وكلما كررت السؤال: أين أبي؟ أجابتني أمي وكذلك جدتي بالجواب نفسه:- أبوك في السماء يا يمن .
.. وأحدق في السماء ليل نهار أحدق فيها. وأناديه كثيرا وأمني نفسي بأنه يوما قد يسمعني، فيطل على من السماء. مجرد إطلالة لكي أراه فأنا لم أره قط.
تقول جدتي أنه تركني في أحشاء أمي بعد شهرين من الزواج، وسافر ليحارب في اليمن على أنه لم يعد صعد من أرض اليمن إلى سمائها .. ثم تتنهد الجدة بعمق وتكمل:
– كان ولدي سيد الفتيان – أسمر مفتول العضلات، له عينان سوداوان كعيون البقر، قوي صبورا كالجمال.
– قلت – كيف يا جده يعيش في السماء ولماذا؟
– قالت – لأنه شهيد. والشهداء يبقون في السماء أحياء.
_ قلت – كيف يا جده
يعيش في السماء ولماذا؟
– قالت – لأنه شهيد. والشهداء يبقون في السماء أحياء.
– قلت – ما معني شهيد يا جده؟؟
– أصرت على صمتها. فسكت.
لا أدري أين بلاد اليمن تلك التي سميت باسمها، قلت لأمي – أين سماء اليمن هل تبعد كثيراً عن سمائنا؟؟
الإعلان
قالت – سماؤنا هي سماؤهم.
قلت لكن السماء واسعة، أشيري بإصبعك في أي قطعة من السماء يوجد أبي؟
صاحت في وجهي – يووووه كفي عن الأسئلة
التصقت بالجدار وبكيت، احتضنتني فازداد إحساسي بالبكاء ثم أدركها التعب فنامت، نظرت إليها. حلوة أمى هل تعرفها؟ أنت لا تراها إلا نهارا وهي مجللة ثيابها السوداء، ملثمة بطرحتها لا يظهر منها إلا عيناها، وحتى الجزء الذى يظهر من ساقيها الممتلئتين البيضاوين تغطيهما بطبقة من الطين المخفف حسب أوامر جدتى. وحدي أرى سيقانها العاجية بعد غسلهما بالماء الدافئ، وحدي أرى انفلاته جدائلها الليلة الحريرية وحدي أرى جسدها الفارع اللدن ينخرط تحت ثوبها الناعم لو أنك رأيتها كما أراها أنا لشهقت شهقة ينخلع لها قلبك . تسللت من جوارها وارتقيت درجات السلم الخشبي.. يقولون أن السماء تفتح أبوابها في هدأة الليل.
لهذا تجدني أصعد إلى سطح الكوخ في هذا الوقت من الليل، لأنادي أبي عله يسمعني، غير أني لا أسمع سوي زياط الأون وصيحات الدجاج وقد أزعجهما ندائي.. لا أدري إن كان صوتي ضعيفا لا يصله أم أن صوته بعيد فلا يصلني اليوم سأرفع صوتي أكثر سأقول بملء ما بي تعالي يا أبي عندي أو ألقي إلي بحبل طويل من السماء لأصعد إليك.!
قط أسود، يتربص بأرنبة أمي عيناه ترسلان بريقا أخافني فصرخت، استيقظت أمي وكذلك جدتي نهرتاني ودفعتا بي إلى الحرام الصوفي الخشن الملقي فوق المصطبة والمليء بالحشرات الصغيرة المزعجة.
افتح عينيك ايها النهار أرجوك أفتح عينيك وتخلص من تلك الساعات القليلة المتبقية من الليل
وأبعث بشمسك لتخترق ذلك الكوخ الرطب.
فشمسك العفية هي وحدها القادرة على تطهير ذلك الكوخ من تلك الحشرات الصغيرة، هي وحدها القادرة على طرد تلك الرائحة العطنة الكريهة.
- * * *
في الصباح ارتدت أمي ثيابها السوداء، وتلثمت بطرحتها، وحملت إناء ملأته زبدا، قلت لها :- أريد قطعة زبد أضعها في فمي- قالت :- الزبد للبك وليس لنا، نحن نعطيه إيجار القراريط الست – زبدا بدلا من النقود.
-. أمسكت بطرف ثوبها ومضينا، مسافة طويلة تلك التي تفصل قريتنا عن المدينة..
- * * *
عمارة البك عالية عالية، ليس في شقته الفخمة سواه، لا أدري أين ذهبت زوجته، أمي تعرف الطريق إلى المطبخ لكثرة ترددها عليه.
قلت لأمي :- سأصعد إلى سطح العمارة لأنادي أبي فهي تبدو قريبة من السماء!!
قالت أمي محذرة – إياك أن تبرحي مكانك.
غير أن البك شجعني على فكرتي، أعطاني ثمرة حلوة المذاق قال – أسمها تفاح .. التهمتها بنهم ، فأعطاني غيرها وهمس في أذني . هيا كليها بعد أن تصعدي إلى السطح.
- * * * * *
لا أدري لماذا السماء بدت بعيده أيضا وأنا فوق السطح.
قضمت التفاحة فوجدت طعمها مرا، أحسست بألم يعتصر قلبي شعرت بأني سأتقيأ دما، هبطت بسرعة درجات السلم، طرقت باب البيك . فطالعني وجهه المكتنز باللحم، كانت آثار خرابيش فوق وجهه الذى بدي غاضبا مخيفا.
قلت: – أين أمي.
قال: – لم أراها اليوم.
صرخت أمي .. دفعني البك بقدمه فسقط فوق السلم وأغلق هو بابه.
هبطت بسرعة درجات السلم وأنا أصرخ أمي.. أمي
جعلت أبحث عنها بجنون في الشارع وحول عمارته، في صندوق القمامة. وجدت ثوب أمي وطرحتها. أعرف أنهما لأمي ولا أعرف أين هي وماذا فعل البك بها؟! كما لا أعرف كيف أعود لجدتي
يا سادتي إذا ما وليتم وجوهكم شطر السماء ورأيتم أبي فتي أسمر طيب القسمات. الرجاء .. الرجاء أخبروه بقصتي.