منذ أواخر القرن التاسع عشر وما بعده، ومع بواكير ما نشر من الرواية العربية، تلك التى ﺇتسمت بقدر من الوعظ واﻹرشاد والنصح الأخلاقى اﻹجتماعى، وحتى بداية الكتابة الفنية للرواية العربية بدت صورة "المرأة" فى السرد، كما المفعول به فى اللغة. فمع طلائع القرن الماضي (القرن العشرين) حيث بداية اﻹتصال الثقافي مع الغرب، ما أفرز توجه فكرى ينتمى ﺇلى جملة المفاهيم الغربية (الأوروبية)، فى مقابل التوجه السائد المتسم بالسلفية وﺇعتبار التراث هو المنبع والمصب فكريا.. وسط هذا المناخ الثقافى، بدت المرأة قضية/ مجموعة قضايا مصاحبة ومعبرة عن قضايا الوطن كله.. وهو ما تبدى فى عدد من الظواهر.
دفع المناخ السياسى الضاغط والمستبد، فى بدايات القرن الماضي، جملة الروائيين(فى حينه) ﺇلى البحث عن كود يتخفون خلفه، أو لنقل رمزا يتعلقون به.. وهاهم يجدون فى "المرأة" حجابا فنيا أو قناعا لعرض أفكارهم، وهى التى تذهب نحو مواجهة خفية/ فضح الظواهر السياسية والﺇجتماعية.. وهو ما لم لم يكن المبرر الوحيد. لعله وجد أيضا فى ﺇتخاذ المرأة واجهة وستارا، وسيلة لجذب القراء، وهو ما دفعه ﺇلى أن يجعلها تتصدر عناوين تلك النصوص، باﻹضافة ﺇلى ﺇبراز دورها (النسوى) داخل العمل.. حتى أن مشروع جورجى زيدان فى كتابته للرواية التاريخية؛ أن ﺇعتمد على ثيمة واحدة، ألا وهى: ﺇختيار فترة زمنية محددة- اﻹلتزام بالشخصيات والأحداث التاريخية- صياغة أدبية للتاريخ ثم ﺇضافة "حدوتة" حب بين شاب وشابة تعبر عن نفسها خلال تلك الفترة. والمبرر الثالث المتوقع لتوظيف المرأة، هو التمثل بالرواية الغربية، وقد شاعت الترجمات بعد أن ذهب البعض وأقام فى ﺇحدى البلدان الأوروبية، ﺇما للدراسة أو للسياحة، أو حتى بسبب النفى السياسى للبعض، أمثال الشاعر أحمد شوقى، حيث أقام وﺇطلع على الأدب الأوروبى عموما، فعاد يكتب للطفل، ثم كتب أول رواية له، ولعلها الوحيدة. نخلص ﺇلى أنه فى كل الأحوال لم تكن "المرأة" فاعلة في غالبية الروايات المبكرة..
بداية بدت "المرأة" في تلك الروايات المبكرة من خلال العنوان.. حتى شاع إطلاق اسم امرأة ما على أغلب الأعمال الروائية, وهناك بعض الروايات التي يحمل عنوانها، صفات نسائية، وتوحي بأن البطولة ومحور العمل.
بالإحصاء إذا ما ضممنا الاسم الصريح لامرأة أو تلك الأوصاف الدالة عليها بعناوين الروايات التي كتبت في بدايات نشأة جنس الرواية وحتى عام 1949م.. لن تقل نسبة تلك الروايات عن النصف، من المجموع الكلى للروايات المنتجة خلال تلك الفترة (قراءة عن ببليوجرافي الرواية العربية– د.حمدي السكوت 1995م).
هذا الحصر للروايات التي عنونت بأسماء بذاتها للمرأة، يكشف على جملة ملامح وهى:
نظر الروائي إلى المرأة في بداية التعرف على جنس الرواية نظرة ساذجة, على ﺇعتقاد منه أن إضافة اسم امرأة ما، قد يفتح شهية القارئ على القراءة, فضلا عن أن وجود المرأة في حد ذاته بالعمل، من عوامل الجذب والجاذبية في الرواية .
.. عادة ما يكون العنوان معبرا عن محور العمل الروائي, مع إمكانية التوظيف الرمزي لهذا العنوان, حيث أنه المدخل للرواية. أما أن يوضع العنوان باسم امرأة بلا توظيف فنى, بلا جدوى منه، يثير التساؤل؟
.. هناك بعض الروايات في الفترات الأولى للرواية والتعرف عليها, لم تكن أكثر من ترجمات لروايات أجنبية, وخصوصا في الأدب الفرنسي, وبدلا من كتابة ترجمة.. يكتب تأليف وهو المترجم في الحقيقة. تلك الروايات في الغالب يكون عنوانها نسائي. منها باسم أجنبي أو عربي.
.. نالت الشخصيات النسائية التاريخية حيزا من ﺇهتمام الروائيين , فكانت بعض الروايات التاريخية باسمها, منها ما يعتبر ﺇختيارا مناسبا ومنها بهدف جذب القارئ.
.. يلاحظ الدارس لموضوعات الروايات التى كتبت في البدايات الأولى وﺇلى مرحلة طويلة من بعد, غلبة الفكر الأخلاقي, مع إقحام أحكام الوعظ والإرشاد. إذن والموضوع أخلاقي فلابد أن تكون المرأة في حضورها المشوه والمتهمة دائما بأنها لعبة الشيطان.. كما في رواية "مديحة" أو "الشيطان لعبته المرأة".
.. لا يخلو الأمر من وجود بعض الأعمال (القليلة) التى تجد في المرأة رمزا للوفاء .. كما في روايتين تحديدا, ألا وهما "بثينة" أو "شهيدة الوفاء".. و"دولت" أو "الوفاء الأبدي".
.. هناك من كتاب الرواية ربما يعد مغرما وعن عمد يطلق اسم امرأة على أغلب أعماله الروائية , مثل الكاتب "سليم بطرس البستانى".. الذي كتب: "زنوبيا" , " اسماء" , " بدور" , "سلمى" , " "سامية".
.. هناك بعض الروايات يكون العنوان باسم امرأة ذات دلالة فنية .. كما كل الأعمال الروائية المستوحاة من التاريخ القديم, مثل رواية "زنوبيا" و"زنوبيا ملكة تدمر", و"إيزيس", وكذلك تلك التى ذات دلالة فنية مثل "احلام شهرزاد" لطه حسين.
.. إن كانت هناك بعض الروايات بأسماء نسائية صريحة, هناك العديد من الروايات تحمل صفات نسائية وتوحى بأن البطولة ومحور العمل هو امرأة, منها:
(قصة فؤاد ورفقة حبيبته" للكاتب "نخلة صالح" عام 1872م, و" بنت العصر" و"الفاتنة" للكاتب "سليم بطرس البستانى" عام 1875م و 1877م, و"غادة لبنان" للكاتب " عبده ميخائيل بدران عام 1889م , و"شهيد الغرام" أو "ظبية طنطا" للكاتب "انطوان غوش" عام 1894م , و"المرأة في الشرق" للكاتب "مرقص فهمي" عام 1894م, و" عذراء الهند" للكاتب "أحمد شوقي".)
.. يلاحظ غلبة الفكر الأخلاقي, مع إقحام أحكام الوعظ والإرشاد. إذن والموضوع أخلاقي فلابد أن تكون المرأة في حضورها المشوه والمتهمة دائما بأنها لعبة الشيطان.. كما في رواية "مديحه" أو "الشيطان لعبته المرأة".
لا يخلو الأمر من وجود بعض الأعمال (القليلة) التي تجد في المرأة رمزا للوفاء.. كما في روايتين, ألا وهما "بثينة" أو "شهيدة الوفاء" للكاتب "سيد خفاجى1937".. و"دولت" أو "الوفاء الأبدي" للكاتب "محمد على رزق1919م"
كما تم توظيف المرأة (عن وعى وقصديه أو حتى عن غير قصد) وجعلها رمزا للوطن, فباتت المرأة في العديد من الأعمال الراسخة تعبيرا عن قهر ما أو الرغبة في التحرر من عدو ما, وربما هذا الربط بين المرأة والوطن له مبرراته الموضوعية, حيث وجود اﻹحتلال والرغبة فى التحرر.
*مرحلة ﺇبداعية جديدة:
ومع مشاركة "المرأة" فى الإبداع الروائي، بدت عقلا ووجدانا وقلما فاعلا جسورا، وليس أدل على ذلك من تلك الأعمال الروائية لمواجهة العدو الخارجي تعبيرا عن ﺇنتماء حقيقي للوطن (وليست رمزا له) كما فعل الروائيين الرجال من قبل!
الفرق بين الأدب النسائي والأدب النسوي.. أن الأدب النسائي هو: "الأعمال الأدبية التي تدافع عن حقوق المرأة وإن كان الكاتب رجلا".. أما الأدب النسوي هو: "أعمال المرأة بغض النظر عن المضمون".. وﺇن راج رفض المرأة لهذا التقسيم القائم على أساس الجنس، لذا فهي تعمل في إطار الأدب النسائي.
يؤرخ للأدب النسائي بداية من السبعينيات من القرن التاسع عشر، حيث نشأت الحركة النسائية التي تنادي بحقوق المرأة، تزامنا مع شعارات الثورة الفرنسية: "الحرية، المساواة، الإخاء". إلا أن واقع الحال لم يكن سهلا ولا هينا، إلى حد إصدار الحكم بإعدام صاحبة الدعوة! ومع ذلك انتشرت الدعوة وباتت حركة ثقافية. ووجد الأدب النسائي الذي راج مع بداية القرن العشرين.
مع عقد الأربعينيات من القرن العشرين, بدا جليا ظهور جيل من الروائيين والروائيات، رسخت على أيديهم تقنيات جنس الرواية الأدبي, حتى بلغ عدد الروائيات وإنتاجهن مبلغا لافتا. تناولن العديد من الأشكال والمضامين والرؤى، وتشاركت مع الروائي الرجل فى همومه أيضا وفى مقدمتها هموم الوطن.
الرؤى السردية للرواية النسائية (المرأة الفاعل)..
منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، بلغت الرواية النسائية مبلغا لافتا، جاءت مع نضح العمل الروائي ورسوخه، متقاطعا مع تعقد المعطيات الفكرية والأيدلوجية وتوظيفها.. مضافا ﺇليه دخول المرأة كمبدعة لفن الرواية تطرح رؤاها السردية كما تشاء.
يبدو أن نضج الروائى لا يكشف عن نفسه من خلال التقنيات الفنية وحدها, وﺇن تعلق البعض بالمقولة القديمة أن الموضوعات مطروحة على الطرقات. ففى لحظة تأمل لتلك الروايات التى تعاملت مع المرأة، تتضح رؤى الروائى/ الروائية والنضج الفكرى/ الفنى بدرجة الرؤيه ﺇلى دور المرأة وتعامله معها فى عمله الفنى.. لتبقى الأعمال الأكثر نضجا التى جعلت من المرأة وسيلة للتعبير عن القيم العليا وهدفا من أجل حياة أفضل.
مر التناول الناضج للمرأة فى الرواية بمرحلتين واضحتين: الأولى تلك التى كانت مع محاولات البحث عن النضج التقنى والفنى لجنس الرواية نفسها.. الثانية تلك التى بدأت مع نضج الرواية والروائى معا.
ففى المرحلة الأولى, بدا الوقوف الى جانب المرأة معادلا للموقف فى مواجهة سلبيات و فساد المجتمع والطموح ﺇلى الأفضل. لذا كانت الروايات التاريخية التى جعلت من المرأة البطولة و الشخصية المحورية.. كما فى رواية "زنوبيا" للكاتب "سليم البستانى" وهى ملكة تدمر التى ﺇعتلت كرسى العرش, حكمت و حمت وادارت دفة أهل حضارة من أقدم الحضارات فى العالم العربى واﻹنساني. كما كتب فى الموضوع نفسه الكاتب "محمد فريد أبوحديد" فى روايته "زنوبيا ملكة تدمر" عام 1941م أى بعد 69عاما من الأولى, وﺇن كتبت الأولى ﺇحياء التراث.. كتبت الثانية كرد فعل لقضايا ﺇجتماعية وسياسية كانت تموج بها الحياة اﻹجتماعية بمصر فى حينه (وهذه الرواية تحديدا تعد المؤشر الأول لتأريخ المرحلة الناضجة الثانية).
وهناك روايتان يؤكدان وجهة النظر، تلك التى ترى فى نضح التعامل مع المرأة نضجا للكاتب, وهما "عذراء دنشواى/ للروائى محمود طاهر حقى عام 1906م" و"فتاة الثورة العرابية/ للروائى "يوسف أفندى حسن صبرى" عام 1930م- والتى كتبت فى 1903م". ففى الأولى غلب الموضوع حيث حادثة من أهم الأحداث الوطنية بمصر, حيث ذروة الصراع مع المحتل اﻹنجليزى. وﺇن ﺇعتمد الروائى على وثائق المحاكمة ولم يعمل فيها البناء الدرامى والصراع الداخلى الواجب فى الرواية, الا أنها من الأعمال الهامة تأريخيا, ويلحظ المتابع أن العنوان و المحتوى لم يهمل للمرأة دورها. أما الرواية الثانية فقد ﺇعتمد الروائى بدوره على مذكرات الزعيم "أحمد عرابى" وجعل من جندى الخدمة أو الحراسة الخاصه به البطولة, حيث نسج خطا رومانسيا مع احدى الفلاحات بقريته, وكان العنوان ﺇشارة ﺇليها.
قد لا يبرز للمرأة دورا بالمعنى العملى أو التقنى بشكل مناسب, يكفى اﻹشارة الآن ﺇلى قدر جدية الموضوع وعلاقته بالمرأة وهو أكيد فى الروايتين المشار ﺇليهما.
لعله من قبيل اﻹشارة فقط, يمكن سرد بعض تلك الروايات التى ماثلت الروايتين السابقتين بدرجة ما, ولمزيد من تزكية فكرة جدية وﺇنتماء الروائى نفسه.. منها: "الفتاة الريفية/ محمود خيرى عام 1905م" و"زينب/ محمد حسين هيكل عام 1913م" و"ثريا/عيسى عبيد عام 1922م".
مع عقد الأربعينيات من القرن العشرين, بدا جليا ظهور جيل من الروائيين رسخت على أيديهم تقنيات جنس الرواية الأدبى, وحظيت "المرأة" في الإنتاج الروائي العربي باهتمام النقد, إلا أن التوقف أمام أشكال تلك التناولات لم يلق اﻹهتمام الواجب, إلا من خلال الفحص العام للعمل الروائي نفسه, وليس بالنظر البانورامي المكثف عليها وحدها.
هنا سوف نلقى الضوء على جانب منه, وهو تأمل بدايات كتابة الرواية, وموقع "المرأة" منه.. من حيث التوظيف, درجة اﻹهتمام بدور المرأة الحقيقي في العمل الأدبي, وغير ذلك الذي يتسع لدراسة طويلة.
لعل أهمية تلك الوقفة السريعة هو البحث عن البعد اﻹجتماعي والأخلاقي وربما اﻹقتصادي و السياسي, خلال زمن الرواية, وليس أجدر بالمرأة والبحث عنها للكشف الصريح أو الحقيقي..
مواجهة العدوان والتعبير بالجسد فى الرواية النسائية
شغل "الجسد" الروائيين قبلا, فانشغل النقد وبات "الجسد" وجهة للنقد . وندعى أن "الجسد" وعلى كل دلالاته لعب دورا هاما فى جوهر ملامح رواية مواجهة العدوان. بالعموم يعد الجسد ومفاهيمه مدخلا هاما فى فهم الوعى واللاوعى الجمعى للجماعة. ﺇذا كان اﻹقتراب من مفهوم الجسد من مدخل اللغة يشى بدلالات عامة. ففى لسان العرب كلمة "بدن" تعنى الامتلاء والتقدم فى السن, وكلمة "جثة" تشير ﺇلى الجسم متصفا باﻹكتمال, وكلمة "جسم" تعنى الضخامة والعظمة أو الهيبة واﻹعتلاء وبذل الجهد, وكلمة "الجرم" بكسر الجيم تعنى الجسد. أما مادة "الجسد" فهى الوحيدة مما سبق التى تلتصق باﻹنسان, من حيث ماهيته، وتستبعد معنى اﻹمتلاء أو معنى الهيئة الخارجية.
وقال "ابن منظور": الجسد هو جسم اﻹنسان, ولا يقال لغيره من الأجسام, والجسد مما يوصف بالحسن, ويرتبط الجسد ﺇرتباطا عميقا بالنفس.
وبذلك يكون للجسد ومن المدخل اللغوى مفهوما أوليا مما نعنيه حول علاقة "مواجة العدوان " والتعبير بالجسد. فيما تبدو رؤية علم اﻹجتماع فى هذا السياق- خصوصا فى البحث عن العلاقة بين عنف المواجهة والجسد- ربما يكاد يحدد ﺇهتمام علم اﻹجتماع فى مشكلة التحكم فى الجسد وضبطه, فوظيفة المجتمع تتلخص فى: ﺇعادة ﺇنتاج سكانه فى الزمان, التحكم فى الأجسام فى المكان, كبح الجسد الداخلى أو الرغبات, حضور الجسد الخارجى فى المجتمع.. (أحمد زايد)
وكأن الجسد هو تاريخ مجتمعه, ولا تفسر سلوكه "الفسيولوجي". كما أن الجسد فى ذاته تعبير حى عن أحوال وأزمات المجتمع, فالجسد الذى يعانى من مرض فقر الدم هو التعبير الفعلى لأزمة الفقر أو سوء التغذية نتيجة الجهل العلمى وغير ذلك. وكما يقول "ميرلوبنتى" أن المجتمع ينحت رموزه وأحواله على الأجساد. وأكد "فوكو" على فكرة ﺇنتاج "اﻹنسان الآلى" التى أنتجت الجسد المنتج أو رأس المال الحى أو قوة العمل المهمة.
وتظل "المواجهة العنيغة للعدوان" بمعنى ما قائمة بين تضاد النفس والجسد, ثم الفرد والمجتمع, لتبقى فاعليتها والتى نعنى تلك المواجهة اﻹيجابية فى ﺇطار صالح الجماعة. فلما تريد الجماعة "بطلا" فهى فى الحقيقة وفى الأصل تدافع عن نفسها وبقائها حرة محتفظة بهويتها. ان "التعبير بالجسد" فى "الرواية" هو تعبير أولى. لكنه يحمل ما هو بشرى وجودا فى العالم, بوصفه كيانا نفسيا وجسميا فى ﺇطار علاقات ﺇجتماعية.. وهو فى الأدب كيانا عضويا وﺇجتماعيا ومتخيلا.. وبذلك يمزج الأديب أو الأدب بين ما هو طبيعى وثقافى.
نشر "د.سعيد الوكيل" دراسته "الجسد فى الرواية العربية" ضمن سلسلة "كتابات نقدية", حيث تناول ثلاث روايات للتعبير عن ثلاث تمثلات للجسد: رواية "التبر" للروائى الليبى "ابراهيم الكونى" تعبيرا عن التمثيل العرفانى, ورواية "وليمة لأعشاب البحر" للروائى السورى "حيدر حيدر"تعبيرا عن التمثيل الأيديولجى , ورواية "مدينة اللذة" للروائى المصرى "عزت القمحاوى " تعبيرا عن التمثيل الميثولوجى للجسد.
وعلى جانب آخر يعد "الجسد" هو وسيلة حية وﺇيجابية فى مفهوم المواجهة العنيفة للعدوان, وهو المبتدأ والمنتهى, حتى وان كان الخطر عدوانا خارجيا.. وليس أصدق على ذلك من حالات البطولة التى قد تبدو خارقة للعادة أثناء مواجهة الأعداء.. لعلة من المناسب اﻹقتراب من بعض الأعمال الروائية لروائيات عرب، وبيان نموذج المرأة الفاعل.
رواية "الوطن في العينين" للروائية "حميدة نعنع"
تلك الرواية التي نشرت عن دار الآداب ببيروت عام 1979م، ولم تنشر الروائية غيرها، أضافت بها بعدا جديدا في أدب المقاومة الفلسطينية.. فهي لكاتبة (على قلة الكاتبات الروائيات خلال تلك الفترة).. بطلتها سيدة تخوض تجارب تتحدى بها تجارب الرجال في الجرأة والمعالجة. تتناول الرواية البعد الانسانى وربما البيولوجي للأنثى, والبعد الايديولوجى لقضية ساخنة.
العنوان "الوطن في العينين", يعد تقريريا وحميما معا. فكما تقول الأم لولدها أو لحبيبها.."أنت في العين", تقولها الكاتبة وبدلالاتها العاطفية, وهو ما يجعلنا نتساءل: كيف نجحت "نادية" في تحقيق ما وعدت به الكاتبة أمام القارئ؟
"نادية" الفتاة الفلسطينية, تمارس حرية ﺇتخاذ القرار, فأحبت الفدائي "أبو مشهور" وتوحدت به. عندما استشهد تعلقت بالثوري الفرنسي "فرانك" وهو صاحب الرأي الحر ورافض اﻹستعمار في أفريقيا.. ثم ﺇنتقلت إلى مرحلة ثالثة برفض الفرنسي والعودة إلى بلدتها "عينتاب" بفلسطين.. ومارست المقاومة عمليا على أرض الوطن.
إذن, نحن أمام بطل أنثوي ثوري, عبر عن صراعا ته.. عندما تركت الأرض وذهبت نادية إلى فرنسا, لم يكن للنزهة, للمقاومة. وعندما أحبت العربي الثوري, وبعد أن وجدته بدأ يهادن، تركته عائدة.. حيث بدأت المقاومة المسلحة. امرأة عربية جديدة, ايجابية وفاعلة, وهى بذلك تضيف ملمحا إلى ملامح "المرأة" الفلسطينية في الرواية.. عندما كتب "غسان كنفاني" روايته "أم سعد", كانت الأم التي تحث ولدها على الكفاح.. وعندما قدم "يحيى يخلف" المرأة في روايته "نشيد الحياة" بدت الشريك الموافق والمشجع.. فيما بدت المرأة عند "سحر خليفة" تسعى للتحقق في "مذكرات امرأة غير واقعية".
وقد بدت عملية اﻹسترجاع والتذكر هي جوهر البناء الفني للرواية, كما بدت "نادية"منفعلة ثائرة, وهو ما جعل للصوت الزاعق أحيانا، وجودا ببعض المواضع بالرواية.
"حكاية زهرة" للروائية "حنان الشيخ"
من خلال نمط السارد العالم، تعرفنا على حكايات "زهرة"؛.. ضحية المجتمع الأبوي والمستبد. بينما مزجت بين الأب والحرب باستخدام ضمير المتكلم، تتذكر زهرة سلوك أمها مع أخيها.. بينما يعاملها الأب بقسوة، حتى عندما تكبر زهرة (فترة المراهقة) فتظهر الندوب (حب الشباب)على وجهها، وبسببها يعنفها أكثر!
أمام تلك التفرقة فى المعاملة بينها وبين أخيها، أثمرت تلك شابا (هو الأخ) منطويا مكتفيا بنفسه، أدمن المخدرات وسرقة الموتى (فيما بعد- أثناء الحرب).. بدت "زهرة" مشغولة بنفسها أيضا وهو ما عبرت عنه بمشكلة الندوب، وبالبقاء فى الحمام وحدها! هاجرت إلى خالها بإحدى البلدان الإفريقية.. عبرت عن قلقها وغضبها من خالها بسبب مشاعر تخوف ما.. ليس لكونه خالها بل ذكرا قد يعتدي عليها، تشعر وكأنه سوف يهم باغتصابها.. وتعبر الكاتبة عن العداوات اليومية، حتى مع زواجها. وبسبب العدوان والحرب، تعيد زهرة علاقاتها مع العالم.. بداية من أسرتها الصغيرة. ها هي ذي مع والدتها، وعلى الرغم مما يؤلمها من ذكريات حول خيانة الأم لزوجها الذي هو والد زهرة.. ثم تترفق بأخيها الذي تحول حلمه بان يصبح مهندسا، إلى مقاتل! ومثلما كانت السلطة أبوية عدائية قاهرة، كانت الحرب.. تركها الأب وهاجر مع الأم إلى الريف (الضيعة).. ولكن لم تبق زهرة وحدها طويلا، تعلقت بالقناص.
هنا عبر جسد زهرة عن مقاومته للتحرش وهى الشابة الفتية، مثلما عبر فى طفولتها عن مواجهة القسوة الأبوية. ثم بسبب الحرب حملت سفاحا من قناص، ليتابع جسد "زهرة" من جديد آلامه، ويصبح ضحية، وان شعرت بالتلذذ للمرة الأولى، مع علاقتها تلك غير المشروعة مع القناص. ومن بعيد تطرح الكاتبة بديلا عن العدوان والقتل. فلما طالت الحرب، قرر القناص أن يتزوجها، لتقع زهرة فى الحيرة:
"هل كان من الضروري أن تطول الحرب حتى تستقيم الحياة إلى طبيعتها!"
وعندما أبلغت زهرة القناص بأنها حامل منه, ينتهي المشهد بموتها.. تموت "زهرة"! ويبقى جسدها ضحية عدوان السلطة الأبوية وللحرب.. بل والمجتمع.
"إيميلات تالي الليل".. الروائيان "إبراهيم جادالله" و"كلشان البياتى
بهذه الرواية تبدو التقنية الرقمية وقد غزت العقول وتفاعلت مع الإبداع.. رواية للكاتب "إبراهيم جاد الله" والكاتبة "كليشان البياتى"، يتشاركان معا من خلال الجهاز العبقري وشبكته العنكبوتية لكتابتها(الحاسوب). ومن خلال تبادل بعض الرسائل على البريد اﻹلكتروني فيما بينهما.. هذا من حيث الشكل. يشغلنا الآن البناء السردي الحواري ورؤية الكتابة حول العدوان الأمريكي. بداية يجمع اﻹنتماء بمعناه العربي الواسع، والمحدود بجماعة، لكل من الكاتبين.. كما يجمع بينهما تجربة خاصة جراء عدوان من السلطة الحاكمة (حيث فصل الكاتب من عمله كمعيد بأكاديمية الفنون- معهد المسرح، من جراء موقفه الوطني أثناء مظاهرات 1971م.. بينما تم ﺇعتقال الكاتبة والصحفية "كليشان البياتى" خلال ﺇحتلال الجنود الأمريكان للعراق، وباتت ضحية عدوان سلطة أجنبية محتلة) بدت صور العدوان متوافقة مع تجربة "منال" و"حسن".. ففي العراق، كان اﻹعتقال حتى نالت منها حالة مرضية، وهى مرض الخوف من الأماكن الضيقة، حيث كانت الزنزانة ضيقة ولا يدخلها ضوء شمس.. كان العدوان أكثر شراسة على العراق كلها من خراب ودمار يأخذ الأخضر واليابس كما قالت فى الفصل الأول.. مع ذلك كان الصمود والرغبة فى التحقق واﻹنجاز والتحدي، وكانت تلك الأغنية الحماسية التي سجلها "حسن" يرددونها عن فلاح بسيط "عبيد منكاش" اسقط أول طائرة اباتشى أمريكية ببندقية صغيرة. وفى المقابل كان العدوان فى مصر من السلطة المستبدة، وكم من الجروح والآلام أصابت "حسن" من جراء المواجهة العنيفة مع الشرطة.. كما بات "حسن" يخشى من النزول إلى مدينة القاهرة من جراء تلك التجربة الطويلة منذ أن كان طالبا فى الجامعة وﺇعتقاله.
ويتوالى السرد وتبادل السائل وان وجهت إلى غير حسن أو إلى غير منال، وتتواتر الأحداث والأخبار ويتشكل نسيج عالم مكاني بلا توصيف (مكان افتراضي حيث العالم الافتراضي للكمبيوتر قد نسجه) وبدا الزمان طليقا غير مستقيم، تشكله تقنية اﻹسترجاع والتذكر واللاوعي، كما تضيف إليه أحلام حسن ومنال بعده المستقبلي.. على قدر ما تحمل تلك الرواية من ألم وشجن، تحمل عبق الشوق وروح الأمل فيما هو أفضل وأجمل.. حيث "الوعي" بالقضية –أية قضية- هو مفتاح الأمل. وهو ما عبرت عنه الجملة الأخيرة من الرواية: "كان السؤال دائما بوابة المعرفة، صار ويا لوعتي فى الزمن الأمريكي بوابة الآلام"18 و19يناير"
خاتمة
تتعدد الأمثلة، وتكثر الرؤى والروايات، لتبقى الرواية النسائية وبعد زمن قريب هي السجل اﻹنسانى الذي حفظ للمرأة العربية تاريخها القديم، وﺇستطاعت المرأة المعاصرة أن تضيف إليه، بالرغم من كل الصعاب والعقبات وﺇرث جهول لقرون مضت.
************
المصادر والمراجع:
-"نجم، السيد"- "أدب المقاومة.. فى الفكر والابداع"- مركز ليفانت بالاسكندرية-2019م
-"نجم، السيد"- "المقاومة والحرب في الرواية العربية"- س "كتاب الجمهورية"2005م
- "عبدالغنى، مصطفى"- من الغيم إلى المطر– مكتبة الأسرة عام 2004م.
- مجموعة كتاب- "الأدب في مواجهة عصر مختلف"- هيئة قصور الثقافة2002م.
-"الجعيدى- محمد عبدالله"- مصادر الأدب الفلسطيني- س "كتاب الرياض" 2001م
: مصطفى عبدالغنى-"الاتجاه القومي في الرواية "- عالم المعرفة- الكويت1994م.
: وليد الخشاب- "دراسات في تعدي النص"- المجلس الأعلى للثقافة- القاهرة1994م.
: إبراهيم سعفان- "فضاء الجرح.. قراءات في أدب الانتفاضة"- دائرة الثقافة بالشارقة 1994م
: فيحاء قاسم عبدالهادى- "نماذج المرأة/ البطل فى الرواية الفلسطينية"- الهيئة المصرية للكتاب1997م
: حمدي السكوت- "ببليوجرافي الرواية العربية"- الجامعة الأمريكية- القاهرة-1997م
: عبدالملك مرتاضى- "في نظرية الرواية"– عالم المعرفة – الكويت 1998م.