هنا شاعر لم يكن بحاجة للأقنعة، بل ظل ملتزما بالقضايا العادلة منتصرا لمبادئه وموقفه الصريح من الظلم. الشاعر النمساوي إريش فْريد، أحد الوجوه المرموقة في "الشعر السياسي" رغم أن له الكثير من القصائد حول موضوعات أخرى كالحب، ويظل ديوانه "اسمعي يا إسرائيل" ديواناً متفردا وشهادة عميقة من ضمير حي. لازال الى اليوم يؤرق هذا الكيان الذي يواصل اليوم إبادته الجماعية بدون حسيب ولا رقيب، وفي ظل هذه الوحشية المستمرة تستعيد الكلمة هذا النص الطويل الجدارية لنكتشف كم هي راهنة وحديثة هذه الرؤية الشعرية النافذة.

ديوان العدد

اسمعي يا اسرائيل

إريـش فـريـد

نقلها للعربية: د. عيسى علاونه

 

-1-

لستُ كالغريب.

لا لستُ كالغريب، ولا كعدوكم

ولستُ ممتلئاً بالحقد عليكم

بل إنني أتكلم كواحدٍ منكم

يعرفُ دروبَ الشتاتْ

في غرف الغاز وفي المواقدِ

حيث لاقى ذووُكم حتفهم

وكذا كان مصيرُ أهلي أيضاً

في غرف الغاز والحريق.

 

منذ ذاك الوقت أراني أُكافح

ضِدَّ كُلِّ ما أَودى بكم إلى هناك

وضِدَّ القوى التي ساعدت

هتلر للوصول إلى السلطة

 

هؤلاء لم يختفوا بعد

عن هذه الأرض

وأنتم ... ماذا أنتم فاعلون؟

إنكم تَرَونهم، وتَدَعُوهم يساندونكم فيما تفعلون

 

-2-

أولاء يريدون منكم ...

ذاتَ الشيء الذي أرادوه من هتلر

مطلوبٌ منكم أن تكونوا مواقعَ أمامية

لهم في نظامِ عالمهم

 

لذا وجبَ عليَّ أن أقولَ وبمرارة

عبر آذانكم التي أوقرتموها

بالباطل الذي يصُّمُ الآذان

كما كان حالكم في زمن الأنبياء.

 

وحتى عندما يكون الحالُ صعباً

وعندما تدفعون ثمن ذلك مرارةً وشقاءً

لكن ... لن يكون بوسعكم أن تتقوَّلوا

أنَّ هذا ما سمعتموه من أعدائكم فقط.

 

حتى لا يُقال في زمن قادم

في الوقت الذي حالفَ النصرُ اليهودَ

لم يتكلم واحدٌ منهم

ضِدَّ هذا الظلم والباطل.

 

-3-

لقد عانيتُم في أوروبا

من جحيمِ الجحيم

لوحقتم وهُجِّرتم

وأدركتم مجاعةَ الموت البطيء.

 

وبطشَ المجرمين القتلة

وحالَ ضعفكم وهوانكم

وأنتم بلا عونٍ ولا مُسعف

إِنَّهُ أقدم شكلٍ للباطل

عندما لا يعرف الواحد غير قوة نفسه.

أَمعنتم النظر إلى جلاَّديكم

منهم تعلَّمتم الحروب الخاطفة كالبرق

والفظاظة المؤلمة

 

وما تعلَّمتموه ...

ها أنتم الآن تريدون أن تفعلوه

أنتم يا أبناء زمن الظلم

الذين ترعرعوا في حضن الباطل.

 

-4-

صِرْتم مزارعين نُجباءَ "شُطّاراً"

رَويتم أرضَ الصحراء

أما أولئك الفقراء الذين كانوا

يعيشون قبلكم هناك

فقد هجَّرتُموهم

 

وأُولو البِرّ بكم وصحبكم

ومانحوا المال لكم

والذين أرسلوا لكم البذور كي تعملوا

والسلاح من أجل التَّسلط والبطش

 

يتطلَّعون الآن:

ها قد أثمرتِ البذور

ليس نباتاً فقط

بل حقداً مشروعاً مُستحقاً

تجنونه اليوم

 

لم أَشَأْ أن تغرقوا في البحر

ولم أشأْ أيضاً

أن يهلك الآخرون

عطشى في الصحراء من جرَّائِــــكم.

 

عندما كنتم مُلاحَقينْ

كنتُ واحداً منكم

لكن كيف لي أن أبقى كذلك

عندما غَدوْتُم أنفسكم تلُاحِقونْ؟

 

-5-

لم تتعلموا شيئاً من الشعوب

بل تعلمتم من الأسياد فقط

لم تعودوا أنتم الضحايا

بل ها أنتم تُحيلون الآخرين إلى ضحايا

 

قوتكم هذه فانية

هذي التي تظنون أنها كافية

كي تسلبوا الآخرين أرضهم

التي عليها كانوا يعيشون.

 

-6-

وجوههم شبيهة بوجوهكم

لغتهم قريبة من لغتكم

كان أنْ أوقعوا بكم ظلماً في حينٍ ما،

ليس كل شيء كالأسود والأبيض

 

أنتم وهم كذلك

لَوَّحتكم الشمسُ ذاتها

ولكنَّ ظلمكم كان الأكبر

لأنكم أَبَحْتُم لأنفسكم

أن يعطيكم الأرض

أولئك الذين ليس لهم الحق

في أنْ يهبوا أرضاً.

 

حقّاً، كنتم مضطهدين من حيث جئتم

أكثرَ من أيِّ مُستعْمَرين آخرين

أجل، لكنَّ الفقراء على هذه الأرض التي سلبتموها

لم يكونوا هم المذنبين!

 

حقّاً، كنتم أنفسكم على حالٍ من الفقر

ولكن أكثرَ غِنىً من أولئك

الذين ابتعتم أرضهم

كما فعل اليانكي - فيما مضى

بالهنود الحمرْ.

 

-7-

عودوا! هيّا عودوا!

الذين منحوكم المال والسلاح

لن يبقوا هنا على طول الزمن القادم

كي يحرسوكم.

 

العودة ليست شيئاً سهلاً

إن كراهية الآخرين المعوزين تعيش طويلاً

وكثيرون يتمنون لكم

ما تمنيتُموه أنتم لِجلاَّديكم

 

أجل ... ليس أمامكم غير هذا الطريق

أن تفتحوا لأنفسكم باباً على المستقبل

إذا ما أردْتُم مستقبلاً

غير مستقبلٍ تكونون فيه المكروهين دوماً وأبداً.

 

ارجعوا! هيّا ارجعوا!

الذين منحوكم المال والسلاح

هم بحاجة لكم كمرتزقة فقط

في التضاد مع المستقبل

 

وضِدَّ ... نهاية الاستغلال

ضِدَّ أمل المعوزين الفقراء

ضِدَّ ... الشعوب

التي يفترض أن يكونوا إخوةً لكم

 

-8-

حقّاً، كان بينهم أولئك الذين نادوا:

" اليهود إلى البحر "

تلك لم تكن أصوات المستقبل

لكن لا تنسَوْا

ليس جميعهم كذلك

كما الحال عندكم

ليسوا كلهم متساوين في التفكير

 

في مصر وسوريا

كانت قِوىً أخرى تعمل

غير تلك التي كانت تقبع

في القصور العربية

أو الأردن

 

-9-

الملوك هم الذين دعوا إلى الكراهية

لم يعرفوا وسيلةً أخرى

كي يُحرِّضوا أقوامهم على الكفاح

 

أجل وحتى أن عداوة الآخرين

هي من حصيلة أفعالكم

لستم بريئين من الذنب

أنهم أصبحوا أضداداً لكم

 

لا تنسَوْا أيضاً:

في نيويورك

في هامبورغ

في لندن

كتبت الصحف بمودة أكثر عن أولئك

الذين من ديارهم جاءت

النداءات بمذبحة الشعوب

كتبت عن فيصل وحسين

مقارنة بمصر وسوريا

 

لأن الملوك يريدون دعمهم

والبلاد التي تتلمس بحذر

إلى الاشتراكية

فيريدونها أن تهوي إلى السقوط.

 

عليكم أن تقدموا لهم خدمة

بقضكم وقضيضكم

وبكل ما تملكون.

 

 -10-

إذا لم ترغبوا أنتم أنفسكم هذه المهمة

إذا لم يكن النشاط والذكاء ديدنكم

إذا لم تكن فيكم الإنسانية الحَقَّة

ولم تكن عندكم أي استقلالية

عندئذ سوف تصيرون المُرتبطين

المُكَبَّلين المَأْسورين

لِأُولاءِ الذين يقطر منهم الظلم

تماماً كما يُرْبَط المحكوم بالإعدام إلى المقصلة

 

وكمثالٍ للتحذير والنذير:

تُرى إلى أين تقود الشجاعة والشطارة

عندما يكون الإغراء قويّاً

في خدمة الظلم؟

 

-11-

لا أقول هذا لأولئك

الذين كانوا أعداءً لكم على الدوام

ويبحثون عن تَعِلَّاتٍ

من أجل كراهيتهم القديمة

ليس أيضاً لهؤلاء الذين هم بين ظهرانيكم

والذين تعلموا الدروس من الحاقدين

أقول أن يكرهوا أنفسهم

أو أن يروا أنفسهم كالممجوجين

 

أجل، أقول هذا بالتضاد

لأولئك الذين يريدون أن يصنعوا أنفسهم الآن

طبقاً للصورة ذاتها،

صورة الذين محقوهم

من أجل أن يصيروا هم أنفسهم ماحقين.

 

لأنَّهم عندما يحكمونكم

يقضون على أنفسهم بأنفسهم آخر الأمر

رغم الانتصارات

كما فعل الذين امتهنوا سحقكم

 

أقول هذا أيضاً

أمام الأصدقاء الأخوة

وضِدَّ الأصدقاء الكذَّابين

الذين يستغلون عَوَزكم

من أجل أن يغرقوا أعمق في الخطيئة

 

وضِدَّ هؤلاء الذين هَجَّروكم

حيث يكون قد فات الأوان للرجوع

من أجل أن تُلَبَّى أهدافهم

بدمكم أنتم.

 

-12-

لقد نجوتم من بطش هؤلاء الأجلاف

الذين كانوا وما انفكوا

قساةً غلاظَ القلوب عليكم

وعِشْتم بَعْدَهم.

ولكن هل لا زال يعيش جشعُهم فيكم؟

 

كان شوقكم أن تصبحوا

مثل شعوب أوروبا

الني عَمِلتْ فيكم تقتيلاً

وها أنتم أولاء الآن

غدوتم مثلهم.

أَجبرتم المغلوبين

" أن اِخْلعوا أحذيتكم " *

وكما أكباش الخطيئة

سقْتوهم إلى الصحراء.

 

في جامع الموت الكبير

حيث أحذيتهم هي الرمل

ولكنهم لم ينصاعوا أبداً

لم يقبلوا الخطيئة

التي أَرَدْتم وصمهم بها

 

إن مواطئَ الأقدام العارية

في رمال الصحراء

باقيةٌ أطول من آثار

قنابلكم ودباباتكم.

باقية أقوى من نيران قنابلكم ودباباتكم.

 

 

*  كتبت صحف غربية أن أعداداً كثيرة من أسرى الحرب المصريين العرب أُرغموا في حرب الأيام الستة في حزيران 1967 على خلع أحذيتهم، وقد سيقوا من قبل الجنود الإسرائيليين ليعودوا إلى بلادهم من حيث أتوا حفاة في هجير الصحراء والرمال الحارقة، وكانت نهاية الكثيرين المفجعة. المتحدثون باسم الصهاينة في الغرب أو الصهاينة أنفسهم أنكروا هذا وسمّوه حادثاً عابراً، ولكن الصور التي نُشرت بعد الحرب بقليل- مثلاً في التلفزيون الألماني- تظهر هذا العمل الدنيء، كما كتبت مجلة كونكريت الألمانية – هامبورغ في 28.8.1967، وصور أخرى ظهرت في باريس 24.6.1967 ومجلة لايف في 30.6.1967، وEurope في 29.6.1967. 

 

ولد إريش فريد ونشأ في فيينا، ابناً وحيداً لعائلة يهودية. ومن الممكن أن نقول إن طفولته انتهت مع وصول النازيين إلى الحكم عام 1933 وهو في عمر الثانية عشرة، إذ ألقي القبض على أبيه بعد انضمام النمسا إلى ألمانيا عام 1938. وبعد وفاة الوالد من جراء تعذيب البوليس السري (الغستابو)، فر الفتى من فيينا النازية إلى لندن، حيث ظل يعيش حتى وفاته. كان في البداية يكسب رزقه من أعمال مشروعة وغير مشروعة، وبما يجمعه من نقود تمكن من شراء تأشيرات هجرة إلى بريطانيا لمعارفه من اليهود. وهكذا نجت أمه ومعها نحو سبعين شخصاً من المصير الذي لاقاه أبوه على أيدي النازيين. في مطلع الخمسينيات عمل إريش فريد معلقاً في هيئة الإذاعة البريطانية في لندن "بي بي سي"، غير أنه استقال عام 1968 لاختلاف وجهات نظره السياسية مع توجهات المؤسسة الإعلامية، ثم تفرغ للشعر والترجمة الأدبية، واشتهر في البداية بترجماته المعاصرة لأشعار إليوت وديلان توماس وسيلفيا باث، ثم لمسرحيات شكسبير.