مع ازدياد الوعي بالحاضر، يزداد الاهتمام بالتاريخ بوصفه خلفيّة للحاضر، وتسهم الرّواية بوصفها إحدى أدوات تصوير التاريخ صدقًا وتفصيلًا في استجلاء ما حدث في التاريخ.
والروائيُّ عندما ينظر إلى التاريخ يحاول أن يجمع وقائع الماضي في لوحة متناسقة صادقة، يعيد من خلالها تركيب شظاياه المتناثرة؛ إذنِ الرّواية التاريخيّة عمل فنّيّ لا ينقل السّرد التاريخيّ بقدر ما ينقل تصوّر الأدب له من خلال احتوائه للتاريخ وتفاعله معه.
الروائي نشأت المصري في روايته "بونابرتة" يقدم لنا رؤيته الفكرية، ووجهه نظره فيما يدور حولنا من خلال الإبحار في التاريخ، واستلهام عِبَره؛ فربما وجد في نقاطه المظلمة ما يضيء الحاضر ويساهم في استقراء أحداثه، فكان اختياره تلك الفترة المضطربة من تاريخ مصر الحديث إبان الحملة الفرنسية على مصر، ولا شك أن تلك الفترة على الرغم من قصر مدتها الزمنية إلا أنها مثلت مرحلة بالغة الخطورة في تاريخ مصر الحديث، وكثيرًا ما توقف الباحثون عندها بالبحث والدراسة.
والروائي قدم لنا تلك الفترة برؤية مغايرة من خلال شخصية بونابرت، والتي حرص على رسم معالمها وسبر أغوارها والوقوف على العديد من الجوانب النفسية فيها، وقدم نقدًا للمجتمع وتحليلًا دقيقًا لأسباب النصر والهزيمة من خلال رؤية هذه الشخصية المركبة لمصر وشعبها، وكأن الكاتب هنا يوجه رسالته من خلال شخصية بونابرت للشعوب العربية؛ علينا أن نعرف كيف يرانا الآخر؟ وما هي صورتنا لديه؟ وبناء على هذه الصورة يكون موقف الآخر منا، فحتى تقيم ذاتك ،لا بد أن تعرف كيف يراك الآخرون؟ وكيف يتعاملون معك؟
هذه الرؤية واضحة في البناء الروائي الذي قدمه الكاتب من خلال إحدى عشره لوحة متتالية في بناء ذي طابع مسرحي متعدد المشاهد، غني بالوصف المكاني والسرد التفصيلي الذي يجعلك تشاهد تلك اللوحات من خلال أسلوب السرد وتتابعه وتدفقه بلغة سليمة سلسة تحمل جمالياتها الخاصة بطرح مغاير استخدم فيه شخصية بونابرت بغطرستها و غرورها لعرض رؤيته الفكرية والتي ظهرت عبر مناقشة أفكار بونابرت التي تتمثل في قناعته أن الجهل والفقر يمثلان حمايةً لأطماع المستعمر، والكاتب بهذا الطرح يدق ناقوس الخطر لينبه إلى أهمية التسلح بالعلم والقوة، فلا سبيل للنجاة إلا بالقوة التي يحميها العلم، فالكاتب قدم لنا الأسباب التي دفعت بونابرت للإقدام على استعمار مصر؛ فهو رآها فريسة سهلة، وشعبها صبور يفيق بعد فوات الأوان، كما كشف من خلال الأحداث عن الاستراتيجية التي رآها نابليون مناسبة للقضاء على الشعب المصري بدهائه ومكره و تحايله بإظهار التدين والتسامح والتقرب إلى المشايخ و العلماء و خداعهم برغبته في إنقاذ نصر من المماليك و العثمانيين، وعدم منحهم أي فرصة للاتحاد والتجمع واستغلال تفرقهم وعدم اجتماعهم على موقف واحد، يقول ص(7) على لسان بونابرت" لن نمنحهم فرصة التجمع" فمن خلال هذه الإشارات الدقيقة التي يرصدها الكاتب ينبه على أن التفرق فرصة سانحة أمام الآخر لينقض علينا، أما الاتحاد والتجمع على كلمة واحدة هو طوق النجاة وهذا ما يقودنا لمعرفه أن رؤية الكاتب لا تتوقف عند استحضار فترة هامة من تاريخ مصر وسرد أحداثها برؤية جمالية، إنما هي رؤية أعمق بكثير قدم فيها الأسباب التي تجعلنا فريسة سهلة، والوسائل التي تكفل لنا الأمان وتحقق لنا الرفعة، وهذا هو الاستقراء الواعي للتاريخ الذي لم يقدمه الكاتب للمتلقي عبر الخطاب المباشر، بل قدمه بصورة أكثر إقناعًا من خلال تقنية الحوار التي يتكأ البناء السردي عليها، عالج هذه التقنية بتنوع في الحوارات فقد بدأت اللوحة الأولى بحديث بين البحر وبونابرت يقول على لسان البحر ص (5) "ذات يوم يا بونابرتة كان الفراعنة هم سادتي وبأمرهم أأتمر لست منافقًا ولكنني دائما أخضع للقوي." وهذا الحوار يجسد رؤية الكاتب وفكره والتي نقلها عبره؛ لينبه المتلقي أن الشعوب القوية هي التي تنجو، وأن المكانة والهيبة لا تتحقق بالأمنيات، وإنما بالعمل والكفاح وإعداد الخطط التي تحقق للأمة مكانتها.
أكد الكاتب الفكرة من خلال حوارات بونابرت مع رجاله فيقول لسكرتيره ص(6): "لا تخف سيحمينا جهل المصريين وفقرهم وتخلفهم قد نتألم بعض الوقت لكننا سننجح وسيحفرون أيضًا قناة السويس لصالحنا سنصنع تاريخًا جديدًا." الجهل درع أمان للمستعمر، والقوي هو من يصنع التاريخ.
ويقول لرئيس الاركان بريتيه:" اسمعني جيدا لنتذكر معا ما قرأناه في التاريخ، وفي تقرير جواسيسنا وما سطره مئة عالم فرنسي في وصف مصر." مثل هذه الحوارات التي ضمنها الكاتب في البناء السردي تكشف لنا أن العلم ودراسة التاريخ من القواعد الأساسية التي يعتمد عليها المستعمر في خطته الاستعمارية، ولمزيد من الإقناع يؤكد الفكرة من خلال ذكره حرص نابليون على قراءة كتاب "التأملات" ثم بناء حوار تخيلي بينه وبين مؤلفه الامبراطور السادس عشر أوريل يقول ص( 14): " هكذا يا أوريل لا أفعل شيئًا دون دراسة لكل خطوة كما يقول العلم، وأعرف أننا ننتصر بالعلم قبل القوة العسكرية."
على صعيد آخر من خلال حوار محمد كريم مع مصطفى الخادم يظهر افتقاد أهل مصر هذه الميزة في اللوحة الثالثة؛ حيث يقول على لسان مصطفى الخادم: " فكرنا واحد صديقي الحاكم، الكارثة أننا لم نعلم الناس العلم."، ويرد عليه محمد كريم:" أصارحك يا مصطفى أنني أتعذب لأننا انشغلنا بصراعات المماليك والباشا، ولم نعلم الشعب، ولم نجعل مصر قلعة صناعية، ولم نبتكر سلاحًا." هذه الحوارات تضمنت الأسباب الحقيقية وراء نهضة الأمم والتي تتمثل في العلم والثقافة، وبناء قاعدة اقتصادية قوية تقوم على الصناعة المحلية، والحرص على بناء قوة عسكرية حقيقية من خلال صنع الأسلحة محليًا .
هكذا قدمت الحوارات المتنوعة بين الشخصيات الأسباب التي يمكن أن تحقق للأمة المكانة والرفعة، وبذلك تكون العودة إلى التاريخ من أجل بناء الحاضر على أسس سليمة نستفيد فيها من تجارب الماضي، وما مر به من أحداث فنتلاشى العيوب ونصحح المسار.
و قد تنوعت الحوارات فبالإضافة إلى الحوارات التي دارت بين الشخصيات الرئيسية في الرواية استخدم أيضا المونولوج الداخلي، والحوار مع الطبيعة، والحوار مع شخصيات تم استحضارها تاريخيًا، وهذا التنوع يعد من التقنيات الهامة التي تبرز قدرة الكاتب على إدارة الحوارات بطريقة فاعلة ومؤثرة، فجاء لكل لون منها دوره في البناء الفني؛ فقد ساهم المونولوج في الكشف عن دواخل الشخصية، وبواطنها وابراز أفكارها وقناعتها من ذلك يقول: ص( 24) " في الوقت ذاته همس لنفسه: هؤلاء المصريون الرعاع لا يتعلمون فلو أن أهل هذا الشارع ، والشارع المجاور احتشدوا في وقت واحد أمامنا لقتلنا الفزع قبل أن نضغط على الزناد لكنهم يدمنون التفرق، هنيًئا لنا بكم أيها الجهلة."
في لون آخر يحاور نابليون شيطانه ص( 26) " والآن يا شيطاني الكريم لماذا توسوس لي بأن مصر انتصرت أيام رمسيس الثاني وتحتمس الثالث، وصلاح الدين الأيوبي؟" واستخدم الكاتب الحوار السردي، وهو ذلك التواصل بين السارد والقارئ دون وسيط فيقوم السارد بنقل الفكرة والحوار إلى القارئ ويظهر ذلك ص(22) " دخل نابليون ومن معه إلى شارع صغير متفرع من شارع حكمت باشا، وأحد الذين معه يوزع منشور نابليون مشفوعًا بابتسامة صفراء، قال نابليون لعساكره: هذا شارع هادئ يبدو مستكينًا."
ويتعانق السرد مع الحوار، فيقوم السارد بدور الشارح الذي يكمل التفاصيل؛ " في لحظات أصبح نابليون وحيدًا، ونفرت عروق رقبته القصيرة، واحمر أنفه الصغير، وهو يقهقه بصوت عالٍ قائلًا كأنه يحدث جمهورًا في إحدى مسرحياته."
فالسارد يقدم الوصف الخارجي لملامح الشخصية لتكتمل الصورة عنها، ويحدث هذا التناوب بين السرد والحوار بانسيابية لا انقطاع فيها، فالسارد قد يأتي واصفًا للمكان أو معلقًا على الحدث أو معللًا لموقف، وهذا التضفير جاء بلغة سلسة انسيابية تزينها الصور البديعة بلا مغالاة أو تكلف، يقول في اللوحة الخامسة: " يلون القلق تراب امبابة، والشمس توشحت بدثار الانتظار، لا يمشي في الشوارع إلا الريح بخطى كابية." وفي اللوحة السابعة " الاسكندرية الفاتنة كأنها ليست هي، تتشح بالسواد حتى في عز الظهر والشمس في عنت."
الكاتب لديه القدرة على إدارة اللغة بما يتناسب مع طبيعة البناء الفني؛ فلغة الحوار تختلف عن لغه السرد الوصفي، تختلف عن لغة السرد الحواري، وهذا التنوع المتناغم في مستويات اللغة يعد ميزة فنية يمتلكها.
والسارد قد يتوقع ما يدور داخل الشخصية ص( 81) " كاد نابليون أن يقول: شكرًا لجهلكم الذي استضافنا دون قصد." وأيضًا يسمع حوارات الشخصية؛ فيعلق السارد على لقاء نابليون مع الشيوخ وقدرته على خداعهم ص (82) "مع انتهاء الاتفاق شكره الشيوخ وقبلوا يديه وهو في غاية الدهشة لهذا التدني قائلًا لنفسه: أمثال هؤلاء نحكمهم ألف عام."
بل يمتلك السارد القدرة على الاستماع إلى همس الشخصية يقول ص( 87): " يهمس آه يا مصريين، لا بد للحضارة من علم وسلاح يحميها: هاهاها تظنون أن مراوغة الغازي انتصارًا."
وهكذا تتنوع مقولات السرد؛ فتأتي أحيانًا على لسان الشخصيات في الحوارات أو على لسان السارد، مما يعطي النص مستوى أعلى من التأمل، وثراء في الدلالة التي يمكن أن يكتنزها المتلقي.
فهذا النص لا يقف عند مستوى السرد التاريخي التعليمي، أو حتى ذلك الذي يسعى لتأكيد الهوية و إبراز صور من كفاح الماضي، وإنما يجعلنا نثير الأسئلة ليضع أيدينا على أسباب المشكلات التي قد تتعرض لها المجتمعات في الوقت الحاضر، كما أنه يتبنى وجهات نظر تمثل العلاج الحقيقي والفعلي لتلك المشكلات من خلال مجموعة من الإشارات الدالة التي تستقطب الفكر، وتسعى إلى إعمال الذهن نحو الحلول ممكنة التطبيق على أرض الواقع، وهذه هي الغاية من هذا الاسترجاع التاريخي لفترات حساسة من التاريخ الحديث قُدمِت عبر لوحات ممتعة بسرد متدفق ولغة فياضة بالحمولات الجمالية والثقافية المتنوعة.