عندما تتكور الحياة، ويتكور فكرو معتقد الإنسان عبر سنين طويلة، في قبضة القصة القصيرة، فهذا ما يفعله الكاتب أشرف التعلبى، في قصته، التي استطاع فى سطور قليلة، ان يعبر عن رحلة الإنسان المصرى منذ ما قبل التاريخ، وحتى يومنا هذا.

وصايا عادية

أشـرف التعلـبي

 

صباح كل يوم اعبر تلك الحارة الضيقة بمحض ارادتي، رغم وجود ثلاثة شوارع أكثر منها رحابة، لا أعلم سبب هذا الاختيار، هل لأنها مواجهه مباشرة لمكتبي، أم لأنها منطوية على ذاتها، ولا يدخلها الغرباء الا نادرا، وبعض البيوت فيها متهالك، قد يرجع عهد بناءها إلى أيام الخديوي توفيق أو إسماعيل.

في بداية الأسبوع وبعد وصولي مكتبي الصغير القابع في الطابق الثاني بالمؤسسة الثقافية التي أعمل بها، أوصيت صديقي بأرسال مجموعة من الرسائل التي كتبتها إلى امرأة من زمن الحب القديم، بعد موتي مباشرة، واعطيته الرقم السري لجهازي المحمول، وعنوان تلك المرأة، حتى يؤدي مهمته بسلام... لكنه فاجأني برده: "توكل علي الله.. وكله يوصل لأصحابه".

 في اليوم الثاني زادت مخاوفي خاصة بعد أن نجوت في الأمس، وبكل تأكيد لن انجو كل يوم، فاضطررت مع تلك المخاوف إلي اختيار وصية أكثر حزنا.. وهي أن يُنقل جثماني إلى النجع إذا مت هنا، والا يُترك جثماني غريب وسط أموات لم آلفهم من قبل، وأن يُكتب فوق قبري هذه العبارة: "أرجو أن أبقي في اذهانكم مدة تزيد عن ثلاثة أسابيع"، وهذه المرة أعطيته عنوان النجع بدقة، فلما لا؟ ونجعي صغير تائه وسط النجوع وليس له علامة علي الخريطة كأنهم تعمدوا نسيانه.

بينما في اليوم الثالث كنت متفائلا بدرجة كبيرة، وتنتابني قدرة عجيبة علي التأمل.. لذلك فكرت في وصية غير اعتيادية تتناسب مع حالتي في ذاك اليوم، فأوصيته أن ينحتوا تمثالا يشبهني وأنا أرتدي جلبابا فضفاضا، وأن يضعوه في ميدان شهير.

فضحك صديقي ساخرا، فأيقنت أنني بالغت في تأملي، فتداركت الموقف سريعا، وقلت: ليس مهما أن يكون التمثال من الجرانيت، يكفي أن يكون مصنوعا من الطين، كذلك ليس شرطا أن يضعوه في ميدان شهير، بل يكفي أن يضعوه داخل ضريحي في الجبانة، إن بنوا لي ضريحا من الأساس.

أما في اليوم الرابع فتخوفت أكثر عندما أخذت الطريق كله وأنا اتطلع للأعلى في تلك الحارة الخنيقة، وأنا اعلم تمام العلم أنها لن تكفي لاحتواء المبني العتيق كله، ولن يفيد الجري مهما تباعدت خطواتي، وربما يفشلوا في اخراج جثتي من أسفل الأنقاض.. لكن بعد أن نجوت يوما جديدا من الموت، أوصيته الا يبتاع أبنائي مكتبتي "لبائع الروبابيكيا"، مثلما فعل ابناء أصدقائي من قبل، وأن يحتفظوا بها من أجل أحفادي.

وإن ضاقت نفوسهم من سيرتي وكتبي، أوصيك صديقي بنقلهم إلي النجع، ووضعهم في ديوان العائلة، لتكون تلك الكتب متاحة دائما أمام أهل النجع من كبيرهم لصغيرهم.. لكنه صدمني كعادته قائلا: ومن قال لك أن عائلتك تقبل بفكرة المكتبة، فليس لديهم حاجة لملء ركن من الديوان بتلك الكتب القديمة، ولن تعينهم سيرتك أو كتبك بعد أربعين يوما على أكثر تقدير.

بينما في اليوم الخامس انسقت بكامل ارادتي في تلك الحارة، بخطوات يشوبها بعض الحذر، ولم انتظر حتى أصل الي المكتب لأبلغه بوصيه اليوم، بل اتصلت به علي الفور، خشيت ألا اصل الي المكتب مثل كل يوم، خاصة ان تلك الشجرة تستحق وصية منفردة، لقدرتها علي الصمود طوال ثمانية أيام في شرفتي دون ماء، وما بين صمود شجرتي وصمود البيت العتيق.. أوصيت صديقي بالا ينسي تلك الشجرة وحيدة في الشرفة مثلما ابقيتها اثناء مرضي، وأن يسقيها كل يوم.

في اليوم الأخير من الأسبوع تضخمت هواجسي الي أقصى درجاتها، وهو ما دفعني للسير في احد الشوارع الرئيسية، مرتضيا باختراق زحامه عن سقوط البيت العتيق فوق رأسي.. ففرح صديقي بنجاتي، وحزنت أنا بشدة علي عدم تنفيذ الوصايا التي طالما وعدني بتحقيقها في الأيام الماضية.. وما زلت حائرا حتى اليوم عن سبب سعادة صديقي، هل كانت لنجاتي، أم لتخلصه من الوعود التي قطعها علي نفسه، ولن يرافق جثماني إلي النجع البعيد.