“هل أعترف بأني منفية؟ نعم. إني أشعر بذلك، إلا أن هذا الشعور غائر وقد استمرّ طويلًا، بحيث بات هو طبيعتي”- تلك عبارة واحدة من عبارات مكثّفة كثيرة، هي أجزاء من ذاكرة لم تهدأ حتى اليوم الأخير، تسير على نفس النسق في العمق الإنساني والشعري في كتاب “إتيل عدنان: في الحب واللغة”، تقديم وتعريب فواز طرابلسي (رياض الريّس للكتب والنشر، أيلول/ سبتمبر 2024)، وهو كتاب جمع فيه الباحث اللبناني فواز طرابلسي نصوصًا كانت قد أرسلتها له إتيل عدنان لنشرها في المجلة الأدبية “بدايات” التي أسّسها عام 2012 واستمرت حتى عام 2022، مع الحوار الأخير لها، والذي أجراه طرابلسي معها قبل أسبوعين من رحيلها. وعلاقة طرابلسي بعدنان تعود إلى مقاعد الدراسة حين سمع باسمها لأول مرة عند فوزها في مسابقة للقصة نظّمتها مجلة فريكازي، ويقول في مقدّمته للكتاب: “لم أعد أذكر شيئًا من قصة إتيل، ولكني مدمن، منذ ذلك الحين، أدب إتيل وفن إتيل وصداقة إتيل”.
هي صداقة عابرة للحدود كانت لها مراسلاتها الأدبية التي سبق أن نُشرت في كتاب “عن المدن والنساء: رسائل إلى فواز” (1993)، وهو عبارة عن تأملات فلسفية وشعرية حول الأنوثة والمكان والثقافة والطبيعة والرؤية والحب والمرض والموت والحرب، أرسلتها إتيل لفواز خلال تنقّلها بين برشلونة وأمستردام وبرلين وروما وبيروت ومدن أخرى، وقد استندت إليها المخرجة اليونانية فوفولا سكورا Vouvoula Skoura لإنجاز فيلمها “العالم في المنفى” World’s in Exile.
إتيل شاعرة وروائية وفنانة تتحدث عن بيروت كمدينة كوزموبوليتية فيما هي نفسها كائن كوزموبوليتي يجمع مدن العالم في قلبه مع كثير من العاطفة والنضال والالتزام بقضايا العدالة الإنسانية، ويقول طرابلسي في مقدّمته: “لعل إتيل أول شاعر عربي ذكّرته مأساة الهندي الأحمر بالإنسان الفلسطيني المقتلع والمشرّد والمجمّع في معازل تسمّى مخيّمات وبانتوستانات السلطة الوطنية”.
في نصوصها في هذا الكتاب، تعود إتيل ليس إلى طفولتها فحسب، لا بل إلى طفولة والديها، وهي تعود لذلك لشرح إشكالية اللغة العربية حيث عانت طويلًا بسبب عدم تلقّيها العربية في صغرها، فكانت تكتب حينًا بالفرنسية، وحينًا بالإنكليزية، لأسباب سياسية لها علاقة بفكرها النضالي. دخل والدها، وهو السوري المسلم، الكلية العسكرية وهو الذي كان صديقًا لمصطفى كمال أتاتورك على مقاعد الدراسة، وتلقى دروسه بالتركية والألمانية والفرنسية، فيما تلقت أمها اليونانية المسيحية تعليمها بالفرنسية، وكان التواصل في المنزل يتم بالفرنسية، كما أن المراسلات بين الزوجين إبان المعارك كانت بلغة فرنسية رومنطيقية “كانت رسائل تليق بأن توضع داخل رواية ‘الحرب والسلم‘ لتولستوي، فهي تتحدث عن الحب، عن الحرب، عن الحياة والموت”. وتحكي إتيل أنها وُلدت في بيروت بعد انتقال العائلة إليها بعد الحرب العالمية الأولى، وهناك درست في مدرسة كاثوليكية للراهبات حيث درست اللغة الفرنسية في ذلك الزمن الذي بدا فيه أن “الانتماء للغة الفرنسية يعني التفوق”. تقول إتيل: “شعر جيل كامل من الصبيان والبنات المتعلمين أنهم متفوقون على الأولاد الأفقر حالًا الذين لا يتكلمون غير العربية، وقد جرى التماهي بين اللغة العربية والتخلّف والعار”. تضيف إتيل أنها بعد فترة اكتشفت أن الأمر ينسحب على امتداد الإمبراطورية الفرنسية، من تونس والجزائر والمغرب وأفريقيا والهند الصينية، إلا أن هذا الأمر لا يزال ساريًا حتى زمننا هذا، وينطبق على مستخدمي اللغتين الفرنسية والإنكليزية مقارنة بمستخدمي العربية. إلا أن والدها الضابط العثماني الذي هُزم و”شاهد إمبراطوية قاتل من أجلها” كان يقول لأمها: “لسنا في فرنسا، على الطفلة أن تتعلم العربية”، لكنه لم يكن رجلًا تربويًا كما تقول إتيل فكان يكتفي بأمرها أن تنقل كلمات بالعربية باعتبار أنها بهذه الطريقة ستتعلّم العربية، ولكنها كانت تنقل دون أن تفهم ما تكتب.
عن بيروت
تتحدّث إتيل عن بيروت التي شاهدتها تتحوّل إلى مدينة عالمية ثنائية اللغة ثم “ثلاثية اللغة مع قدوم اللاجئين الفلسطينيين، وكان الأرقى منهم يجيد الإنكليزية”. وحيث شهد لبنان انفتاحًا وتنوّعًا في تلك الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، لكنه “بلد أصغر من أن يستوعب رياح التغيير العاتية والاستقطاب الثقافي، خلق تيارات جوفية من التوتر ستتفجر جيلًا بعد جيل وتدمّر البلد عمليًا”، تقول إتيل. وتتذكر أول قصيدة لها كتبتها بالفرنسية “كتاب البحر” تحكي فيها عن علاقة من الحب بين البحر والشمس، وهي قصيدة لاقت احتفاء كبيرًا لكنها لم تُنقل للعربية كون البحر مؤنثًا بالفرنسية فيما الشمس مذكر، والعكس بالعربية.
وفي منتصف الخمسينيات ستنتقل إتيل إلى فرنسا لدراسة الفلسفة ثم إلى جامعة بيركلي في كاليفورنيا، وهناك أُغرمت بالإنكليزية، وتتحدّث عن صدمتها حين تم رفض موضوع رسالة دكتوراه لزميل لها، فقد كان يريد الكتابة عن نيتشه، وكان رد ّالجامعة بأن نيتشه ليس فيلسوفًا بل شاعر، تقول إتيل عن ذلك: “ظللت غير قادرة على تفهّم قرار الجامعة، لأني كنت أعتبر أن الفلسفة بعد هولدرلِن وهايدغر تجد نعبيرها الأسمى في الشعر”.
لم تستطع إتيل إكمال رسالتها في الدكتوراه وانصرفت لتعليم فلسفة الفن، وكانت حرب الاستقلال في الجزائر، وكان عنف كثير، شعرت إتيل بأنها منحازة وبعنف للجزائر، وبأن الفرنسية لم تعد لغتها، واستنكرت اضطرارها لأن تكون هذه اللغة هي لغة التعبير عندها، فوجدت في الرسم تعبيرها، حيث صارت ترتاد دائرة الفن في الجامعة وبدأت بالرسم، وفي عام 1960 تقول إنها أصبحت رسامة شغوفة: “لم أعد بحاجة لاستخدام الكلمات، بل الألوان والخطوط. ولم أعد أحتاج إلى الانتماء إلى ثقافة ذات منحى لغوي بل إلى شكل مفتوح من التعبير”، بهذا المعنى فإن إشكالية اللغة هي التي دفعتها للرسم، كطريقة تعبير لا تحتاج للانتماء لأي لغة.
إبان حرب الفيتنام، ناضل الشعراء الأميركيون ضد الحرب، فكتبت إتيل قصيدة بالإنكليزية “أغنية الفارس المستوحد في أميركا الحضارة”، وتلقّاها مجتمع الشعر الأميركي بحفاوة، وطلبوا منها المزيد، وهكذا أصبحت “شاعرة باللغة الإنكليزية”. وفي أوائل السبعينيات عادت إلى بيروت وعملت في صحيفتين تصدران بالفرنسية، “كانت بيروت تقدّمت كثيرًا، حسبتُها مدينة جديدة”، ثم تحكي عن نشوب الحرب الأهلية اللبنانية وهجرة المتكلّمين بالفرنسية إلى فرنسا والمتكلمين بالإنكليزية إلى نيويورك أو لندن، وحيث غادرت إلى فرنسا مؤقتًا بانتظار انتهاء الحرب، وكانت رغبتها أن تعود، لكن الحرب تفاقمت، بل “سارت من سيء إلى أسوأ ومن حرب إلى احتلال”.
“إتيل تخلّد عام 1982 كقطعة زمنية مأساوية في مسار تاريخي سيشهد لاحقًا غرقًا في الصمت أمام الألم الفلسطيني، رافعةً شعار “أيها الشعراء غيّروا العالم أو لازموا بيوتكم””
وتستذكر إتيل صديقتها ماري روز بولس التي كتبت عنها رواية “ست ماري روز” بالفرنسية ونُشرت في باريس وفازت بجائزة France-Pays Arabes Award. وماري روز بولس هي امرأة لبنانية مسيحية كانت تقوم بتعليم الأطفال الصم والبكم وساعدت في تنظيم الخدمات الاجتماعية للمخيّمات الفلسطينية، وعملت على مساعدة اللاجئين، فقامت الميليشيات الكتائبية بإعدامها عام 1975، وهو ما كان له وقعه المؤلم على إتيل فكتبت روايتها الوحيدة عنها. شعرت إتيل بعد ذلك أنها خسرت الكثير في بيروت، فعادت إلى كاليفورنيا. وفي كاليفورنيا، شعرت مجدّدًا بإشكالية اللغة العربية، فتعود لتقول: “ظلّت العربية جنّتي المحرّمة. أنا في الآن ذاته غريبة عن الأرض وعن سكانها الأصليين، غريبة عن لغتي الأم وابنتها”.
قضيّة الأرمن
تخصّص إتيل إحدى نصوصها لقضية الأرمن والدولة التركية بشكلها الحالي التي كانت ضمن مشروع تقسيمي على غرار النقسيم الذي شهدته البلاد العربية على يد الإنكليز والفرنسيين. وهي تتحدّث عن مجازر الأرمن ليس دفاعًا عن والدها الذي كان ضابطًا عثمانيًا بل كشهادة للتاريخ. تعود إتيل بداية إلى احتلال روسيا لأجزاء من تركيا في عام 1877 وصولًا إلى انقلاب “تركيا الفتاة” عام 1908، وفي عام 1914 عند اندلاع الحرب العالمية الأولى أعلن الروس الحرب على تركيا فانضم إليهم الأرمن في تركيا، وهذا ما أطلق حملة القمع، ولما انتهت محاولة الاجتياح الروسي، تابع الأرمن ثورتهم على الدولة التركية بتحريض من بريطانيا، حيث اعتبر والد إتيل أن “بريطانيا مصدر كل مصائب السلطنة”، وكانت الخطة تقسيم تركيا، تقول إتيل: “رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج قرّر أن يُعطي الساحل المتوسطي لليونان، ما عدا سيسيليا التي قرّر منحها لإيطاليا، وتكون إسطنبول وجوارها من نصيب روسيا، وتُمنح الأراضي على البحر الأسود وصولًا إلى القوقاز للأرمن، وتبقى أنقرة تركية”. لكن البريطانيين، كما تقول إتيل، تخلّوا عن الأرمن عند حملات القمع التي أطلقها مصطفى كمال أتاتورك، ومع أن الأرمن وقعوا معاهدة سلام عام 1920 إلا أن قوافل كثيرة من المهاجرين سارت باتجاه سورية ولبنان وفلسطين. وتستذكر إتيل الفنان بول غيراغوسيان الذي استقرّت أسرته في القدس، ورسم مشاهد ذلك الخروج من تركيا، لكن أسرته سلكت طريق الهجرة مجددًا إلى بيروت عام 1948 “عندما أجبر الإسرائيليون مئات الألوف من الفلسطينيين على مغادرة بلدهم! فإذا هو على الطرقات مرة أخرى”.
تستذكر إتيل صديقتها ماري روز بولس التي كتبت عنها رواية “ست ماري روز” بالفرنسية ونُشرت في باريس وفازت بجائزة France-Pays Arabes Award (غيتي)ولا تكتفي إتيل بسردية الأرمن، بل إنها تذهب عميقًا في سرد تشكيل تركيا الحالية، وإعجاب مصطفى كمال أتاتورك بشخصية نابليون بونابرت “البطل الأسطوري قريب الإسكندر المقدوني”، وبفرنسا الدولة القومية رغم أنها “شُيّدت بواسطة مجازر بحق ‘الكاثار‘ و‘الالبيجوا‘ والبروتستانتيين”. وتتحدث عن كراهية والدها للإنكليز: “لن تسقط شجرة في العالم بدون إرادة الإنكليز”، الذي قرّروا مصير الألمان في أوروبا وأقنعوا عرب الحجاز بالثورة ولما انتصرت ثورتهم وزالت الإمبراطورية العثمانية خانهم الإنكليز وقاموا بتقطيع أوصال البلاد العربية، كما تخلّوا عن الأرمن وامتنعوا عن إنزال جنودهم لنجدتهم، على الرغم من أنهم هم الذين شجّعوهم على الثورة. “هل كان رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط لزوم لازم في نهاية الحرب العالمية الأولى؟ فالكذبة التي فُرضت على العرب كانت جليّة”، تتحدث إتيل عن محاولات إضعاف سورية بعد الحرب العالمية الأولى ثم اختفاء فلسطين ومنع عودة الفلسطينين، وتقول: “لو كسب الأرمن لما كان ثمة وجود لتركيا”، وإن “على كبار الجنرالات العثمانيين الاعتراف بأنهم ‘استخدموا الحرب للتصفية النهائية للأرمن من أجل إنشاء دولة قومية تركية”‘، وهذا يسمّى ‘إبادة جماعية‘”.
وفي مذكرات إتيل، لا تغيب عنها حقيبة كانت قد أودعتها لدى عائلة آل إهماليان في كاليفورنيا عام 1957 تحتوي صور كل عائلتها ومراسلات والديها وفضيّات من والدتها، على اعتبار أنها ستعود بعد عام، ولكنها لم تحاول استعادة الأغراض إلا بعد انقضاء خمسة وعشرين عامًا، حيث صُدمت حين أخبرتها صديقتها ماجدا، ابنة آل إهماليان، أن أسرتها أفلست واضطرت لبيع أثاث المنزل بما فيها أغراض إتيل عدنان، وهي خسارة تقول إنها لم تتجاوزها قط: “كانت لحظة صادمة لا أزال أعاني منها إلى الآن”.
فلسفة الحب والأشياء
لا تنتهي إتيل من سرد يومياتها ومصير البلاد حتى ندخل معها في فلسفة الحب والأشياء بتفاصيلها الصغيرة. عن نيتشه الذي يذّكرها بالحلاج، يقول الحلاج: “أنا الحق، شاهدت الله بعيني فسألته: من أنت، قال: أنا أنت”، ويشير نيتشه في “أناشيد جامحة إلى ديونيسوس” على أنه الرجل الذي يعلن “أنا الحقيقة”. وتذهب إتيل إلى النصوص الصوفية التي تشهد على تجربة الوحدة العميقة للحب والرغبة الإنسانية الحارقة للاتصال بالألوهية.
في كاليفورنيا ساورها شعور عميق بالاقتلاع، ولما بدأت الرسم، كان أول رسم لها لجبل “تامالبالييس” المواجه لمكان إقامتها. بهذا المعنى كانت إتيل تتفاعل مع الطبيعة فنيًا، كما تتفاعل مع الواقع شعريًا، حب الطبيعة الكاليفورنية جعلها تنسى كل إمكانية لعيش حياة شخصية أخرى، دون أن تشعر بالندم، فهي سنوات البدائع على حدّ قولها، “السير في سيارة على الطرقات العامة الأميركية أشبه بكتابة الشعر بواسطة جسدي كله”…
وتحكي إتيل كأنها تتوجّه إلى العالم برسالة إنسانية في حب كوكبنا، “كوكبنا الأرضي قصة قديمة. إنه البيت الذي نهجره. في الحقيقة نحن لا نحبّه… ذلك أن ثمن الحب الذي يمكن أن ينقذه قد يصل إلى مستوى يكاد يكون مستحيلًا”.
وعلى نفس القماشة من النقد المجتمعي، تحكي إتيل عن الحب الذي يراه المجتمع يحمل طاقة تخريبية، وأن الكنيسة الكاثوليكية ذاتها معادية لمبدأ اللذة، إذ تحصر الجنس بالتوالد وتمجّد عذرية مريم، ثم تضيف: “بلغنا النقطة التي انفصل عندها الجنس عن الحب… إننا نرى ذلك على أنه تحرّر للجسد، وقد بات يتمتع باستقلاله الذاتي واستعاد حقوقه… ألم تتحول صناعة السينما إلى عالم أفلت فيه الخيال من كل عقال… ألم تصبح البورنوغرافيا صناعة عابرة للقوميات؟”.
“إننا أول جيل من الصبايا سُمح لهن بالاختلاط بالصبية، ولو ضمن حدود. وكانت تلك مغامرة عظيمة”، تقول إتيل التي تعود إلى فترة انتقالها لباريس ودخولها في علاقات عابرة، وشعورها بوحدة عميقة فأخذت تستشكف المدينة، ودخلت معبد “اللوفر” ليسحرها تمثال “فينوس دي ميلو”، تقول: “كنا وحدنا أنا وهي. كانت عيناي تتنقلان على جسدها، الذي هو بين لحم وحجر… أمضيت ليلة الرؤية تلك معها. كنتُ أحترق ولهًا”. نص الحب هذا تضيف إليه إتيل نصوصًا أخرى عن المكان والبيت والزمن والرغبة والضباب والليل والموت، عن جارها الذي زرع شجيرات سرو فحجب عن منزلها منظر البحر، وفي بوح يعمّق مسافة البحر داخل الذات: “أنكر عليّ جاري تلك اللذة. لولا خوفي من السجن لكنت قتلته”، وتضيف: “أنا حزينة، أنا بائسة: كيف يمكن لمكان رائع أن يتحول إلى سجن أو إلى معزل؟ هذا ما يفعله البشر بالبشر”.
تتحدّى إتيل مفاهيمنا وتنتج بدائل فكرية لما هو سائد، فالبيت ليس السرير والمطبخ وعلبة البريد، أحيانًا يكون البيت جسد شخص آخر، نحبه أو نكرهه؛ وبوجود “كنيسة” في كل شارع لا يمكن “ممارسة أي حرية تفكير”؛ أما مدينة صيدا “المذكورة أكثر من 17 مرة في الأوديسة، فلا تثير أحدًا إلّاها”. ومدينة بيروت بعد الحرب هي “طراز خاص من الأرض اليباب تتحدّى قدراتنا، تستصغر ذكاءنا، وتهزم إرادتنا”، وأن سنوات الحرب الأهلية اللبنانية الخمسة عشر “كانت احتفالًا عظيمًا بالموت. إنهم يحبون الموت في الشرق لأنهم يحبّون المقدّس” ولكن هذا المقدّس هو ثابت بنظر إتيل، ولا يتغيّر، ويستدعي التضحية فإذًا هو موت، “وها نحن في دائرة مقفلة”، وتوجّه نقدًا غير مباشر إلى ذلك: “هل الإيمان بحياة بعد الموت من القوة بحيث يستسهل الناس الموت؟”.
وقصائد إتيل في هذا الكتاب نُشرت في أكثر من مكان، لكن إعادة نشرها هنا يُحيي ذلك الخيط مع الماضي، فنكتشف أن قصائدها لا تزال تحتفظ بزمنيّتها، وبقوتها، وإذ بنا نقرأها كعلامة فارقة عن عالم موجِع، لا صناعة هنا، لا تلاعب بالأحداث، لا آثار أقدام لمسارات تخييلية خارج الواقع، ثمة ما هو منبثق من جسد الوجع نفسه. وإتيل تخلّد عام 1982 كقطعة زمنية مأساوية في مسار تاريخي سيشهد لاحقًا غرقًا في الصمت أمام الألم الفلسطيني، رافعةً شعار “أيها الشعراء غيّروا العالم أو لازموا بيوتكم”، إنها إعادة صياغة لجوهر الشعر ومعناه، وممّا تقول في قصيدة “بيروت 1982”:
“ب يعني بيغن الذي انضمّ إلى ميثولوجيا الشر/ بثلاثة مليارات من الدولارات/ لقتل طفل/ لقتل غابة من الرجال”
“سمّوا أطفالكم دير ياسين، قلقيلية، صبرا وشاتيلا، حتى لا ننسى/ لم أعتقد مرة بأن الثأر سيكون شجرة تنمو في حديقتي/ الأشجار تنمو في كل اتجاه/ ومثلها الفلسطينيون مقتلعون وبلا أجنحة”
“لا مكان لمن لا يملك أوراقًا ثبوتية في سيارات التاكسي ببيروت/ وأحمد لا اسم له/ أحمد هو الأزرق مثل شجرة موز في صيدا/ وهو الأصفر مثل برتقالة رعاها جدّه في يافا”
“هل تعلم؟ هل سمعت؟/ أن الناس تركض في الشارع باحثة/ لا عن أحذيتها بل عن أقدامها؟”
“المجزرة وقعت في الظلمة/ استغرقت ثلاثة أيام وليال/ بعدد الأيام التي قضاها المسيح في القبر… يا أيها اللاجئون ملجؤكم لا يصلح مدفنًا لكم/ إنه مكبّ قمامة المدينة الخالدة ومجارير بيروت… صعدتُ خطوات جبل تملباييس على عكازين/ لأشاهد غروب الشمس/ لكني سقطت في مجارير صبرا وشاتيلا المفتوحة/ مسبحة مجازر لرهبان لبنان المسيحيين وللمجرمين الذين سيولدون”
“مباركون أولئك الذين يقاتلون الطائرات بقبضات الأيدي/ مباركة أعراسهم/ مباركة مقابرهم”، لكن إتيل لا تعلم أن ثمة زمنًا أتى على الفلسطينيين أكثر توحشًا من ذلك الزمن الذي شاهدت فيه مجزرة صبرا وشاتيلا، حيث المقابر نفسها سارت عليها دبابات وحوّلت الأحياء والأموات إلى أشلاء…
“ردًا على سؤال لطرابلسي إن كان من أشياء ودّت لو تحقّقها ولم تفعل، تجيب بالنفي، وبأنها اشتغلت كثيرًا، لكنها تابعت “كنت أريد للشعر أن يتحرّر”… ربما كان بودّها القول: كنت أريد للإنسان أن يتحرّر… من موته ومن ظلاميّته”
وبيروت كما فلسطين تتحرّكان باستمرار في لغة إتيل العميقة حيث تتجمّع فيها صرخاتنا نحن أيضًا، ويتجمّع حزننا على ما آلت إليه البلاد. نقرأ “هي بيروت من جديد”، قصيدة ذات بُعد تراجيدي يستولي علينا ونحن نقرأها وتسير ذاكرتنا في اتجاه مراراتنا منذ عام 1975 حتى يومنا هذا، “هي بيروت من جديد/ لأن دور الأيتام تنمو بأوسع من نموّ المدارس في السلفادور/ … لأن الشعراء يرفضون أن يموتوا/… وهي بيروت من جديد/ ماء في الأفق/ مقابر مكتظة أكثر من فنادق/ طائرات تحمل من الأخبار أبشعها/ ومواكب لا تنتهي من الحزن/… لأن الناس يتراكضون…/ يعدّون موتاهم مثلما تعدّ مثلما تعدّ القروش في مدن السلطان”..
ومسحورة هي إتيل بمدينة بعلبك، بأعمدتها، هي مملكتها كما تعبّر، لكن قصيدة “بعلبك” ذات نبرة حزينة مدفونة بين الكلمات:
“للحفلات الماجنة طعم الجنازات/ وبينما أنا أقول ذلك/ تكون الأرض قد قطعت مسافات شاسعة في الفراغ الداخلي/ والفراغ الذي ندور فيه معها…”
“كان الحجر في الشرق/ أما الحب ففي مكان آخر…”
“كل هزيمة هي نهاية حياة”
“الأيام محبوسة في علبة أسبيرين/ وأنا أقول لكم إني مشرفة على الموت/ وإن الرحلة ليست باهرة”
“عندما لا يعود أحد في انتظارنا يبقى لنا الموت/ المخلص أبدًا”
“طلال حيدر أقرب إلى الحقيقة مني/ ما دام ينتمي إلى هذا المكان/ كان يلتقط القمر بين الحجارة/ ويحمله إلى سريره وهو ينحني، في هذه الأيام/ ليلتقط زهرة/ فيعثر على خيط دَم”.
وفي كتابها قصيدة لبابلو نيرودا الذي تحبه لأنه “جمهورية موز مدفونة” و”قمرًا ذات هالة” أما مملكته “كومة كلمات”، لكننا سنجد فلسطين أيضًا “عندما يعذّبون الزهور تكبّ فلسطين دمها في مدينة طوكيو”. والأسى نفسه يجري في قصيدة إلى ماياكوفسكي تكتب له فيها “لا تقل لي عزيزي فلاديمير إنك لن تأتي غدًا ولن تأتي أبدًا/ سوف أنتظرك مع ذلك/ لأننا نشعر بالتعاسة/… إن مستقبل هذه اللحظة أبأس من أن تكترث له. فالأخبار تورثنا الإحباط والخوف/… تجميع طعام الروح في كتب الأعراب يزيد من تقييد حركتنا/ فنفقد النطق والأغنية والتماسك/ هل كُتب علينا أن نلازم أمكنتنا متمسّكين بأفكار عن الأبدية تتلظى كما الشمس ذاتها…/ ماياكوفسكي، من أين آتي بالريح التي ستحمل أفكاري إليك/ كلهم رحلوا الإمام علي وتشي غيفارا وغسان كنفاني وأنت رحلت/ لم يبقَ إلا القساة”.
وتخصّص إتيل مكانًا للدفاتر اليابانية ذات الصفحات المطوية مثل لفائف أفقية، حيث رسمت ألوانًا وكتبت بخطّها غير السويّ، كما تعبّر، وعرضت دفاترها على اعتبارها لوحات فنية في أميركا وفرنسا ودول عربية، ووجدت أعمالها الفنية طريقها إلى الصحف العالمية، تعلّق “إنها تمثّل لي المصالحة التي لم أكن أتوقعها”، هي المصالحة مع اللغة العربية.
ينتهي كتاب إتيل عدنان بحوار أجراه فواز طرابلسي معها في باريس قبل رحيلها بأسبوعين، يقول “أحسب أنها أرادت مما سجّلته في هذا الحوار أن يكون بمثابة وصية”، بدأت حديثها معه بما كتب عنها النقاد الأميركيون أنها “أدخلت الفلسفة إلى الشعر الأميركي”، وفسّرت الشعر والنثر بأن “القول شعر، التفسير والتحليل نثر”. ثم انطلقت باتجاه نيتشه “ما أراد نيتشه أن يقوله ولم يقله، هو أن العودة الأبدية هي اكتشاف الألوهة في دواخلنا”، وتستخدم نظرية القوة عند نيتشه وتشرح أن اللون هو التعبير عن إرادة القوة في المادة، واللون رغبة المادة في أن تكون. ثم تعبر فوق آلام جسدها، وردًا على سؤال لطرابلسي إن كان من أشياء ودّت لو تحقّقها ولم تفعل، تجيب بالنفي، وبأنها اشتغلت كثيرًا، لكنها تابعت “كنت أريد للشعر أن يتحرّر”… ربما كان بودّها القول: كنت أريد للإنسان أن يتحرّر… من موته ومن ظلاميّته.
عنوان الكتاب: إتيل عدنان: في الحب واللغة المؤلف: فواز طرابلسي
عن ضفة ثالثة