كثيراً ما جرى اختزال المفكر الفرنسي جيل دولوز (1925 - 1995) في مقولته الأبرز: "الفلسفة هي إبداع المفاهيم"، وهي عبارة جامعة، لكنها اختزالية حيث إنها حجبت معالم كثيرة في منجزه الفكري المتشعّب. نلمس ذلك خصوصاً في ثقافتنا العربية حيث إن الكثير من القضايا التي لامسها المفكر الفرنسي، على أهميّتها في سياق واقعنا، قد بقيت في الظل مقابل ربطه بهذه المقولة التعريفية العامة واختزاله فيها.
في كتابه الصادر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، يبدو الباحث الجزائري زهير قوتال وقد عاد إلى نفس المنطلق للحديث عن المفكر الفرنسي حين عنوَن كتابه بـ"المفهوم الفلسفي عند جيل دولوز"، غير أننا سنجد أنه يقدّم صورة أكثر تكاملاً حول صاحب "منطق المعنى" حيث يعود، خصوصاً في الفصل الأول، إلى مجمل مسار دولوز، فنتعرّف على بيئته ومنطلقات مشروعه وشبكة علاقاته من أصدقاء وأساتذة، ومن هناك تتفرّع المسالك وصولاً إلى دراسة مفهوم "المفهوم" في الفصل الثالث والأخير من العمل.
هكذا، فإنه إلى جانب الموضوع الصريح لهذا العمل، على أهميّته وراهنيّته، فإن القارئ العربي سيقع على فائدة أساسية تتمثل في وقوفه على سيرة فكرية لأحد أعلام المعرفة المعاصرة، وهذا النوع من المؤلفات السِيَرية الفكرية قد شهد خفوتاً في الثقافة العربية في العقود الأخيرة.
ففي الوقت الذي نشطت فيه الترجمة الفكرية، خلال العقدين الأخيرين خصوصاً، وهو أمر محمود في حدّ ذاته، نقع على تقلّص في كمّ المؤلفات التي تُعنى برسم ملامح مفكرين من التراث العربي أو من الثقافة الغربية، وذلك مقارنة بمرحلة منتصف القرن الماضي، حيث درجت مؤلفات من قبيل "نيتشه" لـ عبد الرحمن بدوي، و"كانط أو الفلسفة النقدية" لـ زكرياء إبراهيم، و"ديكارت" لـ نجيب بلدي.
مقابل ذلك، تدعّمت الدراسات حول المفكرين لتهتم بقضية ما تتعلّق به، إضافة إلى تعدّد الترجمات، وهو جهد يَنسى أن سيرة مفكر تكون عادة المدخل لحسن استخدام مدوّنته، إضافة إلى أنها على عكس الترجمات والدراسات قابلة للوصول لجمهور أوسع.
لكن، ليس هذا الاشتغال على حياة المفكّرين هيّناً بالضرورة أو تبسيطياً، إذ نجد في كثير من الأحيان اجتهادات مهمة في نقل المفاهيم، وهو حالنا مع كتاب "المفهوم الفلسفي عند جيل دولوز"، حيث يجتهد المؤلف في إدخال مصطلحات المفكّر الفرنسي من جهة، ويبيّن الظروف التي تهيّأت كي تتبلور من أخرى.
هذا المنهج الذي اتبعه قوتال يبدو مستلهماً من موضوع كتابه نفسه، جيل دولوز، فالأخير قد خصّص جزءاً كبيراً من مؤلفاته في قراءة فلاسفة سبقوه، واستخرج مفاهيمهم وبيّن مقامات استعمالها، وهو ما يسميّه المؤلف استئناساً بإحدى العبارات الدولوزية، "الدخول في الورشة المفهومية لهذا الفيلسوف أو ذاك"، ومن هذه الأعمال نذكر: "سبينوزا ومسألة التعبير"، و"نيتشه والفلسفة"، و"البرغسونية"، وهذه الأعمال تقابل مرحلة أولى من مسيرة دولوز الفكرية يقول عنها قوتال أنها "تبدو معرضاً للرسومات الشخصية" (البورتريه) لكنه يعترف لدولوز بأنه فعل ذلك دون أن يكون نيتشوياً أو برغسونياً أو سبينوزياً، لتكون القراءة هنا عبارة عن "تمرين مُحيطي" Océanique.
أكثر من ذلك يستقرئ المؤلف خيارات دولوز في انتقاء هذا الفيسلوف أو ذاك دون غيره، وسنعرف في الفصل الثاني، أن ما يبدو اختيارات عشوائية إنما هو جزء لا يتجزّأ ضمن مشروع دولوز الفلسفي عامة، حيث يقول قوتال: "يبدو في ظاهر الأمر أن دولوز وهو يسلك هذا النهج لم يخرج عن تقاليد مؤرّخي الفلسفة، وأن اشتغاله على نماذج من الفلاسفة لا يخرج في ظاهره على تقاليد الفلسفة وتاريخها، إلا أن دولوز رسم داخل هذا العمل التاريخي خطوط الهروب وسبل الانفلات من كاهل التيارات الفلسفية المقرّرة".
بذلك، لا تكون السيرة الفكرية التي قدّمها قوتال مجرّد مدخل فهم لدولوز، وإنما هي جزء من العملية التأليفية في مجملها، فالسيرة الفكرية ليست فقط تعداداً لمحطات وتواريخ وإنما هي بناء يتضمّن عمليات تأويلية وتمحيصية، وأبعد من ذلك هي مناسبة لفهم مفكّر ضمن معطيات ثقافة مختلفة، حيث تظلّ كل كتابة انتقائية يحدّد خلالها المؤلف العناصر الأكثر أهمية حين نتلقّى مفكراً غربياً، وللمؤلف هنا أن يُهمل ما يرى أنه خصوصية فرنسية بحتة ويركّز على ما يعتبره مفيداً في ثقافة التلقي، وهذا الانتقاء يكاد يكون غير ممكن في عمليات تعريب السير الفكرية حيث يتعارض ذلك مع أمانة الترجمة.
ما نشعر به حين يحدّثنا المؤلف - بناء على كل ما سبق - عن محنة دولوز تجاه التراث الفلسفي، وكيف تجاوز إكراهاته بما هو "مأزق فكري" أو "قدر محتوم"، فهذا "التراث الكبير" بات "وضعية-معضلة" غير ملائمة للإبداع الفلسفي. أليس ذلك حال الثقافة العربية وهي ترتطم في كل مرة بضخامة التراث الفلسفي الغربي؟
يدلّنا قوتال إلى أن دولوز قد اعتمد على ما هو خارج حدود الفلسفة لتجاوز هذا "الحصار"، فقد استلهم نموذج كافكا في ما يسميه إنتاج "أدب صغير" Littérature mineure، أي كتابة تجد ثغرة للهروب من إكراهات تاريخ الفلسفة أو تاريخ الأدب أو أي إكراه آخر، وصولاً إلى "القبض على مساحة حدثية مرآوية" تتجاوز "الأماكن الفارغة من المعنى"، دون أن يعني ذلك قطيعة كلية مع هذا التاريخ أو ذاك، وهو مسار أدّى بدولوز إلى نفي تلك المقولات من قبيل "نهاية الفلسفة" و"موت الميتافيزيقا" حيث إن الفلسفة تظلّ حاجة بشرية باعتبار أنها تمنح ما يجعل الواقع قابلاً للقبض العقلي، من خلال وظيفتها في إنتاج المفاهيم.
يخصّص المؤلف الجزء الثالث من كتابه لنظرية المفهوم، وينطلق هنا من خصائص المفهوم الفلسفي بشكل عام قبل أن يعرض تصوّرات دولوز والذي كان يلحّ على أن المفهوم لا يكون له معنى وقيمة من دون ارتباطه بإشكال فلسفي، وبالتالي لا يمكن خلق المفاهيم عن طريق الصدفة، ليتفرّع الحديث بالمؤلف حول شروط "الصناعة المفاهيمية" وهي صناعة تحتاجها ثقافتنا بلا شكّ لمواجهة ما في الواقع من تشظّيات ولا معنى.
هناك فائدة أخرى يقدّمها الكتاب، حيث يقدّم قائمة مراجع تكاد تكون خارطة شاملة تمسح كل ما تناول فكر دولوز في ثقافته الأصلية. مقابل ذلك لم يعتمد المؤلف على المصادر العربية، وفي هذا السياق كتب في تقديم العمل: "أما مصادر دولوز المعرّبة فلم نستعملها على الإطلاق، وذلك راجع إلى توافر المصادر باللغة الأصلية وضعف التعريب وركاكته في غالبيته، والأمر نفسه بالنسبة للمراجع باللغة العربية، فقراءتها أصعب من قراءة المراجع المكتوبة بالفرنسية، وهو راجع إلى عوامل عدة ليس مجال ذكرها هنا".
لئن كان لهذا الحديث مبرّراته، وهو متداول في كواليس الثقافة العربية، إلا أنه بدا مثل حكم مسبق في الوقت الذي كانت مسألة تناول دولوز، ومِن ورائه أي مفكر أجنبي آخر، في ثقافتنا مبحثاً فرعياً يمكن أن يضيف للكتاب الكثير حين يسائل أسباب ذلك أو يطرق سبل معالجتها.
ولعل هذا المبحث كان سيؤدّي منفعة أكبر للثقافة العربية حين يضيء بعض إعاقاتها في تقبّل الفكر العالمي، فمن دون ذلك لا مجال لبلوغ القدرة على الإبداع الفلسفي، وهو على رأي دولوز "لا يأتي من لا شيء أو على غير مثال سابق، ولا يقوم الفيلسوف وحيداً وجهاً لوجه مع ورقة بيضاء".
الضفة الثالثة