يراهن الكاتب العراقي على هذا النوع من السرد، والتصنيف (رواية قصيرة جدًا) ويدعو النقاد إلى دراسته، وتأصيله. ويشي عنوان هذه الرواية القصيرة جدًا بالغليان، غليان الصراع بين الموت والحياة، غليان الصراع بين المعتقدات والآراء، غليان العلاقة بين الانسان والطبيعة، فهل ستخفف هذه الرواية القصيرة جدًا من شدّة الحمّى!!

هذيان محمــوم

(رواية قصيرة جداً)

حمـيد الحـريزي

 

1

كما تتهاوى ورقة صفراء على الأرض بفعل  ريح عاتية، عجزت  يده عن هش ذبابة أثارت طنينا مزعجاً بالقرب من أذنهِ اليمنى، أصابه الهلع والخوف وهو يرى قطيعاً من الذئاب مكشرة الأنياب تحاول أنْ تدهم غرفته بعد أنْ نجحت في دخول الدار قفزاً، صرخ بأعلى صوته بوجه قطيع الذئاب ولكن صراخه لم يثر اهتمام حتى  الذبابة التي ازداد طنينها.

استعاد توازنه ليهزأ من نفسه، وأسئلته البلهاء حول سن الذيب في حين يقترب الذئب منه رويداً رويداً، وتزداد عيونه احمراراً كأضوية (البك لايت) لسيارة تسير في شارع مظلم. اقترب الذئب متشمماً قدميه العاريتين، بحركة لا إرادية رفسه بكل قوة الخوف الذي هيمن عليه، فكانت رفسة مؤلمة في خاصرة زوجه التي نهضت فزعة مرعوبة تزداد صراخاً بوجهه هازئة من حركاته العشوائية ومحاولاته التمسك بها كمن يلوذ بحضن أُمه هرباً من وحشٍ كاسر .. بعثت نداء الاستغاثة إلى كل أفراد العائلة الأولاد والبنات وحتى الأطفال عسى أن يساعدوها على ما حل بوالدهم وتصرفاته غير المفهومة ..

هرع أفراد العائلة صوب الغرفة وكأنهم قطيع هارب، عيونهم تبث أسئلة استفسارية عما حدث لعمود البيت الرجل المهيب ملاذ الخائفين!!

لكن أسئلتهم ترتد عليهم شفاه تتحرك ورقبة تتشنج وتستطيل، فم مفتوح، أصابع تؤشر إلى مجهول مرعب لا يراه أحد، تتناوب مظاهر متناقضة على وجه حامد المعروض أمام أنظار المتسائلين، يظهر أحياناً بدور الغاضب الصارخ بلا صوت، يتهدد ويتوعد بلا حركة، يتلوى بكفّيه عشوائياً كمن يشتبك مع أحدهم في معركة ضارية، يبدو أنَّ أفراد عائلتي متواطئين مع من يريد أن يخنقني ويخمد أنفاسي، أمن المعقول أنَّهم لا يرون هذا العملاق المخيف؟؟

هل هذا هو الموت يا أبيقور، يا من لا تخاف الموت؟

(أيَّها الإنسان لا تخف من العدم لأنك كنت سابقاً في العدم، كنت عدماً لمليارات السنين، لا تملك خبرة واحدة للعدم، فكر في كل الزمن الذي مررت به قبل أن تولد...) أبيقور

ارتسمت على وجه حامد ابتسامة الفرح وتحدي الخوف، مما أثار استغراب أفراد العائلة  وتساؤلاتهم. فمن أي شيء يسخر حامد؟؟

سارعت الزوجة إلى القرآن لتتلوا سورة ياسين، فأخذت تقرأ وتنفخ آيات بوجهه علّه يستريح ... في حين أخذ أحدهم يرشه برذاذ ماء بارد علّه يستفيق من حلم أو كابوس مخيف.

الثالث أسرع إلى أسماعه صوت فيروز، فاختلطت الأصوات وتداخلت الصيحات والهمهمات والشيخ يبدو لا يسمع ولا يرى.

حضر العم (المعمّم) ، يحوقل، ويبسمل كعادته دائماً عندما يزورهم، دخل إلى غرفة أخيه فأسكت صوت فيروز، وأنفض أفراد العائلة ليفسحوا المجال للشيخ ليرى الحال ويقول مقاله..

معلناً للجميع بأن (حامد) يعاني من سكرات الموت وتترآى له الآن أشباح ملك الموت المأمور بقبض روحه ... دعك جبهته المختومة بختم أسود مستدير مردداً: إنا لله وإنا إليه راجعون.

انتهى  الطبيب من فحوصاته الروتينية جمع أدواته وهمّ بمغادرة المنزل بعد أن انفرد بالابن الأكبر مخبراً إياه أن حالة والده خطرة.. لابد له من التماسك والصبر فهو كبير العائلة. استحضر عناوين وأرقام هواتف الأقرباء والأصدقاء.

أخذ الشيخ يردد على مسمع حامد الشهادتين ويطلب منه أنْ يرددها من بعده وفي هذه اللحظة علت شفتي حامد ابتسامة حقيقية موجوعة مردداً مع نفسه بما يعني بهذه الشهادة والإشهار بها، ألم يكن الله هو العالم بكل ما تضمر النفوس؟؟!!

يتجاهل حامد هذا القول، عيناه تدور (حامد) على الجالسين قارئاً ما تضمر نفوسهم بين من هو فرح برحيله  وبين من لا يريد ذلك ولكل منهم حاجة في نفسه، متسائلاً هل تنكشف أسرار الآخرين للإنسان الذي يعاني سكرات الموت فيطلع على ما يضمرون؟؟

يسمع حامد: وأنا كيف تتركني في مثل هذا الوضع دون أنْ تحدد مصيري وتموت؟ كيف يموت المؤلف قبل أن يحدد مصير البطل ضمن روايته الجديدة التي لم تكتمل بعد؟!

عينا حامد تذرف الدمع متعاطفاً مع أسئلة أحفاده الصغار وتساؤل بطل الرواية، يستعرض عناوين كتبه العزيزة التي لم يتمكن من قراءتها لحد الآن ... أننا أيتامك  أيها المغادر...

تتصاعد حسراته. تأخذه شبه إغفاءة  متسائلاً هل سيجد الإنسان بعد يوم الحساب في الجنة مكتبات تضم مئات الملايين من الكتب الصادرة من قبل البشر أثناء حياتهم سواء بشكلها الورقي أو الإلكتروني أو أي شكل  أخر حيث يكون الكتاب أمام القارئ  حال رغبته في ذلك وبأي لغة سيكون مطبوعاً وهل ستحول أوتوماتكياً إلى لغة القارئ؟  هل البشر هناك يتكلمون كل بلغته أم بلغة واحدة موحدة؟

إذن ماذا سيفعل الإنسان في جنات الخلد سوى ممارسة الجنس وأكل  كل ما لذ وطاب ويشرب من أنهار العسل والخمر واللبن؟. وأرجح أن يكون الناس بعمر المراهقة والشباب وإلا ما فائدة الغلمان والجواري؟؟

-هل يمكن أن يرون الله، أو يسمعونه مباشرة أو عن طريق وسيط ربما يكون من الملائكة؟

يخرج من غفوته على أثر صرخة ملتاعة من إحدى بناته وهي تراه على فراش الموت، فيبسمل له المعمم لتهدئته ...

يتلمس حامد فراشه الوثير وغطائه الأثير المعطر وسط غرفته الجميلة الفسيحة المبردة صيفاً والدافئة شتاءً، مقارناً كل هذا مع الصندوق الخشبي العفن والضيق ناتئ المسامير الذي سيلقى فيه بعد أن تخمد أنفاسه، والأدهى من ذلك بأن هذا الصندوق القذر سيوضع فوق سقف سيارة ويربط بالحبال معرضاً لحرارة الشمس اللاهبة والرياح المغبرة صيفاً ولزخات المطر والبرد في الشتاء دون رحمة ودون احترام من قبل أقرب الناس إليه ومن الذارفين الدموع نفاقاً عليه فلا يحمل في سيارة خاصة مكيفة كبقية البشر في نقل الجنائز.

صرخ حامد بأعلى صوت يا أحبتي أنا لا أريد أن تقام على روحي الفاتحة وتولم الولائم، يكفيني أنْ تزرع على قبري شجرة واحدة مزهرة .

بعد أن أستمر حامد يعاني من سكرات الموت ولم يلفظ أنفاسه الأخيرة، قرر شقيقه المعمم أن يقرأ له دعاء (العديلة)، رغبة منهم في تسريع موته، فلم يطيقوا وجوده!!

حامد كان يلعب لعبة القط والفأر مع العملاق الأسود الذي يمسك بكيس الخنق وهو يحاول أن يغطي به رأسه، في حين كانت الذئاب تملأ الدار عواءً مخيفاً وكأنَّها تسابق صاحب الكيس على الضفر بالفريسة ترآى له إنَّهم يضعون القيود في يديه، ويطوقون رقبته بحبل مشنقة أخضر اللون.  أستمر على هذا الحال لثلاث ليالٍ متتالية، في صبيحة اليوم الرابع وبغفلة منه تمكن العملاق أن يدخل رأسه في الكيس الأسود، فغاب عن ناظريه كل شيء، فلم يعد يبصر شيئا لا قريب ولا بعيد، ولكنه يسمع ارتفاع أصوات البكاء والعويل من قبل النساء والأطفال، وأصوات الترجيع والحوقلة من قبل بعضهم، وقد كان شقيقه مستاءً منه جداً لأنه لم يسمع منه ترديد الشهادتين.

سارع ولده الأكبر إلى جامع الحي ليجلب التابوت. في المستشفى أُكْمِلت إجراءات تحرير شهادة الوفاة، ومن ثم التغسيل والتكفين  بعد أنْ تم وضع الجثمان في التابوت المتهالك وربط على ظهر سيارة نوع ستاركس، ثم أعيد ليركن في باحة الجامع لتتم مراسيم التشييع في الساعة الرابعة مساءً، فأنتفخ غيضاً حتى كاد أنْ ينفجر.

أخذ الناس يتوافدون إلى المكان للمشاركة في التشييع  والدفن، تستقبلهم أكثر من لافتة في تقاطع الطرق وعلى واجهة الجامع وعلى سياج الدار تبلغ بوفاة الوجيه والأديب حامد آل فلان الفلاني، والد كل من فلان وفلان، وشقيق كل من فلان وفلان، طبعا دون ذكر فلانة وفلانة سواء كن بناته أو شقيقاته أو زوجته. لم يكتب حامد مؤلف كتاب كذا وكذا، فهذا بنظرهم غير مهم  مما جعل مؤلفاته تذرف دموع الوجع والألم بسبب تجاهلها.

-أيَّها الجهلة مؤلفاتي هي عصارة فكري وعقلي، عصارة تجربتي الحياتية، أنا وحدي تفردت بولادتها من دون كل كائنات الأرض فلا أحد يستطيع أن يخلق روايتي أو قصيدتي أو مجموعتي الشعرية أو قصصي، في حين يمكن لكل مخلوق حي إنسان أو حيوان أو حشرة أنْ ينجب أولاداً وبناتاً قدر ما يشاء.

همس وغمز ولمز من قبل المشيعين حول ذكريات ماضية مع المرحوم... حديث قدح أو مدح... بعد سير عشرات الخطوات من الجامع أعيد تكبيل التابوت على ظهر الستاركس متوجهين إلى مثواه الأخير، وشارك في موكب الجنازة سرب كبير من سيارات المشيعين الأقرب إلى حامد وأسرته.

في ضريح الأمام صلى عليه أحد الشيوخ الذي كان حصته في الصلاة، يضحك حامد في سره من هذه الصلاة، كأن صلاتهم جواز مرور للانتقال من الحياة الدنيا إلى الآخرة؟!

يتقدم الجنازة شخص رث يصيح بصوت أبح مشروخ: لا إله إلا الله .. لا إله إلا الله .. وكأن الله  لا يوجد إلا حينما يصوّت هذا الرث.

توغلت الستاركس بصعوبة بالغة في الممر الضيق داخل المقبرة وما يحدث من تقاطع بين السيارات ذاهبة  وأخرى راجعة، يستلم (حامد) لعنات حادة من أفراد الموكب المعاكس وضجر وجزع المشيعين بسبب هذا التدافع وتوقف السيارات وحرارة الجو التي لا تطاق.

أضطر المشيعون إلى حمل التابوت على الرؤوس لبلوغ قبر المرحوم بعد الاضطرار بالسحق على الكثير من القبور المجاورة وهم يجتازون الممرات الضيقة والقبور المتداخلة مع بعضها. يوضع التابوت بالقرب من اللحد الذي أنشغل بأعداده الحفار بأشراف الدفان الحاج (ص) ، وهو الذي سينزله اللحد ويلقنه: من هو ربك؟ ومن هو نبيك؟ ومن منهم أئمتك؟ . يلقنه كيف سيرد على منكر ونكير داخل القبر؟، وقد كان لسان الدفان يبدو معوجاً وكلماته غير مترابطة حيث شم حامد رائحة الويسكي في أنفاسه أثناء التلقين بعد ليلة أنس ماجنة كعادته كل ليلة.

بالقرب من القبر يتعالى صوت (مكبرة  صوت) لأحد المتاجرين بمصيبة الإمام الحسين وأهل بيته على أهل المتوفى مقابل عطايا من حضر الدفن . يشعر حامد بالغثيان  ليس من  ثقل التراب المُهال على صدره، بل من سوق المزاد والبيع والشراء الذي يجري فوق  قبره وجميعها باسم الله ورحمته  وشفاعة الأنبياء والأوصياء!!

بالتدريج ينفض الجميع من على القبر وعندها يشعر حامد بالراحة للخلاص من سلوكيات النفاق والزيف وسوق المزايدة ليخلو بنفسه استعداداً لمقابلة (منكر ونكير) كما  يقولون، أو لتبدأ عملية تحلله إلى عناصره الأولى بواسطة البكتريا والديدان الصغيرة ليعود ثانية إلى رحم الطبيعة  ليتجسد في جسم حيوان أو نبات جديد كما  يقول أهل العلم كما ردد (الخيّام)  بالقرب منه:-

(كل عشب يبدو بضفة نهر ... قد نما بشفاه ظبي أغر

لا تطأ ويحك النبات احتقاراً ... فهو نام من مزهر الخد نضر).

 

2

بعد أن هدأت مظاهر المقبرة وغادر الجميع أسترد (حامد) أنفاسه، اشتاقت روحه إلى رؤية حبيبته زوجته وماذا حل بها، حامت الروح في غرفة النوم، فبدت (هيام) كتلة سوداء من رأسها إلى أخمص قدميها، متورمة العينين، مخموشة الخدين، مدماة الوجنتين، متورمة الصدر، الأسود، إخفاء علبة الزينة، حرصت على أنْ تكون الأعلى بكاءً وصراخاً ولطماً حينما تقوم (الملّة) باللطم وذكر محاسن المرحوم وهي تعدد مما فيه وليس فيه من صفات الكرم والشجاعة والعلم مستذكرة ما رواه أحد زملائه حول رثاء (العدادة) لحد أبناء الجنوب الذي يعمل عامل نظافة في بغداد بعد أن توفاه الله وأسمه (مطنش) قائلة :-

(بعد عيني عله مطنش

حواج البواري المايخرنش

يكنس بالنهضة وحسه هنا). يعني في العمارة.

أو المبالغة غير المعقولة للمهاويل حينما يشيعون جنازة أحد المسؤولين أو الوجهاء، فحينما شيعوا أبو (كشيّش) عضو الشعبة في الحزب في مدينته، وصفه المهوال بهذه الأهزوجة:-

(ها ها ها أبو كشيّش موش ميت بل بالسمِه موجود

أهو وعيسى بن مريم جاعد عله فرد كرسي كعود

حجيه من حجي ربه ما عليه أبد منكود

ها خوتي ها ..  ربه اعتازه وده عليه ..  اسمع يكشيّش )!!

تسيل دموع (حامد) وينفث حسرات كالجمر لما رآه من حال حبيبته التي عاش معها أجمل أيام حياته، عبر وصايا وتعليمات فرضتها الأعراف والتقاليد والخرافات السائدة، طبعا مثل هذه المحرمات لا تفرض على الرجل  مطلقاً ...

ينسبون كل أمر إلى الله كالفقر والغنى، السلطة والوجاهة والمال والنساء والبنين، مما لا يستقيم مع العقل الحكيم، أو يدفع بعض الناس إلى الكفر بهذا الإله غير العادل في توزيع الهبات والصفات على مخلوقاته من دون عدل،  حيث سمع المعري ينشد:-

(لا ذنب يا رب السماء على امرئ ... رأى منك ما لا يشتهى فتزندقا)ا

يتمنى (حامد) الآن أنْ تكون بجانبه علبة سكائره المفضلة لنفث همومه مع دخانها متسائلاً: هل توجد السجائر والشاي في العالم الآخر في الجنة أسوة بالخمرة؟ حيث لا يلذ الشراب من دون السجائر ولاتطيب السجائر دون الشاي والقهوة، أم أنَّ تعاليم الصحة نافذة المفعول هناك حول منع التدخين مع استثناء الخمرة على الرغم من كونها تسبب تشمع الكبد وتفقد العقل كما يقولون. فربما يكون الإنسان المؤمن في حالة نشوة وسكر دائم في الجنة  فيتجاوب معه الخيام في رباعياته:-

(ما شهد النار والجنان فتى ... أي أمريء من هناك قد جاء

لم نر مما نرجو ونحــــــــــــذره ... إلا صفــات تحكى وأسمــاء)

تتمسك العوائل أنْ يكون على مائدة الطعام يوم الأربعين ما لا يقل عن أربعين نوعاً من الطعام، ولماذا مثلاً لم توضع دنان الخمرة على المائدة وهي من أحب المشروبات لبعض الموتى حباً ووفاءً لهم، وهي موجودة في الجنة؟؟ فأنشده الخيام قائلاً في الخمرة:-

(مذ ازدهرت بالبدر والزهرة السما ... إلى الآن لم يوجد ألذ من الخمر)

_ أخي شيخنا العزيز ألا تقولون أنًّ هذه الموائد المبالغ فيها لغرض أطعام الفقراء ليترحموا على روح المرحوم، لكني لا أرى في ولائمكم وعلى سماط موائدكم سوى الأثرياء والوجهاء وأصحاب الكروش، ولا يقدم للفقراء أن حصل سوى فضالة هؤلاء الموسرين المتخمين فأين هو الثواب؟ يستذكر حديثه مع الشيخ عندما توفي والده..

يستشيط الشيخ غضباً متلمساً عقاله كأنه يعبر عن رغبة بضرب حامد بهذا العقال حتى يكف عن اعتراضاته قائلاً:

-نحن لم  نفعل عشر ما تفعله العشائر ...

ليس هناك من مهزلة أكثر من مهزلة أن يؤجر أحدهم ليؤدي الصلاة بدلاً عني، أو يصوم أو يحج بدلا عني مقابل أجر ... كمن يدفع البدل النقدي حتى يعفى من خدمة العلم، دائماً هناك مخرجاً للأثرياء للخلاص من التزاماتهم في الدنيا والآخرة!!

أما الفقير إلى نار الدنيا والآخرة، فأية عدالة هذه؟

-أستاذ حامد يبدو لي إنَّك من عالم آخر، أو إنَّك متأثر بأفكار بعض الملحدين الذين لا يقيمون وزناً لهذه التقاليد والعادات.

-أنا لا أعتمد غير العقل الراجح والذي يزن بموازين المعقول واللامعقول

(وعن اعتقاده بان الحج ما هو إلا طقوس وثنية يرفضها العقل

وما حجي إلى أحجار بيت كؤوس الخمر تشرب في زراها

إذا رجع الحكيم إلى حجاه تهاون بالمذاهب وازدراهــــــــا

ما الركن في قول ناس لست أذكرهم إلا بقية أوثان وأنصاب

أرى عالما يرجون عفو مليكهم بتقبيل ركن واتخاذ صليب).

(أيها الغرّ إنْ خُصِصْتَ بعقلٍ فاتّبعْهُ ، فكلّ عقلٍ نبي

يرتجي الناسُ أن يقـومَ إمــامٌ ناطقٌ في الكتيبة الخرســاء

كذب الظنُّ لا إمام سوى العقل مشيرا في صبحه والمســاء

فإذا ما أطعـتــه جلب الرحمة عند المسير والإرســـــــــــاء

إنما هذه المذاهب أسبـــاب لجذب الدنيا إلى الرؤســـــــــاء)

ينتفض الشيخ غاضباً، لا حديث لي معك ومع معريك الكافر هذا، ينفض الشيخ عباءته ويغادر المجلس غضباً من طروحات حامد وسط سخط ممن في المجلس على حامد وأفكاره غير المعقولة كما يدعون ومغايرة للعرف القائم ...

تعددت لافتات الأخبار عن وفاتي في صفحات التواصل الاجتماعي. تصدر الشيخ باب الجامع مخرجاً إحدى يديه من (بشته) الصوفي المميز، وفي يده مسبحة الكهرب الألماني الأصلي، ما أن تطل شخصية أو شيخ عشيرة أو قبيلة أو مسؤول كبير حتى يسرع الشباب لإخبار الشيخ، فيتقدم لاستقباله ومن خلفه وجهاء العشيرة، يوسع الجالسون المكان في الصدارة للقادم المميز وتبدأ سيول مساكم الله بالخير، وكاسات الماء وفناجين القهوة، في حين لا يلتفت أحد إلى أقرب الناس إلى حامد ومحبيه، ولم يمسه أحد بالخير ولا يعرف أحد متى دخل ومتى خرج وسط هذه اللجة؟

هرع  الوجهاء لاستقبال حاكماً فاسداً معروفاً، كان لي أنا حامد معه عدد من المواجهات حد الشتيمة وقد حاول أن يودعني في السجن لمرات عديدة بعد أنْ عجز عن كسبي إلى جانبه عبر المغريات وحتى التهديدات، لم أعد أحتمل صبراً طارت روحي غضباً فعالجته بصفعة على وجهه أسقطت عقاله في باب الجامع، اعتلاه الارتباك والهلع من الضربة، سارع الشيوخ والوجهاء إلى استدراك الوضع معيدين عقاله على رأسه متمنين له السلامة عندما أوشك على السقوط  نتيجة المفاجأة وارتفاع ضغط الدم والشعور بالدوران، جلس وسط الجمع الذي حف به دون أن يعي ما حصل حتى أنه لم يقرأ الفاتحة ... وهو لا يعلم من صفعه؟ هل هو من الجن؟ أو من الإنس؟ وما حل به في باب الجامع!!

عندها أحست روحي بارتياح وعادت إلىَّ فرحة منتصرة، متوعدة كل فاسد ومنافق سيحضر إلى الجامع لقراءة الفاتحة نفاقاً وشماتة وهو يكاد أنْ يرقص فرحاً لخلاصه من شخص متهم باغتيال واحد من أعز زملائه من الأدباء. لأن حامد نغص عليه حياته سواء بالمباشر وغير المباشر عبر نصوصه الشعرية ورواياته وقصصه السردية، التي  تمزق أقنعة السفلة والجهلة والقتلة من المتخلفين والمدعين وسراق مال الشعب.

هل باب الجامع مسكون بالجن الذي يتربص بأشخاص معينين لأهانتهم فقد تكررت الحالة مع أكثر من شخصية؟؟

لاحظت  عدوى التقاليد  والأعراف  حتى على أقرب الناس مني فكرياً وقناعات، فبدلاً من أن يقيموا لي أمسية أو جلسة للحديث عن منتجي الإبداعي والفكري المخالف لأغلب هذه التقاليد  وهذه المراسيم الفارغة من المعنى ... أكثروا من  أقامة الولائم الباذخة وقراءة سورة الفاتحة لا لشيء سوى سد رغباتهم لالتهام الطعام بأنواعه ليسد نهمهم للأكل والادعاء بحبي ليس أكثر.

في اليوم الثالث من الفاتحة اكتظ الجامع بالحضور في حين اكتظت القاعة المجاورة بصواني التمن المكللة بأكوام من اللحوم والمرق والفواكه والألبان والمشروبات الغازية والحلويات ووو، حيث توافد الجمع ليحيط بمناضد الطعام بعد أن أكمل (الروزخون) بكائيته والدعاء بالرحمة والمغفرة للمرحوم صاحب الذكر الطيب والفكر النير والأدب الرفيع، في حين كان يصفه في حياته بالملحد والزنديق وعدو الدين والمذهب ولكن يبدو إنَّ رزمة المال التي استلمها من الشيخ مسحت كل هذه الصفات. بعد الوليمة تدافع أصحاب القدور من الفقراء لتملأ بالفائض من الطعام في حين تزاحم الأطفال الحفاة حول بعض (الصواني) لالتهام التمن ومصمصة العظام وبقايا لحم فائض من المكروشين وهم يصفونهم بأقذر الصفات لأنهم لم يتركوا لهم شيئاً من اللحم، أفرغ عدد منهم بقايا الصواني بأكياس النايلون لأخذها إلى أهلهم ..

يتذكر حامد كروحٍ إنَّه قدم مقترحاً خلال حياته أن يوضع في باب كل جامع أو مسجد تكون فيه فاتحة صندوق يقوم قارئ الفاتحة بوضع مبلغ من المال في الصندوق قدر استطاعته تضامناً مع أهل المتوفى ومساعدتهم على تحمل أعباء الفاتحة وتكاليفها وعلى وجه الخصوص بالنسبة للعوائل الفقيرة  المضطرة  على أقامة هذه الفواتح، ولكن لم يستجب له أحد!!.

 

3

عمّ الصمت حول قبر (حامد) ما عدا بعض أصوات  نواح  تصل مسامعه من ثنايا المقبرة  من قبل ذوي بعض الموتى في المقبرة وقد بدأت الشمس تجر أذيال الغروب وانسحاب الجميع إلى بيوتهم إلا بعض حالات الدفن المتأخرة خصوصا الواردة من المحافظات البعيدة كالبصرة والناصرية والعمارة وديالى ...الخ. لقد كرس أغلب (مراجع الدين) هذه العادات  لجني مصالح شخصية  خاصة  بهم وبمن يحيط بهم من المتكسبين حول الأضرحة ... وقد سمع حامد المعري يقول :-

(اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا ... دين وآخر دَيِّنٌ لا عقل له)

وقد تبادر إلى ذهن حامد وهو يتفكر هذه الظواهر  سؤال حول عملية دفن الإنسان في تاريخ وجوده؟؟ كما تساءل حول الإسراف في بناء المساجد والجوامع كبيوت لله، فهل الله بحاجة إلى بيوت البشر ليسكنها أو ليتعبد الإنسان فيها وأخيه الإنسان الفقير يعيش التشرد والضياع،  وهم كما يقولون الفقراء عيال الله؟؟!!

بالقرب منه يشعر حامد بوجود حركة، ووجود جسم يتحرك مقترباً منه، مما جعله يشعر بالتوجس والخوف والانكماش على نفسه محاولاً العودة إلى لحده، ولكن يد على شكل ظل متحرك تمتد نحوه ممسكة به وصوت يحدثه بحرف عربي فصيح وواضح:

- لا تخف يا جاري العزيز فأنا جارك في المقبرة ولكني أقدم منك من حيث تاريخ  الدفن هنا  فلم تمض عليَّ أكثر من سنة، فقد قتلت في تظاهرات أكتوبر الشبابية المناهضة للسلطة الفاسدة الحاكمة في العراق، من الآن فصاعدا يجب أن لا تستغرب وجودي ووجود آخرين من الموتى وهو يتجولون في المقبرة أفراداً أو جماعات  من أجناس وأعمار وأزمان مختلفة  ربما  ستلتقي بأحد أجدادك أو أجداد أجدادك أو جداتك من عصور وحقب زمنية غابرة.

أستمع إليه حامد وزال عجبه حينما سمع صوت أبيقور والمعري والخيام ، فهو  لا يرى تفاصيل جسده ولكنه يرى ما يشبه خيال إنسان منعكس على جدار، أنَّه صورة  نكيتف    negative لإنسان ولكنه يتحرك ويتكلم، وقد أخبره محدثه هو أيضا يراه صورة سالبه ولكنها متحركة وتتكلم ..!!

إنَّ من قال: ((إذا ضاقت بكم الصدور، عليكم بزيارة القبور)) ، طبعا  ما كان يعني  قبورنا الحالية وبالتأكيد ستنطبق مقولتهم هذه على مقبرة (ريكوليتا) الأرجنيتينة حيث التنسيق والجمال والهدوء والزهور ونافورات الماء..  وقد تناقش الجاران كثيرا في هذا المجال  حيث  سأل  حامد  جاره:

-باعتبارك مقيم أقدم مني في المقبرة  كيف  تقيم العلاقات  بين الموتى، هل هي مشابهة لما تظهره القبور من الفوارق بين متعالي باذخ العمران وبين أخ يحتضن الأرض تواضعاً أشبه بقزم يقف بجانب عملاق يفرض هيبته ووجوده على الجميع؟؟

وقف حامد  مذهولاً مما يسمع قائلاً:

-فما أروع الموت أن كان الحال  كما تصفه صديقي، أنه حلم كبير للبشرية لم تستطع أن تحققه فوق الأرض وكما وصفه أبقور بما معناه: (إن الموت يحمل السلام والراحة الأبدية، أما الحياة فهي تجربة واحدة ولن تتكرر ثانية). فهل سيتحقق بالفعل تحت الأرض؟

وإذا كان كذلك فكيف يطلقون على انتقال الإنسان إلى تحت الأرض بالموت في حين هو المعنى الحقيقي للحياة؟ ولماذا يخافون من الموت  وهو العدم وعدم الوجود؟ وكما كتب أبقور على قبره:

(لم أكن موجودا ولم أكن أهتم، وجدت ثم لم أعد موجوداً فلماذا أهتم).

أخي حامد عليك منذ اللحظة أنْ تنسى كل ما  تعلمته  ووعيته وعرفته في الحياة الدنيا

-نعم صديقي حامد فلماذا تفكر أذا لم تستطع أنْ تغير، في الحياة كان فكرك يضج بالأحلام والأماني والأهداف القريبة والبعيدة والرغبات التي لا تحصى ولا تعد ناشداً الرفاه والعظمة والامتلاك ووو، أما الآن انتهى كل هذا الذي كان وما عدت بحاجة لكل  ذلك، فلا  أملاك ولا أموال ولا فتيات حسان وعلوم في هذا العالم يستوى الملوك والعبيد  والقديم والجديد !

-ما هي أذن  مقاييس الحزن والفرح، التعاسة والسعادة، الجوع والشبع؟

-وماذا تعني الحواس الخمس عند الإنسان في مثل هذا العيش؟

-إذاً لِمَ يوجد الشيء ونقيضه؟ ، فإما كله جمال كما في الجنة، أو كله قبح كما في النار...

-هل تستمر العبادات والصلوات قبل وبعد الحساب؟ وهل هناك صلاة وعبادات موحدة بين كل البشر أو لكل دين صلواته وعباداته؟  وما نفع هذه الصلوات إن وجدت؟ مادامت هي تنهى عن الفحشاء والمنكر ولم يعد هناك فحشاء ومنكر ولم يعد هناك ملائكة يحصون حسناته وسيئاته  فلم يعد الإنسان قادرا على فعل شيء...

-هل يتنقل الإنسان من مكان إلى آخر في عالمكم؟  وما هي وسائل النقل في مثل هذا العالم اللامتناهي؟، أم كما يقال بالرغبة فقط يتحقق المطلوب مهما كانت هذه الرغبة سواء كانت أكل أو لبس أو اشتهاء أو لقاء فرد أو الانتقال من مكان إلى آخر؟

-أخي حامد أنت أذهلتني بأسئلتك هذه وهي لم تمر ببالي منذ مماتي وسكني تحت الأرض لحد الآن، وأنا عاجز عن الإجابة عليها، ماعدا الصلاة فنحن لا نصلي ولم أر أحداً يصلي ولم يأمرنا أحداً بالصلاة، حيث لا يوجد لدينا زمن كالفجر والظهر والعصر والليل فكيف نصلي؟ وما هي مواقيت الصلاة؟.

يقترب منهم خيال أو شبح شيخ كبير تكسو فروة رأسه غيمة بيضاء تنسدل على كتفيه، أبلغهم السلام معرفاً نفسه بأنه أبيقور اليوناني أحد المشتغلين في الفلسفة قبل أكثر من 200 عام قبل الميلاد، وأنه يجيد الحديث بأكثر من لغة.

-أردت أنْ أقول أنَّ حياتك وحياة كل من الأموات تشبه بالضبط حياة الأحلام التي عشناها ونحن أحياء سواء السار منها أو المحزن، أو ما هو قريب من المستحيل أن يتحقق في الواقع، ولكنه يحصل في الأحلام، فالشعور بالسعادة والمرح وتحقيق الرغبات هي الجنة، كما إنَّ الألم والشعور بالحزن والعذاب هي النار، فلو سأل أحدهم عن وقود النار لأجاب كل منهم حسب عصره، فمنهم يقول الحطب، والآخر يقول الفحم، والآخر يقول النفط أو الغاز، وربما يجيب الإنسان المعاصر أن وقود جهنم هو الطاقة النووية!!

وكذلك لم يوعد الإنسان الصالح في الجنة بسيارات اللوميزين والجاكوار ولا بالطائرات الباذخة، والهواتف النقالة المتطورة، وهي من الأشياء والأدوات التي  حرم منها الإنسان الصالح حسب عصره، فهل ستبقى مكافآت الجنة كما عليها  أو كما وصفت زمن  نزول الكتب السماوية، حيث اقتصرت على النساء والغلمان وبعض الفواكه والخمر واللبن والتين والزيتون ولحم الطير للأكل، والخيول والحمير والجمال للحمل والنقل!!

وتكاد الأسئلة لا تنتهي في هذا المجال. فمثلا ما هو مصير البشر قبل الأديان السماوية الموحدة؟ ووفق أية مبادئ ونواميس ستتم محاسبتهم؟ ... وما مصير من لم ينزل في قارتهم نبي  كأستراليا وأمريكا اللاتينية وفي اليونان وغيرها مثلاً؟؟

- نعم أيها الأستاذ ولكن ما قولك حول يوم القيامة والحساب والثواب والعقاب؟

بعد فترة صمت قصيرة  توجه أبيقور إلى حامد قائلاً:

-((على فرض وجود ذلك، فهذه الإلهة بوصفها آلهة هي أسمى من أن تهتم بأمرك أيها المسكين المتوهم، إنّ الآلهة في عليائها تنتظرك لتموت لتحاسبك، ما وزنك أنت؟، ما قيمتك أنت في هذا العالم  اللامتناهي؟...))

-إن كل ما في الأمر ومن دون وعى الإنسان ذاته وتميزه عن الحيوان، وهو لا يريد أن يقتنع بالموت والفناء وظل يحلم بعالم آخر امتداداً لحياته الدنيا، فتصورها وتخيلها حسب درجة وعيه وتطوره في زمانه، وكانت ذروة ذلك هي الأديان السماوية: اليهودية والمسيحية والإسلام بمختلف مذاهبها وطوائفها وتشعباتها ... وحتى الأديان والعقائد غير السماوية فيها عقاب وثواب ولكن ربما على الأرض وليس بعد الممات وما نسميه بالعالم الآخر...

أيد الفيلسوف ما ذهب إليه صديق حامد مثنّيناً على ما قاله ومؤكداً كل ما قاله وإن العقل هو الفيصل وهو المرشد في كل شيء.

ارتشف كأسه وصمت.

بالقرب منهم بدت ملامح شبح لشخص قادم نحوهم، ما أن لمحه الفيلسوف حتى تعرف عليه قائلاً:

يبدو أيَّها الرفاق إنَّ جلستنا ستطول فسوف ينظم إلينا الصديق (ك) الملحد المعروف.

اقترب (ك) أكثر فأكثر وبدا نحيل الجسم أنيق الملبس ولحية فوضوية الانتشار والتوسع، يتأبط كتاباً كان قد أوصى أنْ يوضع تحت رأسه عند دفنه. حياً الجميع مصافحاً الفيلسوف الذي أحتضنه مرحباً بقدومه وحضوره في وقته لاستكمال الحوار حول الموت والحياة وما هو حاضرنا ومستقبلنا كما يرى الأستاذ (ك). رحب الجميع بقدومه متطلعين بلهفة كبيرة إلى سماع رأيه بعد الموت  وهل هو كما عرفوا وقرأوا عنه في الحياة الدنيا من خلال محاضراته وكتبه التي  تجاوزت  حواجز الممنوع  لتصل إلى أيدي القراء ...

جلس (ك) على حجرة بارزة  بالقرب من مجلس الأصدقاء، مثل حركة امتصاص دخان سيكارة محشورة بين أصابعه، نافثاً دخانه الوهمي بقوة وهو يقول:

-لاشيء جديد أيها الأحبة نحن أبناء الطبيعة منها خلقنا وإليها نعود حالنا حال بقية المخلوقات والكائنات الحية كالأشجار والنباتات والحيوانات والحشرات...هذا هو ماضينا وهذا هو حاضرنا وهذا هو مستقبلنا لا أكثر ولا أقل أيها الأحبة.

-ولكنك الآن تتفكر وتتكلم وتبدو شبح إنسان نعرفه وليس ذرات متناثرة كما تدعي على الرغم من أنك قتلت ودفنت قبل أكثر من 100عاماً كما نعلم وكما مثبت على شاهدة قبرك، رد عليه الحضور في شبه أجماع ..

-نعم ولا غرابة في ذلك فأنا كنت في الحياة طاقة وأنا اليوم طاقة  أيضاً، والطاقة كما تعلمون هي مادة  والمادة لا تفنى ولا تخلق من العدم. أليس كذلك؟

-نعم كنت مادة منتظمة ومتناسقة ومرتبة حسب نظام معين أكسبها الحياة والشكل الخاص بها في الحياة، اكتسبت ميزة الجنس المعين والشكل المعين عبر مئات الملايين من سنين التطور والتغيير والموت والحياة والبعث والاندثار مرة سمكة أو كلب أو حصان أو إنسان أو فراشة أو دودة ...الخ ولكل منها عمره الخاص ولم تولد مرة واحدة وبشكل ثابت واحد حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن.

الإنسان نتيجة لوعيه أن حياته آيلة للموت حتماً، مما جعله يتفكر كيفية أدامتها ليعيش خالداً كما فكر ذلك كلكامش وسعيه للحصول على عشبة الخلود، كما إنَّ الإنسان أستند إلى قوة خارقة مفارقة قادرة على (أحياء العظام وهي رميم) فتوهم الكثير من الآلهة خارقة القوة والقدرة لتحقق له أمانيه وطلباته من أجل حياة أخرى، ولكن هذه الآلهة كانت لها شروطها التي تنسجم تماماً مع  شروط الحاكم كلي القدرة على الأرض ليعيش الإنسان حياته الأخرى أما  في (الجنة) حيث السعادة وحصوله على كل شيء يتمناه حينما يكون مطيعاً لتعاليم وإرشادات وعبودية الإله القدير، وإلا سيكون مصيره في (النار) حيث الخلود في العذاب والحرمان والاحتراق المستدام إنْ هو عصا تعليمات الإله...

وبذلك تصور الإنسان عبر هذا الوهم أنه حقق استقراره النفسي وصدق كذبته الكبرى في الحياة بعد الموت  لينعم بالخلود وانْ كانت مشروطة. وتقدم لهم المعري قائلاً:

(سألتموني فأعيتْني إجابتُكم من ادَّعى أنه دارٍ فقد كذباً

وكم طلبتَ أموراً لست مدركَها تبارك الله من أغراك بالطلب

قال المنجِّم والطبيب كلاهما لا تُحشَر الأجساد قلت إليكما

إن صحَّ قولُكما فلستُ بخاسرٍ أو صحَّ قولي فالخسارُ عليكما)

-التفت إليه أبقور  مؤيداً  ... نعم الحياة تعاش مرة واحدة لن تتكرر أبداً، وعليك أن تعيشها وتنعم بها .

يمتص (ك) نفسا متوهماً من سيكارته ويواصل:

- وهذا السلوك ضد المرتد معمولاً به عند المتدينين والملحدين، كما في الدين اليهودي والمسيحي والإسلامي والصابئي والأزيدي، وفي الشيوعية، أليست هذه مفارقة كبيرة أيها الأخوة؟!

حامد يصافح (ك) بقوة وكأنه وجد ذاته في ذات (ك) وطريقة تفكيره وتفكره وفلسفته في الحياة

والموت.

 

4

-أطل عليهم رجل كهل معتم بعمامة كبيرة لم يتبينوا لونها في صورته الشبحية، له لحية كثيفة الشعر المنسدل على صدره، متختم اليمين، مستعيذا بالله العلي العظيم قبل أن يبدأهم بالسلام، مستنكرا كل ما ذهبوا إليه، مؤكداً وجود الخالق العظيم ووجود الجنة والنار والحساب والبعث والعقاب والثواب، وعجائب الطبيعة والخلق والسماوات والأرض كدليل على وجود الخالق الواحد الأحد، فلا مخلوق من دون خالق، إلا الله سبحانه عز وجل، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد، مستشهداً بالمزيد من الآيات القرآنية لإثبات أقواله، ومنها أن على البشر جميعاً أن يكونوا  مسلمين موحدين مردداً قول الله تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) الآية 85 من سورة آل عمران.

فرد عليه الجميع السلام، مرحبين بحضوره بينهم، ولكن أحدهم قال له:

ــ يا شيخنا الفاضل أولاً أنت تحاجج بالقرآن وهو كتاب الله حسب قناعتك أنت باعتبارك مسلماً، ولا يمكن أن يكون حجة على الناس الآخرين من الأديان الأخرى وكذلك من غير المؤمنين بكل الأديان حيث استشهدت بسورة عمران وعلى جميع البشر أن يقبلوا الإسلام ديناً وإلا فهم من الخاسرين، فأبيقور ما هو مصيره يوم الحساب وهو لم يشهد الإسلام ولا غير الإسلام وملايين البشر من أمثاله؟ ثم ما هو مصير البشر الذين لم تصلهم الرسالة الإسلامية  في مختلف قارات العالم.؟ ، ثم بادره بالسؤال (ك) قائلاً:

ــ هل لكم أن تخبرني يا شيخنا الجليل  من أي مذهب أسلامي أنت؟ ومن هو المذهب الإسلامي الصحيح؟  ومن هي الطائفة الحق ضمن هذا المذهب لتفوز بالجنة؟ وكل مذهب  يكفر الآخر، وكل طائفة تكفر الأخرى ضمن نفس المذهب؟

ــ طبعا أنا اعتمد القرآن للحكم على من هو الصالح والطالح  وعندها أستطيع أن أعرف الفرقة الناجية.

ــ ولكن يا شيخنا وكما  تعرف حضرتكم  القرآن حمال  أوجه .. فأي وجه هو الأصح لتأخذ به؟

ــ في هذه الحالة  أنا أعتمد عقلي وقناعاتي لأختار المذهب واختيار الفرقة الناجية ...

ــ أحسنت، وهنا نحن لا نختلف فعلى الإنسان الراشد أن يعتمد عقله في اختيار ما يؤمن به، ولا يعتمد على ما أختاره له الآخرون، وأنت تعلم أنك لو لم يكن والديك مسلمين على المذهب الذي اعتنقته والطائفة التي انتميت إليها  لما كنت على ما أنت عليه، أي انك بعد أن بلغت سن الرشد والتبصر اطلعت على كل الأديان والمذاهب والطوائف والعقائد والأفكار الدينية وغير الدينية، واخترت بقناعاتك العقلية الدين والمذهب والعقيدة والفلسفة التي تؤمن بها ، وهنا لم يكن العقل هو صاحب الأختيار بل العائلة والبيئة والفكر السائد ...

ــ نعم يا أستاذ أنا اتفق معك بان اختياري جاء بالوراثة، فأنا وجدت  نفسي مسلماً من المذهب الفلاني والطائفة الفلانية بالولادة، وأنا مؤمن بما أنا عليه ولا حاجة لي بالبحث والتنقيب، فأنا الأفضل والأكمل ولا حاجة لي بمعرفة الآخرين ...

ــ نعم يا شيخنا لك ذلك،  لك ما تؤمن به ولكن ليس لك فرض قناعاتك على الآخرين، وعليك أن تعترف بأنك لست الوحيد الذي يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، وربما  تكون أنت غداً غير ما أنت اليوم، فلا ثابت غير المتغير في المكان والزمان.

ــ نعم  شكراً لكم على هذه الحوارية، وفي  الختام أقول لكم ما قاله الله تعالى: [وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون] سورة  يونس: 41 ، وقال تعالى: [لنا أعمالنا ولكم أعمالكم] ، وقال تعالى: [قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد]  ، كل ما أتمناه أن يدخل الله الأيمان في قلوب أمثالكم من البشر الأحياء.

فتردد صوت من قبل بعض الحضور (نشهد أن لا اله إلا الله وان محمداً رسول الله)، في حين أكمل جماعة غيرهم: (ونشهد أن علياً وأولاده المعصومين حجج الله) ، في حين ردد آخرون (الله، الابن، روح القدس) ، وقال اليهود قولتهم، وكذا الصابئة، والأزيدين، والبهائيين، والبوذيين ...الخ

ــ شكراً لكم أيَّها الشيخ ونحن نتمنى لإخواننا البشر المزيد من التفكر والتبصر والعيش بأمن وسلم ومحبة حسب قاعدة (أقبلني كما أنا وأقبلك كما أنت) ولا بأس في تبادل الأفكار دون قهر وتعسف.

عم السلم الجميع، علت الابتسامة وجوههم، متمنين أن يكون أخوتهم الأحياء كما هم عليه الآن.

يأتيهم حاملاً صليبه على ظهره، أحبتي أنا يسوع المسيح بأي ذنب صلبوني أخوتي من اليهود، لم أرفع السلاح بوجوههم، ولم أقتل أحدهم، فلماذا قتلوني؟ ، وإذا كانوا يؤمنون بالله  ويوم الحساب ألا من الأجدر أن يتركوا حسابي إلى الله؟ ...

وتوالت مشاهد  وعرض مظلوميات آلاف البشر من المفكرين والمبشرين والأنبياء والرسل  من الرجال والنساء ممن أحرقوا، أو قطعت رؤوسهم وسجنوا وعذبوا من قبل أهل السلطة من أديانهم أو من قبل الأديان الأخرى، سابقين بذلك عقوبة وحساب الله في يوم القيامة. 

من كل هذا العرض الكبير والذي يبدو لانهاية له، يبدو أن أغلب مظالم البشر وحروبهم واقتتالهم أسبابها دينية، بين فِرق الدين الواحد ومن قبل دين ضد آخر، فماذا يقول بهذا الشأن حضرات السادة الأنبياء والرسل؟ وماذا يقولون إلى الله وقد جرت كل هذه الجرائم  باسمه وتحت راية الله أكبر؟ مردداً أقوال الشاعر الحكيم أبو العلاء المعري:

(كتاب محمد وكتاب موسى وإنجيل ابن مريم والزبـور

نهت أمما فما قبلت وبارت نصيحتها فكل القوم بور

في اللاذقية ضجةٌ ما بين أحمد والمسيح

هذا بناقوس يدق وذا بمئـذنة يصيـــــــــح

كل يعظّم ديـنه يا ليت شعري ما الصحيح ؟)

ضج جمع الأنبياء والرسل بصوت واحد بالبكاء والقول إنهم من كل هذه الأفعال براء، وما الحكم إلا لله  الواحد الأحد وهو الشديد العقاب وهو الغفور الرحيم ...

وهم في جلستهم  المأساوية هذه بان لهم عدد من النساء أغلبهن بعمر المراهقة والشباب يسرن باتجاههم وهن يحملن رؤوسهن المقطوعة بين أيديَّهن، وكان بعضهن تمسك رأسها من الشعر لأنها مقطوعة الكف اليمين، أو أجساداً متفحمة حرقاً. فسكت الجميع عن الكلام لاستكشاف أمر تلك النسوةً

اصطففن أمام جمع الرجال، وأجبنَ على حيرة ودهشة الحضور مما هن فيه  وكل واحدة منهن تسرد قصة قتلها بدعوى غسل العار.

استعرض ما تعرضت له المرأة في مختلف الحضارات والأديان  السماوية والوضعية، وكذا هو الحال في الحضارة الإسلامية حيث أعطى القوامة للذكور على الإناث، وأعتبرهن بعضهم ناقصات العقول ناقصات الأيمان. وللرجل مثل حظ الأنثيين في الإرث، وسمح للرجل الزواج شرعاً بأربع نساء، ناهيك عن عدد الجواري وملك اليمين وقد أمتلك العديد من خلفاء المسلمين  والأمراء آلاف الجواري  والإماء من أسرى الغزوات الإسلامية للبلدان غير المسلمة ... وهذا ما مارسه الداعشيون ضد الأزيديات وغيرهن من ألأديان الأخرى في زممننا هذا وفي العراق وغيره من البلدان في العصر الراهن.

تبسم الواثق والمتوكل وهارون وخلفاء بني عثمان وهم يسمعون كلامنا يتفاخرون بعدد جواريهم وغلمانهم.

 للحضارة الفرعونية ميزة احترام المرأة (لقد أكدت الدلائل على احترام المرأة سواء أكانت زوجة أو أم،  حتى أن صورة أم الميت وليست صورة أبيه هي التي تنقش مع صورته وصورة زوجته، إذ أن مركز الأم كان عظيماً للغاية، وكان المرء ينسب إليها لا إلى والده فيضاف أسم الأم بعد أسم الشخص وكان نظام التوريث في الدولة الوسطى يسير على نظام أن ابن الابنة الكبرى هو الذي يرث الابن الأكبر، كما أن جد الشخص من جهة أمه كثيراً ما كان يتوسط لحفيده في نيل الحظوة لدى البلاط، أو في مكان والده).

هذا ما أفاض به لنا أخناتون أحد فراعنة مصر وهو جالس معنا وسط جمع من خدمه وحاشيته مجللين بالذهب والفضة، مع أدوات الطبخ والصيد والإبحار وكل ما يحتجه الإنسان للعيش كما كان في حياته الدنيا...

أثناء حديثهم هذا اصطفت أمامهم العشرات لا بل المئات من الأجساد الأنثوية المحروقة بأمر من محاكم التفتيش بتهمة ممارسة السحر...

سيطر الوجوم والحيرة بما يماثل الخجل من الذات على الجمع الحاضر حينما أكمل (ك) حديثه  حول وضع المرأة في مختلف الحضارات الإنسانية بحضور العديد من القياصرة والأمراء وملوك وفراعنة وقياصرة  وخلفاء وأمراء وفلاسفة هذه الحضارات، وما زالت المرأة مستلبة ومذلة في عالمنا اليوم الذي يدعي الحضارة والتحضر سواء في العالم الأول حيث تعرض النساء خلف جدران زجاجية يعرضن أجسادهن للبيع والمتعة لمن يدفع المال وتحويلها سلعة للعرض والطلب، أو (حرمة) يلفها السواد كقالب من الفحم كلها عورة صوتها وشعرها ويدها..  ووو، في العالم الثالث  .

بانت على محياه علامات البهجة والاستبشار، حيث لاح له تقدم جمع من الرجال وثيق الصلة بهم، وكأنه عليم بأنهم سيكونون خير عون له فيما قدمه للحضور حول تاريخ اضطهاد المرأة والرجل أيضاً والأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذا العنف والقسوة  للإنسان ضد أخيه الإنسان.

وقد نطق جمع من الرجال المحروقين المشنوقين والمقموعين  قائلين:

ــ ألا يماثل حالنا حال النساء اللواتي أمامكم، إنَّه عالم القوة والبطش واللون الواحد، إنَّ الطغيان والظلم لا يعرف الجنس ولا يعرف دين أو طائفة، إنَّه تعبير يقول:- إنَّ البشرية ما زالت تعيش وحشيتها على الرغم مما ترونه من بهرج حضاري زائف، وهاهي حروب العالم الأول أمامكم، مجازر غزة، والحرب الروسية الأوكرانية، والمجازر في السودان وليبيا وووو..

بانت على وجه (ك) إشراقة شمس تمحو غيوم الحزن والألم التي انتابته نتيجة مشاهداته، ولكنه على حين غرة يبدو أنه أمسك بخيط الأمل المرجو للخلاص وقد سأله حامد  قائلاً:

ــ أخي (ك) أراك مستبشراً وقد تغيرت معالم وجهك على حين غرة فماذا بدا لك ولم نلحظه نحن؟

تنحى (ماركس) جانباً في حين تصدر (إنجلز) بطوله الفارع ليوضح للجمع مضمون كتابه بما معناه حول تاريخ تطور ونشوء الأسرة والعائلة وتزامنه مع  تطور الملكية الخاصة  وانعكاسه على موقع المرأة في عملية الإنتاج وتوزيع الثروة وانتقال نسب الأبناء إلى الأب الذكر حفاظاً على الثروة من أن تذهب إلى عشيرة الأم.

توجهت أحداهن بالسؤال صوب الشيخ الجليل (النظام) شيخ المعتزلة وبقربه واصل بن عطاء الذي كان حاضراً المجلس فارضاً وجوده بوقاره وهيبته الظاهرة وقد كان  مستأنساً بالحديث مع ماركس، ونصر حامد أبوزيد وقد كانا في غاية الانسجام  فأصغت إلى حديثهم:

ــ نحن أهل الاعتزال ومريديه دائماً نوجه السؤال نحو الرواية أو الخبر أو السلوك البشري أيعقل هذا؟ وهل هذا ينسجم مع المنطق العقلي  أم لا؟ وكل شيء وكل أمر وكل سلوك لا ينسجم مع منطق العقل الراشد يعتبر مرفوض من قبلنا. بمعنى إنَّك ترى إنَّ هذه الروايات وهذه الإدعاءات لا صحة لها، مثلها مثل روايات النساء ناقصات العقول ناقصات الدين ... وكذا هو الحال بالنسبة لتقاسم الإرث (للرجل مثل حظ الأنثيين) فالمرأة في ذلك الزمان كانت جليسة الدار وليست منتجة ولا تشارك في الحروب كمقاتلة لتجمع الثروة ولذلك اجتزأت حصتها، ولا يجوز أن يطبق هذا في زمننا الحاضر حيث شاركت المرأة الرجل في كل شيء وأثبتت جدارتها في العمل المنتج سواء كان مادياً أو فكرياً وكذا هو الحال بالنسبة لشهادتها أمام المحاكم والقضاة وذلك بسبب قلة اطلاعها على مجريات الأمور خارج دارها وهي القارة في بيتها، أما الآن فالمرأة  تمتلك حرية الخروج والتنقل والعمل والاطلاع ومشاهدة الأحداث وبنسب متباينة في دول العالم وبذلك امتلكت حق الشهادة الكاملة أسوة بالرجل ولكنها لم تتمتع بهذا الحق لا في الشهادة ولا في الإرث.

ــ نعم حضرة (النظام) كلامكم مقنع تماماً ولكن ما ردنا على من يقول: إن أحكام القرآن والشريعة نافذة المفعول في كل زمان ومكان.

ــ سؤال وجيه، ولكن هؤلاء لم يطلعوا على الناسخ والمنسوخ في آيات وأحكام القرآن خلال فترة نزوله على الرسول محمد لبضعة من عشرات السنين، فأحكامه تتغير نتيجة لتغير الظروف الحياتية للناس خلال 50 سنة مثلاً، ألا يفترض ويتطلب تطويرها وتغييرها خلال أكثر من 1400 عاماً، فالعقل والمنطق يا ابنتي يقول بضرورة تطبيق الأحكام وتغيرها حسب المكان والزمان ، وهذا لا يناقض جوهر الدين ولا جوهر القرآن، فالدين دين حياة والحياة متغيرة، وإلا لماذا أرسل الله آلاف الأنبياء والرسل والأديان السماوية للبشرية  خلال تاريخها الراشد؟.

ــ كلام في غاية الواقعية والمعقولية ولكن هناك من قال: ((ليس كل واقع معقول وليس كل معقول واقع)... وهنا هذا المعقول الذي ينصف المجتمع عموماً ومنه المرأة على وجه الخصوص لماذا لا يحصل ويتحقق على مستوى العرف والدين والقانون؟

تقدم  حامد نحو الحضور وبالأخص نحو ماركس ورفاقه، قائلاً:

ــ أظن أنَّ الحديث حول قهر المرأة وظلمها في الواقع العالمي القائم، وهو حديث يطول وقد أصبتم وأحسنتم حينما ربطتم  قضية تحرر المرأة بقضية تحرر البشر جميعاً من عبودية رأس المال ... ولا بد لنا من الإشارة إلى أنَّ أفضل وسيلة للظالم والمستغل ليغطي ظلمه  ويبرر استغلاله هو الاستعانة بالدين ونصوصه المقدسة وتفسيرها وتجييرها لمصلحته، والتاريخ يشهد أن أغلب الحروب الطائفية الداخلية لبست لبوس الدين مخفية حقيقة كونها صراع مصالح طبقية، وكذلك هو بالنسبة للحروب الخارجية  كحروب الفتح الإسلامية، وحروب هتلر الفاشية ، والحروب الصليبية، وحروب الإرهاب الإسلامويـة إنَّما هي حروب السعي للهيمنة على المال والسلطة متلبس بلبوس الدين والعقائدية المتحجرة...

ــ شكراً جزيلاً أستاذنا الرائع، كل ما نرجوه أن  تبلغ الإنسانية سن الرشد والتعقل لرسم مصير العالم نحو مستقبل مشرق ... يا أخي العزيز أن التجارب التي سميت بالاشتراكية  لم تكن اشتراكية ولم تبلغ حتى أولى مراحلها، والأحزاب الذي حكمت هذه الدول بدعوى تطبيق ديكتاتورية البرولتاريا، أخذت الديكتاتورية وأهملت البرولتاريا وهي المضاد النوعي للديكتاتورية، وبذلك تحولت إلى أنظمة برجوازية برأسمالية دولة شمولية فأصابها الفشل والأنهيار، والعالم ينتظر تجربة وطريقة ووسيلة جديدة لبناء العالم الاشتراكي كحيز للحرية وليس للديكتاتورية، نتطلع إلى الاشتراكية المفروضة عبر صناديق الاقتراع والعلم وليس عن طريق العنف والانقلابات الدموية ...

بعد أن أكمل (ك) تعقبه على  ما قاله ماركس، تقدم (حامد) ليسأل ماركس قائلاً:

ــ أخ ماركس وددت أن أسمع منكم تفسيركم لمقولتكم (الدين أفيون الشعوب) التي  اعتمدتها القوى المعادية لفكركم باعتبارها مقولة مسفه ومعادية للدين والدعوة لمحاربته كما يتم محاربة كل أنواع المخدرات ومنه الأفيون؟

ــ تحياتي وشكري لكم أخي وأنت تثير هذا السؤال الذي تردد كثيرا في مختلف الأوساط وحسب مصلحة كل قائل وناقل  أقول: ( لقد وردت هذه العبارة  في كتابي  نحو نقد فلسفة الحق الهيجلية  1844 "إن التعاسة الدينية هي في شطر منها تعبير عن التعاسة الواقعية. وهي من جهة أخرى احتجاج على التعاسة الواقعية، الدين هو  تنهيدة المضطهد، قلب عالم لا قلب له، مثلما هو روح وضع "شروط" بلا روح، إنه أفيون الشعب، وهي بالأكيد عبارة يرفضها أصحاب الديانات السماوية"). هذا النص الكامل أمامك، النص الكامل غير المقتطع من سياقه، وأظن أن كل لبيب يدرك واقعية هذا المعنى للدين في ظل  مجتمع بالغ القساوة، مسلط ويلاته على الإنسان الفقير المستعبد من قبل أصحاب رؤوس الأموال ومن قبل المرابين، العبد المملوك من قبل الأسياد ... وها أنت ترى كيف يخدر الناس في مختلف الطقوس المغلفة بغلاف دينية وحرفهم وأشغالهم عن قضاياهم الحقيقة.

بعيد إنهاء كلمته أول من صفق بقوة له الحاخام والبابا والخليفة والقيصر والديكتاتور حيث كانوا  ينصتون بانتباه شديد إلى الكلمة!!

ــ أنا في غاية الاستغراب. هل حضراتكم  تصفقون  لماركس وأنتم من  أفتيتم بكفره وإلحاده، هو ومن يتبعه ويسر على نهجه؟

فألتفت إليه البابا، متسائلاً يا أخ حامد:

ــ  إنْ كنت ماركسياً فإنك لم تفهم الماركسية جيداً، وإلا لما استغربت من تأييدنا لما قاله، فنحن الآن لا نمتلك امتيازات ندافع عنها وحرف الحقائق من أجلها فانتصرنا للعلم والحق ...

انتابته قشعريرة برد شعر بهزة عنيفة لجسده محاولا النهوض. أسم الله  أسم الله  القرآن، عيوني حامد ماذا أصابك ، ماذا تريد، لماذا تصرخ، فتح حامد عينييه فشاهد تجمع عائلته حوله زوجته وأولاده، وأحد المعممين يتلو عند رأسه آي من الذكر الحكيم، ورائحة البخور تفوح في فضاء الغرفة، ويده ورقبته مسورة بشريط أخضر (عِلـﮒ)، داعين له بالصحة والسلامة والخلاص من الحمى الشديدة التي أصابته بشبه غيبوبة وهذيان غير مفهوم طيلة ثلاثة أيام متوالية!!

ــ ما هذا وأين الآن أنا؟، وأنتم ما بكم؟ وماذا  فعلتم؟

  • خروجك قبل ثلاثة أيام على الدراجة  الى الشارع ودرجة الحرارة أكثر من 55 م لتجلب الثلج بسبب أنقطاع التيار الكهربائي، كان خروجا أنتحارياً، فما أن عدت الى الى الدار حتى سقطت مغمياً عليك ، ولولا نذوري ودعواتي وبيرغ العلوية في رقبتك لكنت في خبر كان الآن ياحبيبي ...

 خلع الـ(عِلـﮒ)، من معصمه  والبيرغ من رقبته  وراه خارجا ،طلب أن يجلب له كأس من الماء!

همس أبيقور في أذن ماركس الذي كانت صورته تجاور صورة ماركس معلقة على جدار الغرفة  كلاماً أضحكه...