امتازت الرواية الفلسطينية بتمحور معظم موضوعاتها حول فلسطين ومقاومة المحتل، ومواكبتها للواقع الفلسطيني داخل الأرض المحتلة وفي الشتات. وحفلت الروايات الصادرة بعد عام 1965 بنموذج الفلسطيني المقاوم الذي أوجدته أو استدعته نهضة الفلسطينيين الوطنية بعد انطلاق الثورة الفلسطينية، فتتبعت نشاطه المسلح في الداخل والخارج، ورسمت ملامح بطولته، وأبرزت إخلاصه للقضية، وتفانيه في الدفاع عنها. وقدمته وهو يواجه مواقف فارقة، فرأيناه في لحظة الاشتباك مع العدو يواجه خطر الموت بشجاعة، ويقاوم الاقتلاع والنفي المتجدد، ويعيش إحباطات العمل الفدائي، ويدخل السجن، ويصمد تحت التعذيب في السجون الإسرائيلية والعربية.
وكان للرواية موقفان متباينان من المقاتل العادي، والقائد العسكري، فأعلت من شأن الأول، واختارته بطلاً للعديد من الروايات. وحطت من شأن الثاني، وأسندت إليه، على الأغلب، أدوراً ثانوية تظهر سلبياته، ورؤيته للعمل المقاوم من زاوية فردية، وتفضيله مصلحته الشخصية أو مصلحة تنظيمه على المصلحة الفلسطينية العامة.
واستدعت بعض النماذج للمقاتل السلبي الذي تشوبه بعض المثالب، أو المجند للتجسس على العمل المقاوم، لكنها أقصته عن بطولة الروايات، وأبرزت من خلاله أخطاء القادة، وحملتهم مسؤولية المسار الخاطئ وخذلان المقاتيلين، وتفتيت طاقاتهم، وانحراف بعضهم عن جادة العمل الفدائي الصحيح.
أما المقاتل الشجاع المخلص لوطنه، فقد كان بطل العديد من الروايات. وبدا جسوراً، صلباً، لا يهاب العدو، ولا يخشى العذاب، ولا يعرف الضعف طريقاً إليه، ولا تُهن قواه مصاعب. وهو مطلق الإيجابية، لا يقع في الخطأ، ويرى قول الحق، وتفنيد الأخطاء مسؤولية وطنية يجب أن يؤديها بأمانة دون مراوغة أو مساومة أو محاباة. وهو بالإضافة إلى ذلك موضوعي لا يفضل تنظيماً على آخر، ويرى أخطاء قادة تنظيمه، كما يرى أخطاء قادة التنظيمات الأخرى.
لقد أجمع الروائيون الفلسطينيون على عظمة المقاتل الفلسطيني، وقدموه على أنه عصب الثورة، وصانع انتصاراتها. وهو في الأغلب الأعم جزء من اندفاع ثوري جمعي، ومن تجربة نضالية في قرية، أو مخيم، أو حي، أو فصيل فلسطيني داخل الأرض المحتلة أو في بعض الدول العربية. وهو ابن الشعب الكادح؛ عامل، وفلاح، و بحار، وراع، و سائق، وعامل مقهى. وقد يكون مثقفاً، أو صاحب متجر، أو رجل دين.
من الأبطال الروائيين المقاومين الذين شكّلوا علامات فارقة في الرواية الفلسطينية بطل رواية غسان كنفاني غيرالمكتملة (العاشق). هو بطل جسّد نموذج المقاوم الفلسطيني بكل بهائه وحضوره الطاغي في الأدب، وفي حياة الفلسطينيين منذ انطلاق الفعل المقاوم ضد الاستعمار البريطاني، ومن بعده الاحتلال الإسرائيلي. ولعل بطل رواية (العاشق) المقاوم هو الوجه الآخر لمبدعه غسان كنفاني، بطل الكلمة والحرف، والعمل النضالي، والموقع الفكري والسياسي العظيم الأثر، الذي شكّل خطراً فكرياً ووجودياً أقلق الكيان الغاصب، فاغتال شبابه في تفجير سيارة مفخخة في بيروت بعيداً عن أرضه التي عشق. أرادوا إسكات كبرياء صوته الصادح بالمقاومة، والمتعالي على الضعف والخنوع وذل التشرد، لكنّ صوته ما زال يدوي في وديان فلسطين وهضابها، وفي كل مكان وصل إليه أبناء وطنه في مختلف أصقاع المعمورة. وما زال غسان كنفاني، وما زال (العاشق) بطلين ملهمين لكل عشاق فلسطين، وما زالا مفعمين بالحياة الأبدية التي لا ينطفئ أوارها.
بطل رواية (العاشق) كادح فلسطيني قارع المستعمر البريطاني، فأقلق أمنه، وأحال حياة أحد ضباطه إلى كابوس متصل. هو قاسم أو عبد الكريم أو حسنين أو العاشق أو السجين رقم 364. هو كل هذه الأسماء، لأنه ضمير الشعب الفلسطيني، وبطله الملحمي الذي يتخذ أسماء شتى، ويتخفى بصور مختلفة لتستمر شعلة نضاله، وليستمر وجوده في قلب حركة الجماهير، وإن كان مجبراً على الابتعاد عنها.
لم يسعف القدرغسان كنفاني أن يكمل رواية (العاشق)، لكنه رسم في صفحاتها الست والأربعبن بطلاً مكتمل الملامح، بيّن القسمات، فريد التكوين. وكان يمكن أن يكون أعظم أبطال كنفاني، لو أن الصهاينة لم يغتالوا تدفق إبداعه، ولم يمنعوه من إتمام ملحمة النضال الفلسطيني ضد المستعمر بأشكاله المختلفة.
نشرت الرواية للمرة الأولى في العدد 16 من مجلة شؤون فلسطينية عام 1972 بعد عدة أشهرعلى استشهاده. بطلها فلسطيني ثارعلى الاستعمار البريطاني الذي استولى على فلسطين عام 1920 عقب الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية فيها؛ فطلب رأسه، وكلف الكابتن بلاك بإلقاء القبض عليه. كان اسم الكابتن بلاك يثير الرعب في روع كلّ من عرفه، لكنّ الثائر الفلسطيني يحيل حياته على مدى ثلاث سنوات إلى جحيم لا يطاق. جهد في البحث عنه، وعانى من اليأس والخيبة والشعور بالمرارة، وواجه غضب مسؤوليه وتوبيخهم، ورفضهم ترقيته طوال أعوام ثلاثة. كان البطل كابوساً لا يفارق الضابط الإنجليزي ليل نهار، ويمنعه من التمتع حتى بإجازة عيد الميلاد. أكثر من مرة اقترب من القبض عليه، لكن البطل كان ينجح بالفرار والتخفي. تحميه أرض فلسطين، تحنو عليه، وتفرد أجنحتها لتخفيه عن عيون أعدائه. كانت شريكة نضاله، ومنها استمد قوته وإصراره، وتفاؤله الثوري، بخلاف الفلسطيني في الشتات بعد النكبة الذي كان يفتقد مساندة المكان، بل كان المكان في أحيان كثيرة مسكوناً بالألغام المعدة لإفنائه.
كان الكابتن بلاك يدرك أنه لا يلاحق فرداً، وإنما أرضاً شاسعة بكل ما فيها، وكل من عليها. يقول لصديقه بعد إحدى جولاته البائسة للقبض على البطل: " كنت أقول لنفسي، وأنا عائد مع الخيبة والمرارة والتعب إن الآرض ذاتها هي المتواطئة والشريكة، وإنك كي تلقي القبض على عبد الكريم عليك أولاً أن تلقي القبض على الأرض .. إنك تبتسم، ولو كنت مكاني لفعلت مثلي، وقفت فجأة وأخذت أطلق الرصاص على الشجر، على الصخر، على البلان، على شقوق السيول، على الطريق الرفيعة التي تطل وتختبئ.. وكان صدى الطلقات يمضي في ذلك العراء ويمتد إليّ كالقهقهات، وكان عبد الكريم ذاته وراء كل شيء في ذلك الجرد، يقيسني بعينيه الخبيثتين ويضحك مع الأرض، على غضبي"(1).
عندما نجح الكابتن بلاك بإلقاء القبض على البطل، كان من فرط سعادته غير مصدق أنه وقع أخيراً في قبضته: " نظر إلى قدمي أولاً، وهو ما زال يبتسم خارجاً من كابوس لا يتصوره العقل، ثم إلى صدري، ثم إلى عيني مرة أخرى، ثم وجد الكلمة المناسبة فقالها بين أسنانه: واخيراً يا عبد الكريم"(2). وعندما سأله الميجور ماكلود عن سر سعادته الغامرة، وهل يكون قد تزوج أجاب: " تزوجت ؟ أوف! أكثر من ذلك بكثر. أنت لا تعرف شيئاً، لست تدري ماذا يعني أن يسقط عبد الكريم أخيراً"(3).
نلتقي بالعاشق للمرة الأولى في الرواية في قرية الغبيسية في الأيام القليلة التي سبقت اعتقاله، ونتعرف إليه من خلال وجوده القصير في القرية، ثم نرافقه إلى عكا حيث اعتقل، وأودع في زنزانة صغيرة في سجن عكا، وصار اسمه السجين رقم 362. وفي السجن تتداعى ذكرياته فينقلنا من الحاضر إلى الماضي القريب، ثم البعيد، فالأبعد على طريقة التسلسل الزمني المقلوب. ويجعلنا ننتقل إلى أماكن شملت فلسطين كلها في رحلة تخفيه عن السلطات الإنجليزية، في دلالة على أنه ابن فلسطين كلها، وأن كلّ أماكنها جزء أصيل من نضاله الثوري.
كان بطلاً شعبياً امتد ذكره ليشمل كل أرجاء فلسطين. واتسع تأثيره ليشمل كل من يراه. اعتقاله أعاد للشعب صورة بطله الفذ، ونضاله الوطني السابق، نضاله المنسوب إلى أشخاص عديدين استعار أسماءهم. أثناء تخفيه حجب عن الشعب اسمه الحقيقي، فجاء القبض عليه، ليعيد اسمه إلى عمق ذاكرة الشعب، وليعيد ذكرى جميع الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن فلسطين. لحظة اعتقاله كانت " اللحظة المناسبة التي ولد فيها قاسم من جديد في طول الجليل وعرضه بعد غياب طويل. كالمد عاد فجأة فغذا به يملأ الجرود مرة أخرى، من الجرمق إلى ترشيحا إلى جدين إلى عكا.. وفي اللحظة التي أغلق فيها الباب الحديدي في سجن عكا على قاسم، أو عبد الكريم، أو العاشق، أو السجين رقم 362، انفتحت المصاريع عنه في كل القرى التي كانت تتواصل كالشريط البائس الخجول من صفد إلى عكا، صار فجأة وجوداً لحماً ودماً حين غاب، وحين لم يوجد منه في الحقيقة إلا أسماء لا رابطة فيما بينها مثل مزق راية مهترئة. ثمة قرى بعيدة عرفت الأخبار، وقبور سقيت بالماء من جديد، وقد تذكرها الناس فجأة، ووضعت في مزهرياتها جرود النخيل مرة أخرى"(4).
ولأن العاشق كان بطلاً شعبياً، فقد قرن النضال الوطني بالنضال ضد الإقطاع، ولذلك فرحت عائلة الرخي الإقطاعية لخبر اعتقاله، فالخطر الذي كان يهدد مصالحها زال " تنفس رجال عائلة الرخي ونساؤها الصعداء"(5). أما الشيخ سلمان الإقطاعي الذي أعجب بالعاشق وقوته، ولم يستطع إلا أن يحترمه رغم أنه يعمل أجيراً عنده، فقد عدّه مجرماً.
كان بطلاً متفرداً في خصاله، متميزاً في قوته، منزهاً عن أية منفعة ذاتية، ناذراً نفسه لهدف وطني عظيم وجليل، ومكرساً كلّ طاقاته، وجميع نشاطاته لتحقيق هذا الهدف. فعندما هرب من الكابتن بلاك على ظهر جواد جابي الرواتب، وتيقن من نجاته، ترجل عن ظهرالجواد، وتفحص الخرجين لعل فيهما طعاماً لمعدته الخاوية، فوجد مالاً كثيراً، فخاب ظنه، وأعاد النقود إلى الكيس الجلدي دون أن يعدها. لم يكن المال يشكل له أية قيمة، ولا يثير فضوله، ولذلك لم يفكر حتى بعدّ النقود، رغم أنها أصبحت بشكل ما ملكاً له، لأنه لم يعد بإمكانه أن يعيدها للجابي، لأن هذا يعني إلقاء القبض عليه.
نحت كنفاني صورة فريدة لبطله، لكنها مغرقة في الواقعية. قدّمه كالبطل الملحمي قوي البنية، شجاعاً، صلباً، متسامياً عن الخوف والألم. فعندما حلّ العاشق في قرية الغبيسة عمل أجيراً عندالشيخ سلمان الذي كان يملك القرية ومن عليها. وفي صبيحة أحد الأيام طلب الشيخ سلمان منه أن يعدّ القهوة، فامتثل لأمره، وجاء بإبريق القهوة، ودون أن ينتبه داس وهو حافي القدمين على رماد ظنه بارداً، لكنه كان ملتهباً، فلم يهتز، ولم يظهرعلى محياه أي ملمح لألم، وتابع خطواته الثابتة باتجاه الشيخ سلمان الذي كان يراقبه بدهشة ممزوجة بالإعجاب، وقدّم له فنجان القهوة بهدوء. يقول الشيخ سلمان: " رأيته بأم عيني يدوس على الرماد الذي تخلف من نار ليلة أمس الكبيرة التي أشعلناها في الساحة، ورأيت الشرر يتطاير من تحت قدميه الحافيتين، وهو يغوص في حقل الرماد الواسع، ولا شكّ أنني بدوت له مجنوناً، وأنا أحدق فيه فاغر الفم يسيربهدوء وثبات فوق النار"(6).
لم يكن العاشق بطلاً أسطورياً، أو نبياً حتى تكون لديه هذه القدرة الهائلة التي تمكّنه من السير فوق النار. لقد كان فلسطينياً، وفلسطين هي التي صيرته قوياً خارقاً. كان يعمل في مزرعة الشيخ سليمان، ليتوراى عن الكابتن بلاك الذي يجدّ في طلبه، فإذا بدا ضعيفاً، إذا خاف، واهتزّ وسقط إبريق القهوة من يده، وهو وحده، والشيخ سلمان في ذلك الصباح، لما أبقاه في عمله لحظة واحدة. فلسطين جعلته يتغلب على الضعف الإنساني، ينتصر على الألم الجسدي، فيبدو رجلاً خارقاً، نبياً، أعجوبة. هكذا تراءى للشيخ سلمان وهو يتابعه. وقد قصّ الشيخ سلمان ما حدث للبطل لأهل القرية، فقال: " وظل يتقدم، كأنه يمشي على عشب، لقد هزني الرعب، وسمعت نبض قلبي جنباً إلى جنب مع الفحيح المكتوم للنار الراقدة تحت قدميه الحافيتين، وقلت بيني وبين نفسي: نبي أو مجنون. إن ضوء الفجر جدير بأن يحبل بالأعاجيب، ولكنه وصل، وقف أمامي بالهدوء ذاته، فيما أخذت أحدق إلى قدميه، كان الإبهامان فقط يرتفعان عن التراب بحركة راجفة. سكب القهوة بثبات، ووضعها على الحجر المستدير إلى جانبي، وتحرك مبتعداً دون أن يوليني ظهره"(7). وعندما سأله الشيخ سلمان لماذا فعل بنفسه ما فعل، نظر إلى إبريق القهوة، ولم يجب، فلم يكن بمقدوره أن يخبره عن الألم الذي اخترقه حتى العظم. يقول البطل: " لم أنتبه إلا حين خطوت الخطوة الأولى فوق الرماد. لقد بدا لي بارداً في ذلك الفجر المسالم، لم يخطر في بالي على الإطلاق أنه كان مجرد فخ ملعون، وأحسست بالنار تسلخ راحتي قدمي، وكدت أسمع نزيز الدم ينطفئ بصوت مسموع تحت بدني"(8).
إذاً، كان البطل رجلاً من لحم ودم، يخترق الألم جسده، ويشتد عليه الوجع، لكنه يظل جلداً، صلباً، متماسكاً، لأن نضاله يتطلب ذلك. إنها لحظة في غاية الروعة والإشراق يلتقطها كنفاني ليرسم قسمات المناضل الفلسطيني المتفوّق على ذاته، المصعد لطاقاته حتى تكاد ترتفع فوق طاقات البشر. يفسر العاشق في مونولوج داخلي على ما أقدم عليه، فيقول: " إنني لو تركت إبريق القهوة يسقط من يدي ذلك الصباح الساكن، وأنا وهو وجهاً لوجه وحدنا في هذا العالم، لما تيسر لي أن أظل هنا لحظة أخرى، ولما تيسر لي أن أرى سمرا (فرسه) مرة أخرى، ولكانت قدماي، على أي حال قد احترقتا أيضاً"(9). هكذا يحاكم البطل الأمور في غمرة صراعه مع الألم، فالصمود يعني النجاة، والضعف يعني الطرد من العمل، والتعرض للاعتقال.
هذه الحادثة جعلته يلقب بالغبيسية بالعاشق، فما فعله كان مثار إعجاب أهل القرية ودهشتهم، ورأى أستاذ مدرسة القرية أن " هذا شيء لا يحدث إلا لعاشق"(10). والبطل كان عاشقاً لفلسطين. وَتَجَلّي عشقه في هذه الحادثة أدى إلى اعتقاله؛ فقد طلب الشيخ سلمان من القيّم على المزرعة أن يكلف العاشق بعد أن نال احترامه وشديد إعجابه أن يحمل الخضارعلى ظهور الحمير كل صباح إلى حسبة عكا. لم يستطع أن يرفض طلب الشيخ سلمان، وقد انتقاه من بين جميع العاملين، رغم خشيته من الاعتقال. وفي المرة الأولى لذهابه إلى عكا حدث ما توقع، فألقي القبض عليه.
أجمع كلّ من التقى بالعاشق على فرادته، وعلى حضوره الآسر، وعظيم تأثيره بمن حوله أينما حلّ. يقول رئيس عمال الشيخ سلمان: " رأيت في عيني العاشق وميضاً مخيفاً... إنه نوع من الرجال ينبت فجأة أمامك فإذا بك غير قادر على نسيانه، وبدل أن يتجه مثل كل الناس إلى الأشياء، تتجه إليه الأشياء من تلقائها"(11).
صبره وقوته الروحية التي تشع من عينيه سر انجذاب الناس إليه. وكبرياؤه وشموخه يضفيان عليه هالة تجعل كل من يراه يحترمه، ويرى فيه رجلاً غير عادي. كان يبدو بحاجة ماسة للعمل عندما ذهب إلى ترشيحا، وتوجه إلى الحاج عباس طالباً العمل في حقول التبغ، لكنه لم يتصاغر، ولم يستجد الحاج عباس. طلب العمل " دون أن يلح، ودون أن يتكلم كثيراً، ودون أن تبدو في صوته رنة استجداء صغيرة"(12).
عندما كان يتألم، وعندما يحتاج إلى التواصل مع أحد كان يلجأ إلى فرسه، فهو كالبطل الملحمي تربطه روابط قوية بفرسه التي تعرف همومه وأوجاعه، تحنو عليه، وتحفظ سره، وتشاركه الفرار، وتفتقده إن غاب. كانت الفرس الأصيلة شطر نفس العاشق، والبديل عن فقد التواصل الحقيقي المفروض عليه في سنوات تخفيه. كان يحدثها وتحدثه، وتشد من أزره وتقوي عزيمته. فعندما احترقت قدماه، ورأت ألمه، وشاهدت قروح قدميه مسحت جراحه، وطمأنته أن القروح ستلتئم سريعاً، ثم تركته يأخذ قسطاً من الراحة، وكأنها كائن إنساني في غاية الرقة والمودة. يقول: " أسقطت قدمي في بركة شرب الخيل. في البدء انداحت حولهما غيوم رمادية أخذت تحمر رويداً رويداً، وأحسست بلسع البرد يمتزج بأنين الجروح، ثم جاءت سمرا فشمت الماء ونظرت إليّ برهة، ثم تقدمت فحكت أنفها الوردي فوق كتفي وقالت: إن القروح لن تلبث أن تلتحم، فقمت معها إلى كوم التبن حيث جففت قدمي، وهناك تركتني أتمدد ريثما تجف القروح"(13).
لقد رسم كنفاني صورة بديعة لعلاقة العاشق بالفرس، فجعلهما يتوحدان، ويتساويان، ويفهم كل منهما أعماق الآخر. يقول الشيخ سلمان واصفاً علاقة العاشق الفريدة بالفرس: " هزّ رأسه ونظر في عيني الفرس، ورأيتهما يبسمان لبعضهما، ثم يسيران معاً دون أن يقود أي منهما الآخر"(14).
أنسنَ كنفاني الفرس، وجعلها تعينه على أداء مهمته الوطنية، كما كانت تعين أبطال الملاحم والسير الشعبية. كانت رفيقة دربه، وشريكة نضاله، يمتطي صهوتها، فتبعده عن عيون أعدائه. عندما كان يلتقي بفرس أصيلة إبان تخفيه كانت تنقاد له دون تردد، فالفرس الأصيلة تعرف أقدار الرجال، تعتزّ بمصاحبتهم، وتحزن لفراقهم. فعندما امتطى صهوة جواد الجابي ليهرب من ملاحقة الكابتن بلاك استجاب له بسرعة، وكان فخوراً لأنه يلازم مناضلاً: " سميته (ريح) فاستجاب دون تردد، ومضى ينفض عرفه معتزاً، وقابلاً لشراكة الفرار... وسميت نفسي (قاسم) وكان ريح أول من عرف، ومضينا طوال الليل نسير ونتوقف، ونغفو قليلاً، ونتحادث، ونغني بصوت خفيض، ونبحث عما يتعين علينا أن نفعل. وفي الصباح اتفقنا أن نودع بعضنا، فليس من الصالح بعد أن نظل معاً. نزلت عن صهوته حين كانت الشمس تشرق، ومشطتُ عرفه بإصبعي فنوّح دون أن يفتح فمه، وأخذ يهزرأسه، وينفض عنقه، وينقل حوافره، وهوعلى باب قرار صعب، ثم استدار، فخبطت راحتي على مؤخرته. مضى بطيئاً أول الأمر، وهو يطاطئ رأسه، ثم انطلق دون أن يلتفت، وأخذ يرف في الصباح كالراية حتى غاب في الغبش"(15).
لم يكن الجواد حيواناً أعانه على الهرب وحسب، بل كان رفيقاً محباً، ومخلصاً ومعنيّاً بنضال البطل، ولذا يناقشه بما يجب أن يفعل ليبعد الخطرعنه. اقتنع ريح بضرورة الفراق، لكنه كان حزيناً، غير قادر على النظر في وجه فارسه. أما سمرا الفرس التي التقاها في مزرعة الشيخ سلمان، فقد آلمها اعتقال العاشق؛ فقضت " تصهل طوال الليل، وتضرب أكوام التبن بحافريها الدقيقين"(16) " شبت سمرا على قائمتيها الخلفيتين وأخذت تصهل صهيلاً ممطوطاً كأنه النّواح"(17).
لقد جسّد (العاشق) طموح غسان كنفاني في رسم ملامح البطل الملحمي في التاريخ الفلسطيني، فبدا يتمتع بقوة جسدية وروحية خارقة، لكنها واقعية في الوقت نفسه. هو رمزللبطولة الملحمية الشعبية المشبعة بنبل المقصد والهدف. وهو أيضاً نموذج للمناضل الفلسطيني الذي أنجبته أرض فلسطين، فمنحته شدة البأس، ونقاء السريرة، ونبذ كلّ أشكال الظلم والعدوان. ورغم نموذجيته، ظل شخصية إنسانية مستقلة، وذات ملامح خاصة، وبذا حقق البطل النموذجي الفردية التي يجب أن تتوافر في البطل الروائي.
قدّم كنفاني بطله من خلال ثمانية أصوات روائية: الراوي المؤطر للحدث، البطل، الشيخ سلمان، رئيس عمال مزرعة الشيخ سلمان، الحاج عباس، رئيس عمال الحاج عباس، الكابتن بلاك، زينب. لقد أراد لبطله أن يُرى من زوايا مختلفة، ومن خلال وجهات نظر متعددة، ليحيط بجوانب شخصيته، وليظهر تميّزه الذي أجمع عليه الرواة الستة الذين احتكوا به، وليجمع خيوط ملاحقة البطل، وإلقاء القبض عليه، والظروف التي عاشها أثناء ذلك.
الراوي الذي يمثل الكاتب اضطلع بمهمة التوطئة لسرد الرواة، وتوجيه السرد، ونقله من راوٍ لآخر، ومن حدث لآخر. أما البطل فقد أسهم بالقسط الأكبرمن السرد*، لينقل بعضاً من مشاعره، وجزءاً من حياته في الماضي وفي الحاضر. هذا الجزء المتمثل بملاحقة الضابط الإنجليزي له لثلاث سنوات، وانتحاله أسماء عديدة، وانتقاله من مكان لآخر، ونجاحه بالهرب لأكثر من مرة بعد دنو اعتقاله.
وكما فعل كنفاني في رواية (رجال في الشمس) ورواية (ما تبقى لكم) تتداخل الأصوات الروائية، وتتمازج لتروي حادثة واحدة. هذا التداخل لا تمليه فوضوية التداعي الحر، وإنما إرادة الكاتب في أن يكون سرد كل شخصية دقيقاً مقنناً بلا استطالات التداعي الحر. وهذا يعني أن كنفاني أفاد من التقنيات الروائية الحديثة بالقدر الذي يساعده على كشف عالم بطله، وإضاءة اللحظة التي يتحدث عنها. والموقف الروائي هو الذي كان يملي عليه اختيار التقنية التي من خلالها يتواصل بطله مع القارئ بعفوية وحميمية، فعندما اعتقل البطل عمد الكاتب إلى أسلوب المونولوج الحر(18)، ليرسم انفعالاته، وما يعتمل داخله، وهو خلف أبواب السجن.
ولأن الكاتب لم يعن بتقديم تجربة شخصية لفرد يعيش حياة فردية، ويبين موقفه منها، بل أراد أنّ يقدّم تجربة نضالية متميزة تختزن نضال شعب بأكمله، لم يتوقف عند تفاصيل حياة بطله. كل ما ذكره أنه من " تلال ترشيحا" (19) وأن أمه سورية تركته وحيداً يتدبر أمره بعد أن وصلها خبر وفاة والدها، ووضعته أمام خيار صعب، إما أن يلحق بها ليعيش عند أخواله، وإما ان يظل وحيداً بلا معين(20). وأعتقد أنه لو قيض لكنفاني إتمام الرواية لما زودنا بجزئيات حياة العاشق، ولكان رصد ديناميته الثورية، ومواقفه الطبقية، ولربما جعله يعيش تجربة النكبة، كما عاشها عدد من الثوارالفلسطينيين.
لقد رسم غسان كنفاني صورة ناصعة للمقاوم الفلسطيني المتجذر بالأرض، المنتفض بوجه المحتل، المتعالي على الجراح، العاشق لفلسطين، والعاشقة له. وما زال العاشق يعيش بيننا بكبريائه الإنساني والوطني بعد أكثر من خمسين سنة على تجليه. وما زال أحفاده المقاومون يزلزلون الأرض تحت أقدام ورثة المستعمرالبريطاني، ويثبتون أن العاشق لا يهجر أرضه، ولا يتخلى عن معشوقته مهما طال الزمن وعظمت التضحيات. إنه البطل المنقذ والمخلص، الذي تتصل البطولة بجميع سماته، والذي ينعقد عليه الأمل في التحرير.
_________________________
- غسان كنفاني: الأعمال الكاملة، المجلد الأول، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت،ط3، 1986، ص 447
- المصدر السابق، ص433
- المصدر السابق،411
- الآثار الكاملة، المجلد الأول، ص.ص 439- 440
- المصدر السابق، ص440
- المصدر السابق، ص423
- المصدر السابق ، ص424
- المصدر السابق، ص.ص 424،423
(9) ( 10) المصدر السابق، ص427
(11) المصدر السابق، ص.ص 431،430
(12) المصدر السابق، ص455
(13) المصدر السابق، ص 427
(14) المصدر السابق، ص 423
(15) المصدر السابق، ص 449
(16) المصدر السابق، ص 440
(17) المصدر السابق، ص433
* اضطلع البطل بمهمة السرد (16 مرة) ، الرواي ( 7 مرات)، الشيخ سلمان ( 4)، الحاج عباس (4)، رئيس عمال الشيخ سلمان (2)، الكابتن بلاك (3)، رئيس عمال الحاج عباس (1) وزينب (1).
(18) انظر: الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص436-439
(19) المصدر السابق، ص428
(20) المصدر السابق، ص 455