هذه تغطية للحلقة البحثية التي أعدها مختبر السرديات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدار البيضاء حول أعمال القاص اليمني حبيب سروري، يعرض فيها الكاتب لأهم الأبحاث، ويقدم جانبا كبيرا من شهادة القاص المغربي على تجربة حياته الشيقة بين جنوب اليمين (عدن) وفرنسا، وبين الرياضيات والشعر والرواية.

روافد التخييل و تمثل الواقع : حول روايات حبيب سروري

علاء نعماني

بحضور الكاتب الروائي اليمني وعدد من المثقفين والنقاد المغاربة واليمنيين عقد مختبر السرديات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدار البيضاء يوم الأربعاء 20دسمبر 2006 ندوة علمية انصبت حول قراءة الأعمال الروائية لسروري حيث افتتح الجلسة الصباحية العربي الذهبي (آداب بني ملال) مشيرا الى خصوصيات وروافد التجربة الروائية للكاتب. وكذلك الدوافع الثقافية والعلمية التي دعت مختبر السرديات إلى هذه الندوة. بعد ذلك تناول الكلمة عبد القادر كنكاي (نائب العميد وباحث في اللسانيات) مركزا على ثراء الإبداع الروائي عند سروري، وأهمية اللقاء لتدارس كل مكونات هذه النصوص وما تحفل به من متخيل وأسئلة. أما كلمة المختبر فقد ألقاها عبد اللطيف محفوظ (آداب البيضاء) واضعا تجربة الكاتب في سياقها الثقافي، ومميزاتها وذلك بفضل تحقيقها لعدد من الأبعاد، إضافة إلى قدرتها على مزج التخييل الذاتي بالموضوعي، وعلى نقد الواقع انطلاقا من ترميزه وترميز أبعاده وبناه العميقة، مع القدرة على كشف أسئلته العصية من خلال توجيه صارم للموضوعات الأساسية التي تشكل أساس التخييل الروائي، ذلك  أن الإطلاع على الروايات الثلاث، التي تشكل لحد الآن تجربة سروري: الملكة المغدورة، "ثلاثية" دملان، طائر الخراب، تجعلنا ـ يقول محفوظ ـ في تماس مع الواقع اليمني في الربع الأخير من القرن المنصرم، ومن خلاله مع الواقع العربي، بكل أسئلته التي تشخص تناقضاته، وعوامل النكوص فيه بكل قساوة.

 انطلاقا من الوعي بأهمية هذه التجربة الجديدة، المدعمة للتجارب العربية الأخرى الجادة والعميقة، تأتي هذه الندوة لمساءلتها وتمحيصها، وذلك انطلاقا من محور، يتمثل في مقاربات كيفية تمثلها للواقع. وفي كلمة حبيب سروري، قدم ورقة / شهادة بعنوان (دهشات،تقاطعات،وروافد جوهرية في تجربتي الكتابية) جاء فيها بعدد من الأفكار التي أضاءت جوانب من تجربته في الكتابة السردية وبعض الخلفيات الفلسفية والمرجعيات الفكرية والإبداعية التي بلورت أفق متخيله الروائي (نص الكلمة في نهاية هذه المتابعة). وقد استتبعت هذه الشهادة بنقاش مستفيض وثري. 

التخييل والنقد في بناء الرواية
ترأس عبد الرحمان غانمي (أستاذ جامعي) الجلسة  الزوالية مذكرا بالقيم الفنية والأدبية عند سروري وقدرتها في صوغ عوالم تخييلية مكنتها من تبوء مكانتها في الإبداع الروائي العربي. أولى المتدخلات نادية الكوكباني (روائية من اليمن) تدخلت في موضوع (الازدواجية العلمية الأدبية باعتبارها تيمة جوهرية في التخيل الروائي) ممهدة  لهذه الإشكالية بعدد من الآراء والملاحظات للكاتب التي يفسر ويؤول فيها تلك الازدواجية، بعد ذلك بحثت في تنميط هذه الازدواجية من خلال مستويين مختلفين. الأول ويتعلق بالازدواجية مادة روائية بحد ذاتها وتتضمن الصراع المتحقق بين إنسانين في إطار تكاملي وذلك في قصة أبجد69 ثم في رواية (عرق الآلهة)...وذلك على مستوى شخوص الرواية. ثم استخدام الكومبيوتر باعتباره مادة تعكس هذه الازدواجية. المستوى الثاني تضيف الباحثة نادية الكوكباني هو الازدواجية باعتبارها وسيلة لتحقيق مشروع الرواية عبر التخيل. وفي الختام تعتبر إن الكاتب يجد ضالته في هذه الثنائية للخوض في القضايا والمشاريع الفكرية الشائكة  للانسجام مع نفسه وطبيعته في الحياة.

 شعيب حليفي (رئيس مختبر السرديات.آداب البيضاء) تدخل في موضوع ( بلاغة التخييل وتمثلات الواقع) من خلال نموذج رواية (طائر الخراب) حيث بسط للموضوع بتقديم من شقين: الأول في ارتباط الرواية بالتخييل وإنتاجه وقدرتها على تحويل التمثلات إلى تخييل ينتمي إلى نفسه والى الإبداع السردي واعتبر إن التخييل طرس مراري متغير يستدعي ويبلور. الشق الثاني ركز فيه حليفي على التمثيل وكيفياته وعلاقاته بالرؤية والبنى الثقافية. في تحليله للرواية فقد قاربها من محورين متلازمين: بناء الحكاية..وفيه يعيد قراءة النص نقديا من خلال جملتي البداية والنهاية للولوج إلى ست نقط تفكك بناء الحكاية وهي : السارد ـ سردية اليومي ـ النقد والثأر الفني ـ تحولات السرد ـ الآخر ـ شعرية الأمكنة ـ والزمن. أما المحور الثاني فقد قاربه من ست زوايا أيضا هي : اللغة وبلاغتها  ـ شعرية النعوت والأوصاف ـ سرديات البحث والاكتشاف ـ تخييل الاستطراد ـ الجملة المولدة ـ صيغ أخرى. وخلص الباحث الى قراء ة تركيبية لقيمة التخييل والتمثل في رواية طائر الخراب.

وفي دراسة مقارنة قدم الحبيب الدايم ربي (روائي وباحث) بحثا عن (اللاتناص في رواية دملان) مفتتحا بالتحديد المصطلحي للتناص لينطلق في مقاربة التشابه والاختلاف بين سروري في رواية دملان باجزائها الثلاثةK وبين ايزابيل الليندي في روايتها (مملكة التنين الذهبي). أولا في المتن الحكائي ثم المبنى والخطاب قبل ان يبحث عن عدد من المؤشرات الترابطية وتجلياتها في الامتدادات النصية ومتخيل المغامرة (السفر الاغترابي). للخلوص إلى أن هذه الترابطات، وان كانت قائمة بالفعل إلا أنها لا تكشف عن نية تناصية مبيتة وإنما هي تجل لوحدة تجربة إنسانية في الكتابة ، جمعت مبدعي هذين العملين.

موليم العروسى (باحث في الجماليات.آداب البيضاء) قارب رواية ( الملكة المغدورة) عبر موضوع (نقد العقل البطريكي العربي) حيث تدور أحداث الرواية باليمن الجنوبي في بداية السبعينيات من القرن الماضي ، تصور بشكل دقيق بنيات المجتمع اليمني  .. والتي هي بنيات سياسية واجتماعية وثقافية تجمع القديم بالمعاصر ..إنها تنبني على أساس واحد هو تحكم السلطة البطريكية الأبوية العتيقة: الأب ـ السلطة، الجيش، البوليس ..ويترجم هذا التراتب على مستوى الايدولوجيا بالدين ، بالاشتراكية. وقد حاول الكاتب أن يصور كل هذا انطلاقا من غدر الحب وقتله والإجهاز عليه. ذلك أن الحب بما هو عربون عن الحرية والانعتاق، فانه لا يخدم مصلحة النظام البطريكي.

المتدخلة الأخيرة الشاعرة ابتسام المتوكل (باحثة يمنية) والتي قدمت ورقة في موضوع (التحليق فوق خرائب السلطة في سماوات الأمل) قراءة في رواية (طائر الخراب). معتبرة أن هذه الرواية لم تقطع وشائج القربى مع روايات حبيب سروري السابقة.. وان مفاصلها تتضمن مشروع الكاتب في الكتابة لتعرية ممارسات اجتماعية طال كبتها ، ولخلخلة أفكار ومعتقدات ..في مقابل إرساء أفكار مغايرة. وفي محورين كبيرين عالجت ابتسام المكان هاجسا أساسيا والذي يتحول إلى أداة استراتيجية في بناء الوعاء والشخصيات والأحداث.حيث أسمتها كتابة مؤمكنة كونها مفعمة حد التشبع بملاحقة هسيس الأزقة وروائح الدروب. المحور الآخر يتعلق بالحفر في الزمان للوصول إلى ثراء المعنى من خلال إقامة علاقة تبادلية بين الزمن الشخصي والزمن العام..إذ الرواية توقظ الحس بالتاريخ وبوقائعه.وختمت الباحثة بالإشارة إلى أن القصة الواردة في الفصل الثالث هى النول الذي انتسجت عليه كافة الأحداث والتفاصيل والخيالات.

شهادة: روافد وتقاطعات
جاء في شهادة الروائي حبيب عبد الرب سروري: سأحاول إذن، إجابةً لمقترح المختبر، عرضَ أهم منعطفات ومكونات تجربة أدبية متواضعة قد تهم أو لا تهم الناقد أو المستمع...الهدف العام بالطبع هو التفاعل. أحبُّ شخصياً سماع تجارب الآخرين والتفاعل معها. أفضِّل سماع التجارب على سردها. للسامع بالتأكيد دورٌ أرقى من السارد، من وجهة نظر تراتبية. هو باحثٌ يراقب الكلمات بالميكروسكوب، يُنظِّر، يَدْرس، يُحب، لا يُحِب، يُحلّل تجربة السارد، يقارنها بتجربته الخاصة التي يمكن أن تكون أكثر ثراءً وأهمية وعمقاً... فيما الساردُ ليس أكثر من مادةٍ للبحث، خليةٍ للدراسة، جزيءٍ كيماوي، جناحِ فراشة أو شيءٍ من هذا القبيل... دَوْري اليوم هو أن أكون في الجانب الأسفل من عدسة الميكروسكوب... سأبدأ إذن بتقديم بعض المراحل الهامة لتجربتي الأدبية:

1) مرحلة الطفولة حتى سن الرابعة عشر، عام 1970 (أوَّد أن أسميها: مرحلة الشغف الجذري!):
المسرح العام لهذه السنوات: عدن عاصمة جنوب اليمن آنذاك. مدينة كوزموبوليتية جذّابة. مركز إشعاع مدنيّ في المنطقة. مستعمرة إنجليزية. ثورة مسلحة. استقلال، تلتهُ حربان أهليتان. وصول «اليسار الاشتراكي العلمي» للسلطة في 1969. ثمة إنسان (بكل إشراقاته و«قتامته») ملأ حياتي الثقافية خلال هذه المرحلة: أبي!

أشراقاته أوّلاً: هو شغوفٌ بالأدب والشعر خاصة، فقيهٌ صوفي متفانٍ في عشقه للذات الإلهية. يقضي نهاره وليله يقرأ الكتب الفقهية والأدبية، يتهجَّد، يكتب شعراً صوفياً، يرتِّل قصائد من يعشقهم. أتذكَّرُهُ وهو ينشد قصيدة ابن الفارض («نشيده الوطني»، كما أسميها) غيباً، على الدوام، بصوت غنائيٍّ صوفيٍّ عاشق:

حادي الأظعان يطوي البيد طي،
مُنعِماً عرِّج على كثبان طي...

لا يملّ ترديد قصائد الحلاج، أحمد ابن علوان، وكبار الصوفيّة... فكرةُ السفرِ والذوبانِ والعشقِ الصوفيِّ تملأ كلَّ مختاراته. يهوى بشغف (بنوعٍ من الهوس، ربما) جمع أقلام الحبر، رائحة الحبر، أقلام الرصاص، جودة ونقاء الورق الأبيض. لن أطيل الحديث عنه لأني سرَّبتُ بعض تفاصيل علاقتي به في «الملكة المغدورة» التي لم تخلُ من عناصر سيرة ذاتية. رسمتُ فيها بعض معالم شخصيته المعقّدة، نزوعي «الجيني» للابتعاد عن أجواء مسلماته الثقافية شيئاً فشيئاً والتمرد عليها، لاسيما ابتداءً من الرابعة عشرة. كلُّ ذلك في جوٍّ من التعايش السلمي الصعب جدا، الناجح والودّي عموماً. ما يهمني هنا عند ذكر أبي هو الإشارة لعلاقته بتجربتي الأدبية كونه غرس فيّ شغفَهُ بالشعر والأدب عبر وسائل عدّة:

- كان يخصص لي ساعة تدريس يومية «إجباريّة» في الخامسة عصراً (أجمل وألطف ساعات اليوم العدني القائظ) التي أضحتْ حينها أكأَبَ ساعات اليوم: الأصدقاء في الشارع يلعبون الكرة في الخلاء الرملي المحيط بحي الشيخ عثمان في عدَن، يتنقّلون من شارع إلى شارع، من غزَل إلى غزَل... وأنا أتنقّل من كتب الفقه إلى النحو، من البلاغة إلى الفرائض، من الحديث إلى السيرة... أتصارع مع مجلّدات عتيقة، صغيرة الأحرف، لها رائحة الكافور والأوراق القديمة: كتب الصاوي، الكافوري، الأجرومية... غير أني اليوم أدين لتلك الساعة كثيراً!

- نجح أن ينقل إليّ عدوى الرغبة في حفظ الشعر وحُبِّه. تحوَّلَت إلى رغبةٍ ذاتية مستقلّة عن اختياراته الشعرية (شجّعها بالتأكيد). إخترتُ من دواوين مكتبتهِ، الغنيّةِ بكثيرٍ من الكتب الدينية والأدبية وبعض المخطوطات الأدبية، قصائد كثيرة أحببتُ حفظَها وترديدَها

- مباريات «السجال» الشعريّ العائلي الليلي مساء كل خميس بين فريقين: أخي الصغير رضوان من جهة، وبقية العائلة من جهة أخرى! رضوان (مفضَّلُ الوالد، لاسيما بعد أن خسر إلى الأبد تربيتي الثقافية كما يريد) كان ينجح في مباريات السجال العائلي ويهزم بقية العائلة مجتمعةً ضدّه، بفضل مقدرته الخارقة على الحفظ وسرعة بديهته... تحدَّثتُ عنه في «الملكة المغدورة» بمزيج من الإعجاب والغيرة والاستياء.

- ضعفه أمام الكلمة الجميلة، وإمكانية «شرائه» بحرفٍ جيّدِ الاستخدام، بتعبيرٍ بلاغيٍّ طريف، باستشهاد يروق له...

- استشهاداته الأدبية الدائمة، وطرائفهِ وألغازه اللغوية التي ظلّتْ في ذاكرتي إلى اليوم، وارتبطتُ مع بعضها بعلاقات حميمة... (مثل لغز «لي عمَّةٌ وأنا عمُّها!...»، التي ستكون لي لحظة «تصفية حساب» معه بعد حوالي أربعين سنة من سماعه!...)

باختصار شديد، بفضل والدي تجذَّرَتْ علاقتي باللغة العربية وبالأدب العربي بشكل مبكّر، تحوَّلَتْ إلى ميسمٍ في الأحشاء... أتذكَّر من محاولات كتاباتي الشعرية في المدرسة الابتدائية، أشعاراً طفولية مثل:

فلعلّ وعسى          رغم أنياب الأسى

يعانقُ الصباحْ        عالم الجراحْ

فيحوِّلُ الألمْ            بسمةً ونَغَمْ...

2) مرحلة السبعينات اليمنية، من سن الرابعة عشرة، عام 1970، حتى السفر للدراسة في فرنسا عام 1976 (مرحلة التمرّد الهادئ والكامل على ثقافة الطفولة): الظروف العامة: سنوات غريبة، مثيرة، عاصفة: «مدّ ثوري» في بلد متخلفٍ يوجّهه في الغالب ريفيّون ذووا ثقافة قبلية، كثيرٌ منهم أنصاف أميين... الجو الثقافي مملوء بشعارات وممارسات لا عهد لأحد بها: العبارة-المفتاح التي كانت تحدِّد مسار الحياة في جنوب اليمن: «الاشتراكية العلمية» (صيغة «سوفت» مختارة بعناية كبديل للعبارات الصادمة: الماركسية اللينينة، الشيوعية) لتلك العبارة تبعات واختيارات سياسية وثقافية حاسمة منها: تسمية المرحلة السياسية ب«مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية» واعتبارها جسراً نحو الاشتراكية، يقودها حزب ثوري، حزب العمال والفلاحيّن، يرسي «ثقافة جديدة» (عبارةٌ كثيفةٌ هي الأخرى، تحمل نتائج وتبعات كثيرة...)

بدأتُ بقراءة أحد أمهات كتب هذه الثقافة الجديدة الذي كان شديد الانتشار آنذاك: كتاب بوليتزر «أصول الفلسفة الماركسية». اكتشفت بإعجاب: قوانين الديالكتيك، لاسيما «التحولات الكميّة التي تؤدي إلى تحوّلات كيفية». أربَكني «برهان» هذا القانون عبر حكاية الدرجة المائة التي يتحوّل بعدها الماء المغلي إلى بخار! أسرَني جدّاً وصفُ عصر الشيوعية: «من كلٍّ حسب قدراته، ولكلٍّ حسب حاجته». والوعد بزمنٍ تتحقّق فيه للإنسان كل رغباته المادية والروحية في عالمٍ خالٍ من القهر والقمع والاستبداد والاستغلال، عالمٍ تغمرُه الحرية والمساواة والرخاء. (بلغة اكتشافات اليوم: أحلام طوباوية! نظرية جميلة لكنها لا تنسجم تماماً مع «الطبيعة الإنسانية» التي تتجذّر فيها جينيَّاً إلى هذا الحدّ أو ذاك خصال حب الذات، الأنانية، رغبة الامتلاك والسيطرة.

بلغة السبعينات: ليست أحلاماً طوباوية! لأن «سمة العصر هي انتصار الاشتراكية وهزيمة الرأسمالية!» كما كان يُكرَّر كلّ يوم! ولأن «الطبيعة الإنسانية» انعكاس للعلاقات والواقع الاجتماعي ويمكن تغييرها بتغيير تلك العلاقات، من وجهة نظر ماركس.) جذبني كتاب بوليتزر بقوة. آمنت بحتمية انتصار الاشتراكية والشيوعية. كنتُ أعتقد أيضاً أني سعيد الحظّ بالذهاب للدراسة لفرنسا لأنني (أنا الذي أحب منظر الغروب) سأشاهد بأم عينيّ «أفول الرأسمالية»، أما انتصار الاشتراكية فسأعيشه بعد ذلك، ما تبقّى من حياتي، في عقر داره الأثير: عدَن! لكن، كما يردِّد دوماً أحد أصدقائي:

«تجري الرياح بما لا يشتهي     حبيب عبدالرب سروري». لن أدخل في جدل حول تجربة «المد الثوري اليمني» بكل إيجابياتها وسلبياتها. هي في كلِّ الأحوال هامة جداً لأنها جعلتني أعيش جدلاً داخليّاً في سنوات الدراسة الثانوية: أفكار جديدة تتصارع مع ثوابت أفكار الطفولة (المأساة تكمن عندما لا يعيش الإنسان في واقعٍ ثقافيٍّ تعدُّدي، ولا تصلهُ إلا رؤية أحادية للكون والحياة. يتحجّر الدماغ حينها، يتقوقع في قضبان الثقافة المكتسبة، ثقافة «القبيلةِ» الأحاديّةِ الجانب، بالضرورة...) 

على الصعيد الثقافي والأدبي خاصّةً تركَتْ هذه السنوات آثاراً رئيسة في تكويني: - الكتب التقدمية كانت سهلة الاقتناء. بفضل ذلك قرأتُ بإعجاب كتبَ محمود أمين العالم، غالي شكري. تابعتُ بعضَ المجلات مثل: الآداب، الطريق (اللبنانية). بعضُ الشعر الحديث الذي أطلّ من هذه المجلات كان يأسرني بين الحين والحين. أحببتُ أيضاً كثيرا من الشعراء اليمنيين: عبدالله سلام ناجي، عبدالرحمن فخري، البردوني، المقالح، لطفي جعفر أمان. وجدتُ بشكلٍ مبكِّر بعضَ الترجمات الغربية الآتية من لبنان خاصة: أشعار بودلير، رامبو، فرلين... أكتشفتها وأحببتها سريعا، مثل اكتشاف شعر أدونيس أيضاً في نفس تلك الفترة. عمَّمتُ حولي هذه الاكتشافات التي أثَّرت على البعض. قرأتُ بإعجاب أيضاً ترجمات بعض الأعمال الروائية الروسية والفرنسية والإنجليزية الكبرى التي تركت عليّ بصماتها بقوة.

- أعترفُ هنا أن الرواية لم تكن في هذه المرحلة الشغفَ المسيطر على قراءاتي. طمَّ الشعرُ معظمَ الشغف. هو وبعض الدراسات الثقافية والفلسفية أيضاً. أثارتني وأنا طالب صغير قصص أرسين لوبين! ثمّ تلتها في السنوات اللاحقة قراءات لبعض الروايات الكلاسيكية لأسماء كبرى مثل شكسبير، ديكنز، هيجو، تولستوي، نجيب محفوظ. تخللتها قراءة معجبة وكاملة لـ«ألف ليلة وليلة»، أو لأعمال لم أعد أذكر أسماء مؤلفيها مثل رواية مترجمة أسرتني وأدهشتني كثيراً في الطفولة: «ذلك الشتاء الطويل». كلُّ ما أذكره هو أنها تدور في مجتمعٍ قطبيّ يحيى وسط الثلوج معظم أيام السنة. ارتجفتُ (وما زلتُ أرتجفُ إلى الآن) من البرد طوال قراءتها وإن كنتُ أعيش حينها في مدينة الصيف الخالد: عدَن!  عدا تلك القراءات، لم أكن أُكِنُّ للرواية أكثر من ذلك الاهتمام التقليدي. لم أكن أفكّر أني سأكتب رواية يوماً ما، أو حتى أنوي ذلك. 

كخلاصة، أحتفظ لجديد هذه المرحلة (لغويّاً وثقافيّاً وفكريّاً) بامتنان خالص. أتذكّر الآن مثلاً أن «أغاني مهيار الدمشقي» سحرتني تماماً. لعلي ولسنواتٍ طويلة لم أتوقف يوماً من ترديد بعض مقاطعها (وكأنها «نشيدي الوطني» الداخليّ) مثل:
أين أنت؟ أرني ماذا كتبتَ؟
لم أجبها، لم أكن أعرف كلمة
فأنا مزّقت أوراقي لأني لم أجد تحت شفاه الحبر نجمة
أين أنت؟ أرني ماذا كتبتَ؟
لم أجبها،
كانت الليلة كوخاً بدوياً، والمصابيح قبيلة
وأنا شمسٌ نحيلة
تحتها مزّقت الأرض رباها
والتقى التائه بالدرب الطويلة... 
أتذكَّر أيضاً الأثر المدهش لبعض النغمات اللغوية الجديدة لشعراء قرأتهم في مجلة الطريق اللبنانية، مثل محمد علي شمس الدين:
صوتكِ الرعدُ وقرآني غناء المطرِ
يا نبيّ الرملة العطشى، إلهَ الحجر
فأفيقي آية الرعدِ أفيقي، وأغسلي
ألم الدهرِ، أفيقي، وأنصرينا...
صدقَ اللهُ العظيم...
(أرجو أن أكون قد تذكَّرتُ كلمات النص واسم الشاعر دون أخطاء).

كتاباتي في هذه المرحلة:
نشرتُ أوّل قصيدة في مجلة «الحكمة» اليمنية وأنا في الرابعة عشرة من العمر. لجأتُ، مثل موضة تلك الأيام، إلى التشبّث بالرمز والانجراف نحو نوعٍ من الغموض. ثمّ مللتُ القصائدَ صعبةَ الفهم قرب السابعة عشرة، لأن الجميع صار يكتب شعراً غير مفهوم. يلجأ لذلك من هبّ ودب، ولم تعد هناك إمكانية لتمييز قصائد هذا عن ذاك. بعد ذلك حاولتُ كتابةَ شعرٍ لا يلهثُ وراء صناعة الصيغ اللغوية المعقّدة والرمز المكثّف وغموض المعنى. وجدتُ صعوبةً في كتابة نصٍّ بهذه المواصفة! قَلَّتْ بشكلٍ مخيف عدد القصائد التي صرتُ قادراً على كتابتها! أتذكَّرُ منها قصيدة في الثامنة عشرة بعنوان: «لأمي وهي تمحو أميتها» من وحي تجربتي في تعليم أمّي القراءة والكتابة في المنزل في خضمِّ حملة محو الأميّة في منتصف سبعينات جنوب اليمن.

يصعبُ المرور على ذكريات كهذه دون الإشارة إلى أن يمَن اليوم ينعمُ بأعلى أرقام الأمية في العالم العربي: حوالي 70 في المائة (نفس عدد المُصوِّتين للرئيس الحالي تقريباً، كما لاحظ كثيرون قبلي!). استغربتُ منذ سنوات عندما لم أعُد أسمع شعار محو الأمية، حتى من باب النفاق الإعلامي (مثل شعارات: محاربة الفقر والفساد) أما الآن، بعد نتائج الانتخابات الأخيرة، فأنا متأكدٌ أن النظام لا يخفي إصراره، حتّى في بداية القرن الحادي والعشرين، على المحافظة على هذا الرقم القياسيّ من الأميين.

 

3) مرحلة فرنسا، منذ 1976 حتى 1992 (مرحلة الدهشة والولادة الجديدة).
عندما تصل من الشيخ عثمان إلى فرنسا، لأوّل مرة في عام 1976، تصابُ بصدمةٍ حضارية. التاكسي يعبر معالم باريس صوب «محطة قطارات ليون» باتجاه فيشي. مدينة أرستقراطية هادئة. تدرس اللغة الفرنسية في معهد لغة راق: الكافيلام. ضمن برامج دراسته زيارات ترفيهية وثقافية أسبوعية لذيذة لمدنٍ ومعالم باهرةٍ شيِّقة. يتجدد طلابه الآتون من كل أنحاء العالم يوميا. تعيش صداقات غنيّة ممتعة متجدِّدة. تعتقد أنك في حلم! تكتشف لغةً وثقافةً جديدة. تندهش: الصحف (بما فيها اللومانيتيه) تستخدم لغة حرّة بدون صيغ سياسية خشبية أو دينية عتيقة. الجو مترع بالحرية الفردية. تسكن في غرف مستقلة في فيشي، أو جامعية مستقلة في روان (بعد سنة من فيشي) دون رقيب أو حسيب. الحياة الطلابية غنيّةٌ بالنقاشات الفكرية والسياسية والثقافية العامرة. لا تتوقف عن الاكتشافات والدهشة... تتساءل: في أي كوكبٍ أعيش؟ بعض تجارب الحياة اليومية تعبرك كتيّار كهربائي، تُغيِّر نظرتك للحياة. الاندهاش والصدمات لا تتوقف. ليست أقلّها الصدمة الدراسية: أنت تعشقُ الرياضيات لكنك لم تدرس (مثل الطلبة المغاربة) الرياضيات الحديثة في منهجك الدراسي اليمني الذي عفى عليه الزمن. عليك أن تتعلّم أشياء كثيرة إذن لتواكب هذا العالم الجديد. تدرس، تناقش، تتفاعل مع الجميع... ثمّ تبدأ من التمكن من اللغة الفرنسية. تدغدغك حينها الرغبة في القراءة الأدبية. تبحث عن الشعر! تكاد لا تجده!... تستغربُ: لا ترى دواوين الشعر إلا في المكتبات الكبرى فقط، وفي أماكن غير بارزة منها. لا تجد غير دواوين شعراء ولدوا في قرون سابقة!... تتساءل إذا لم يكن آراجون آخر شاعرٍ حيّ!

تبحث عن القصة القصيرة. لا تجدها! صنفٌ أدبيٌّ شبه غير معروف... تستغرب كثيراً!... تسائلُ أصدقاءك: «لماذا لا يقرأ الناس هنا الشعر أو القصة القصيرة؟»... يأتيك الرد من أحد الأصدقاء: «لعلها سندويتشات ضامرة لم تعد تسمن أو تغني من جوع! مزاجُ الإنسان المعاصر يشتهي المآدب الباذخة التي يتناولها ويتذوقها وقتاً طويلاً.» تضيف: «ماذا يقرأ الناس إذن؟» يأتيك الردّ من كل مكان: «الرواية. لاشيء غير الرواية تقريباً. وحدها تتصدّر واجهات كل المكاتب دون استثناء، من مكاتب محطات القطارات إلى أصغر وأكبر المكاتب. كل الملحقات الثقافية للصحف، كل البرامج التلفزيونية والإذاعية الأدبية، كل الجوائز، كل الحياة الأدبية شديدة الغنى والتوهج تتركّز حول... الرواية!»... يضيف صديقك (وهو يراك ترثي بحزن نهاية الشعر والقصة القصيرة): «يمكنُ بسهولة تسريب الشعر أو القصة القصيرة داخل الرواية! لكن العكس غير ممكن!».

تكتشف من قراءاتك الأولى أن الرواية أضحت فعلاً لغةَ العصر. بئرٌ يطمُّ كل المواضيع: الحياة اليومية المعاشة أو التخيلية أو التي تمزج بينهما، التاريخ، العلم، العشق، المتعة، النقد والمواجهة والرفض والرغبة في التحرّر من كل عبودية، القلق، تصفية الحساب مع الكون، خفايا النفس وكل المشاعر والتجارب الإنسانية... بئرٌ يطمّ كل الأساليب اللغوية أيضاً: اللغات التقليدية الرصينة أو الجديدة الحرة، لغات الشعر والصور السينمائية، اللغة الموسيقية أو لغة الحياة اليومية الساخطة، اللغات الشخصية المتنوِّعة التي يلزم أن تتميّز من كائنٍ لآخر... تلاحظ أن التميّز ضرورة: يلزم أن يكون الكاتب نموذجَ نفسهِ الأوحد! باختصار شديد، الرواية عالمٌ كليٌّ لانهائي التجدّد، تلتقي فيه كلّ الأمزجة، كلّ التيارات القديمة والحديثة، دون قوانين أو ترسيمات وحدود. تلاحظ أن الجنس الروائي الأنبل والأكثر أهمية هو دون شك: «جنس التخيّل»! هو الأصعب بالضرورة، لاسيما لِشخصٍ صنَعَتْهُ ثقافةُ طفولتك التي تفضّل المحاكاة والتقليد على الاختراع والحرية... يبدو لك بعد تفكيرٍ طويل أن مشروع كتابة روايةٍ تَخترعُ من الجذر تجاربَ إنسانية وعوالم تخيلية جديدة تُشبِهُ تجاربَ بشرِ الواقع وعوالمه، مغامرةٌ فكريّة رهيبة، عملٌ إبداعيٌّ شديدُ الصعوبة والإعجاز.

يتأكد لك مع تقدُّم قراءاتك أن الرواية الحديثة معملٌ كونيٌّ للخيال قبل كل شيء، فضاءٌ لِتفجُّرِ الذات، لإعادة خلق وصياغة التجربة الإنسانية. شيءٌ ما مثل «اللوح المحفوظ» (بكل اتساعه وإبداعه التخيلي ولانهائيته) يكتبه الإنسان هذه المرة!...

تقرأ الرواية الفرنسية بنوع من الانتظام. ثمَّة أسماءٌ اخترتَها بمزاجية، صرتَ تحبُّها، تحاول شراء أي عملٍ جديد لها يومَ صدوره. أنماط مختلفة ومتباعدة جداً مع ذلك: باتريك بيسون (تتعلّم بفضله القراءة المجرّدة، تتابعه أولا بأول، تقرأ بعض أعماله أكثر من ثلاث مرات!)، دورميسون (يذهلك جمالُ تجدّدِ رتابةِ مواضيعه، سيلُ أسلوبِهِ الدافق)، سوليرس (ثمّة جديدٌ مربكٌ في لغته، في رواياته الاستاتيكية أو الفلسفية)، ماكس جالو (تتابع باهتمام رواياته الواقعية). تقرأ روايات الجوائز الأدبية الشهيرة... تتابع كلَّ جديد روائيين أجانب بالفرنسية مثل سلمان رشدي (تثريك «أطفال منتصف الليل» و«الآيات الشيطانية»)، فلاديمير ماكانين... تقرأ بالفرنسية «ألف ليلة وليلة»، مقتطفات من «أغاني الأصفهاني» تتابع الملحقات الأدبية الأسبوعية. كل ما تقرأه في هذه المرحلة هو بالفرنسية فقط. تتبخَّرُ كثيرٌ من كلمات اللغة العربية. تشتاق للكتابة بين الحين والحين. تكتب أنصاف قصائد، قصائد كاملة أحياناً، مثل قصيدة «البحَّار». الدراسة العلمية تلتهم وقتك خلال هذه السنوات. تبدأ دراساتك الجامعية في الرياضيات التي تعشقها عشقاً منذ الطفولة، وتنتقل منها إلى علوم الكمبيوتر.

السنوات العشر، من 1983 حتى 1992، تُشكِّلُ أهمَّ سنوات حياتك العلمية وأكثرها كثافةً وتنوّعاً ودهشة. بدأتَ فيها بدراسة الماجستير في جامعة باريس 6، بعد بحثٍ دقيقٍ لما ينسجم مع رغباتك العلمية. ثمّ الدكتوراه في 1987 وأطروحة التأهيل لِقيادة الأبحاث في 1992 التي تسمحُ بالتحوُّلِ إلى بروفيسورٍ جامعيّ. سنوات كثيفة جدّاً عشتَ فيها اللحظات التكوينية لثورة الكمبيوتر وأنترنت، تمتّعتَ خلالها بظروف رغدة وإمكانيات كبيرة وهبها لأبحاثكَ مختبرُ علوم الكمبيوتر النظرية والتطبيقية (في جامعة باريس 6 و 7، الذي يضمُّ فريق جامعة روان)، أكبر وأهم مختبرات أبحاث فرنسا في علوم الكمبيوتر، حينذاك. سافرتَ خلال هذه السنوات دون توقّف. عملتَ فيها مهندس أبحاث، ثمّ محاضراً، ثمّ بروفيسوراً جامعياً بعد مرور أطروحة التأهيل لقيادة الأبحاث في 1992. خلال نفس هذه السنوات العشر صارت قراءة الرواية جزءاً جوهريّاً من سيمفونية حياتك! اشتدّ تفاعلك مع الروايات واحتياجك لها. اكتظّت وتزاحمَتْ في رأسك أشياء كثيرة، ذكريات وانطباعات ورموز قديمة أو حديثة، نسَّقْتَها ذهنيّاً وأعدتَ صياغتها أو تأليفها من العدم في مخيلتك، بشكلٍ سردِيٍّ روائي... استعدْتَها مراراً في ذاكرتك وفي أحاديثك مع الآخرين خوفاً من نسيانها. لم تكن تدركُ أنها موادٌ خامة تختمرُ، تنتظر أن تسيل على الورق يوماً ما.

لم يكن لديك الوقت إلا لكتابة الأطروحات والمقالات والكتب العلميّة فقط. لاحظتَ حينها كم يستهويك، عند كتابة أي نص علمي، حياكةُ الكلمات والتعبير عن الأفكار بشكلٍ رائق يخرج عن الصيغة العلمية الجافة التقليدية. لاحظت قبل هذا وذاك أن ما يستهويك كثيراً جدّا في بعض الأبحاث العلمية أو في المواد التي تُدرِّسُها هو درجةُ تعبيريةِ بعضِ لغات الكمبيوتر (لاسيما لغات علوم «الذكاء الاصطناعي» مثل «ليسب» و«برولوج»)، درجةُ جمالِ نصِّ برنامج الكمبيوتر المكتوب بهذه اللغات التي لم تنفك تجرِّبُها، تقارنُها، تدرِّسُها، وتتلاعب بمفراداتها وأساليب صياغتها، وكأنك تتلاعبُ بلغات أدبية! كنتَ تتخيّلُ برامجَ الكمبيوتر الكبيرة، التي تكتبُها بعنايةٍ جماليّة شديدة، أشبهَ بروايات! راودتك كثيراً كهاجس كلمةُ: «رواية»، وأنت تتنقَّل بين فصول تلك البرامج المكتوبة غالباً بلغتي «ليسب» أو «برولوج»... ثمة رغباتٌ سجينة في لاوعيك تتضرَّع إليك كي يُفرجَ عنها. ثمّة رغباتٌ دفينةٌ ضاغطة تنتظر يومَها القدريَّ الموعود... يومها الذي سيكون تحديداً غداة يوم مناقشة أطروحة التأهيل لقيادة الأبحاث، في «عطلة نهاية أسبوعٍ» اكتنفَتْها الحيرةُ والأشجانُ والإرهاقُ اللذيذ، ورغبةٌ انشطاريّةٌ حادّة أيضاً.

4) فرنسا، منذ 1992:
قضَّيتَ يومَي تلك العطلة خاملاً مُمدّداً على الفراش، كأنك لم تنم منذ 35 عاماً وبضعة أشهر! سؤالٌ وحيدٌ كان يملأ دماغك: «ماذا أريدُ عملهُ الآن؟». علميّاً: لا جديدَ، غير مواصلة مشاريع الأبحاث وقيادة أطروحات الدكتوراه في المختبر واستمرار التدريس الجامعيّ. أدبياً: كل شيء تقريباً! ثمّة مواضيع سجينة ترنو لِلتحرّر من قمقمها والرقص على الورق. لا حلَّ إذن إلا الحياة المزدوجة، التسكُّع في بُعدين مُتعامِدين، إنشطار الكينونة: ممارسة شغفَين، زمنٌ لهذا وزمنٌ لذاك. بدأتَ بعد شهرين من ذلك اليومِ الموعود وتساؤلاته الوجوديّة الانشطاريّة، بكتابة أوّل رواياتك: «الملكة المغدورة» بالفرنسية التي كانت لغة قراءتك الوحيدة خلال سنوات. ما إن أكملتها وقرأتَ ترجمتَها بالعربية الذي كتبها الأستاذ الروائي البديع المبدع علي محمد زيد حتى استيقظ شغفُ القراءة والكتابة بالعربية، لغة ثقافتك الأولى، بجانب الفرنسية، وعادت مئات الكلمات العربية المنسيَّةِ دفعةً واحدة. كتبتَ بعدها بالعربية: ديوان «شيءٌ ما يشبه الحبّ»، المجموعة القصصية: «همسات حرّى من مملكة الموتى». شعرتَ بعد ذلك بإمكانية الدخول في مغامرة كتابةِ روايةِ بالعربيةِ التي عادت الآن كلماتها الضائعة. كتبتَ ثلاثيتك الروائية الأولى بالعربية: «دملان». تلاها كتابٌ يضمُّ مجموعة مقالات حديثة، بعنوان «عن اليمن، ما ظهرَ منها وما بطَن"، ثمّ رواية «طائر الخراب»، وأخيراً الجزء الأول من رواية «عرَق الآلهة».

لم تتوقَّف طوال هذه السنوات من الانصهار بهموم الحياة في اليمن، من التواصل اليوميّ مع أهلها، من الشوق والسفر إليها وإلى كثير من الدول العربية. ثقافتُك العربية الأولى تسكنكَ حيث ما كنت. تشدُّكَ للتأثُّر بها والتأثير في سيرورتها التي أمستْ تراوحُ في دوَّامةٍ من الجمود وإعادة صنعِ التخلف والعجز عن مواكبة العصر. لذلك تمتلكُكَ الرغبة الحادّة بالتفاعل المباشر مع القارئ العربي. ولذلك أنت الآن في أوج الامتنان والسعادة وقد أنهيتَ قراءة مداخلتك في هذا اليوم الدراسيّ الذي ينظِّمهُ مختبر السرديّات في جامعة الدار البيضاء، في بلدٍ عظيمٍ رائع، تعشقهُ بشكلٍ خاص: المغرب!