليهم بالطابور الخامس. كان اللقاء في قاعة واسعة.. تم تدوين أسماء من حضروا مع معلومات شخصية. في بداية اللقاء وقف شخص "أبو حسين" بملامح صارمة وإن حاول تليينها بابتسامة باهتة.. مبتدراً حديثه بذكر الله والثناء على رسوله الكريم وآله الميامين.. والدعاء لقيادة أنصار الله وولي المسلمين أبو جبريل.. بالنصر المبين. استمر يحدث بكلام أقرب إلى السجع.. وبلغة مقعرة.. حتى ظن شنوقبأن المتحدث قد بعث من زمن قديم. ثم أنتقل للحديث حول ما يشنه أعداء البلاد من عدوان وما يحيكون من مؤامرات.. مشيرا إلى أعوانهم بـ"طابور خامس" ينتشر بين الناس باثاً الشائعات.. وناشراً البلبلة.. مؤكداً بأن ذلك أشد فتكا من عدوان الأعداء بقيادة أميركا وإسرائيل.. منوهاً إلى أن تلك الألسن التي تنشر الشائعات الكاذبة يجب أن تبتر.. وتلك العيون التي ترصد للعدوان كل ما يدور يجب أن تسمل.. معلناً أن على كل فرد رصد تحركاتهم وما يتفوهون به أن يبلغ عنهم فوراً.. رافعا صوته: أنتم درع الوطن وعيونه الساهرة.. أنتم أنصار الله. واعداً لهم برصد المكافآت السخية.. موجهاً بتقييم ما يقومون به.. لينال المجتهد ترقيات إلى مراكز عليا.. ومن يكشفون أذيال الأمريكان وآل سعود لهم المكانة السامية.

ظل شنوق من موقعه بينهم يرهف السمع دون حركة.. فقط ينقل عينيه هنا وهناك ليراهم متشابهين.. ويرى نفسه غريبا بينهم.

التقاه صاحبه مساءً.. ليجده مشتت التفكير ساخطاً على نفسه:

- لا أريد أن أتورط أكثر ياصاحبي.. لقد عانيت طوال عمري من العسس.. وأجدني اليوم أمارس ما مُورس عليَّ.. سأفر.. لن أبقى بينهم.. وأدعوك لأن تفر معي.. أرض الله واسعة.

 ما سمعه صاحبه.. حتى أخذت أطرافه ترتعش.. وعيناه ترمشان:

- أتظنهم يتركونك؟!

- إن لم توافق الفرار معي.. سأهرب بمفردي!

- لن يتركوك بعد أن حضرت لقاءهم.. وتعرفت إلى عيونهم.. عليك بالتراجع عما نويته.. ستكون هدفاً لبطشهم.

- أفضل الموت على أن أكون متلصص...

- الأمر لا يتعلق بإرادتك.. فكر جيداَ.

- لن تصدق بأن قراري كان لحظة وجودي بينهم.. لقد فكرت وانتهيت.

- أترضى أن تتركني وحيداً في هذه الظروف.

- دعوتك.. لكنك تستمرئ خدمتهم.

- إن كنت مصمماً.. فلا تحدث أحدا بما نويت.

- لم يعد من وقت.. سأرحل عند الفجر.

هبط صمت ثقيل بينهما.. ثم التفت شنوق راسما على وجهه ابتسامة حانية: لماذا لا تفر معي؟.

- لا أريد أن أموت بعيداً.

ظل الصمت ثالثهما تلك الليلة.. وحين تعالى منادي الفجر تعانقا دامعين.. مد له برزمة من المال:

- كيف أكون بعدك.. سأحتسب حرماني عند الله حتى نلتقي.

خرج شنوق حاملاً كيساً على ظهره.. جمع فيه بعض حاجاته.. وجهازه.. مودعاً كتبه وتلك الزوايا التي احتضنته لسنوات.. النارجيلة القصيرة.. متكأ سقوة .. شماعة ملابسها.. متكأه خلف النافذة...

سار عبر أزقة عتيقة تفيض خوفاً.. قباب ببياض كئيب.. مناراتها متشحة ببقايا عتمة المساء.. صور خضراء على الجدران تبوح برائحة الموت.. حاذى الجامع المقدس.. تذكر تلك الـ "منزلة" التي سكنها يوماً.. عرج على الممر ليرى بابها.. عبر باب اليمن.. رصيف القشلة الخالي من بائعات الريحان والخضر والدواجن.. حاذى "القبر الأبيض". وقد تمركزت عربات مجنزرة حوله.. يرى المدينة وقد تحولت إلى ثكنة للمسلحين.. لا أحد غير قطعان كلاب سائبة.. لاحظ أحدهم يتابعه بصوت هابط: هاه.. هل تريد أن تغادر؟.

 وقف بحذر هازاً رأسه بالمواقفة.. أردف ذلك الشاب: إن أردت ذلك أتبعني!. سار خلفه يتلفت.. حتى الساحة الأمامية لجامع الشهداء: انتبه.. في النقاط التي ستمر منها السيارة يطلبون الهويات.. فهل تحمل هويتك؟.

أومأ برأسه وهو يتبعه إلى عربة تقف في شارع فرعي.. أخبره بأن السيارة ستتوجه نحو بلاد "بني مطر" غرباً..  منوها إلى أن بقية منافذ الخروج خطرة.. ناصحا له إخفاء نقوده.

 

-37-

خرجت به السيارة أطراف صنعاء.. أذهلته طوابير السيارات المحملة بالفارين صعودا إلى مرتفعات عصر.. نقاط مسلحين  ينزلون الرجال في صفوف والنساء في أخرى.. لاستجوابهم وقوفاً.. كثير من يقادون عائدين بهم إلى أحشاء المدينة.. لتمضي العربات دونهم.. عبرت عربةشنوق لأن السائق يعرفه بعض المسلحين.

صعدت بهم حتى قاع "بني مطر". أبهجه ذلك الأفق الواسع.. مزارعون منهمكون في حقولهم.. رعاة يقودون قطعانهم في مروج قريبة. يتأمل سحابة نقية تزين وجه السماء.. طيور تحلق فوقهم.. ذلك الإيقاع الرتيب كأن لا موت في الجوار.

طريق أسود يتراقص تحت عجلات السيارة.. وتلك القرى الوادعة على سفوح جبل "النبي شعيب" الملامس لحواف السماء. إلى جواره جبل اللوز بخضرته المتماوجة.. توقف السائق خلف طابور آخر من العربات ينتهي بنقطة مسلحين.. برميل في منتصف الطريق.. وعلم يهتز بتكاسل على عصى مكنسة غُرست فيه.. سمعوا صوتا يأتي من اتجاه الدبابة الرابضة.. يشير بأن يأتوه بركاب السيارة.. مط شنوق رقبته وقد التفت من حوله إلى مصدر الصوت. يُسألون.. ثم يتكرر نفس المنظر. نقطة بعد أخرى تتناقص طوابير السيارات حتى سوق "متنة". قرية على الطريق.. توقف السائق من جديد قبل أن يصل أمام تجمع للمسلحين.. ليأخذ جانباً رافعا صوته: وصلنا آخر مكان.. يمكنكم النزول.

هبط حاملا كيسه.. يتلفت حوله..  شعر بنوع من الأمان.. يسأل من في السوق عن سيارة مغادرة.. ابتسم وقد أشار له أحدهم إلى عدد من السيارات في أطراف السوق. أختار المتجهة جنوباً.. طريق ترابية تثيرها دواليب السيارة.. مع كل قرية يقتربون منها يهبط بعض الركاب ويصعد آخرون.. حتى كانت آخر محطة لذلك الطريق "حمام جارف". عرف من هناك اتجاه قريته جنوباً.. فضل السير محاذياً لجدول الينابيع الحارة.. ولم ينته به النهار حتى كان يشرف على شعاب كثيفة.. سكن كهوفاً على سفوح تلك الجبال.. يسحره منظر الطبيعة صباحاً.. حيث تشبعت بالسكينة والهدوء.. يسير مع شروق الشمس.. ليتراقص الوجود بشقشقة العصافير وخرير المياه .. هابطاً بين جذوع الأشجار محاذيا لمياه تشعبت مجاريها.. يرفع ناظريه.. جبال شاهقة تحيط بتلك الشعاب.. سكن قلبه سلام غامر.. يتمنى لو كانت سقوة رفيقته.. زاره طيف صاحبه.. حتى أن صدى صوته في آخر لقاء يتردد على مسامعه.. يبتسم هازاًرأسة في أسى ماضيا في طريقه.

 يتسلق فروع الأشجار باحثاً عن ثمارٍ تسد رمقه.. تذكره تلك الأحراش والشعاب الساكنة بشعاب قريته.. فيزيده الوجد إليها.. وقد رأى نفسه مستقراً بين أولاده.. يذهب كل صباح إلى الوادي كما كان.

لم يتوقع أن يكمن له الموت وسط تلك الجنة.. وأن ذلك السكون يخادعه.. حتى صادف ذات صباح أشلاء قرد متناثرة تحت جذوع الأشجار.. أدرك بأنه في خطر ماحق.. خرج باتجاه سفوح الجبال مذعوراً.. يلتفت ليرى جنة مخادعة.. صادف في طريقه أول راعٍ..  ليخبره أن لا أحد يجرؤ دخول تلك الشعاب إلا مسلحاً.. وإلا لن يمسي إلا في بطون حيواناتها المفترسة. يسترجع لحظاته وحيدا ليومين بلياليهن. فيشعر بقشعريرة الموت تسري في مفاصله.

 حاذا عدة قرى متجنباً تلك الشعاب التي بدا منظرها من المرتفعات غامضاً ومخيفاً. تجاوز ودياناً وسلسلة جبال شاهقة.. هابطا مجارى سيول جافة.. حتى كان في سوق السبت قرب الظهيرة.. مجموعة من السقائف على مفترق وديان هابطة من اتجاه قريته.. كان بعض تجار المواشي.. وباعة البهارات والقات وسلع متنوعة لا يزالون يعرضون سلعهم.. وعدد من فلاحي القرى المجاورة بمنتوجاتهم الزراعية.. تجاوز السوق باتجاه قريته متجنباً رفقة العائدين والغادين.. حتى لا يتعرف عليه أحد.. صادف رجلاً أعمى تقوده صبية على مشارف قريته.. عرف الأعمى دون أن يصرح له:

- السلام عليكم.

- وعليكم السلام.. من الأخ؟

- عابر سبيل يا بصير!.

ليندمجا دون مقدمات بأحاديث عن الأوضاع المعيشية.. وأحوال الحياة التي تسوء يوما بعد يوم. ثم صمت البصير لبعض الوقت ليعود سائلاً:

- من أي البلاد أنت ياخبير؟.

- بلادي بعيدة. لكن أتسوق في"سوق السبت". متنقلاً بين عدة أسواق.. وقد تعرفت منذ حين على بعض رواد السوق من قرى الوادي.

- مثل من؟

ذاكراً له بعض الأسماء.. ثم بدأ يسأله عن بعضهم في حذر.. حتى وجد  الحديث يقود ذلك البصير من موضوع إلى آخر.. حول أحوال من يسأل عنهم شنوق.. سأله:

- وشنوق هل عاد إلى قريته؟

- أو تعرفه؟

- عز المعرفة.. لكنها معرفة قديمة.

- لم يعد منذ سنين طويلة.. حتى أن أخباره لم تعد تصلنا.

صمت قليلاً ثم تابع: كان شاباً غريباً.. لا يستقر على حال.. ترك زوجته وأطفاله.. وقيل بأنه سُجن لأنه شوعي.. وقيل بأنه طاح في الأرض مجنوناً حزنا على صديقه وصهيره "قانح" الذي قتل في حرب البيض وعفاش.

- وأولاده من لهم؟

- زوجته.. تزوجت أخيه...

شعر بصدمة مفاجئة.. حتى كاد يسقط  أرضاً.. ولم يعد يسمع من صوت البصير إلا طنيناً.. حاول التماسك.. لكن الأرض أستمرت تميد من تحت قدميه.. بعد برهة استطاع استعادة صوته.. ليقاطعه بصوت حاول أن يكون طبيعياً:

- تزوجت أخيه.. أيجوز ولها زوج...!

- نصحها الناس بفسخ زواجها بعد أن ساءت حياتها..

- لا يعقل!

- ما هو الذي لا يعقل؟

- لا شيء.. فقط هل فعلت؟.

- لم يكن أمامها إلا أن تفسخه.

- هاه ثم ماذا؟

- وبعد موت زوجة أخيه.. شجع الناس أخاه ليتزوج منها.. حتى يرعى أولاده.. كل شيء تم حسب شرع الله وسنة نبيه... لكني أراك مهتماً به!

- لا شيء مجرد تساؤلات.. وكيف حال زوجته وأولاده؟

- هي امرأة صبورة.. فقدت شقيقها ثم زوجها.. ولم تتزوج إلا لحاجتها لمن يعينها على فلاحة الأرض.. وتربية أولادها.. وقد زوجت بنتها الأولى بعد الثانية.. وهن اليوم أمهات.

 ظل صدى صوت ذلك البصير يتردد.. لقد تزوجت بأخيه: تزوجت بأخيه.. تزوجت.. تز. رفع شنوق وجهه إلى السماء.. نحو تلك الجبال.. يبحث عن الصوت.. يرى الطريق كأفعى تتلوى أمامه.. يشعر بأنه لم يعد يرى في ما حوله ما يعنيه.. ولا حاجة به للعودة إلى قريته. 

يزيد صوت البصير من إيلامه: شيخ القرية يستلم مبلغاً علن كل صبي يلحقه بمليشيات الحوثة.. الزمن لم يعد كما كان ولا المشايخ.. لقد تحولوا إلى سماسرة لتجار الموت.. حتى أن ابنها الكبير لم يعد إلا صورة سُلمت لها كشهيد.

- ابن من  يابصير؟

كان صوت شنوق غارقاً في حزنه حين نطق تلك الكلمات.. ليرد عليه البصير باستغراب من لهفة صوته:

- ابن شنوق الكبير.. وتبقى لأمه الأصغر الذي تحرص أن يكون إلى جوارها.. حتى لا يبيعه الشيخ.

شعر بصوت البصير يقتلع  قلبه.. ظاناً بأنه قد عرفه.. وإلا لما أوغل في سرد تلك الأخبار المؤلمة دون غيرها. ظل يسير إلى جواره صامتا وصدى كلماته يتعاظم...

عاد صوت البصير بالحديث.. لكن شنوقرفع صوته في حدة: كفى.. كفى أرجوك...

بهت البصير متوقفا عن السير.. يمد كفيه في الفراغ يحاول الإمساك به.. أن يسأله حول صراخه.. ومن يكون.  لكن شنوق كان يهرول مبتعدا باتجاه القرية.. وقد ظهرت ليراها من خلف دموعه تهتز لخطواته.. الجبال تهتز.. السماء كذلك.. مزارع الوادي وأشجاره.

جلس في ظل شجرة محاولا استيعاب ما سمعه.. وهو الذي ظل يحلم بعودته لزوجته وأولاده.. أن يستقر ما تبقى له من عمره.. يفلح الأرض فحسب. تمنى أن يكون حديث ذلك البصير مجرد توهمات.. وأن زوجته لا زالت تنتظر قدومه. 

 ظل بقية نهاره يقنع نفسه بأن ما سمعه من ذلك الأعمى مجرد أكاذيب.. يفكر بالتوجه إلى بيته.. أن يعتذر لزوجته ويعاهدها أن لا يتركها حتى الممات.. أن يجمع بناته حوله وأولاده.. ليستعيد أمانا أفتقده. لكنه عاد يحدث نفسه: ماذا لو كان ما سمعته هو الواقع.. كيف سأبدو وأنا أقف أمامها؟. كان النهار يلفظ أنفاسه.. فظل يبحث عن مأوى بين محاريس المزارع..وظل يفكر فيما هو فيه.. أستدل على محراس شبيه بقلعة حرب يشرف على مزارع  الوادي من ربوة.. قضى ليلته يقلب الأمر.. يندب حياته تارة وتارة يفكر.. مستعرضاً علاقته بشقيقه منذ الصغر.. متسائلاً: هل ما قام به من عمل فعل بطولي في نظر سكان القرية.. وقد قام بدور المنقذ.. بينما يضعونه في موقع الحقير؟!.

لم ينم ليلتها حتى انبلاج الصباح.. يقلب الأمر دون طائل.. خرج متحايلاً يتجنب العابرين حتى أقترب من مزرعته.. كمن ليتأكد حتى لمحها قادمة.. وشخص يتبعها.. تجاسر على رهبته يرقبهما حتى دخلا المزرعة.. عرف بأن ذلك الشخص هو شقيقه.. ما أن وصلا حتى بدأ يعزق الأرض بمعوله.. تتبعه زوجته باذرة الحبوب خلفه.. ثم تدك أديم الأرض بقدميها لتغمر ما بذرت بالتراب.. تسير خطوات ثم تلتفت.. لترى ما صنعته قدماها.. يتأملها شنوق.. أنفها الدقيق.. بياض وجهها المخضب بالعرق.. ليزداد لمعاناً.. تلك القامة المنحنية.. لم تتغير في شيء عدا إحلالها لذلك الشقيق مكانه.. ربما لم يتزوجها.. وما يقوم به إنما هو مساعدة لها ليس إلا.. ظل يرقبهما هو.. بمعوله يشق الأرض وهي تتبعه ببذارها.. أقترب أكثر ليتأكد من أنه شقيقه.. ميز غضون وجهه..  فكه الذي بدا متدلياً. تأكد بأنه هو.. اجتاحته مشاعر من حقدٍ نخرت قلبه.. فكر أن ينهض يسير إليهما يسألهما عما سمع.. أن يقنعه إذا ما قد تزوجها بطلاقها.. فهو الأولى بها وبأولاده.. لكنه تراجع وأستمر يرقبهما.

مر الوقت وزادت حرارة الشمس بعد أن أعتلت كبد السماء. فكر مرة أخرى أن يستعيد زوجته.. التقط حجراً وهم بقذف أخيه.. لكنه سمعها تحثه بصوت عطوف: يكفي اليوم.. هيا الشمس حارة وأخاف عليكَ ضربتها. تعالى رجفان قلبه وهم أن يرفع صوته ليسألها: من تعنين؟!. لكنه صمت يتابع خروجه واضعاً معوله على كتفه.. تبعته تحمل على رأسها ما تبقى من بذار.. سار خلفهما حتى دخلا أزقة القرية.. لم يكن يأبه لنظرات من يصادفهم.. سار حتى اقتربا من باب بيته.. خرج صبي في استقبالهما..  حمل كيس البذار عنها.. لتستدير وكأنها تشعر بوجوده.. وقف الصبي إلى جوارها.. ثم زوجها ينظران إلى حيث تنظر.. للحظات اكتسى وجهها تعبير غامض ناظرة في عينيه بصمت.. شعر لحظتها بالهزيمة.. تراخت أصابع كفه ليسقط الحجر.. تقاطرت دموع عينيه.. أستدار يهرول مبتعداً خارج القرية.. لا يدري في أي اتجاه تقوده قدماه.. بعد وقت جلس على صخرة في أطراف الطريق.. التفت.. رأى القرية  من ربوتها كومة بعيدة.. منازل متلاحمة ببعضها دون ملامح. يرى الجهات تساوت.

 

-38-

حين غادر قريته لم يكن أمامه وجهة بعينها.. سار دون هدى.. لتحضر في ذهنهتكرار دعوة البندريةلزيارتها.. ومنها أصبح هدفه الوصول إلى عدن. عانى لأيام ولهفته للقياها تتضاعف حتى وصل "الشيخ عثمان". فكر بزيارة أول مقهى نت لتفق صفحته على الفيس بوك.. وكان أسفل الفندق الذي نزل فيها مقهى "أوسان نت"  سُعد لتوفر لتوفر الخدمة فيه.. وكما توقع وجد مجموعة من الرسائل على قائمة الانتظار.. بدأ بتصفح رسائل البندرية  بخفقات قلب مرتجف.. الرسالة الأولى " إذاً لقد عشت حياتك كريفي.. وتزوجت وفلحت الأرض كأي مزارع.. لكني أتساءل: لماذا انكفأت على ذاتك وأنت بين أهلك وناسك.. تلك القرية التي ظللت تحدثني عنها.. كما ظل حنينك جارف إليها؟. تتحاشى من حولك.. غريباً حتى وقد سكنت إلى زوجة لا أعرف لماذا لم تتحدث عنها.. أو عن ملامحها.. كنت أنتظر أن تتحدث عن مشاعرك نحوها.. لقد أشعرتني أن علاقتك بها ظلت باهتة.. ولذلك يتولد سؤال: كيف أنجبت كل أولئك؟! وكأنك قد تزوجت شبحاً.. لتفر منها في النهاية تاركاً أولادك للضياع.. ذلك ما أعادني لأستعرض ذكرياتي معك.. وكأنك دوماً تهرب متخلياً عن المسؤولية.. بداية بتخليك عني وعن بذرتنا دون أدنى تأنيب ضمير.. وأيضاً زوجتك وأولادك.. ويعلم الله كم أخريات خذلتهن. لتظل ذلك المنفصم الذي لا تشعر بالانتماء.. حتى مع قرية كنت تصفها بالفردوس. لتدفعني لأتساءل من جديد: هل هي نفس القرية التي كنت تحدثني عنها بهيام دامع.. عن طفولتك فيها.. وصباك. تدمع عيناك وأنت تصف نقاء سريرة سكانها ووفاءهم.. وروعة طبيعتها.. حتى شُغفت بها.. وتمنيت أن أعيش معك فيها للأبد.. فهل كنت تصف لي واقعاً عشته.. أم أحلاماً تمنيتها؟. لتعود اليوم مصوراً لي ذلك المكان ومجتمعه كقطعة من جهنم.. موحياً بأن كل ما أصابك من خراب كان بسببي.. وأجدك واسع الخيال وقد جندت كل قدراتك لأبدو جلادة رهيبة.

حزينة أن تفر من قريتك بعد أن أطلقوا سراحك.. تفارق أسرتك.. تتحدث اليوم ولا تعرف عنهم شيئاً.. كما كنت لا تعرف عني شيئاً.. أرجوك قاوم الرهاب.. عد لأسرتك.. تفقد أولادك.. أم أن ذلك الرهاب ادعاء كاذب.. ومبرر لتملصك عن مسئولياتك.. أراني أشفق عليك.. وأنا الغارقة في متاعبي ومرضي.

 كنت أظن بأني سأجد لديك السلوى عندما وجدتك.. وإذا بي أجد كائناً تسيره عقد مركبة.

وتسألني: هل كان حبي لك بتكليف منهم؟. مؤسف يا شنوق أن تسأل سؤلاً كهذا سؤال.. لكني أعذرك فأنت لم تذق الحب يوما.

أكرر دعوتي لفتح صفحة جديدة.. فلا تعد بي للماضي مرة أخرى".

الرسالة الثانية في 1/ديسمبر"هذه هي الليلة الخامسة.. ولم أتلقَ رداً منك. أكتب إليك برغبة التأكيد على نقطة ولا أريد العودة إليها مرة أخرى.. وهي أنني لم أضرك يوماً.. ولا يوجد ما يؤنبني على عمل قمت به. عُد إلى ما كتبته لك.. ستجدني كنت مرغمة على التعاون معهم.. ولم تكن رغبتي.. وأجدني بعد فراري من عدن إلى صنعاء في دوامة لم أخترها.. وإن كان ذلك العمل قد حماني من مجتمع قاس. وكنت أنت يامن تصور نفسك ضحية على رأس جلادي.. فأنت من كان يعاملني كسقط متاع.. وأنت الذي لم تمنحني يوماً الأمان.. وإن منحتني بعض السعادة بما كنت أشعر به.. إلا أني اكتشفت أنها سعادة خادعة.. عُد لتعاملك معي.. استحضر كل لقاء كان بيننا.. وكل موقف كنت تقفه مني.. أسترجع نظرتك لي.. سترى بأنك الجلاد الأول ولم يضاهيك أحد.. فغيرك قسى علي دون أن  يدعي محبتي.. أما أنت فجلدتني وعلى يديك قفازي المحبة.. معتمدا على قدرتك في الإغواء.. وكل ذلك كي تروي ضمأ ذكوريتك.. لم تُقدر بأني فتاة وحيدة أعلن قلبها اللجوء إليك دون كل الناس.. لكنك كنت مثلهم لا ترى فيَّ إلا دنس وعرض مباح.. أو بالأصح أداة عهر.. ولم تعرف بأنك كنت ذلك العاهر القاسي.

اخبرك بأني حين فكرت بالكتابة إليك بعد إن وجودت صفحتك.. كان بدافع حنيني إليك.. فهاهي رسائلك الورقية التي كنت تبعثها لي قديماً.. تذكرني بأسلوب تفكيرك.. تلك الرسائل التي احتفظ بهن ضمن هداياك البسيطة: وردة جافة.. قارورة عطر رخيص.. قلم.. مناديل.. دفتر كتبت فيه ذات خواطر وأهديته إليَّ.. أيضا شال أبيض مرقط بالأسود كنت تضعه على كتفك.. وقد فقد رائحتك.

يضحكني ما جاء في إحدى رسائلك القديمة.. تخاطبني فيها.. ليس كحبيب بل كولي أمر.. وتأمرني أن أحتشم بعباءة سوداء وخمار أهديتهن لي.. واصفاً كيف تتحدث المرأة المحترمة إلى الغير.. وكيف تسير في الشارع بين الناس.. كانت رسالة غريبة وأنت تحدد لي ما يجب.. وما لا يجب. وحين حاولت نقاشك رفضت ذلك شارطاً انفاذ ما تمليه عليَّ.. وفي مقدمة ذلك وضع الخمار على وجهي.. مكتفياً بالقول "أنت تعيشين وسط مجتمع لا يفكر في المرأة إلاكأداة للمتعة!" تلك الرسالة ورسائل أخرى أعود إليهن.. أكتشف ما يحمله عقلك قراءة بعد أخرى.. فتبكيني بعضهن وتضحكني أخرى.

وبالعودة إلى ما كان المحققون يرددونه عليك "قد البنات قشعين جحرك". أرجع وتذكر بين علاقاتك.. خاصة بتلك الزميلة التي أدعيت نسيان اسمها لتوحي عدم اهتمامك بها.. ألم تشك فيها؟. راجع ذكرياتك معها.. وستجد أنها أسهمت في رسم صورتك القبيحة لديهم.. ككائن شراني.. خَطِر. من خلال تقاريرها.. ثم أبحث في دوافعها.. راجع أفعالك معها.. وستجد ما يبرر محاولتها النيل منك.

 تلك ذكريات ولت.. وانتظر أن تحدثني بعد هجرانك لقريتك وأسرتك.. كيف عشت وما هي الأعمال التي مارستها.. وكيف قضيت أيامك بعيدا عنهم".

 الرسالة الثالثة في 7/ديسمبر"أين ذهبت عني.. لماذا لا ترد؟. أكتب إليك والصقيع يلثم أطرافي.. كل شيء ينكمش حتى قلبي.. أشعر ببرد ينخر مفاصلي.. وأخاف أن تكون تلك البرودة مؤشراً لنهايتي.. وحيدة لا أتحرك من تحت أغطيتي إلا من أجل أشياء بسيطة.. أذهب على مشايتي إلى دورة المياه.. أو تناول لقليل من الأطعمة. وبعض العقاقير.. وإن كانت متعتي اخراج أصابعي لألاعب أزرار الموبايل لأكتب إليك.. أو أنشعل بمتابعة ما تبثه بعض القنوات منتظرة ردك.. تزورني دوماً أفكار مقلقة حول المرض والموت.. استنجد بك وأشعر بوجودك تتحرك كما كنا معاً نُلبس ليالينا العتمة.. نتشارك الحمام سوياً.. نعد بعض الأطعمة معاً.. ودوما تظهر ببراءة طفل مدعيا اكتشافك للأشياء. اليوم لا أجد من يشاركني لحظاتي كما كنت تفعل. وأظل على أمل لقياك.. أن نعيش ولو لأيام قليلة معاً. هل تعدني إن التقينا أن نكرر ما كنا نعيشه؟ تدمع عيناي وأنا أستحضر ما كنا عليه يوماً.. لا أعرف ماذا أفعل.. فكلما تذكرت تلك الأيام  تسيل عيناي بدموع دافئة.. هل أبكي من ظلمك لي أم من فقدي لك.. أم لعجزي الذي جعلني كائناً لا يفكر إلا بالموت.. لكني أعدك بمقاومته حتى لقياك.. وبعدها لا يهمني إن اصطحبني بعيداً.

كثيراً ما أعود وأردد بحنق ماذا لو كنت أنت أشجع مما كنت عليه.. وتجاوزت عقدك وارتبطت بي.. كيف ستكون حياتنا؟. وأسألك الآن هل تشعر بالندم؟. آه لو كان الأمر بيدي.. فلم يكن ينقصنا شيء.. وذلك الحب الذي أحمله لك كان كافياً لنتقاسمه ونقتات به طوال العمر.. لكنك كنت محمل بخوف لا أفهمه.. ودوما تنجح بإظهار نقيض ما هو كامن بداخلك.. وإن تصنعت التلقائية.. خاصة حين تردد مبادئ الاشتراكية والمساواة والحرية.. كنت قد اكتشفت ولو متأخرة بأنك لا تعي مما كنت تتشدق به شيئاً.. فأنا من صدقك وخدعت بك في بداية الأمر.. أتراني أهذر وأنا أحلم بصفحة جديدة نلونها معاً.. أم أن صمتك يغريني بمزيد من الذكرى.. أنتظر ردك.. فلا تتأخر ".

  رسالة بتاريخ10/ديسمبر "رد ولو بكلمة واحدة.. وحيدة أتابع قنوات الأخبار.. وهي تبث صورة حية لما يدور في صنعاء من اقتتال.. أخشى أن تكون في خطر.. فقط طمئني عليك.. بعدها أصنع ما تريد.. وأعلم لولا قَلَقي عليك لما كررت طلبي.. يهمني أن تكون بخير.. فهلا طمأنتني؟.. ماذا يجري هل ما نشاهده حقيقة؟. هل الحوثة وصالح بهذه الدموية حتى يتشاركون بتدمير صنعاء!. أم أن ما نشاهده على شاشات الفضائيات من قتال مجرد مبالغات؟. حدثني عن حالك وسط هذا الغثاء.. كيف تعيش.. وعن حياة الناس في ظل الموت.. وهل صنعاء القديمة في أمان؟. فأنا أحلم أن أعود إليها يوماً.. لأقيم في أحد دورها.. أن نعيش معاً يوماً صنعانياً واحداً.. تخرج برفقتي صباحا لنجلب الخضار والفاكهة والقات.. نعد طعامنا في أواني حجرية كما تصنع نساؤها.. ثم نركن إلى المقيل في مفرج مبخر يطل على صنعاء من علٍ.. ومع المغيب  نذهب إلى حمام تركي.. هناك حيث تتنفس مساماتنا وسط أبخرة وسخونة الأقبية الحجرية.. ثم نلتقي عائدين إلى سكننا في أعلى الدار.. لتنقش إحداهن صدري وظهري.. وتملأ بدني بالخضاب والحناء.. بعدها نشعل المباخر من جديد.. ونعيش مستهلكين ليالينا بنكهة صنعانية. عدني بأن نعيش معاً يوماً كما يعيشه أهلها. رد علي بأنك بخير.. وأن صنعاء بخير.. صمتكيقلقني؟".

أعاد قراءة  تلك الكلمات.. وقد أحس بصدق كلماتها وخوفها عليه. همساً لنفسه أنها الفتاة التي كانت.

ثم واصل قراءة ما تبقى:

وقرأ آخر رسائلها12/ ديسمبر لماذا تصمت.. أخاف أن تخذلني كما هي عادتك وترحل عني.. قلقي يتزايد عليك وأنا أتابع معارك صنعاء.. تبث نشرات الأخبار أشلاء متناثرة في شوارعها.. نرى صوراً لنزوح الأهالي هرباً من الموت.. حديث الخبراء عن أرقام بآلاف زجوا في سجون مجهولة بعد مقتل علي صالح.. أخاف أن لا أراك يوما.. وأنا التي يزورني كابوس الموت كنت أظن رحيلي قد حان.. أصلي لأن تكون على قيد الحياة.. ويحدثني قلبي بأمل أننا سنلتقي.. وأنك بخير.. وأنني سأقبل وجهك وأسمع صوتك وألمس أطرافك.. لتحدثني بما لم تحدثني به.. أرجوك أن لا ترحل.. لهفتي تتقد.. ولا استطيع تصديق ما تبثه القنوات من صور لحرائق في صنعاء.. لا أني لا أريدك هناك وسط  رعب الموت.. رد عليَّ وأعاهدك بعدها أن لا أطلب منك شيئاً.. سأظل متعلقة بخيوط الأمل.. وما لم فسنلتقي في ملكوت السموات..."

دمعت عيناه وأجهش باكياً بعد أن أكمل رسائلها.. التفت بعض رواد المقهى.. وأقترب البعض مواسياً لنحيبه: صلي على النبي.. قالها أحدهم. وآخر هامسه وقد أمسك بكتفيه: اذكر الله ياعم. هل أنت بخير؟. ألتفت إليهم مبتسماً من بين دموعه.. مشيرا بأنه بخير.

 

-39-

 مسح دموعه.. يعاود متابعة قراءة تلك الرسائل وقد شعر بما لم يشعر به من قبل.. وهو الذي جزم بأن سنوات العمر قد دمرت نفسيتها.. أحالتهاإلى بقايا..مرأة نزقة متذمرة.

لتذهب به الذكريات بعيداً.. مستحضراً نبرة صوتها.. حين تنطق متلاعبة بالأحرف الأخيرة للكلمات.. بتلك الطريقة الساحرة.. لا يزال صوتها يرن على مسامعه.. وتلك النظرات من عينيها الصغيرين التي تخلب لبه بسحر ابتسامتها الحانية.. تكاثرت دموعه كاتماً نحيبه وقد عبرت عن لهفتها عليه.. نافضة غبار سنوات الفراق.. ليحس بأنها تعيش لحظات آلام صنعاء وسكانها.. تتابع أخبار التناحر والاقتتال. تيقن بأنها تشعر بما هو فيه من عيشة ضنكى.

هم بالرد عليها حتى يخبرها بأنه قربها في عدن. ليتردد مفضلاً مفاجئتها طارقا بابها. نهض من لحظته.. خرج يسأل عن موقف الحافلات. احتل مقعده على الحافلة متجهاً إلى "كريتر" عبرً أحياء: الممدارة.. المماليح.. الكورنيش. لفت انتباهه كثرة متاريس المسلحين على الطرق.. ومسجلات السيارات والدراجات النارية تصدح بزوامل شبيهة بزوامل الحوثيين في صنعاء.. الداعية للحرب والقتال.. الجميع بملابس ريفية.. وقد تمنطقوا بالجعب والبنادق الرشاشة. أوجعه منظر دمار المباني والمساجد.. تلك المطلة على الشوارع التي عبرتها الحافلة وهي تنزف من أثار الحرب

عاد شنوق منشغلاً بتصور لحظات لقياها.. حين تراه يقف أمام بابها. حطت الحافلة في ميدان الساعة.. لم يجد صعوبة في الوصول إلى ذلك المنزل الذي عرفه يوم كان برفقتها إلى عدن. طرق الباب ووجهه يتقاطر عرقاً غزيراً.. أطلت صبية محجبة.. لا تظهر إلا عيناها.. تلعثم يسألها: هل هذا "بيت الزيدي"؟. ردت عليه بالنفي.. ظل أمام الباب حائراً.. ليطل رجل أربعيني.. وقبل أن يكرر سؤاله قال له: من تسأل عنهم رحلوا منذ سنين طويلة.. ويقال بأنهم سكنوا خور مكسر.

وحين سأله عن عنوان سكنهم.. رد بعدم معرفته بذلك.. أحس بخيبة أمل.. عاد باتجاه الخور.. يسأل محلات البقالة والمقاهي والمطاعم والصيدليات عن "بيت الزيدي" وبعد أن أعياه البحث جلس إلى طاولة مقهى في ساحة العروض "شَابات" ليشير عليه أحدهم: ترى تلك البيوت.. لا يستقر فيها أحد.. فهي تغير ساكنيها كما تغير الحية جلدها.. ففي كل دورة دم يسكنها المتغلب بعد طرد المهزوم.. وهكذا دواليك يأتي متغلب أخر ليطرد من سبقه.

عاد من جولته خائباً.. دخل "أوسان نت".. ظل لبعض الوقت أمام جهاز"11".. ينظر إلى شاشته  متردداً.. يتساءل: ماذا عساي أن أكتب رداً على شلال مشاعرها؟. أن أخبرها بأني لم أستدل على عنوان سكنها.. أي لغة أخاطبها بها؟. ثم تشجع وأخذ يرقن رسالته إليها "أنا بخير.. فقط أرجوك تزويدي بعنوانك.. فأنا فررت من صنعاء إلى عدن.

 قرأت جميع رسائلك.. أبكتني مشاعرك.. وأنت تعبرين عن مخاوفك عليَّ.. وأعترف لك بأن تلك المشاعر قادتني إلى توبيخ نفسي. لكن يجب أولاً أن تعلمي بأن خدمة النت قد توقفت في صنعاء.. نتيجة للقتال.. حتى أني لم أكتشف رسائلك إلا بعد عدة أسابيع عن وصولي عدن.. لأقرأهن جميعاً.. وقد ذهبت بعد قراءتهن  للبحث عن مسكنك.. ورأيت أن أجمل رد هو الركوع بين يديك والحديث إليك.

لقد ذهبت إلى بيت كريتر.. ذلك الذي كانت أسرتك تسكنه.. لكني وجدت أناساً لا أعرفهم.. ولا يعرفون عنكم شيئاً.. فقط قال أحدهم بأنكم انتقلتم منذ سنين للسكن في الخور.. ومن فوري عدت باحثاً عنك في شوارع الخور وأحيائه.. لأكتشف أن هناك أكثر من بيت زيدي.. ولم يكن من بينها أنتِ أو أحد أفراد أسرتك. وأعود لأكتب إليك بعد أن فشلت في صنعالمفاجأة.. فهل كتبتِ لي عنوان سكنك. بي شوق كبير للقاء..وإن فضلتِ زيارتي.. أنا أنزل في فندق متواضع في "الشيخ عثمان". جوار الهاشمي.. أسمه "فندق أوسان". أنتظرك بفارغ الصبر"

أتاه الرد سريعاً وصادماً "شكراً.. أن يأتي ردك بعد ما يقارب الشهر.. وما يهمني أنك بخير.. وهذا ما كنت أدعو له.. بعيد عن الخطر.. والأفضل ألا تكتب إلي!."

كمن تلقى ضربة قاسية على رأسه.. ليفقد توازنه.. لم يتوقع منها ذلك الرد.. وهو الذي ظل يرسم تصوراته بلقياها.. أغلق الجهاز ماطاً قامته على مسند المقعد كمن يتخلص من ثقل يعاني منه. ثم خرج يسير على رصيف الشارع عله يتخلص من خيبتها.. وقف لبعض الوقت يفكر بما عليه فعله.. أهتز كمن يصحو من كابوس.. محاولاً استيعاب ما ترمي إليه " ألا تكتب إلي.. أنا متعبة فلا تنتظر مني رداً!". أدرك بأنها لم تستوعب سبب تأخره عن الرد.. وأنها تظن أنه مخادع. يقلب الأمر متسائلاً: لماذا ترفضني!. أم أنها ليست في عدن؟. عاد مسرعاً ليجلس إلى الجهاز.. مدركاً بأن عليه أن يمتص غضبها.. كتب إليها "لا أخادعك.. فسبب تأخري عن عدم الرد.. هو انقطاع خدمة النت في صنعاء حتى غادرتها.. ثم أن فراري إلى عدن استغرق أكثر من ثلاثة أسابيع.. وبمجرد وصولي.. ذهبت أبحث عنك في بيت أسرتك.. ألم تقولي بأنك تريدين لقياي!. لكن أخبريني هل أنت في عدن. انتظر أن تحددي لي عنوانك.. لا تكتبي أي كلام آخر.. فقط عنوانك.. لا أريد أن أثرثر عبر النت.. فما أحمله من مشاعر  تستحق مسامعك.. رسائلك الأخيرة جددت الحنين إليك.. وبدوري أتوق لأن أبوح بما يعتمل فيَّ.. فهل تلطفتِ".

ظل على مقعده يتمنى ردها.. يعاود كتابة رسالة ثانية وثالثة.. لكن صمتها زاد من ألمه.

 

-40-

أقتنع بأن عليه التوقف عن الهذيان إليها.. صرخ "اللعنة عليها.. لقد أنستني سقوة". عادت لوجهه ابتسامته وقد أدرك بأنها لا تزال على قيد الحياة.. كان قلقاً من أن تكون بين من قضوا نحبهم.. يتمنى أن لا تشعر بأنه خذلها.. كما تتهمه البندرية أنه يتعمد خذلان من يدعي محبتهم.. بدأ متلهفا بأول رسالة "كتبت إليك.. وعرفت بأن النت مقطوع.. كنت أريد أن أخبرك بأني سأحظر إليك.. لكن انقطاع النت حيرني.. تمنيت لو كان لديك هاتف.. كنت قلقة وقد توالى دوي المدافع.. لكني اطمأننت عليك بمهاتفتي للشريفة.. لأعرف بأن كل من في الدار بخير.. كنت أريد أن أحذرك عدم الخروج.. أن لا تتجول بدراجتك.. كنت خائفة.. لم أخرج من مسكني.. سمعت إحدى جاراتي تتحدث عن قتال.. وجثث تنتشر في الشوارع.. مع اهتزاز المنازل.. تكومت أنتظر سقوط السقف فوق رأسي. لأيام كاد الخوف يميتني.. ندمت حين أخفيت عليك مكان سكني.. لكنك معي في وحدتي.. فمنذ أن بحت لي ببعض همومك أمسيت أخاف عليك.. ولذلك أتحد بك كلما خلوت إلى نفسي.. لقد أحببتك في خوفي أكثر من أي وقت مضى.. أنتبه نفسك وسأخرج إليك في أول أمان".

كانت تلك أولى رسائلها.. ثم تلتها "أيها الهارب.. اليوم عرفت بأنك تركت سكنك.. كيف تفعل ذلك دون أن تخبرني.. أم أنك هربت مني.. أخبرني عن أسباب خروجك. لقد حضرت بعد أن هاتفتني الشريفة.. كنت أمني نفسي أن أهبط إليك بعد أن أنجز ما تريد مني الشريفة.. لكني فوجئت بها تسلمني المفتاح.. قائلة:

- لك أن تسكني الدور الرابع.. لتكوني قريبة متى أردتك. 

سألتها مندهشة.. وغير مصدقة:

- كيف أسكنه وهو مسكون؟.

لتفاجئني وقد رفعت صوتها غاضبة:

- لقد هرب منذ أيام!.

- لماذا يهرب؟

- خوف أنصار الله بعد أن اكتشفوا خيانته.

- خيانته!

- لكنهم في أثره.. وسيصلون إليه أينما كان.

شهقت فزعة.. وكاد سري ينكشف لتلتفت لي تسألني: لمَ شهقت؟

- .....!

لم أعد أخرج من الدار.. إلا لغرض أنجزه للشريفة.. هكذا أرادتني أن أظل في خدمتها.. أشتاق لمشاقري.. منامي في غرفتك يعوضني فراقك.

أنتظر أن تطمئنني عليك.. أن تبدد ظنوني بأن سبب رحيلك شكوى مرضي.. أخبرني أين أنت لألحقك.. وأعدك بأن لا أشكو إليك مرضي."

تنهد شنوق.. وقد أمسك رأسه بكلتا يديه.. يبكي بصوت خافت حتى لا يسمعه من حوله.. متيقناً بأنها تظن أنه خذلها بعد معرفته بمرضها. مسح وجهه.. وعاد ليواصل القراءة " لم ترد عليَّ.. خوفي أن يكونوا قد وصلوا إليك.. طمني. متاعك يؤانسني .. كل شيء في مكانه كما لو لم تفارق مسكنك.. فراشك.. كتب الزاوية. الطاولة "معشرة" النارجيلة.. موقد الجمر الذي أحرص على إيقاده لتعمير رأس المعسل والبخور. نافذتك المطلة على العابرين.. أنتظر طيفك كلما حل المساء.. أتلمس ما حولي.. فقط ما يذكرني بغيابك هو فراغ الطاولة الصغيرة من جهازك.. أنهض وسط الظلام من غرفة إلى أخرى وكأني سأجد صوتك. هيا أخبرني أين تختبئ ألا تريد أن آتي إليك؟.

أعرف بأن صاحبك زوج الشريفة يعرف أين أنت.. أبحث عن حيلة لسؤاله وأخاف أن يكشفني.

حين أنقطع النت تبقى لي الهاتف.. اتصلت بالشريفة.. سألتني عن حالي شكوت لها بأني لا أبرح سكني خوف ما يدور.. وأن جارتنا لها ابن منظم إلى مسلحي الحوثي.. كان مصدر أمان لنا يزودنا بالماء والطعام.. كما كان ينقل لنا أخبار ما يدور.. لكنه قُتل برصاص قناصة.. تسألني المزيد.. أخبرها بأن قاع اليهود مغلق إلا من بعض الأزقة.. لا أعرف ما يدور.. إلا أني أسمع دوياً متواصلاً.. لتفاجئني: احضري إليَّ عندما تستطيعين الخروج.. فمن اليوم أريدك في خدمتي!. ومع سيطرة مليشيات الحوثيين تغيرت الشريفة.. لم تعد تلك المرأة الوديعة.. وقد أصبحت شغوفة بما يدور.. وكأنها ضابط في العسكرية.  

أبتهل في صلواتي أن يسلمك الله من شرورهم. أرأيت لو كان لديك هاتف لعرفت من فوري أي طريق أسلكها إليك. لماذا لا ترد.. قلت لك بأنك مللت مني.. ما يفلت الله من أستجار به"

ورسالة أخرى "أين أنته الصمت ليس من شيمك.. أنا يتيمة ومكلومة..  بالأمس خرجت.. ذهبت وكلي حنين إلى باب اليمن.. وأملي أن أجد بائعة الريحان.. لم أرها منذ أسابيع.. لكني وجدت رصيف القشلة خالياً إلا من بعض رفيقاتها.. ظننتها  ستلحقهن بريحانها.. جلست أنتظرها.. لكن إحداهن رأتني وأخبرتني دامعة: لقد قتلوها!.

لم أصدق أن أحداً يقتل حرمة كبيرة. لكنها أكدت لي.. أن رصاصهم قتلها.. وأن السيارة التي دأبت على حملهن كانت في طريقها باتجاه صنعاء محملة بفواكههن وريحانهن وبيضهن ودواجنهن.. حين وصلت بهن مشارف المدينة أوقفها مسلحون للتفتيش.. أنزلوهن ليعبثوا بسلالهن وحزم ريحانهن بعذر البحث عن سلاح.. وحين رأت ريحانها مبعثراً على الأرض صرخت محتجة.. ظانة بأنها تصرخ في وجه أحد أولادها.. لكنه وجه بندقه للرد على احتجاجها.. لتنطلق رصاصة اخترقت رقبتها.. صمت بعدها كل شيء.. إلا من نظراتها المفجوعة وقد سقطت أرضاً وقد ترجت بالدماء.

لم أعد إلى الدار.. جلت وكلي أملي أن ألمحك في أحد الشوارع. عسى أن تخفف يتمي.. لكني لم أجدك.. وأجدني يتيمة للمرة الثالثة.. أبكيها ولا أجدك تواسيني. فلا تزد فجيعتي بك.. قل لي بأنك لم تضق بي"

ورسالة تالية " ممددة في غرفتك أتلوى الماً.. وأنت لا ترد.. أشعر بأن كل شيء يذوي في.. لن تصدق إن أخبرتك بأني تركت الباب موارباً لإحساس بأنك ستأتِ.. هيا تعال وتسلل ستجده كما كنت تتركه لي.. تعال لتعزيني في وفاة سيدة الريحان.. لم أخبر أحد بألمي غيرك... أجالس الفقد فأغرق بين يديه بدموعي.

لم تعد الشريفة تقوم بأي عمل من أعمال البيت.. وقد تفرغت لاستقبال نساء من كل الأعمار.. تحدثهن أنها "كُشف عنها الحجاب" وتستطيع معرفة نوايا كل امرأة من عيونها.. ما أثار الخوف في نفوس زائراتها.. تدعوهن لدفع الشباب للجهاد دفاعا عن العرض والأرض.. تحثهن على اليقظة ومراقبة كل محيطهن. لا أعرف من أين لها مثل تلك اللغة.. وكيف تغيرت ليصبح شغلها الشاغل هم الحرب.. وحشد الشباب لإرسالهم لجبهات القتال.. تتحدث دوما عن خيانة عفاش.. وأنه أخذ جزاءه كأي خائن.

 بين فينة وأخرى أسمعها تتذمر من تكاسل زوجها.. وتردد: أخاف لو عرف مكان ذلك المعتوه وذهب إليه. ثم تتوجه بتساؤلاتها إليَّ: هل تصدقي بأنه كان يسكن لسنوات دون إيجار.. بل أن زوجي من كان يتكفل بكل مصاريفه. لن يصدق أحد أن رجلاً يصرف على رجل مثله  لسنين!. أمر يحيرني يا سقوة.

ويوما بعد آخر تتحدث عن زوجها بسخط.. وتقول أن سره مكشوف لها.. ولن تسامحه.. أستمع ولا أنبس بكلمة حتى لا تزل لساني.. لكني في الوقت نفسه أقلب نفس السؤال: لماذا كان يعطف عليك.. هل هي صحوبية فحسب؟. لقد وعدتني حينها أن تشرح لي سر صحوبيته لك.. لكنك تهربت.. وضقت بي.. لم أخبر الشريفة بمرضي.. وحين تشتد عليً آلامي الجأ لغرفتك... ".

 

-41-

"أنشغل بكل شيء يخصك منتظرة عودتك.. فقط أبعث برسالة تحدد وقت زيارتك.. ولابد سنعيش ليال وليال تعوضنا عن الفراق.

أحاول تقليدك.. فأعيش الليالي كما كنت تعيشها.. لا أشعل أي ضوء..حتى أنني أجاور النافذة عارية مع وهج الفجر وقد احتضنت كتاباً.. وأظل هكذا حتى تغمر الشمس المدينة.. وأجدني يوماً بعد يوم وقد تعودت رائحة كتبك.. تلك التي تشابه رائحتك. يدفعني قلبي لأطل على الزقاق بعد أن أغلق الكتاب.. ألوي عنقي باتجاه الصرحة علِّي ألمحك.. وقد قادك حنينكلزيارة الحي.. أو قد تكون عابراً.. ثم أعاود متابعة أسراب الحمام حين تتغازل على نوافذ الدور العلوية.. تفرد أجنحتها.. تحلق مبتعدة. أصعد بعدها لأجد الشريفة تتهيأ لاستقبال زائراتها.. اللواتي يذهبن بعد درس في فضائل الجهاد وطاعة آل البيت.. ثم ننشغل بترتيب ما تود ترتيبه.. ينتهي نهاري بإعداد مقيلها وقد بدأت زائرات جدد بالتوافد.. يمضغن القات ويثرثرن وسط أدخنة كثيفة.. حول دور النسوة في رفد الجبهات بالرجال.. وصون الجبة الداخلية. وقبيل المغيب أعود أدراجي.. أعيش بين حزن يباغتني على فقد سيدة الريحان وصمتك.. وبين الأمل باللحاق بك.. فلا أشعل مصباحاً ولا ألبس خرقا.. لتسكنني طمأنينة روحي.. وأجزم بأنك ستفاجئني  بدخولك عليَّ".

ورسالة أخرى حزينة " خيم اليوم حزن عميق.. بعد أن تعالى نواح ساكنات الدور الثاني.. وقد تجمع أناس حول سيارة تحمل جثمان "الفرانصي". قيل أن مليشيات الحوثي اقتادوه مصاباً من أحد المستشفيات.. وأنهم عذبوه لعدة أيام  حتى الموت.. جزاء مناصرته لعفاش.

منظر حزين بعد أن أنقسم من تجمعوا في الصرحة.. منهم من يلعنه ويصفه بالعميل الخائن.. الذي لا يجوز الصلاة عليه.. أو دفنه في مقابر المسلمين.. مرددين: ليس منا مَن باع نفسه للشيطان. ومنهم من لا ذوا بصمتهم.. ينتظرون أن يهدأ الأمر ليقوموا بما يجب القيام به نحو الميت. لم يكن لأحد أن يجرؤ على مواجهة الساخطين على الفرانصي.. حتى صاحبك وقف صامتاً. انتهى الأمر بإطلاق أعيرة نارية.. ليتفرق من حضروا.. ويرتفع نحيب زوجته وأطفاله.

لم تنزل الشريفة لمواساتها.. رغم أنها كانت من جليساتها.. مرددة بأنه خائن لنبيه وربه ووطنه.. وقد مات مرتداً.. وكما أخبرتك أنها لم تعد تلك المرأة التي عرفتها.

وما يحيرني استمرار عدم رضاها عن زوجها. "

الرسالة الأخيرة في 20 ديسمبر 2017 "لا يأتي يوم إلا بأحزانه.. وقد تنامت أخبار عن ملاحقات واسعة تقوم بها المليشيات لمن لم يعلنوا موقفهم المؤيد لهم.. وأنباء عن قتل مخالفيهم.. فبالأمس وصلت عدة سيارات تحمل من تبقى من نساء وأطفال الشيخ الذي كان يتردد على الدور الثالث.. وقد جعله استراحة له ولرجاله حين يزور صنعاء. ويقال بأنه أعلن مناصرته للريس قبل مقتله.. وقد أستمر في مقاومة مليشيات الحوثة.. لكنهم حاصروا قريته.. واستطاعوا هزيمته.. ونسف داره وبيوت أعوانه.. لتتشرد النساء والصغار في كل اتجاه.. ها هو دار الشريفة ودور الحي والأحياء الأخرى تغرق يوما بعد آخر في أحزان مميتة.. فلا نشاهد إلا جنائز تصل من الجبهات.. وصوراً خضراء تبليها الرياح..  فلم يعد أحد إلا مكلوماً.. أو خائفاً من غد يحمل له الجوع والموت".

أكمل قراءة رسائلها.. وقد غمره حزن عميق. ومشاعر غربة.. يسأل نفسه إلى أين نمضِي.. وما علي فعله؟. باشر بالرد على سقوة ليخفف قلقه عليها.. مما قرأة بين سطور رسائلها.. أحس أنها تخفي ألم ورم رحمها.. ذلك حتى لا تزيد من قلقه عليها.. كتب إليها "لم تحدثيني عن مرضك.. أشعر أن متعبة.. خففي من خوفي.. لم أجد وسيلة لأخبرك برحيلي.. خرجت أبحث عنك بعد انقطاع النت.. زرت شارع المطاعم.. وقاع اليهود.. حتى رصيف القشلة.. علي أجد امرأة الريحان لأعرف منها أخبارك.. لكني وجدت الأرصفة خالية إلا من الكلاب والمسلحين.. أدرك كم ألمك على فراقها شديد.. لها الرحمة ولك عظيم الصبر.. فررت من الموت.. كانت أيام الفرار طويلة.. وحين وصلت إلى مكان.. آمن سارعت للتواصل بك.. شكراً لأنك نجوت من الموت.. لكن فقدك لبائعة الريحان أحزنني.. وما حيرني أن ينتهي الفرانصي بتلك النهاية.. ذلك الذي مسني ضرره.. ونهاية الشيخ الذي  كان يزعج السكينة بهيلمانته تلك.. وعنجهية مسلحيه.. أحزنني تشرد من تبقى من أسرته.

سعيد لأنك تسكنين غرفتي.. وتأكدي بأنا سنلتقي قريبا.. سأحدثك حينها حول صداقتي بزوج الشريفة.. ذلك الإنسان المعذب وسط مجتمع لا يقدر سمو الأرواح.. أرجوك بأخبار صاحبي فهو يعاني أكثر مما تتصورين.. وما زاد ألمي عليه أن زوجته تغيرت في تعاملها معه منذ حين.. له الله".

 

-42-

ضاق به الحال وقد أمسى جليس الجهاز "11". منتظراً رد البندرية.. إزاء صمتها.. فضل أن يكتب لها عن أيام فراره من صنعاء.. لتعرف بتفاصيل معاناته علها تلين "الآن أحس بثقل الانتظار.. والفرق أنك تستطيعين الرد.. بينما كنت أنا لا أسطيع طيلة أيام فراري.. ولذك سأترك لك الخيار بعد أن تقرئين رسالتي .

غادرت صنعاء هرباً من الموت.. وكانت خدمة النت لا تزال مقطوعة.. فررت لأن المليشيات لا تقبل أنصاف الحلول.. فإما أن تكون في صفوفهم وإلا فأنت عدوهم.. وأثناء فراري عرجت على تلك المدينة التي جمعتنا يوماً.. دخلتها عبر الطريق المحاذي لمقبرتها الكبيرة.. تلك التي ذكرت في إحدى رسائلك بأني كنت أذهب لأشارك لعب الكرة في أطرافها.. لحظتها تذكرت كلماتك منبهرة "لم أرى في حياتي مقبرة أكبر من مدينتها!". فلو زرتِها اليوم وقد تضاعفت مساحتها نتيجة لتزايد قتلى المليشيات.. وشملت تلك مساحات المزارع والآكام .. وقد طليت أسوارها وشواهد قبورها بالأخضر.. المقابر أمست تتداخل مع المنازل.. فلا يفرق الزائر بين قبورها ومساكنها.. وقد تمددت لتحاصر المدينة من ثلاث جهات. لتمسي القبور متناً.. والمساكن هامشاً. عبرتها إلى سوق المدينة الملاصق لأسوار المقبرة.. حينها تأججت مشاعري وارتبكت خطاي.. ذلك السوق ذكرني بك.. حين كنا نبتاع حاجتنا من الخضر والفاكهة. وقفت أراقب الناس.. وأنصتوقد خُيل لي بأنك ستظهرين بدهشة نظراتك.. بل أنني سمعت رنين ضحكتك.. استدرت أتلفت يميناً وشمالاً.. ولم أستدل إلى مصدر ضحكتك.. في البدء ظننت ذلك من أعراض إرهاق السفر.. لكن ضحكتك تكررت بوضوح. ثم صمت كل شيء.. ليعود صوتك تترنمين بأغنية لمحمد سعد عبدالله "يا ساحل أبين.. " تلك الأغنية التي كنت ترددينها ونحن على مقاعد "اللاند روفر".. تثيرين البهجة.. ليسارعن الاسكندنافيات إلى مجاراتك بأحرفٍ مكسرة. وهاهي روحك تسكن المدينة.. تختزن نبض قلبك الدافئ.. زدت من تلفتي ظاناً أني سأراك.. طفت أحياء المدنية.. أحث الخطى ولدي إحساس غامر بأني سأعود ما كنته قبل ثلاثين سنة.. سرت في البداية باتجاه مقر "برنار السويدية". متجاوزاً صور الفتيان الخضر التي غطت جدران المدينة.. وشعاراتهم وأعلامهم  المشنوقة أعلى أعمدة أسلاك الكهرباء الباردة.. أجد الخُطى وسط رياح تبعثر المخلفات والأتربة  لتزيد من عبثية الشارع.. كتل المسلحين ينبتون على زوايا الأرصفة.. والشوارع والميادين. ظهر لي المبنى هناك في نهاية شارع السوق.. يقف وحيداً بجدرانه السوداء.. كأنه في حالة حداد. اقتربت من بوابة حاصرتها أكياس رملية.. ظهرت من خلفها رؤوس مسلحين ترمقني أسلحتهم.. ابتعدت أسأل المارة عن طبيعة وظيفة ذلك المبنى الذي كان يوما مقراً لمنظمة "بارنر" الإغاثية.. ليخبروني بريبة بأن مسلحي الحوثي قد حولوه إلى معتقل.. درت  حول المبنى علي أرى تلك النوافذ التي كنا نقضي ليالينا خلفها.. لم تعد من نوافذ وقد أصبحت جدراناً عمياء بحجار بازلتية.. بدا المبنى صامتاً ووحيداً.. طوقته الأسلاك الشائكة من كل اتجاه.  فررت عبر شوارع أعرف مسالكها.. حتى وصلت مقر منظمة "أكسفام". هو الآخر لم يعد بذلك الباب الخشبي المزخرف.. فقط صفيح متآكل.. غطت جدرانه شعارات تدعو لفضائل الاستشهاد.. جنباً إلى جنب مع صور غلمان خضر.

كنت أبحث عنك في تلك المباني التي جمعتنا يوماً.. في مدينة سرنا لأيام في شوارعها. حتى وقفت أمام باب قد قرعته يوماً.. حاملة لفافة بين ذراعيك.. وجدته غريباً.. وأحجار الجدران شُوهت بشعارات خضراء.. وقف صِبية يرمقونني بتوجس.. ابتعدت عبر أزقة حتى أطراف المدينة حيث سفوح المنحدرات.. لم تعد هي الأخرى جرداء وقد سيجت بأسلاك وكتب على مدخلها لوحة "روضة الشهداء". لمحت على منحدراتها طوابير لقبور وقبور.

بقيت أهرول من مكان إلى آخر علي المح وجهك.. كل ما حولي متجهم حزين.. أفواه من أصادفهم فاغرة.. أشبه بتوابيت صامتة. أسأل نفسي.. عما أبحث.. هل عنك.. أم عني؟. لكني لم أجدك ولم وجدت نفسي. أدركت بأنها ليست مدينتي الحنونة.. وأنها مدينة تئن من اتساع مقابرها.. وتكاثر معتقلاتها!.

فررت جنوباً.. أحمل كيسي خلف ظهري.. أسير على مبعدة من طريق العربات.. مقتدياً باسراب الصومال والأثيوب.. الذين يسيرون باتجاه صنعاء بجلود يبستها الشموس.. أتمنى أن أرى الوجود بعيون تلك القامات السمراء الناحلة.. حاولت أن أرى ما حولي من زاويتهم.. أن أسمع بمسامعهم.. وإن كنت مختلفاً عنهم باختلاف اتجاه سيري. 

عبرت عدة قرى ومدن صغيرة.. صادفت مزارعين ورعاة عابرين.. حتى كنت في مدينة "إب". عيون المارة تتحاشى النظر في وجهي.. كل من أصادفهم يفرون بخطوات مرتبكة.. ودعتها ملوحاً لـ "جبل ربي" المهيمن من عليائه.. وجبل "التعكر" حاضناً "جبلة".. عاصمة الملكة أروى الصليحية.. صعدت علياء النجد الأحمر.. هبوطاً نقيل السياني حتى مدينة الحلوى "القاعدة".. تلاحقني وجوه الفتيان الخضر على صخور الطُرق.. عربات مكتظة برابطي رؤوسهم بالأشرطة الخضراء.

لم أنم ليلتها وأنا أفكر بك.. في تلك اللحظات التي ستجمعنا. قطع تفكيري هزيع رعود متواصلة.. ظننتُ بأن السماء ستسقط.. وأن حنيني إليك يهز كل شيء. مع ضوء الصباح أدركت أن ذلك الهزيع الموحش لم يكن سوى قصف متبادل يأتي من اتجاه "الحالمة تعز".

خرجت أحمل كيسي أسير جنوباً موازيا لطرق العربات.. بدا "صبر" محاصراً بحرائق خضراء.. يدنو حزينا لعجزه عن حماية أشجاره.. ومن مفرق "ماوية" انحرفت بسيري شرقاً.. أسير مبتعداً عن تكاثر حواجز المسلحين.. التي تتوالد بشكل لافت.. هنا تذكرت حكاية هروبك من عدن متنكرة.. أتذكر وصفك لليلة فتاح.. وطيبة تلك المقهوية..  لم يمض وقت حتى بدت مدينة "ماوية" بمبانيها المتجاورة.

وما أن دخلتها حتى كنت أسأل عن فتاحك.. مررت على أصحاب الحوانيت.. الجميع ينكر علي معرفته.. ثم بحثت عن تلك المقهاية عل صاحبتها تدلني عليه.. كنت سعيداً وأنا أتنقل سائلاً.. حتى إذا ما وصلت إليك أحكي عما صنعت من أجلك.. استحضر تفاصيل حكاية هروبك.. وأشعر بأنك معي في كل خطوة. طفت ساحة سوق المواشي.. ضحك أحدهم ببلاهة لسؤالي عن المقهاية:

- متى كنت هنا؟.

صمتُ أحسب السنوات.. لأحدد أيام هروبك.. مرتبكاً أجبته:

- منذ سنين طويلة.

أستمر في ضحكته فاغرا فمه الأدرد.. ثم قال ساخراً:

- اتبعني.. سأريك مقهايتك!

 ولم تكن إلا خطوات.. حتى وقف بي أمام بقايا جدران دون سقوف. اردف مبتسما: هذه هي مقهايتك التي تبحث عنها.. أكان لك فيها حكاية؟.  

لم أتحفظ.. حكيت له حكايتك.. كان يستمع لي باهتمام.. وقد أكتسى وجهه بملامح الاهتمام.. ثم التفت ناظرا في عيني:

- المقهوية توفاها الله منذ سنوات قليلة.. أما عبد الفتاح ابن أخيها.. فقد تحوث.. وهو اليوم يقاتل معهم!.

- عبد الفتاح؟!

- نعم .. وقد يكون اللحظة في إحدى الجبهات.. لن تلتقيه ما دمت عابراً.

 

-43-

ودعته حزيناً كوني لم أنجح في توصيل تحياتك.. متخيلا هيئة ذلك الفتاح وقد أمسى مقاتلاً. أودعت كيسي صاحب "لوكندة" أفسح لي سريراً في باحة تعج بالأسرة.. راجياً منه ايقاظي مع تباشير الفجر لأرحل جنوباً. ومن إرهاقي سقطت في بئر عميق. لا أعرف كم مضى من الليل حين استيقظت على صرخات حادة.. لأرى وجوهاً مكفهرة تحيط بسريري.. ملامح تمضغ القات.. ما لبث أحدهم أن أمسك بشعر رأسي متصنعاً ابتسامة وكأنه في دور تمثيلي لا أكثر:

- قم.. أجمع أغراضك!

 سبني بخبث دفين.. لم أدرِ ما أرد به عليه.. غير أني وقفت بين الصحو والمنام.. ورديت بصوت خنوع:

- لا أملك أي أغراض.

سريعا ما سحبوني وسط عيون الأسرة وهمسها.. توقعت أن يربطوا عينيَّ.. لكنهم لم يفعلوا.. أركبوني عربة مكشوفة.. تسير مسرعة خلف أضوائها.. وسريعا ما خرجت مخلفة آخر مباني ماوية.. لتظهر أرض تحتلها أشجار طلح متناثرة.. حتى ظهرت بوابة تتوسط سوراً مهترئاً.. عبروا بي إلى ساحة معتمة.. لم يتبين لي ما تكون.. وعلى أضواء شحيحة ميزت صفوفاً غير منتظمة لعربات تشرئب بأعناق رشاشات.. وفي البعيد مجنزرات خضراء.. مسلحون في حركة دؤوبة.. دخلوا بي مبنى يشابه نمط المباني المدرسية.. على جدران أحد فصوله تظهر بقايا وسائل تعليمية.. ومستطيل أسود يختفي خلف ملصقات خضراء. كان الفصل خالياً إلا من رجل أشعث يجلس على مقعد دون طاولة.. رفع وجهه ينظر إلي بازدراء. 

ظللت مشغولاً بتساؤلات تتزاحم في رأسي: لماذا اقتادوني؟.

لتأتي أجوبة كثيرة.. أسمعها بوضوح: بلاغ فرارك وصلهم من صنعاء.. ثم صدى صوت زوج الشريفة يتردد "لن يتركوك!".

أنكسر الصمت من حولي حين أشار الأشعث:

- أسحبوه!

لم أفهم حتى امتدت أذرعهم ليسحبوني خلفه.. يلوب أطراف الفصل.. أحسست بلسع تسلخات ساقي.. حاولت النهوض.. ليركلني أحدهم بفضاضة.. لأعود مسحوباً.. بينما يسير الأشعث بقصر قامته لائباً دون توقف.

لم أكن أعرف لماذا يقومون بذلك الطقس.. شرعت بفقدان وعيي وتلك الدماء تطبع الأرض.. ولم أشعر إلا بفتح عيني من جديد على زخات باردة.. رأيته على ذلك المقعد الوحيد.. ميزت صوتاً: أتركوه! بعد حين أدركت بأني في محنة.. تكومت في مكاني العق جراحي. بينما أشباح مرافقيه شكلت حولي دائرة.. للحظات من الصمت والآلام المبرحة. توقت المزيد من الضرب. شعرت بسخونة البول بين فخذيَّ:

- من أين أنت؟

كان صوته جامداً.. حاولت النطق فلم يتحرك لساني.. ظننته تحول إلى سحلية ميتة.. أشار على من حوله: ساعدوه على النطق.

تدلت أكف من حولي.. بالضرب من كل اتجاه.. عاد صوته:

- هاه الآن أجب.

- من آنس! 

بالكاد خرجت الأحرف.

- ما أتى بك إلى هنا؟

- أبحث عن عمل!

- في ماوية.؟!

- عملي سواق.. والسيارات في كل مكان.

ما أسمك؟!

- شنوق.

- شنوق وبس!

- هل تعرف عبد الفتاح؟

- لا!

- من أرسلك؟

- لم يرسلني أحد؟

- فلماذا تبحث عنه؟

ترددت لبعض الوقت.. بين أن الفق حكاية.. أو أن أتحدث بالحقيقة.. ليعاود صوته بغضب:

- هيا أجب.

نهض لينهال عليَّ ركلا ولطما.. وهو يكرر: هيا أعترف من أرسلك؟

ليهدأ عائداً إلى مقعده.. بينما ظللت راكعاً.. أحاول مسح الدماء عن وجهي.. وقد أدركت أنها نهايتي.. ظل يكرر لكن هذه المرة بصوت عادي: هيا أجب.

خرج صوتي متحشرجاً يحكي حكايتك.. ظل صامت.. حتى أكملت.. ليجثم صمت ثقيل.. عاود سؤالي:

- وكيف وصلتك تلك الحكاية؟!

- حكتها لي الفتاة التي مرت يوماً من هنا!

- وأنت ماذا تريد من البحث عنه؟

- لأخبره بأنها ظلت تتمنى لو التقته لشكره على نبل أخلاقه.

لحظتها انفرجت ملامح وجه الأشعث.. أمراً من حوله بالخروج.. وأقترب مني.. ثم ركعً أمامي.. احتضنت يديه وجهي.. ظل يتأملني مبتسماً.. ثم فجأة إنهال علي بصفع متتالي.. يصرخ: لا يمكن.. لا يمكن.

كلت يديه من لطمي.. أو أنه تذكر شيئاً.. وقد عاد ينظر في وجهي.. ذهلت وهو يمد أصابعه ببطء. يلامس دم وجهي. يتذوقه بلسانه.. لم أستوعب ما يدور.. بدأ صوته مضطربا.. كما لو كان يواسيني: كدت تُقتل.. ألا تعرف بأننا في حالة حرب.

أومأت علامة الموافقة.. ثم أردف: وأعداء الوطن يتربصون بنا.. يرصدون تحركاتنا بهدف قصفنا..

لم أعرف ما يعنيه.. وأصابعه تتابع خيوط الدم.. وقد أكتسى وجهه بوداعه لا تناسب الموقف.. شككت في هذيانهحين قال: حين ذهبت تسأل عن اسمي في السوق ظنناك عيناً لهم.. فقررنا استجوابك.

نهض يدك بدني بقدميه.. حتى لم أعد أميز ما يتفوه به.. ثم ركع ثانية وعاد لهدوئه: انا من تسال عنه!

 لم أستوعب بأني أمامفتاحك.. رفعت عيني أتفرس ملامحه .. شعر خالطة الشيب.. تخلل حواجبه وجبهته شيء من الغبش.. قد تكون أثراً لشظايا انفجار.. يتحدث وقد حرك أصابع يديه وكأنه يعزز معنى ما يتحدث به: أنا عبد الفتاح.. وما حكيت.. أعادني إلى البعيد.. لم يطل الحديث.. أمسك بيدي.. محاولا بقصر قامته احتضاني.. هامساً: لقد نجوت من الموت بأعجوبة أيها الأبله.

ثم رفع صوته داعيا مرافقيه بالدخول: قوموا بتقطيب جراحه وإعادته مكرماً إلى حيث وجدتموه.

 لم أصدق.. غير أن ما أكد لي ذلك أنه مد ذراعيه مبتسماً ليحتضنني..

 

أوصلوني إلى أمام اللوكندة.. دخلت.. محاولاً التماسك والظهور بمظهر المتعافي.. وسط ظلام دامس وسكون غامض.. سرت بين أسرة تغط في نوم عميق.. وصاحب المكان كما لو كان ينتظر عودتي.. وقد عرف ما تعرضت له.. قادني بصمت إلى سريري.. تقلبت بوجهي المتورم ما تبقى من ليل مخيف.

 

-44-

لأيام لا أخرج من بين أغطيتي.. ولا أحدث أحد. تعالت أصوات غير مألوفة من اتجاه المدخل.. رفعت رأسي رأيت مجموعة من المسلحين يتقدمهم صاحب المكان.. الذي يشير باتجاهي.. توجست شراً وقد اقتربوايسيرون بين الأسرة.. دب رهاب في حواسي.. كان فتاحك يتقدمهم.. حين أقترب حاولت النهوض لكنه مد ذراعه وقد بدت ابتسامته من بين شعر وجهه: لا عليك أبق مكانك!.

سحبت ساقي في استعداد لأذرعهم.. كان جسمي يرتعش.. حتى وقف جوار سريري: جئت لأطمئن عليك!. بقيت صامتاً.. مد ذراعه ليصافحني.. ثم أردف: هل أنت تمام؟.

 دارت الأرض بي لحظتها.. لا أدري ما علي قوله.. غير أن عيني سالت بدموعٍ صامتة.. ليخفف عني بين همس من حوله: هون عليك. محتضناً رأسي.. ليتبين لي بعد برهة أن الذي كانوا حوله قد ابتعدوا ولم يعد غيره إلى جواري: الآن ما تريده سأنفذه لأكفر عن اللبس الذي حصل.

كنت أريد أن يكرر ما قاله.. ترددت لبعض الوقت مفضلا الصمت. أردف: لن أتركك حتى تحدثني بأي خدمة أقدمها لك.. من أوفر لك عمل.. أو أكلف من يوصِلك إلى حيث تريد؟.

تلك الكلمات أعادت إلي الأمل.. متخلصاً من تحفظي.. ليسرع لساني: أريد من يسير بي جنوباً.. فأنا أقصد زيارة البندرية في عدن.

نطقت تلك الكلمات كمن يقفز من شاهق.. متوقعاً أن يطرح علي مزيداً من الأسئلة. لكنه عادلينظر في عيني.. وقد شابت وجهه ملامح الزهو.. مضيفاً: أعتذر لما حصل.. وعليك بالاستعداد.. سأكلف من يحملك إلى آخر نقاطنا جنوباً صباح غد.. وأحملك أمانة: بلغ سلامي إليها.

 لم يضف. هب واقفا.. ثم استدار يتبعه من معه. ليعود للمكان إيقاعه.

كأنه تعويذة سحرية.. بعد زيارته.. أضحى جميع من في المكان يعاملوني كما لو كنت حوثياً.. الجميع يتقرب إلي.. وما أن شقشقت العصافير.. وانتشر ضوء الفجر حتى كان ثلاثة من المسلحين يبتسمون في وجهي: هل أنت جاهز.. سننطلق الآن.

ويا لذلك الصباح البهيج.. انطلقت على عربة عسكرية.. لتخرج بي على الطريق المتجه جنوباً.. تقف ليحيوا زملاءهم في النقاط.. أسمعهم يكررون "مكلفين في مهمة لأبو زيد". عرفت أن فتاحك يُكنى "أبو زيد". ظللت  صامتاً.. ملتزما بنصائح المسلحين.. بأن أصمت طوال الطريق.. مضت أتمنى أن أسلك متلمساً طريقاً سرت أنت يوماً عليها.. كانت ساعات.. ثم ودعوني على ربوه ي بعد أن أشار أحدهمً قائلاً: أترى تلك القرى المعلقة على خاصرة ذلك الجبل.. لا تقترب منها!. أهبط جنوباً ستجد طريق عربات.. من هناك عليك بالحذر.. فمسلحي الحراك منتشرون.. ومرتزقة الطوق يتربصون بكل قادم.

نبهني آخر: أبو زيد يقول لك" حذاري أن تفكر بالعودة".

ودعتهم هابطاً قفاراً موحشة.. حتى صادفت راعي تيوس.. كان متوجساً.. أخبرني بعد تردد بأني أشرفت على أولى قرى الشرعية.. ناصحاً بأن أسلك الاتجاه جنوبا حيث طريق العربات.. تملكتني فرحة غامرة.. متخيلاً بعدها بأني أضحيت في أمان. قبيل مغيب ذلك النهار وصلت الطريق المعبدة.. سألت سائق سيارة.. امطرني بأسئلة غريبة.. يلعن ويشتم كل شيء.. لكنه ما أنن رأي ورقتين فئة الألف.. حتى لن لسانه.. أشار إلى حوض سيارته.. صعدتجوار حمارين.. لم يقطع مسافة من الطريق حتى توقف أمام أول نقطة تفتيش.. أنزلني مسلحوها. ليمضي السائق بحميره مبتعداً.. احتجزوني في غرفة مجاورة بعد أن سلبوني كيسي وبداخله جهازي.. وباشر أحدهم بمساءلتي.. مركزاً على أن أعترف بأني مرسل من الحوثة.. حاولت إقناعه بأني هارب من بطشهم.. لكنه ظل مصراً على أنني من عناصرهم.. مطالباً بتزويده بما لدي من معلومات.. ليتم نقلي دون أن يعيدوا إلي كيسي.. إلى مركز شرطة في " المسيمير".. وهناك كنت ضمن عشرات ألقي بهم في ظروف مشابهة:

- لست وحدك من يريد التسلل فكثير كالفئران يظهرون.. بينما نعرفهم قطط سمان.. نهبوا وتسلطوا سنوات وسنوات. بينهم أنصار عفاش ومسلحي الحوثي.. يأتون ليفجروا ويقتلوا.

- لكني فار من ظلمهم!

- بل قطة.. وسنعيدك من حيث أتيت!.

كان تحقيق طويل لم يدون على ورق.. شبيه بحوارات المقايل والمقاهي. كان خوفي يتضاعف وأنا أتصورهم وقد أعادوني.. نصحني أحد المحتجزين بالصبر.. والصلاة.. كنت أضحك من دعواته للصلاة.. تلبستني فكرة الانتحار.. أبحث عما أستعين به للخلاص.. لم أجد فامتنعت عن تناول الطعام والشراب. في اليوم الثالث أستدعوني لم يسألوني عن شيء.. فقط انهالوا علي ضرباً حتى كاد يغى عليَّ. ثم سحبوني خارج المركز.. لينهرني أحدهم : هيا أذهب!

لم أصدق أنهم تركوني أمضِي.. ظللت أنظر إليهم ببلاهة ليكرر ما قاله:

- هيا أذهب عنا.. وإلا...!

قلت خانعاً متوسلاً:

- وكيسي؟!

ليصرخ في وجهي.. وقد أنزل بندقه من كتفه:

- ليس عندنا لك شيء يازبالة.. هيا اذهب.. وركلني بقدمه ...

انسحبت غير مصدق.. تلاحقني شتائمه. لكن حزناً تملكني على كيسي وجهازي.. وكان عزائي بما تبقى لي من مال بين فخذيَّ.

لم تعد ملابسي تشبه ملابس الآخرين.. تمزقت أطرافها.. وتشربت بالأتربة والعرق.. يسألني من أصادفهم في القرى عن جراح وجهي.. فأضحك متصنعاً الهبالة.. لأعبر من قرية إلى أخرى.. يمدني البعض بالطعام.. وآخرين بالقليل من الريالات.. والبعض يرجمني.. حتى الكلاب كانت تلاحق رائحتي بالنباح إلى مسافات بعيدة لتستقبلني غيرها.

وما إن وصلت إلى "الحوطة" حتى تغير الوضع قليلاً.. ولم أجد ما يعيقني حتى وصلت الشيخ عثمان.

 معاناة سفري راجلاً كانت عذاب سقر.. كنت أود أن أحتفظ بحكايات هروبي حتى ألقيها على مسامعك.. لكن ما زال في قعر روحي الكثير من الشجن. أنتظر أن ألتقيك لتريني تلك اللفافة التي كنتِ تحملينها بين ذرعيك في آخر لقاء.. لأعتذر لك ولذلك ولوليدك.. الذي حتماً شب وتجاوز الثلاثين من عمره.. متسائلا أي مشاعر تلك التي ستتخلق لحظة لقاء نظراتنا.. قد يكون موقف لا أستطيع تصوره.. سأتأمل باحثا فيه عن بعض ملامحي. وملامحك.. من أي منا أخذ أكثر.. أشعر بالعار من نفسي وأنا أكتب إليكِ.

لا أعرف إن كنت قد تزوجتِ.. إن كان ذلك حدثيني عن زوجك.. أي رجل هو؟. هل هو متيم الثانوية الذي حكيتِ لي يوماً عنه؟. حبك البِكر.. من كان يجاور مقعد الفصل.. كيف ستقدمينني إليه؟!.  هل أنجبتِ.. تفاصيل كثيرة تشغلني منذ وصولي عدن.

فرتر من صنعاء.. هرباً من الموت.. فما تشاهدينه على شاشات التلفزيون لا ينقل ما يعيشه الناس من خوف.. وجوع.. وتشرد. هناك القتل بعد الاختطاف.. نسف المنازل والمساجد التي يسيرها الطرف الآخر. شاشات التلفزة لا تنقل إلا ما يسمح به أمراء الحرب.. وما خفي من طغيان وبطش لا يعرفه أحد.

أتعلمين أن سكان صنعاء يتساءلون عن أي ذنب ارتكبوه ليسلط الله عليهم تلك الجماعات.. إلا أن الكثيرين يعتقدون بأن هذا تطهير لذنوبنا..  فكل هذا القتل والتنكيل والخوف والجوع والقتل الذي طال الجميع كله بإرادة الله.. لا أحد يعلم أن تلك الجماعات قد نجحت في تحويل صنعاء إلى مقبرة كبيرة.. ومن تبقوا مجرد أشباح. فالملاحقات والمداهمات تتضاعف يوما بعد آخر.. واختطاف المئات لتصفيتهم بعيداً عن الضجيج.. منفذة  مبدأ "من ليس معنا فهو عدونا.. مقسمين المجتمع إلى أسياد وعبيد".

ضغط على زر الإرسال.. شعر بالسعادة وهو يتخيلها تقرأ.. لم يبالغ أو يدعي حكاية لم يعشها.. هذا ما كان يحدث به نفسه.. موقنا بأن تأثير معاناته سيدفعها.. للرد عليه.. ولذلك عاد ليكتب إليها من جديد:

 "سأظل أكتب إليك وأكتب.. سواء رددت علي أم لا.. وسيظل الأمل لدي بالجلوس إليك والحديث معك بما لم أحكه. فلا يوجد ما يشغلني غيرك.

بعد وصولي.. نزلت في فندق متواضع.. يقع في أسفله  مقهى للأنتر نت يشتق من اسم الفندق أسماً له "أوسان نت". كنت محملاً بحذر يلازمني لما سمعته عن عداء لكل ما هو شمالي.. أقضي جل وقتي بين الفندق.. صعوداً والمقهى هبوطاً.. أو أستقل من حافلة إلى أخرى.. أزور تلك الأماكن التي زرناها يوماً معاً.. كورنيش ساحل أبين.. بحر صيرة.. أسواق كريتر.. التواهي.. لأكتشف بأن عدن لم تعد تلك المدينة التي كانت.. فناسها حل محلهم أناس تدل أشكالهم وأزياءهم بأنهم ريفيون.. ولم تعد دور سينما.. ولا عروضها المسرحية.. ولا مشاربها أو باراتها موجودة.. حتى النساء تحولن إلى أشباح.. يوما بعد آخر أشعر بخوف.. فمن أصادفهم لم يعودوا بنفس الوداعة التي كانت.. أو أنها مشاعري نتيجة لما كنت أسمعه في صنعاء.

 لكن ما كان يشغلني.. أمر آخر.. فقد سكنتني أمنية تطورت حتى أمست يقيناً.. فدوماً أتوقع مصادفتك.. أنتظر أن أراك صاعدة إلى حافلة.. أبحث بين الوجوه.. وفي الشوارع والأسواق أتوقع أن تظهري فجأة بين العابرين.. والغريب أنني كنت أصادف من يشابهنك ولو بتغير بسيط.. فأرد اللوم على الزمن.. ظل إيماني يتضاعف بأنك ستظهرين دون مقدمات.

لن أطيل إذا ما التقينا فلا يزال لدي الكثير لأحدثك به.. فقط كما قلتِ نتزاور قبل أن يزورنا الموت".

 

-45-

ظل مشتتاً.. أنقضت ثلاثة أيام دون أن يتلقى من سقوة أي خبر.. كان قلقه يتضاعف على صحتها.. يتمنى أن يعرف بحالتها. كما ظل ينتظر رسالة من البندرية. وجد أن عليه ألَّا يقضي وقته في الانتظار بين أجهزة "أوسان نت" والفندق.

خلال أسابيعه الأولى في عدن لاحظ أن مدير الفندق "بادينار". يعامله بود.. فكل ما رآه.. يدعوه على كأس شاي.. يتجاذب معه أطراف الحديث..  وقد أقتعد كرسياً خلف مكتب الاستعلامات.. بداية ظنه يبحث عن جليس.. نتيجة لاستمرار وجوده خلف ذلك المكتب.. ثم تدرج الأمر ليرتاب منه.. ظانا بأن تكرار دعوته له بغرض معرفة نواياه.. أو أنه يرفع بما يسمع كما هم العسس. لكنه لا حظ بادينار يتحدث عن نفسه ببساطة شديدة.. عن تجربته الحياتية بعد أن قارب الستين.. ليعرف بأنه من مواليد الشحر.. كان مهاجراً في الكويت في مطلع شبابه.. عمل في عدة مجالات.. نشط في صفوف طلائع القوميين العرب.. وعمل بالصحافة هناك لسنوات.. وعشية جلاء الإنجليز من عدن.. عاد ليلتحق بصفوف الجبهة القومية.. وأصبحت له مكانة حزبية كبيرة.. وفي أحداث 86 أقتاده  أنصار "علي ناصر" لأيام.. وكاد أن يعدم رميا بالرصاص.. إلا أن انتصار أنصار "البيض" أخرجه مع مئات المعتقلين.. بعدها قرر هجر السياسة.. مفضلاً العمل الحر على مخاطر الصراعات السياسية. وليبرر تعاطفه معه.. أخبره أنه أكتوى بنار السياسة.. لذلك يجد نفسه دوما يقف مع من يقعون ضحايا لتلك الصراعات. باح شنوق بمعاناته.. تلك التي جعلته يفر من صنعاء بسبب بطشهم.

كان بادينار صادقاً معه.. وهو يحذره من الاحتكاك ببعض الناس.. قال له: هناك فريق تسيرهم العاطفة.. فتراهم يعادون كلما هو غير جنوبي.. وهم السذج.. وعناصر تسيرهم مصالحهم وقد انضووا ضمن ما يسمى بالحراك.  فكن بلسانك ضنين.. وبأفكارك حكيم. 

 يبتسم بادينار وهو يرى شنوق يلبس على الدوام الفوطة و"الشميز".. يسمعه وهو يحدثه بما يواجه من مصاعب أثناء بحثه عن عمل.. وأن البعض يميزونه من خلال لهجته.. وأنه حاول أن يُقنع بعض الشماليين بالعمل معهم في بيع الملابس على أرصفة الأسواق.. ليكتشف بأن من يفرشون بسلعهم أرصفة الأسواق جماعات.. وكل جماعة تنتمي إلى منطقة شمالية.. يعرف بعضهم  البعض.. ويدعمون بعضاً.

يحدث بادينار عن تعدد جولاته.. ليكتشف بأن عدن ليست تلك الأحياء التي كان يعرفها.. الممتدة من الشيخ إلى كريتر.. بل هي مدينة مركبة من عدة مدن. فالشيخ عثمان بأسواقه وشوارعه وميادينه مدينة متكاملة.. تجاورها المنصورة التي تمتد جنوبا بامتداد هائل.. ثم دار سعادة والمماليح.. حتى خور مكسر وساحل أبين.. أما مدينة كريتر فلها طابعها القديم بين جبال شمسان.. كما للمعلاوالتواهي على الجانب الآخر لجبل شمسان.. وهكذا حتى بير أحمد وصبر غربا.. والحسوة حتى البريقة شرقاً.. مشبهاً لها بعنقود مدن متصلة  ومنفصلة في آن عن بعضه.

عاد بعد جولة استغرقت عدة أيام ليخبره بأنه وجد عملاً بالأجر الأسبوعي في مقهى "جارة البحر". بالقرب من قلعة صيرة.

كان شنوق يخفي عن بادينار أمر انشغاله بالبحث عن البندرية.. وقلقه على سقوة.. حتى أنه لم يتطرق في أحاديثه عنها قط. ظاناً أن عمله في جارة البحر سيشغله عن همومه تلك.. كان عمله في المقهى ينتهي الساعة التاسعة مساء.. يذهب بعدها لبعض الوقت إلى البحر.. ثم يعود إلى بادينار.. لكنه أينما ذهب كان يحمل تلك الهموم بداخله.. ليلة بعد أخرى أمسى يخرج من المقهى مصطحباً القليل من القات.. يجلس قبالة ليل البحر.. يتأمل ظلمته المهيبة.. وتلك الأمواج الخفيفة تحاكي روحه.. يسرح بذاكرته بعيداً.. يرى نفسه خارجاً من قريته بلا أمل.. ومع هدوء الجَزر يتوهم نسيان همومه.  ليعود متأخراً إلى أوسان.. يسأله بادينار.. ليخبره بأن عمله في جارة البحر يأخذ بعض وقته.. ليلة بعد أخرى لحظ بادينار تغير نديمه وتهربه من مجالسته.. وإن جلس إليه يميل للصمت إلا من كلمات قليلة.. ثم تأخره في العودة.. يستفسر منه فيرد عليه.. بأن أعمال المقهى تأخذ وقته.

لكنه كان يقضي معظم أوقاته يجالس البحر.. لتتطور علاقته به.. وقد أنتقل إلى الساحل المقابل لصيرة خلف مبنى المحكمة جهة خور مكسر.. مهملاً مظهرة.. وشعر رأسه..  يصعد غرفته دون أن يلتفت إلى بادينار.. في البداية ظن أنه إرهاق العمل.. لكن حالته زادت سوءاً. ليعترضه ذات مساء بابتسامته الودودة:

- مشتاقون ياراجل.. حتى السلام لم تعد تلقيه.. هل أسأنا؟

نظر إلى وجه بادينار.. محاولاً زرع ابتسامة دون أن ينطق.. أردف بادينار متأملا هيئته: أتعرف بأن أبواب الفندق تغلق مع منتصف الليل.. لكني أظل في انتظارك.

رد عليه بتردد:

أقضي بعض الوقت على ساحل البحر!

- البحر إلى هذه الساعة.. ظننتك ستقول أنه العمل!. بيننا عيش وملح.. أنصحك بتقليل صحبتك للبحر.. وهذا القات الذي يملأ فمك خفف منه أيضاً.

نسي وعده لبادينار.. ونسي نفسه لليال قضاها هنا على ساحل أبين.. يسير ماضغاً ورقات القات.. شاعراً بروح تجالسه.. يصيخ السمع لضحكات أبنائه قادمة من أعماق الماء.. وقد احتواه ملكوت لم يشعر به من قبل. مع توغل الليل وسكون الكون يسمع نداء  يدعوه للدخول.. يستجيب بنشوة وفرح.. سار حتى أرتفع البحر إلى عنقه.. أستمر ملبياً للنداء.. وللحظات غمر فمه الماء.. أستفاق ليقاوم الغرق.. تراجع بأعجوبة.. ظل ممداً على رمال الشاطئ.. نهض بعد وقت يتسحب باتجاه الأحياء.. لم تعد هناك من عربات على الطرق.. يسير دون هدى في شوارع عبرها على الحافلات.. يصادفه مسلحون.. حتى وصل مع شروق شمس اليوم الثالث رصيف أوسان.. سقط متهالكاً.. بعد وقت أفاق ليجد عدداً من الوجوه تحيط به.. ميز صوت بادينار: لماذا تجني على نفسك؟.

لم يجد ما يرد به عليه.. أنتفض من بينهم.. شاقاً طريقه باتجاه السلم ليصعد إلى غرفته. تبعه بادينار.. يتبعه موظفي الفندق.. وأمام باب غرفته أوقفوه ليسأله بادينار:

- هل نظرت في المرآة؟!

ظل على صمته.. أردف بادينار: أتمنى أن تبحث لك عن مكان آخر تأوي إليه.. لا أريد مشاكل...

رد كالمخمور:

- لكني أدفع لك!

- المشكلة ليست في الإيجار.. لن أنتظر حتى تخلف لنا مصيبة!

- أنا!

قاطعه بصوت هادي:

- يا ابن الناس ما تصنعه بنفسك حرام.

خيم بعض الصمت.. وظلت نظرات من يحيطون به معلقه به. ليضيف بادينار: احمل نفسك وارحل.. أو استدعي لك الشرطة!

صمت كما لو كان فاقداً القدرة على النطق.. ثم أنهار أرضاً ينتحب بصوت حزين. وقف بادينار يضرب كفاً بكف.. يفكر في نديمه وما آل إليه.. في لحظة طرأت له فكرة. وأشار على من حوله بإدخاله غرفته.

 

-46-

 وجد بادينارنفسه في موقف لم يكن يتوقعه.. فكر أن يحاول معه.. ثم يتركه بعد ذلك يمضي في حال سبيلة.. ولذلك طلب من موظفيه جز شعر شنوق.. وتنظيفه وتغيير ملابسة.. ليهبطو به بعد ذلك.. دعاه لتناول وجبة الإفطار.. لم ينطق.. نظر إليه.. كان يتناول الطعام بشكل طبيعي.. فقط نظراته كانت زائغة.. هذا ما لاحظه بادينار وهو أمامه.. خرج به على سيارته.. باتجاه كريتر.. طلب منه أن يدله على جارة البحر.. وتلك الأماكن التي يقضي وقته فيها بصحبة البحر. أبدى شنوق رفضه..  ليرضخ بعد أن ألح عليه.. لكنهم أأخبروه بعد دخوله المقهى أنهم استغنوا عنه منذ وقت.. نتيجة لإهماله وتدهور حالته. سأله بادينار مغتاظاً: لماذا كنت تكذب بأنك مستمر في المقهى؟.

لكنه ظل ينظر إليه نظرات حيرى.. ليضيف بادينار: بدأت تقلقني.. ولذلك سنعود وعليك بعد ذلك أن تذهب في حال سبيلك.

عبر به عائداً شارع المحكمة باتجاه خور مكسر.. ساحة العروض.. ماراً أمام بوابة الفندق المواجه للبحر.. وعلى الجسر حتى جولة كلتكس. طيلة طريق العودة ساد الصمت. وظلت عينا شنوق الصغيرتين تذرفان دمعاً غزيراً.. ووجهه الصلصالي يتفصد عرقاً غزيراً.

سأله: أتحدث إليك.. أسألك فلا تهتم لكلامي!.

ذكرته كلمات بادينار  بأيام سجنه في صنعاء.. ورؤيته لخطوط الحيطان.. هاجراً من حوله لانشغاله بتتبع تشابكات تلك الخطوط.. حتى نبهه أحد المساجين.. لتعيده عدة صفعات إلى واقعه. فجأة صرخ شنوق في وجه بادينار من بين دموعه: لماذا دوما أهرب إلى ما أظنه خلاص.. هل هو ضعف يتملكني.. أم هي طريقتي للحياة؟. ظل يردد كلماته وتساؤلاته.. كمن أفاق من كابوس ثقيل.

تملكت بادينار دهشة.. وهو الذي ظن بأن شنوق لن ينطق.. ولن يخرج من دائرة دخل إليها بحثاً عن خلاص. رويداً رويدا وجد ذلك النديم وقد عاد إليه يبادله الحديث.. كما لو لم يكن شيئاً.

يراقبه بشك.. وقد عاد لطبيعته السابقة يهبط لقضاء بعض الأوقات أمام اجهزة "أوسان نت".. يخرج باحثاً عن عمل.. ليعود لمجالس بادينار ليحدثه عما يواجه. سأل بادينار "أكرم" موظف المقهى حول سلوك شنوق.. وتعامله معه.. ما جعل أكرم يتقرب إلى شنوق.. لكنه لم يجد ما يثير في سلوكه. لم يقتنع بادينار.. مفضلاً أن يوجه أسئلته مباشرة حول ما يشغله.. ظل يلح عليه.. ليستجيب لأسئلته.. شارحا له ما تعرض له في حياته من مآس.. بداية بسجنه الأول.. إلى الثاني.. وملاحقة العسس له.. حتى فراره من بطش الحوثة.. حتى عودته إلى قريته واكتشافه ما قصم ظهرة بضياع أسرته.. ليفر من قريته شريدا. حينها شعر بادينار تجاهه بعاطفة.. وهو يرى نفسه في معتقل أحداث 86 في عدن.. الذي قضى فيه أياماً قليلة لكن الموت كان يزوره في كل ساعة.. وهو يرى من يقتادونهم من زملائه لا يعودون.. بدوره كان ينتظر اقتياده في كل لحظة إلى ساحة الإعدام.

 تلل الأوقات التي يقضيها شنوق على مقاعد أوسان نت.. خلقت ملاطفة بينه وبين الشاب المسؤول عن المقهى "أكرم". 

يجلس إلى أحد الأجهزة لا يجد ما يقوم به غير إعادة قراءة رسائل البندرية السابقة.. والكتابة إليها.. وإلى سقوة الذي يشعر بتأنيب ضمير تجاهها. لتصله رسالة من سقوة " لن أخفي عليك.. حول ذلك الورم الذي كنت أحسبه بسيطاً.. بدأ يثقل عليَّ.. وكأني حامل.. إضافة إلى أن فتور عام أصاب جسمي. لا أريد اقلاقك وأنت في محنة أشد مني.. ولم أنساك لحظة واحدة.. يكفي بأني في غرفتك.. وهذا ما يخفف من حدة آلامي.

حين لاحظت الشريفة شحوب ملامحي.. وفتوري لم أحدثتها عن الورم. ولا أنوي إخبارها بما أعانيه.

 يوماً بعد يوم.. تتغير أرواح الناس في هذه المدينة.. فهذه الشريفة تنظر لكل ما حولها بتوجس وريبة.. بعد أن أضحت الداعية الزينبية الأولى في المدينة.. بل ومنحتها قيادة المليشيات في الأيام الأخيرة رتبة عسكرية.. ومن يومها لم تعد تلك المرأة البسيطة.. الهادئة. فلا تنطق اليوم إلا لتأمر.. وأصبح معظم وقتها خارج الدار.. ويقال بأنها تذهب قصر السلاح "القلعة". لتحضر اجتماعات "شرايف" أحياء صنعاء.. فلا تخرج من دارها  أو تعود إليه.. إلا وبرفقتها عدد من المسلحات.. وتردد على الدوام "أنا شريفة مكشوف عني الحجاب".

لكن الحدث المحزن الذي ترددت في نقله إليك منذ أسبوعين.. هو اختفاء صاحبك.. وقد دأبت الشريفة على الترديد لمن يسألنها "بأنه في مهمة وسيعود!". إلا أن الأسبوع الأول أنقضى.. والشريفة تنشغل في "قصر السلاح". لينسى أمره من الجميع ضمن الكثيرين ممن اختفوا في ظروف مشابهة. لم أخبرك  بداية الأمر.. وفضلت عدم الكتابة إليك.. لكن البارحة ساورتني الظنون بأن اختفائه لأنه فر إليك.. فحدثتني نفسي أن أسألك عنه!. فهل ظنوني في محلها. لن أنطق لأحد بذلك أبداً.. فقط أريد أن اطمئن!".

تلك الرسالة أكدت له صدق ظنونه بتفاقم مرض سقوة.. وقد وضعه هروبه في موقع لا يحسد عليه.. ليسترجع لحظات فراره.. ويرى بأنها كانت خطوة صائبة.. متخيلاً الشريفة تنظر لمن حولها بأنهم مجرد طرائد وفرائس. مردداً: أي روح تسكنها وهاهي تلتهم زوجها كأنثى العنكبوت بعد عشرة عمر.. فكيف بمصيري لو لم أفر من بين مخالبها؟!.

يرى نفسه مجزأً.. ضائعاً.. يلعن الحرب.. ومن يديرونها.. ويلعن نفسه.. ليخرج صوته نائحاً: لو أصريت على طنهاس لفَر معي.. لو تخفيت باحثا عن سقوة لفرت معي.... لو لولو. هرع أكرم إليه مستغرباً لبكائه. أحتضن رأسه مواسياً في حرج. وقد التفتت عيون من أمام الأجهزة تتساءل.

هدأ صوته.. وكفكف دموعه.. ودون أن ينظر في عيني أكرم همس يشكره: أنا بخير.. أشكرك.. عاد يكتب رده "كنت أشعر بمعاناتك.. وآلامك.. وألوم نفسي بعد أن خذلتك.. لم أفكر إلا بنفسي.. لكني مطمئن إلى أن الشريفة وبناتهابجوارك.. وجارات الدار قلبك دليلك لابد وأنه يميل أو يرتاح لأحداهن أكثر من البقية.. أفتحي قلبك.. أشكي لها.. أذهبي معها إلى الطبيب.. أشعر بالخزي وأنا أنصحك بينما أنا بعيد.. كان من المفروض أن أكون إلى جوارك. ولو كنت قريباً لأتيت إليك.. لكنني بعيد.. أنا في عدن.. فلا تخبري أحداً. زدتِي من أحزاني بخبر اختفاء صديقي طنهاس.. ولا علم لي بمصير صاحبي طنهاس.. فحين غادرت لم يكن لي علم أين ستنتهي طريقي!.

رسائلك دوما تزيد من حزني وبؤسي.. أعيش هنا غريب وقد قاربت الريالات التي كانت معي على النضوب.. سأواصل بحثي عن عمل.

أرجوك إن تكتبي لي عن حالتك.. حدثي من تثقين بها. لا تصارعي مرضك وحيدة. وأيضا إن جد جديد حول صاحبي اكتبي لي.. وأنصحك بإظهار حبك للشريفة وولائك لها حتى تأمني شرها.

ثم عليك بمحو كل رسالة تصلك فور قراءتها.. ومحو ما تبعثيه إلي عقب إرساله.. ودوما افحصي هاتفك.. ونظفيه أولًا بأول.. حتى لا يكون دليل إدانتك إذا ما وقع بين يديها..."

 

-47-

أستعاد شنوق نفسه.. وزادت ثقته بِبادينار.. مكرراً اعتذاره لما سببه له من قلق.. لاهثا بالشكر لإنقاذه من الضياع.. ودوما يذكره بأنه غريب وشريد وسط بحر من صراعات لا يريد إلا أن يظل بعيداً.. فلم يعد له مكان يأوي إليه إلا عطفه عليه. مع الأيام أدرك شنوق بأنه لا يعامله معاملة خاصة.. وكان ذلك طبع يعامل به من حوله به.. وتلك البساطة سجية جبل عليها.

ويوماً جلس إلى بادينار.. يغالب دموعه.. يفكر بأنه بعد أيام لن يجد بجيبه أجرة الغرفة.. أو ما يقتات به.. فضل أن يستبدل شكوى حالته بطرح رغبته في أي عمل يقوم به لديه:

- طفت باحثاً عن عمل.. لكني لم أفلح.. لا أريد مكسباً.. أريد فقط ما أواجه به قوت يومي...

ابتسم بادينار.. مقاطعاً له:

- ولماذا لا تلتحق بمليشيات الحراك.. قالوا بأنهم يكسبون الكثير!

 هز رأسه متحسراً:

- أرجوك لا تسخر من حالتي... 

 ربت على كتفه مواسياً:

- قبل أن تسألني.. كنت أفكر بحالتك.. وأنا أراك تخرج لتعود منهكاً.. ودعني أولاً.. أعبر لك عن إعجابي بقدرتك على تجاوز حالتك.. بل وأراك اليوم أفضل.

 - أنت صاحب الفضل.

 - سأجربك.. لإنجاز بعض الأعمال...

اجتاحته غبطة وسعادة كادت تخنقه.. صمت يفكر في طبيعة تلك الأعمال.. وكأن بادينار يقرأ ما يعتمل به.. وهو ينظر في ملامح وجهه.. متابعاً:  الفندق بحاجة إلى بعض التجديدات.. وصيانة التالف من أثاثه.. ولذلك أعتبر نفسك من اللحظة مكلف بإعداد تقرير مفصل عما يحتاجه من إصلاح وصيانه.. زر غرفه ودورات المياه.. عاين حالة الأبواب والنوافذ وما تحتويه كل غرفة من دواليب وطاولات وأسرة ومقاعد.. وأعد قائمة ثانية بحالة الأجهزة الكهربائية.. من مكيفات وثلاجات وتلفزيونات وإنارة. وثالثة بالمراتب والأغطية والستائر وكل ما له صله بأثاث الغرف.

وبعد ذلك نرى كم تكون التكلفة.. ومن أين نبدأ.. لنمرحل العمل إلى مراحل.. في الوقت نفسه لا أريد أن نتوقف عن استقبال نزلاء أوسان.. بحيث ننجز عمل كل دور على حدة حتى تجهيزه.. ثم الذي يليه حتى ننتهي بهذه الصالة.

لم يجرؤ على النظر إلى وجه بادينار.. تلك الملامح التي تخللتها أثار السنين.. لكن صوته خرج بما يشابه الشكر:

- سأعمل على أن أكون عند حسن ظنك!

نطق كلماته وكأنه يتهجى أحرفها.. منذ تلك اللحظة أمسى لا يفارق محيط الفندق.. إلا لجلب مواد أو عمال الصيانة.. فتارة يجلب كهربائي.. وأخرى نجار.. وثالثة دهان أو سباك. مع ساعات الليل يفرغ من أعمال الصيانة.. ليهبط بشوق عله يجد رسالة ما.. وعندما لا يجد ما يشغله.. يجلس إلى أكرم مسئول أوسان نت.. يتجاذبان أحاديث متفرقة.. يتبادلان أطراف الحديث.. ليتفرعا.. ويتشعبا.. فرغم صغر سن أكرم إلا أن شنوق وجد فيه مستمعاً جيداً.. ومحاورا لطيفاً.. يشعره بأنه معلم.. وقد أخذ يستعرض بعض أفكاره في الحرية والعدالة.  لكنه لم يكن يبوح له بهمومه لصغر سنه.

أكتشف شنوق بأن "أوسان أوتيل" وما تحته من محلات.. "أوسان نت" و"أوسان ما ركت" و"أوسان إلكترك" جميعها ملك لبادينار.

بهرته تلك المعلومات.. وهو الذي ظن بادينار مديراً للفندق.. وأمام دهشته نبهه أكرم: العم بادينار.. لا يعجبه أن يعرف الناس ذلك.

مجالسته لأكرم.. جعلته ليلة بعد أخرى يبادر إلى مساعدته بإعادة بعض المقاعد.. وتلبية طلبات بعض الرواد.. ومع الإغلاق يساعده على إعادة ترتيب أجهزة المحل وتنظيف طاولاته.

كتبت إليه سقوة "أشتي أهرب إليك.. صنعاء مخيفة بعد فرارك.. وكأنك كنت تعلم بالخراب القادم..

فحريم الدار والدور المجاورة أصبحن زينبيات.. يأتمرن بأمر الشريفة.. ولها في كل حي عيون.  ومن العجائب أن زوجة المغترب الساكنة اسفل الدار.. قدمت أحد أبنائها ليحارب مع الحوثة.. وحين عادوا بصورته بعد مقتله.. غضب عليها زوجها.. وهدد بطردها.. لتستنجد بالشريفة.. التي وجهت من يقتاده بتهمة تأييده للعدوان الأمريكي الإسرائيلي السعودي.. ليُغيب منذ ذلك المساء.. ولم يعرف عن مكانه أحد.

أزداد الخوف.. وتضاعفت أخبار القتل.. والإخفاء.. وتجاوز ذلك الرجال إلى النساء..  فنسمع ونرى هجوم الزينبيات على بعض دور الحي واقتياد النساء.. بضبط مكالمات هاتفية لهن.. أو تعليق على الفيس بوك.   

أموت من الخوف.. وأنتظر تشجيعك لي أن أهرب إليك.. لا أريد أن أكون زينبية.. لم يعد لي غيرك.

صاحبك لم يظهر له أي أثر.. ويبدو بأنه أودع سجن قصر السلاح كما يتردد.. أن خلافه مع الشريفة.. جعلها تعلمه مقامه. هذه هي أخبارنا.. فما هي أحوالك.. هل وجدت عملاً.. كيف تعيش بين أناس يجاهرون بكرههم لكل ما هو شمالي؟".

"رسائلك تزيديني قلقاً عليك.. وعلى صاحبي طنهاس.. الذي كان ينشط بدروس الصبيان وبأعمال أخرى لصالحهم. أشعر بالأسى عليه.. وخوفي على مصيره يتضاعف يوماً بعد آخر.. لكني لا أملك أدنى وسيلة لمعرفة ظروفه. لكني على يقين بأنه رجل حصيف.. وأثق بأنه سيظهر من جديد.. كوني حذره.

تريديد أن تفري إليَّ.. أريد ذلك أكثر مما تريدين.. لكن عليك بالتريث.. وأعلمي أن الطريق إلى عدن محفوفة بالمخاطر.. فجماعات الحوثي ينتشرون في كل طريق.. قد يسألونك كيف تسافرين دون محرم.. وقد يتعللون بأي عذر لإيذائك. أنت تعرفين ببطشهم.. فمن يقع بين أيديهم لا يعود.. كما هو المغترب وطنهاس  وذلك الشيخ والفرانصي.. وآلاف من المخفيين لا أحد يعرف مصيرهم. الصبر خير علاج في هذه الظروف.. وقد أفكر بالعودة إلى صنعاء.. إذا ضاق الخناق هنا".

يوماً بعد آخر زادت أُلفتُه للمكان.. يقضي نهاره بين أعمال صيانة الفندق.. وشطراً من ليله بالجلوس إلى أحد أجهزة المقهى.. أو منادمة أكرم.. وأمسى لديه من يسأل عنه من رواد المحل. لكن ما طرأ على حياته ظهور فتاة تتردد على "أوسان نت". ما أن يدخل حتى يراها تنصرف.. يقترب سنها من الخامسة والعشرين.. حين  التقت عيناها بعينيه لأول مرة وقفت كمن أصابها بله.. أنطبع شكل وجهها البيضاوي في ذاكرته.. نظراتها المستفزة.. ما شده إلى متابعتها. ما إن يحل على المقهى حتى يمسح بناظريه من على المقاعد.. كان يشعر نحوها بانجذاب لا يستطيع تحديده.. حين يصادف وجودها يرقبها دون حركة.. يلاحظ انهماكها.. عدم احتكاكها بالآخرين. يتمنى أن تطلب منه شيئاً كمبقية رواد المقهى.. ويظل على أمل.. لكنها لا تفعل.. لتضبطه يرمقها في إحدى المرات.. مبتعداً بنظراته إلى تلك الجُمل المعلقة على الجدران.. تحث على التقوى ومخافة الله.. وأسفل منها علقت أرقام الأجهزة.. ثم يعود بالنظر إليها.. يلحظ تشابه وجهها بصحن خزف نقي.. انعدام شعر وجهها فلا حاجبان أو شعر رموش.. فقط بشرة رقيقة ناصعة البياض.. تحيط وجهها طرحة. تقف قبيل انصرافها متحدثة إلى أكرم  بصوت هامس. سأله عنها بعد انصرافها فحدثه عنها ما حيره.

 

-48-

دعاه بادينار ذات مساء متسائلاً:

- أراك تقضي جل وقتك في المقهى!.

- هل قصرت فيما أوكل إلي من أعمال؟

- أبدا.. لكني أطمئن عليك!.

جملته الأخيرة ذهبت بشنوق بعيدا:

- هل وصلك ما يسوء؟.

- لا.. فقط أريد أن أسألك.. كيف وجدت أكرم.

خمن أن خلف سؤاله عن أكرم أمراً.. لكنه لم يصل إلى نتيجة:

- أكرم ملم في عمله.. وفوق ذلك مخلص.

- وكيف علاقتك به.

- يعاملني كما يعامل الابن أباه.. وهذا ما جعلني أشعر بالأمان معه.

- سألتك.. لأنك من الغد ستكون مساعداً له.

-  والفندق!.

- ألم تلحظ بأنك أنجزت كل شيء. لم يعد من أعمال إلا قليل.. سأكلف  من ينجزها.. ومن الغد سيكون كل وقتك للمقهى.

أن ينتقل للعمل في المقهى.. أمر حيره.. فما تبقى من صيانة الفندق كان  كثير. والمقهى لا يحتاج إلى أكثر من موظف.. ولذلك أمسى يفكر طوال تلك الليلة بعمله الجديد.. إضافة إلى أن أكرم ودود في معاملته. فهو نفس العمل الذي يعرف تفاصيله. وما تغير  بالنسبة له هو الوقت الذي أصبح كله للمقهى.

مع شروق يجد أكرم قد فتح أبواب أوسان نت.. يدخل ليساعده علىترتيب المقاعدواعادة تعديل بعض الطاولات. مر الوقت ثقيلاً حتى تقاطر الرواد.. ظل منشغلاً من طاولة إلى أخرى.. بينما أكرم خلف الجهاز الرئيسي يتابع حسابات الرواد...

بعد ساعات أطلت ذات الوجه البيضاوي.. وقف يتابعها.. تلقي التحية هامسة على أكرم.. الذي أشار عليها إلى رقم جهاز شاغر.. تهادت لتجلس على مقعدها.. سريعاً ما اندمجت بشاشتها. استدار لتلتقي عيناه بعيني أكرم.. رسمت ملامحه ابتسامة ذات مغزى. أبتعدشنوق منشغلاً هنا وهناك متفادياً لعيني أكرم.

لم يكن لشنوق إلا أن يتحدث إلى أكرم.. ظاناً بأن له بتلك الفتاة معرفة.. أو علاقة ما.. فضحك أكرم: 

- لا معرفة ولا علاقة! ثم ارتفعت قهقهاته. مواصلاً: أنا توي أكملت الثانوية وهي في آخر سنة جامعة.

- ونظراتك الباسمة التي تترصدني كلما أطلت!.

- أنت لا ترى عينيك حين تطل.. تتابعها ببلاهة لافتة.. حتى من يجلسون خلف الشاشات يتابعونك.  

أحس بعري مفاجئ.. وهو يسمع أكرم يحدثه بذلك الوضوح.. مبررا انجذابه لاختلافها عمن سواها ممن يترددن على المقهى.. شارحاً ذلك الغموض..  ليحدثه أكرم.. بأنه ليس الوحيد من لفتت انتباهه بشكل وجهها المشابه لدمية البلاستيك. وأوضح له أن كبر سنه يلفت الأنظار لحظة متابعته لها.

ليعرف من أكرم بأنها تجلس أمام الجهاز ولا تحتك مع الأخرين.. وحكى له حكاية حدثت قبل فترة.. حيث حصلت مشادة بينها وبين شاب كان يتردد على المقهى.. ما أضطره إلى التدخل.. وفض الخلاف.. مخاطباً ذلك الشاب: هذا محل محترم.. ولا نقبللأيٍ كان بالتعرض أو التحرش بفتاة.. ورجاء لا تعد إلى مقهانا.

انصرف ذلك الشاب دون أن يتفوه بكلمة.. وانصرفت هي.. لتأتي في مرة لاحِقة.. تحدثني بأن ذلك الشاب خطيبها.. وأنها  أنهت خطبته لها.. لتوضح له بعد أن لاحظت خجله.. بأن تلك الخطبة ما كان يجب أن تستمر.. فهو شاب متسلط وشكاك.. وكثيراً ما يملي عليها ما يراه.

لم أعرف هل كانت سعيدة بفسخ خطوبتها.. أم أنها انزعجت من تدخلي أثناء خلافهما؟.

استمرت بالتردد على المقهى.. تلقي التحية.. وإن أضافت تحدثني عن رغبتها في جهاز بعينه.. أو أن أضاعف لها قدرة التحميل.

- وما أدراك بأنها في آخر سنة لها؟.

- هي من حدثتني.. وأنهافي كلية الآداب قسم فلسفة.

صمت أكرم متطلعا في عيني شنوق ثم أردف: وماذا عنك.. أراك مهتماً بها!

- الآن عرفت أن غرابتها ليست في الشكل.. بل في الروح.. بعد معرفتي بذلك لن تجدني مهتم.

عند حضورها في اليوم الثاني.. حمل السلم صاعداً يزيل الغبار عن عبارات على الجدران "اتق الله.. فإن لم تكن تراه.. فإنه يراك"..."خير الخطاؤون التوابون"... ثم يهبط يدور كالنحلة بين الطاولات.. محدثاً نفسه حول سر أثر تلك الفتاة عليه.. وإن كانت جاذبيتها لا تشابه جاذبية النساء.

عرف شنوق لاحقاً من أكرم بأن اسمها "أماني" وقد أصيبت في طفولتها بمرض غريب أفقدها شعر رأسها.. وحواجبها.. ورموش عينيها.. ليعرف سر اختلاف ذلك الوجه عن وجوه النساء.. يراه شبيهاً بصحن بورسلان أبيض لامع.

لم تمر أسابيع قليلة حتى فاجأه بادينار ذات صباح:

- أريدك أن تسمعني جيداً.. من غد ستدير المقهى.

- وأكرم!

- هو من أشاد بمهارتك ونشاطك.. بل ومعرفتك بكل تفاصيل العمل.. هو سيغادر عدن عائدا إلى "الشحر".

وجد شنوق نفسه خلف الجهاز الرئيسي.. وشعر بفقده لأكرم الذي رحل مع الفجر.. لا يعرف لماذا نزلت الدمعة من عينيه وهو يودعه. جلس في يومه الأول وحيداً يستقبل الرواد.. متأملاً ذلك المستطيل الذي تصطف على أطرافه طاولات في مسارين متوازيين. ورغم وجود عدد من الرواد إلا أن شعوره بالوحدة يوخزه.. وكأنه بحاجة إلى منادمة أكرم.. أو أنه بحاجة إلى بعض الوقت كي يألف غيابه.

أرتبك لحظة دخول أماني.. التي وقفت أمامه دون أن تنطق.. ممعنة النظر في عينيه.. وكأنها تراه لأول مرة.. بينما يحدث نفسه: ها هي أمامي دون رقيب!.

فكر بالنهوض خلفها وقد خطت نحو الداخل صامتة.. لكنه تراجع لرغبته في معاملتها لها كبقية الرواد. حتى عند خروجها أدرك بأنه نجح في أن يعاملها كأي زبون. أعجبته نفسه.. وهكذا مع قدومها للمرات التالية ...

 

-49-

أمسى المقهى وطناً له بعد أن سكن الغرفة الملحقة التي كان يسكنها أكرم.. ليجد نفسه ليلاً نهاراً بين حشد الأجهزة.. ورغم ذلك ظلت به غصة لاستمرار صمت البندرية. وإن خففت عنه رسائل سقوة بعض معاناته:

 "أقلقتني حين ذكرت بأنك تفكر بالعودة إلى صنعاء.. وأنصحك مهما تكن الصعوبات هناك حيث أنت لا تفكر بذلك.. وإن ضاقت عليك عدن فكر بأي أرض أخرى بعيدة عن مخالب الشريفة.. فصنعاء تعني الهلاك.

لم تخبرني منذ وصولك عدن كيف تعيش في مدينة لا تعرف فيها أحداً.. ولم تعرفها من قبل.. فهل ألفتها وألفتك. ثم حدثني عن بحرها.. وناسها.. فمنذ عرفت بأنك هناك أرى نفسي معك. إلا أنك تنصحني بالتريث عن اللحاق بك.                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                              

بالأمس فاجأتني الشريفة بنزولها الدور الرابع.. تتفقد حالته وشكرتني على نظافته.. لكن ما أقلقني دخولها غرفة مسامراتك وصاحبك. فبعد طوافها بأركان الدور الرابع وفيما كانت تهم بالمغادرة.. استدارت من حلق الباب تسألني عن ذلك الباب المغلق.. لأخبرها بأن مفتاحه غير موجود.. فاستشاطت غضباً.. وكأنها تظن أنك موجود أو ما شابه.. اقتربت تهز مغلقته.. ثم أمرت من يرافقنها بخلع الباب.. غمر ضوء النجفة الأركان.. خطت لتطل برأسها فاغرة فمها.. كأنها تباغت أشيائكم في سكونها.. سرير وثير.. كنبتين حول طاولة زجاجية.. وبقايا سهرة من كؤوس وقنينة فارغة وأطباق.. ومناديل.. تمتمت: أيعقل هذا!.

 خطت نحو الداخل.. فتحت البراد لتشهق وتولول مما يحتويه.. أرتفع صراخها.. تحطم كلما تصادفه.. بينما ضللنا لبعض الوقت نتابع سخطها.. بعد وقت خرجت بوجه محمر مرددة: أستغفره وأتوب إليه.. أستـغـ ...

انتزعت مني المفاتيح بغضب.. قائلة: من اليوم ستبيتين أعلى الطيرمانة حتى نتدبر أمرك. ثم استدارت آمرة من حولها من الحريم: أجمعن ما بتلك الغرفة والغرف الأخرى وأطعمنها للنار...

صعدت تهدر: "الزنابيل" قلب داري مخمارة.. والله سينال كل منهما عقابه!

أتمنى أن تجيبني.. ماذا رأت الشريفة غير القوارير والكؤوس. هل هناك شيء آخر غير ماكنتما تشربانه؟. أرجوك أخبرني. حين تبعتها ظلت تولول: ذلك المعتوه أفسد زوجي.. سأجعل من يجد في ملاحقته.. سينال مني ما يناله أي داعشي!.

ثم التفتت توجه الكلام إليَّ: أنتِ لا تعرفينه.. كان كل سكان الدار يكرهونه.. فترينه منزوي كالخفاش.. وحين يخرج يسير وحيدا كالمنبوذ.. لا يمارس أي عمل.. ولا يخالط الناس أبداً. زوجي من كان يعطف عليه.. وكنت أتعجب لاستمراره سنوات.. حتى أني شككت بأنه سحره.. ودوما ألح على طرده.. ليبتسم لي ملاطفاً.. ويزيد من تودده.. وذلك لئلا أطرد ذلك الفاجر.. لم أكن أعلم بما يدور بينهما حتى اللحظة. زوجي كان قبل أن يعرفه من أهل الله. وهاهو يحوله إلى فاجر مثله.. لكني أعرف كيف أقتص منهما.

اليوم عرفت سبب اختفاء صاحبك.. فبعد نصيحتك لي أن أصادق إحدىساكنات الدار.. حتى لا أعاني مرضي وحيدة.. وجدت أن أقربهن إلي وأكثرهن سذاجة.. هي زوجة المغترب.. التي رحبت بي في سكنها.. وقد تركت الطيرمانة لأقضي لياليَّبرفقتها بعد أن استأذنت الشريفة.. نقضي ساعات في أحاديث وأحاديث.. لتسرني هامسة.. أن الشريفة اختلفت مع زوجها قبل اختفائه.. وأن صاحبك دفع ثمن وقوفه في وجهها.. مبدياً عدم موافقته على تخزين أسلحة في الدور السفلي من الدار.. حدثتني قائلة "رغم برودة تلك الليلة.. إلا أن نقل تلك الصناديق أستمر وعند اعتراض زوجها هددته : إن واصلت شجارك.. فلا تلومن إلا نفسك. ومن ليلتها أختفى".

فخذ حذرك حتى لو كنت في أقصى الأرض.. أنت تعرف أن لها أعوانها الذين تستخدمهم لبطش بالناس...

صنعاء ما عادت صنعاء.. والشريفة تلك المرأة الطيبة.. أمست لا ترحم بعد أن حولت دارها إلى مخزن أسلحة.. ويقال أن معظم دور ومساجد ومدارس صنعاء.. أمست هي الأخرى مخازن للأسلحة.. وأن كثيراً من الدور حولوها إلى سجون.

وأجدني أعيش وسط كل هذا الخوف.. ولا أفهم ما عليَّ فعله.. غير أن انتظر حتى ترضى أن ألحق بك؟

ما أكتبه لك ليس لتخويفك.. بل لتعرف ما يدور وتحتاط لنفسك.. ولا تفكر بالعودة.. أدعو لك دوما في كل صلاة.. مثلما أدعو لنفسي. يحفظك الله من كل مكروه.. ويكتب لك السلامة.. فأنت لي كل شيء. وصاحبك الله يفرج كربته وكربة جميع المسلمين...".

تلك الرسالة زادت من حزنه.. شعر بألمها وقد انسحبت إلى سكن زوجة المغترب.. دون أن تسترسل في الحديث عن تفاقم مرضها.. مستحضرا ما كان يقوله صاحبه عن زوجته وهو يصفها بالملاك البريء في ليالي مسامراتم..ليسأل نفسه: أتراه كان مخدوعاً بها.. أم أنها نجحت في إخفاء روحٍ شريرة.. وقد اتخذت من التقية وسيلة.. أم أنها الحياة من تخدع الجميع؟.

 يفكر في تلك النفوس والقدرة على إخفاء قبحها.. يتذكر كتبه في غرفة المقيل.. ملابسه.. متعلقاته.. متمنياً الا تكون بين ما أطعمته للنار.. ليكتب:" لم يعد في الأمر ما يُقلق.. وما أخبرتني به من دخول الشريفة مسكني.. وما رأته.. وما تفوهت به لا يهم.. لكني أسألك هل كتبي بين ما أُحرق؟. ثم أن تقود الشريفة النساء لتحوثهن.. أو أن يعملن على دفع الصغار للموت.. هذا من شيم الجماعات.. فإنهم لا يرون في الوجود من هو أحق منهم في العيش.. بل يعملون ليل ونهار على تدجين الشعب.. وتكريس سلطتهم.. الأمر لا يقتصر على هذا العصر بل أن جميع العصور تفيد بأن كل جماعة لا ترى في غيرها إلا مسخرين لها.

ما سمعته من زوجة المغترب حول سبب اختفاء صاحبي.. هو الصحيح.. فطنهاس لم يكن حوثياً ولم يؤمن بمبادئهم.. ولكنه ظل يساير الوضع على أمل أن تتغير الأوضاع.. هذا ما أعرفه عنه.. وأجزم بأن اعتراضه على تحويل الدار إلى مخزن أسلحة.. هو السبب لغضب زوجته. وبهذا يكون سجل موقفاً يحسب له.. لم أعد قلقاً عليه.. ممن يقف ضد الطغيان يُفخر به.

ما يقلقني أكثر أنك لا تكتبين لي عن حالتك.. هل هدأت آلام الورم.. هل تغلبتِ عليه.. لكن يبدو لي بأن لجوئك لزوجة المغترب لم يأتِ إلا لحاجتك لمن يعينك على آلام الورم.. قلبي يتمزق عليك.. أرجو أنتكتبي لي.

أوضاعي هنا بدأت تتحسن.. الآن بدأت في عمل ثابت.. وسأعمل لكي يكون لي سكن.. كثيراً ما فكرت برغبتك بالهروب والوصول إليَّ.. ثم أتذكر مخاطر الطريق.. وأتريث حتى تتحسن الظروف. لكني كلما تذكرت هروبك من أخوتك.. وحياتك التي نسجتها من معاناتك.. أدرك بأني أمام كائن قوي يستطيع تخطي المصاعب.. وأن لا خوف عليك من اجتياز مخاطر الطريق والوصول إلى عدن.. فقط تريثي حتى يتحسن وضعي هنا.. عندها سأدعوك للفرار. ستكونين يوماً ما بجواري.. هنا في سوق الطويلة بكريتر وفي سوق الهاشمي بالشيخ تجلس بائعات وبائعي المشاقر إلى جوار بعض في صف طويل.. كلما مررت بهم أراك بينهم تبيعين مشاقرك.. هنا لن يطالك إخوتك بعد ذلك. وبعيداً عن شرور الشريفة وشرور من وراءها.

أرى الفجر يقترب.. ونحن نسمع أخباراً عن اشتداد المعارك في الساحل الغربي وقد أقتربت من الحديدة.. وأخبار المعارك في صعدة.. وفي حجة. الفجر أقترب.. وسنرى سماءنا صافية من الطائرات المغيرة.. وأرضنا نقية من دعوات السلالية والاستلاب والعبودية وسيعم أرضنا السلام.

وأعود متذكرا ما حكيتِ لي عن حبك لصنعاء.. وتصميمك على العيش فيها رغم ملاحقة إخوتك.. فلا أرى لك قدرة على الحياة بعيداً عن صنعاء.. ولم تواجهي إخوتك إلا لتبقي فيها.. أراك سمكة وبحرك صنعاء..