قراءة كتاب المؤرّخ إيلان بابيه (1954) "أكبر سجن على الأرض: سردية جديدة لتاريخ الأراضي المحتلّة" تؤكّد أنَّ الصهاينة في المجزرة المفتوحة في غزّة يحاولون "إصلاح" خطأهم التاريخي بعدم إبادة الفلسطينيّين جميعاً عام 1948. وأحد أهدافهم اليوم قتل أكبر عدد من الفلسطينيّين، وفي خاطرهم أن يقتلوا الفلسطينيّين جميعاً، مستغلّين انتكاسة عربية وعالمية لإنجاز جزءٍ ممَّا فاتهم إنجازُه سابقاً، خصوصاً أنَّ تاريخ "إسرائيل" ميثاق قتل. كتاب بابيه، الصادرة ترجمتُه عام 2020 عن دار "هاشيت أنطوان" في 368 صفحة بتوقيع أدونيس سالم، مدخلٌ لفهم الطريقة التي يفكّر بها الصهاينة بأصحاب الأرض، وهو سجلٌّ للمشروع الصهيوني الإسرائيلي. يركّز بابيه على سياسات "إسرائيل"، خصوصاً تلك التي وضعتها بعد عام 1967، وصنعت الصورة التي انتهى عليها الحال في الضفّة الغربية وقطاع غزّة، اللتين يصفهما بالترتيب؛ السجن المفتوح، والسجن مُشدَّد الحراسة.
يرى بابيه أنَّ القضية الفلسطينية آخر حلقات الحرب العالمية الثانية، وقرار الاعتراف بكيان الاحتلال كان خطوة سمحت لأوروبا بالتكفير عن جرائمها ضدَّ اليهود، وحقّقت السلام بين الشعوب الأوروبية. أمّا رؤية الصهاينة فهي يهوديَّة الدولة المزعومة، بالسيطرة على أراضي فلسطين التاريخية مع تقليص أعداد الفلسطينيّين. وقبل المذبحة الراهنة، بدا أنَّه كلّما تصالح الغرب أكثر مع ماضيه العنصري، صار صعباً على قتَلة الأطفال الاستمرار بقتل الفلسطينيّين. وهكذا بسبب الآثار الديمغرافية للاحتلال، أصبحت السيطرة على المزيد من الأراضي تهديداً ليهوديَّة الدولة المزعومة، فالحصول على المزيد من الأراضي صار يعني الحصول على المزيد من الفلسطينيّين الأحياء.
يتحفّظ بابيه على توصيف "إسرائيل" بالاحتلال، لأنَّ هذا يُعطي الشرعية لـ"إسرائيل" بالأراضي التي احتلّتها عقب انتهاء الانتداب البريطاني، ولأنَّ الاحتلال إجراءٌ مؤقّت. تحفُّظ بابيه ودقّته في استخدام المصطلح جعَلا الكتاب بحثاً شاملاً في تفصيل ضمن قضية معقّدة وشائكة بكلّ المقاييس. وهذا التفصيل قانونيٌّ يشتمل على حياة ملايين الفلسطينيّين ممّن وجدوا أنفسهم خاضعين لقوانين عقابية.
صنعت "إسرائيل" بالتضييق على الفلسطينيين، على تحرّكاتهم وعمارتهم ومصائر أبنائهم واقتصادهم وتنقلهم داخل مدنهم وقراهم، مصيدة رهيبة لا سبيل إلى الفكاك منها إلّا بتحطيمها. الكتاب غنيٌّ بتفاصيل قانونية وسياسية ترتبط بالنظام العقابي الذي صنعه الصهاينة، ويعرض مسار المفاوضات والتشريعات الإسرائيلية، إلى جانب اعتداءات القتلة المتكرّرة حتَّى تاريخ إصداره عام 2017.
"إسرائيل" كيانٌ عُدواني. والحاجة إلى العُدوان تأتي من غياب الانتماء إلى الأرض أساساً. الصهاينة يحتاجون إلى أن يُشعِروا "شعبهم" بأنَّه معتدىً عليه، كي يستطيعوا حشدهم بطاقة العُدوان والكراهية. وبحسب بابيه، في أكثر من موقف، كان الجنرالات يكبحون رغبة المستوطنين بقتلِ المزيد من الفلسطينيين، وسرقة المزيد من أراضيهم وبيوتهم. ويعرض الكتاب أيضاً بالتفصيل مراحل تهويد فلسطين. إذ مع إدراك الصهاينة أنَّ فرصة عام 1948 لن تتكرّر بالتطهير العِرقي عبر القتل بلا مساءلة وبشكل مطلق؛ أخذَ التطهيرُ العِرقي شكلَ العقاب الجماعي، ليكون سلوك "إسرائيل" لـ"تصحيح الخطأ التاريخي" -بعدم قتل وتهجير جميع الفلسطينيين إثر تسويات الحرب العالمية الثانية- اتّباع سياسات منهجية عنصرية تهدف إلى دفع الفلسطينيين أنفسهم إلى الرحيل باعتماد قرارات قهرية تُعاند رغبة "المساجين"؛ فإن أراد السجين الرحيل يُمنَع عنه، وإن أراد البقاء يُهدَّد بالطرد.
اقتراح السلام بالصورة التي تفهمها "إسرائيل" هو أن يقتنع الفلسطينيون بألّا رأيَ لهُم في حياتهم، وفي شؤونهم، وفي تفاصيل عيشهم اليومي، وفي أرضهم. فكرة "إسرائيل" عن السلام، هي أن يعيش الفلسطينيّون في سجن كبير محكومٍ ذاتياً بقوانين صاغَها عقل صهيوني متطرّف وعنصري. والمفاوضات التي أجراها الفلسطينيون مع القتَلة، كانت أشبه بالفخاخ التي جعلت مصيدة القتل أشدَّ تعقيداً وفتكاً. حتى إنَّ الصهاينة يصوّرون قضية فلسطين مُشكلةً في القوانين، لا في الواقع المفروض نفسه، وبالكيفية التي فُرضت بها. بعد أن صنعوا نظاماً مركّباً بالغ التعقيد وفق استراتيجية "التكييس". أي، حفظ الأشياء داخل كيس، وجرى وفقاً لها تطويق الفلسطينيّين داخل أراضيهم. وهكذا، وبانتظار الطّرد الجماعي للفلسطينيّين، أو قتلهم، عملت "إسرائيل" على عدم السماح لهم بالمُغادرة، وعَزَلتهم داخل مناطق خاصة من حولها مستوطنات شكّلت حدوداً لاحتجاز الفلسطينيّين في سجون صغيرة.
عدا عن قراءته السياسية، فإنَّ لبابيه وجهة نظر قانونية بواقع الأراضي الفلسطينية المحتلّة. ويكاد المرء يعتقد أن المشكلة في الواقع القانوني والاقتصادي الذي أحدثه الكيان المغتصِب، واقعٌ جعل المُستعمَرة تابعة للمستعمِر. فالفلسطيني "الجيّد" يعمل والفلسطيني "السيّئ" يُقابَل بالتجويع والقتل. لكن بابيه يقول بوضوح: إنَّ المقاومة، والتشبُّث بالأرض، والانتفاضات المُتكرّرة، جاءت ردّاً على عُنف منهجي يقوم به الصهاينة منذ البدء. كذلك لا يرتبط تعريفُه للإبادة الجماعية بالأرقام، بل بالاتجاه والاستراتيجية.
في تعليقه على حرب عام 2009، أَمَلَ بابيه أنَّ "مراعاة ذكرى الهولوكوست" ستمنع الصهاينة من ارتكاب الإبادة الجماعية. لكن هذا زمان مضى، فالصهاينة وعلى امتداد أحد عشر شهراً جعلوا الهولوكوست النازي إرثاً خاصاً بهم. وكأنَّ "إسرائيل" تريد أن تخترق الإنسانية بالحدود القصوى، ليس فقط في المنطقة العربية. بل تريد أن تقول للعالم كله، إنّ هذا هو القانون الجديد: اقتلُ أكثر، تحصل على صمتٍ أعمق. وبعد أن تردم المقبرة، لن يخرج صوت واحد من الأرض. فقط لعنات المقتولين ستلاحق القاتل إلى ما شاء الله. وما انتقالُ الحرب الإسرائيلية إلى الضفة الغربية، إلا متابعة لسياساتِ السجن المفتوح كي يصبح سجناً مشدَّد الحراسة، ثمّ تأتي مرحلة نزول السجَّانين ببنادقهم الآلية إلى ساحة السجن، ومع كاميراتهم.
العربي الجديد