مضت قرابة سنة على «طوفان» السابع من أكتوبر الجلَلْ الذي بُذل له حبر كثير وغزير تحليلًا وتقويمًا، هجاءً أو تمجيدًا، وكانت آراءٌ متفاوتة ومتناقضة، تفاعلات وتأثّرات وحماسات، ومن ثم تأسّيات حيال مآسي الإبادة والمجازر الإسرائيلية الوحشية التي تلت الحدث الكبير الذي ما برحنا نعيش تداعياته. ولبثتُ على المستوى الشخصي منتظرًا القول الفصل والقراءة الأدقّ لما جرى في هذا التاريخ المفصليّ، وما سبقه وما تلاه، ممّن عهدتُ دومًا لديه دقة التحليل والتوصيف والاستنتاج المبنيّ على عقل جدليّ، علميّ، موضوعيّ، وأعني بذلك الدكتور عزمي بشارة الذي ألفنا انتظار مواقفه وآرائه وتحليلاته الدقيقة الصائبة عند كلّ حدث مفصليّ مؤثّر في مسار قضايانا العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية الأمّ.
العلم اليقين حول "طوفان الأقصى"، دوافعه وخلفياته وتداعياته وتفاصيله وحيثياته، بتنا اليوم قادرين على معرفته والاطّلاع على دقائقه لدى قراءتنا كتاب "الطوفان: الحرب على فلسطين في غزة" للدكتور عزمي بشارة، الصادر حديثًا في أيار/ مايو الفائت 2024 ضمن منشورات المركز العربي للأبحاث والدراسات، في 183 صفحة قطعًا وسطًا، وفي فصول بحثٍ أربعة: 1 ــ عملية طوفان الأقصى والحرب على غزة (تقييم في خضم الأحداث)، 2 ــ قضايا أخلاقية في أزمنة صعبة، 3 ــ الحرب على غزة: السياسة والأخلاق والقانون الدولي، 4 ــ الحرب على غزة وأسئلة المرحلة. فضلًا عن جداول وأشكال بيانيّة، وفهرس بالمراجع العربية والأجنبية، وفهرس عام بالأسماء.
يلفتنا الباحث أولًا إلى أن حدث السابع من أكتوبر الكبير لم تُعرف خواتيمه بعد، لذا يصعب الإلمام بجميع مكوّناته وآثاره، وأنّ الحقائق بشأنه "لا تُرى قبل انجلاء غبار مرحلة ما"، مع أن "للقرب الزمني، أو معايشة الحدث، فضائل أيضًا"، مؤكدًا على "أنّ هذا الكتاب الصغير لا يطمح إلى البحث في تاريخ منفصل لقطاع غزة، ولا في تاريخ القضية الفلسطينية"، علمًا بأنّ مؤلّفًا آخر للدكتور بشارة صدر في التاريخ نفسه، وعن المركز عينه، تحت عنوان "قضية فلسطين: أسئلة الحقيقة والعدالة" في 392 من القطع الوسط، وهو ترجمة عربية عن الكتاب بنسخته الإنكليزية الصادرة عام 2022. ولنا عودة إلى هذا المؤلَّف القيّم جدًا.
بإيجاز شديد، يتناول الباحث خلفية الحدث، مشيرًا إلى أن انسحاب إسرائيل من داخل غزة عام 2005 لا يعني نهاية الاحتلال. وفي هذه الإشارة ردّ على بعض الآراء التي كانت مصدّقة أنّ غزة متحرّرة من الاحتلال ومفاعيله، فسرعان ما يؤكد الدكتور عزمي على أنّ إسرائيل "ظلت قوة احتلال في غزة من خلال تحكمها في حركة سكانها، وفي كل ما يدخل إليها ويخرج منها، وفي بحرها وأجوائها، وحوّلتها إلى معسكر اعتقال كبير هو الأكبر في العالم، حيث يُسجن فيه أكثر من مليوني فلسطيني" (ص12) غير غافل عن "أنّ لمصر دورًا في ذلك، إذ إنّها أسهمت في فرض الحصار منذ عام 2007" (ص12). ويلفت القارئ إلى أنّ "غالبية سكان غزة من اللاجئين الذين يعيشون على مسافة كيلومترات معدودة من القرى التي هُجّروا منها، وهي مكوّن أساسيّ من القضية الفلسطينية التي لم تقارَب، فضلًا عن أن تُحَلّ، بقرار شارون الانسحاب من القطاع من دون اتفاق، أو تسوية عادلة، أو عادلة نسبيًّا".
شرح مهمّ لحقيقة واقع غزة المحاصرة يفضي بالباحث إلى القول الحسم: "لم يغمر الطوفان الأرض من العدم". في هذا القول دحض لكلّ المقولات حول واقع غزة ما قبل "الطوفان"، والتي أدلي بها جهلًا، أو خبثًا، أو عن سوء تقدير. ويستشهد الدكتور عزمي بكلام الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش القائل بموضوعية لا لبس فيها أو شك: "من المهمّ أن ندرك أن هجمات حماس لم تحدث في فراغ، وأن هذه الهجمات لا تبرّر لإسرائيل القتل الجماعي الذي تشهده غزة" (ص12).
الحصار المفروض على غزة منذ عام 2007 ليس وهمًا افتراضيًا، بل تقوم عليه أدلّة واضحة ودامغة يفنّدها الباحث واحدًا واحدًا، منها عدم السماح للغزيين بالخروج من القطاع إلا في حالات استثنائية فحسب (من مثل تلقي علاج طبي)، ومنع دخول كثير من السلع، كالمواد الأولية للبناء والصناعة والأغذية والأدوية، وغيرها، بموجب قائمة إسرائيلية طويلة، و"بحجة أنّ لها علاقة، وإن كانت بعيدة وغير مباشرة، بمتطلبات بناء الأنفاق، أو لوجود احتمال، ولو كان ضئيلًا، لاستخدامها في صناعة الصواريخ والقذائف" (ص13) فضلًا عن التحكّم في كهرباء القطاع وضربها، وقصف المناطق الزراعية، ونشوء بطالة غير مسبوقة تصل نسبتها إلى ثلثي قوة العمل (ص13).
في الوصف الدقيق الذي يقدّمه الدكتور عزمي بشارة "أصبح قطاع غزة معتمدًا كلّيًا على ما يدخل من إسرائيل عن طريق المعابر، كمعبري بيت حانون ــ إيرز، وكرم أبو سالم. وتتحكم إسرائيل في اقتصاده وحياة سكانه تحكمًا شبه كامل، يخفّف من وطأة انفراج ناجم عمّا سمّي "اقتصاد الأنفاق"، وذلك بتوسيع شبكة الأنفاق السرية التي تصل القطاع بمصر، والتي استُخدمت لا لإدخال الأسلحة ومواد صناعة المتفجرات وغيرها فحسب، بل أيضًا للتجارة واستيراد البضائع" (ص13). ويرتبط كل ذلك أيضًا "بالتهميش الذي تعرّضت له قضية فلسطين في السنوات الأخيرة، والذي لم يستهن بمعاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال في الضفة الغربية، وبالسلطة في رام الله، فحسب، وإنّما استخفّ أيضًا بشقاء غزة المتواصل، ما كان يدفعها إلى لفت نظر العالم إلى محنتها مرة بعد أخرى بتدابير شتى، منها إطلاق صواريخ مثلًا" (ص14 ــ 15).
تَرَاكمُ ما أسماه الكاتب "شقاء غزة ومحنتها"، كأنّما للقول إنّ هذا الكمّ من القهر والإذلال والحصار والتقييد والمنع ولّد غضبًا عُبّر عنه مرارًا بإطلاق الصواريخ للتذكير بواقع القطاع المحاصر والمتروك. أضف إلى ذلك واقعًا خارج نطاق غزة إنّما يعني أهلها هو تكثيف النشاط الاستيطاني وتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية والقدس وارتفاع وتيرة عمليات اقتحام الأقصى، ولا سيما في عام 2002، خصوصًا بوجود الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ البلاد (ص15). فضلًا عن إساءة معاملة الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية ومصادرة مكتسباتهم على مستوى حياتهم في السجن (ص15). مبرّرات كافية لانتفاض فلسطينيي غزة ضدّ اقتحامات المسجد الأقصى، والاعتداءات على الضفة، والتعامل الوحشي مع الأسرى في السجون. ليكتمل النقل بالزعرور، كما يقول المثل في بلاد الشام، وتزدهر مشاريع التطبيع بين بعض الدول العربية وإسرائيل، من دون حلّ القضية الفلسطينية.
واستنادًا إلى هذه الخلفية تُقرأ بالنسبة إلى الدكتور عزمي بشارة عملية طوفان الأقصى "وإن ليست هذه الخلفية سببًا مباشرًا" (ص16) وبالتالي "يمكن تفسير قرار التخطيط لمثل هذه العملية وتنفيذها بتلقين إسرائيل درسًا على الخلفية المذكورة. ويمكن أيضًا إضافة التصدّي لتهميش قضية فلسطين، وإعادتها إلى مركز الاهتمام الإقليمي والدولي" (ص16). يشرح المؤلف واقع حركة حماس في غزة، وعلى مستوى الواقع الفلسطيني عامة والشرخ الذي حصل بينها وبين السلطة الفلسطينية في أعقاب اتفاق أوسلو، ثم الصدام المسلح بينهما عام 2006، ومعضلاتها وتناقضاتها إزاء جميع الأطراف، سواء السلطة، أو الاحتلال الإسرائيلي، وحتى مصر والدول المعادية للإخوان المسلمين.
لنصل إلى عملية طوفان الأقصى بحسب نظرة الدكتور بشارة الذي يحكّم موضوعيته قائلًا: "لقد ارتكبت خلال هذه العملية العسكرية الطابع عمومًا انتهاكات بحق المدنيين الإسرائيليين" (ص19) مستدركًا أنّه "اتضح أيضًا أنّ جزءًا كبيرًا مما أعلنته إسرائيل ووسائل إعلامها، وكذلك وسائل الإعلام الغربية التي دأبت على نقل الرواية الإسرائيلية بلا تحفظ، في حين تحفظت على نقل الرواية الفلسطينية، في ما يتعلق بجرائم ارتكبت ضدّ المدنيين، لم يكن صحيحًا، وأنّ القوات الإسرائيلية ارتكبت جزءًا آخر بسبب الارتباك والذهول اللذين أصاباها بتأثير الصدمة والمفاجأة، وذلك بإطلاق النار من المروحيات والدبابات على مقاتلي حماس والمحتجزين من الإسرائيليين، هذا عدا اختلاط الحابل بالنابل عند إطلاق الجنود الإسرائيليين النار على الفارين بسياراتهم، أو سيرًا على الأقدام، من مهرجان موسيقيّ كان ينظّم بالقرب من كيبوتس رعيم، على بعد 5 كيلومترات من الحدود مع غزة، ربما تفعيلًا لتعليمات قديمة (بروتوكول هنيبعل) تحثّ الجنود على منع هروب الخاطفين مع المحتجزين (من الجنود)، حتى لو أدّى ذلك إلى قتل الآخرين".
وتقتضي الموضوعية الإشارة إلى "تجاوزات، وحتى جرائم، ارتكبت في حق المدنيين من جانب الطرف المهاجم، بمن في ذلك مقاتلو كتائب عز الدين القسام، وبعضها لا يتحمّل أولئك المقاتلون مسؤوليته المباشرة، إذ تدفقت جموع من الغزيين إلى المستوطنات عبر فتحات السياج الحدودي الذي اخترقه مقاتلو القسام". ويلفتنا الباحث إلى "أنّ ما ميّز عملية طوفان الأقصى هو سمتها العسكرية التي تكاد تكون نظامية، بمعنى اختلافها عن عمليات المقاومة المسلحة المنفردة". ويحيلنا على مؤلّفه الآخر "قضية فلسطين"، الذي يصف فيه المقاومة المسلحة في فلسطين بأنّها أصبحت في ضوء التجربة وانسحاب الدول العربية من المواجهة مع إسرائيل حالة دفاعية رادعة، وبالتالي يمكن شمل عملية طوفان الأقصى كاستمرار للاستراتيجيا الدفاعية.
"فهي ردّ على تواتر اقتحامات المستوطنين الحرم القدسي الشريف، بحماية الشرطة الإسرائيلية وحرس الحدود، إلى درجة تشكيل واقع جديد من التقسيم الزماني فيه. وهي ردّ على الحصار المتواصل على القطاع وعدم الوفاء بالوعود المختلفة لتخفيفه بعد كل حرب من الحروب الأربعة. وهي أيضًا ردّ على سياسة معلنة لإساءة أوضاع الأسرى الفلسطينيين وظروف سجنهم منذ تأليف حكومة الائتلاف اليميني المتطرّف وتعيين إيتمار بن غفير وزيرًا للأمن القومي، وإعادة سجن أسرى محرّرين في صفقات سابقة. وكان أخذ رهائن لإجراء عملية مبادلة من أهداف العملية المعلنة، لإجبار إسرائيل على تنفيذ عملية تبادل" (ص21) دوافع ومسبّبات وأهداف واضحة لا تحتمل شكًّا أو جدالًا أو افتراضات أخرى حاول البعض الترويج لها.
يرى الدكتور عزمي في عملية الطوفان "تجاوزًا للمنطق الدفاعي الردعي بوصفه الوحيد الممكن كما تبيّن من تاريخ الكفاح المسلّح الفلسطيني"، عادًا "أن حسابات هذه الحرب خاطئة، فاستراتيجية الكفاح المسلح الممكنة في الظروف الراهنة هي الردع والدفاع مع هامش واسع لعمليات استنزاف تمنع تطبيع حالة الاحتلال، وتعوق تحوّله إلى وضع عادي لا تزعج ᾿روتينه̔ أي مقاومة" (ص22). إذًا، بعد تأييد الباحث أحقّية الخلفيات والدوافع، يرى في المقابل أنّ القائمين بالعملية أخطأوا الحسابات بتحويل المقاومة من وظيفتها الردعية ــ الدفاعية إلى وظيفة هجومية مبادِرة. فهو يتابع الفكرة بقوله: "لا يمكن أن تكون الاستراتيجيا هجومية في ظل ميزان القوى بين إسرائيل وحركات المقاومة في غزة والضفة الغربية، والأوضاع الإقليمية، حيث تنقسم الدول العربية بين دول معنية بالقضاء على حركة حماس، أو إخراجها من المعادلة الإقليمية على الأقل، وأخرى لا تستطيع أن تشاركها المواجهة المباشرة مع إسرائيل، أو غير راغبة في ذلك." (ص22 ــ 23). ويقرّ دكتور عزمي بأنّ عملية طوفان الأقصى حققت هدف "التصدي لتهميش القضية الفلسطينية من خلال التطبيع بين دول عربية وإسرائيل من دون حلّها حلًّا عادلًا" (ص24) وقد أفشلت العملية في رأيه هذا التهميش، وإن أنكرت قيادة حماس أنه من أهدافها.
يمرّ الباحث تفصيليًا على دور الإعلام واستعادة إسرائيل دور "الضحية" في حملتها الإعلامية، وتبنّي الرئيس الأميركي بايدن الرواية الإسرائيلية حول ذبح المدنيين slaughtered على يد حماس، وليس قتلهم (killed)، وهنا يُبرز دكتور عزمي الفروق (المتعمّدة) في المصطلحات، لخدمة الرواية الإسرائيلية المتبنّاة أميركيًا حول "قطع رؤوس الأطفال" و"جرائم الاغتصاب". حتى أظهرت التحقيقات كذب تلك الادعاءات "ففي وسع أيّ عاقل الاستنتاج أن هذه المزاعم الفعّالة في استثارة المشاعر كانت جزءًا من استراتيجية الدعاية الحربية، لا مجرّد أخطاء. وتكرارها يخلّف وصمة يريدونها أن تلصق بالمقاومة الفلسطينية، متمثلة في حركة حماس في هذه الحالة" (ص28 ــ 29). كما تمّت "شيطنة الغزّيين بوصفهم الحاضنة الاجتماعية غير البريئة لأنهم لم يثوروا على حكم حماس للقطاع، على حد تعبير الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ، بما يتيح الاقتصاص الجماعي منهم" (ص29). هنا يلفتنا الباحث إلى "أنّ الانتقام الجماعي يشكل إحدى مميزات الاستعمار الاستيطاني، فالردّ بعد عملية عنيفة تعرّض لها مستوطن أو أكثر يكون عادة بالانتقام من القرية، أو البلدة، أو الحي، حيث يقطن مرتكب الفعلة، أو من حيث خرج. فالاستعمار الاستيطاني ينظر إلى السكان الأصليين بوصفهم جماعات، ولا بد من معاقبتهم (تربيتهم) جماعةً، فهذه بنيتهم الاجتماعية، ولا وجود لمسؤولية فردية، أو تعاقدية (مسؤولية هيئات واتحادات)، كما أنهم لا يفهمون سوى لغة القوة من منظور المستعمر" (ص30).
أمر آخر تحقّق، في تقدير الدكتور عزمي بشارة، هو أيضًا لم يدخل في حسابات من خطّط لعملية طوفان الأقصى: "اتساع التضامن العالمي مع فلسطين نتيجةً للجرائم الإسرائيلية التي لم تخطط لها حماس بالطبع"، لافتًا إلى أنّ "السلوك الإسرائيلي شديد الهمجية" ليس سببه عملية طوفان الأقصى، بل "يرجع إلى النزعة الثأرية وسياسات العقوبات الجماعية"، كما يهدف إلى "جعل غزة غير صالحة للحياة" (ص32)، مؤكدًا أن الحرب الإسرائيلية "تجاوزت هدف القضاء على حماس إلى شنّ حرب إبادة"، مكررًا القول إن حسابات القائمين بالعملية كانت خاطئة. "ولم يتبقّ إلّا الإنجازات السياسية المهمة التي لم يُخطّط لها، ولكنها أصبحت من أهم نتائج الحدث، مثل إفشال تهميش قضية فلسطين (وإن لم يتوقف التطبيع)، والتضامن الشعبي العالمي الواسع مع الشعب الفلسطيني في غزة نتيجة للفظائع التي ارتكبتها إسرائيل، وهو أيضًا ليس ضمن الحسابات والخطط. ولا شك في أن القضية الفلسطينية تشهد أوسع تضامن شعبي منذ النكبة" (ص35).
يحذّر الدكتور عزمي من المبالغات قائلًا: "يضيف كثير من المحللين أمورًا مثل اتضاح هشاشة إسرائيل ومجتمعها بدليل الهستيريا والخوف الوجودي اللذين أثارتهما العملية. وربما يُفهم هذا السياق بوصفه انكشاف الضعف الذي يفترض أن يشجع "أطرافًا أخرى̔ على محاربة إسرائيل. وفيما عدا غياب هذه الأطراف الأخرى المدعوة إلى هذه المحاربة باستغلال الفرصة السانحة، فإنّ الحصيلة الحالية هي استخدام إسرائيل الخوف الوجودي في التحشيد للحرب وقلبها إلى حرب على الوجود الفلسطيني في غزة، ولحشد إسناد غير مسبوق من داعميها، ولا سيما الولايات المتحدة، بالمال والسلاح" (ص35 ــ 36) جليّ من هذه الملاحظة (بل التحذير) فائقة الأهمية أنّ ما يمكن أن تظنّه المقاومة ومحورها ضعفًا وهشاشة في الكيان يوظّفه الصهاينة بدهاء في تعزيز مقولة "الخطر الوجودي" والخطر الداهم على الكيان، لمضاعفة مستوى الوحشية في الإبادة.
هنا ينتقل بنا الباحث، وتحت عنوان فرعي، إلى "الحرب الإسرائيلية ودوافعها"، مشيرًا إلى أنّ حصر التصريحات الرسمية الإسرائيلية بشأن عملية طوفان الأقصى وردّ إسرائيل عليها يحتاج إلى أكثر من مجلد، ومثلها تحليل الرأي العام الإسرائيلي الذي يحتاج أيضًا إلى مجلد آخر، لذا يكتفي باحثًا متابعًا بإيجاز أهم ملامح ردَّي الفعل العسكري والسياسي الإسرائيليين، وثمة في قراءتنا هنا إيجاز للإيجاز بسبب ضيق المجال. يقول الدكتور عزمي "إنّ ردّ الفعل الإسرائيلي الأوّلي جمع بين الصدمة والاندهاش وإحياء المخاوف الوجودية، وذلك بسبب اكتشاف قدرات فلسطينية غير متوقعة تطوّرت في تحدّ لحصار دام 17 عامًا على القطاع (...) ولم يخلُ الأمر من غضب وشعور بالإهانة بسبب انقلاب نظام الأشياء. ومثّل هذا الانقلاب صورة الفلسطيني الذي يجرّ الجندي الإسرائيلي، أو يسحبه من الدبابة. وأسهمت الدعاية الرسمية في مخاطبة الغرائز وتعميق المخاوف باستدعاء تشبيهات الهولوكوست ومعاناة اليهود عبر التاريخ" (ص37).
صدمة إذًا، واندهاش لقوة الخصم المستجدة، وخوف على الوجود، واستعادة لذاكرة الهولوكوست، ومخاطبة للغرائز، ودعوة الى الانتقام القبليّ. ويصف الكاتب واقع الكيان الصهيوني بكلمات معبّرة وفريدة: "تعيش إسرائيل منذ ذلك اليوم عملية تعبئة وتجييش قبليّة بدائية بأساليب تكنولوجية حديثة" (ص37). معادلة صائبة ودقيقة تكتمل لدى الإسرائيلي بالمبالغات والكذب والأوصاف العنصرية بحق الإنسان الفلسطيني والدعوة إلى عدم الرأفة به والدعوات الصريحة إلى إبادته، وتشجيع عامة الناس على حمل السلاح حتى "اكتسح مشهد النساء والرجال الذين تتدلّى تحت خصورهم بنادق إم 16 (M16) المجال العمومي، من مراكز التسوق، وحتى غرف التدريس في الجامعات" (ص38).
يعيد الدكتور عزمي وقائع الشروع في الإبادة من خلال عمليات القصف الوحشية جوًّا وبرًا وبحرًا على غزة عمومًا، وليس على أهداف محددة فيها، وهذه كلّها وقائع مهمة، موثقة ودقيقة جدًا، مرفقة بأشكال بيانية لاستطلاعات داخل المجتمع الإسرائيلي حول إمكانية الانتصار في الحرب وتحقيق الأهداف وإزالة التهديد، وهل سيتم كل ذلك في تقديرات الشارع الإسرائيلي. وهذا حيّز في البحث يحتاج إلى قراءة في الكتاب وغير مفيد اختصار مضمونه وأرقامه في قراءتنا الحالية. أمّا في أهداف حرب الإبادة ودوافعها فيرى أولًا أنّه "لا يمكن تفسير السياسات الإسرائيلية من دون دوافع الانتقام" (ص44) أولًا، وثمة من ناحية أخرى "استغلال الحرب من قبل قوى وازنة في المؤسسة الإسرائيلية لتنفيذ مخططات مؤجلة التنفيذ في الضفة الغربية والقدس" (ص44)، فضلًا عن سعي نتنياهو إلى "انتصار مطلق" عبر اجتياح كل غزة، أي احتلال القطاع بأكمله، وجعله تحت السلطة الإسرائيلية، متحديًا الضغوط الدولية، بما في ذلك الضغوط الأميركية، لمواصلة الحرب.
ويعدّد الباحث بالأرقام والجداول الخسائر الإسرائيلية في حرب الإبادة هذه، ويعرّج أيضًا بالجداول على التراجع ونسب التغيّر في الاستثمارات داخل إسرائيل من جراء هذه الحرب، وعلى كلفة المبيعات العسكرية الأميركية للكيان، لافتًا في المقابل إلى أنّ لمساندة الغرب غير المشروطة وجهًا آخر يشرحه في ثلاث نقاط "أولًا، ظهر بوضوح عجز إسرائيل عن خوض حرب طويلة من دون الدعم الأميركي المتواصل بالمال والسلاح والذخيرة (...) وبالتالي، فإن إسرائيل تفتقر إلى مقوّمات استقلال القرار السياسي في زمن الحرب، ولذلك عليها أن تعمل من دون توقف على ضمان موقف أميركي مؤيد لسياستها ولا يفرض عليها شروطًا (...) ثانيًا، بيّنت الحرب أن دولة الاحتلال أصبحت عاجزة عن إدامة احتلالها الذي يتخذ شكل نظام فصل عنصري من دون ارتكاب جرائم ضد الإنسانية بمقاييس تصل حد الإبادة الجماعية (...) ثالثًا، أصبح هذا الأمر يرتبط أكثر فأكثر بتحالف صهيوني يميني ــ ديني يصطدم على نحو مباشر بنمط الحياة المديني العلماني والعلماني الليبرالي الذي نشأ في ظروف ازدهار اقتصادي وتطور عملي، ويغير صورة إسرائيل في العالم. والاصطدام هذا قائم، وإن حجبته وحدة القبيلة في زمن الحرب (...) رابعًا، تضرّرت صورة إسرائيل في العالم بسبب ما ارتكبته وترتكبه في غزة، وصعدت حركات تضامن شبابية وطلابية واسعة ونشطة تذكّر بحركات الشباب ضد نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، وضد الحرب في فيتنام في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته" (ص58 ــ 59).
يتوقف الباحث عند حراك الطلاب الذي انتشر في الجامعات الأميركية والأوروبية "بتمرّده الأخلاقيّ على الظلم، وعدم التزامه بالانقسامات الأيديولوجية. ومن المرجح أن يطلق هذا الحراك، مع انضمام أوساط من الأساتذة إليه، سلسلة تفاعلات ثقافية وفكرية خيطها الواصل بينها هو ارتباط فكرة التحرّر لدى هذا الجيل بالظلم الواقع على الفلسطينيين" (ص61). حول ما يسمّى "اليوم التالي" ومخططاته (منذ البداية وحتى الساعة ولم تضع حرب الإبادة أوزارها بعد!)، يرى الدكتور عزمي بشارة أنّ عملية طوفان الأقصى "لم تغيّر موازين القوى، ولكنها ألقت الضوء على ملامحها وتحدّتها في الوقت ذاته (...) وتولّد خلال الحرب على غزة تضامن شعبي عربي وعالمي غير مسبوق مع الفلسطينيين، ونفور من الهمجية الإسرائيلية. كما أن الحرب أفشلت عملية تهميش القضية الفلسطينية.
وبدأ هذا التحوّل في الموقف تجاه ضرورة حل القضية يتخذ صيغًا بنّاءة، مثل اعتراف دول غربية بدولة فلسطين، ضمن مبادرة تقودها إسبانيا. ولكن قد يُفرغ هذا الاعتراف من معناه إذا لم يشمل حدود الدولة: خطوط الرابع من حزيران/ يونيو، وتكون القدس الشرقية عاصمتها" (ص62). ويأمل الباحث في أن يكون "الثمن الذي دفعه الشعب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال هذه المرة، وانسداد السبل أمام هذا الاحتلال على الرغم من استخدام أقصى درجات العنف، يُفترض أن يكونا كافيين "لإقناع" المستعمِر وحلفائه بالانتقال إلى تركيز الجهود على التوصل إلى حل دائم وعادل. هذا ما حصل لفرنسا في الجزائر، فالمقاومة الجزائرية لم تهزمها عسكريًا، بل حصل العكس. ولكن حجم المعركة واستعداد الشعب الجزائري للتضحية واستمرار المقاومة بعزيمة لا تفتر، كل ذلك دفع فرنسا إلى إعادة النظر في وجودها في الجزائر. فبعد وصول القمع المديد إلى ذروة غير مسبوقة، يحصل أن يستنتج المستعمر أن القوة فقدت نجاعتها، والأجدى هو البحث عن حلول لا تشمل تورّطًا عسكريًا أو استخدامًا للقوة" (ص64).
غير أنّ هذا الأمل يتبدّد حين يبدي الدكتور عزمي استغرابه حيال استمرار إسرائيل وداعمتها الرئيسة، الولايات المتحدة، في تجنّب الخوض في حل للقضية الفلسطينية "حتى بعد هذه المأساة الكبرى التي حلّت بالشعب الفلسطيني"، بل هما "تبحثان عن سبل لإدارة قطاع غزة بإنشاء سلطة تحت إشراف أمني إسرائيلي، مع إشغال الرأي العام العربي باتصالات سداسية هذه المرة (فلسطين ومصر والأردن والسعودية والإمارات وقطر)، لصياغة أفكار لليوم التالي، وكيفية التوصل إلى حل الدولتين، مع أن مبادرة السلام العربية ما زالت موجودة" (ص65). الفكرة الجوهرية هنا أن فظاعة حرب الإبادة على غزة لم تقنع الولايات المتحدة وكيان الاحتلال بعد بضرورة إيجاد حلّ دائم للصراع العربي ــ الإسرائيلي، بل يراوغ الحليفان ويسعيان بدلًا من ذلك إلى وضع إسرائيل يدها الكاملة على القطاع، وإلهاء الجهات العربية المعنية بالكلام الفارغ عن "حل الدولتين" غير الجدّي.
أمّا بالنسبة إلى كيان الاحتلال، "فإنّ المهمة الأولى بعد الحرب هي إيجاد بديل لحماس يمكنه "فرض الأمن" بالتعاون مع دول عربية، مثل مصر، والأردن، والإمارات، مع العلم أن نتنياهو يرفض أن يكون البديل سلطة رام الله. ولذلك تتجاوب إسرائيل مع الإدارة الأميركية بالحديث عن "سلطة متجددة" (...)" (ص65)، فمّما يُنشر ويقال يتضح، بحسب الدكتور عزمي، "أنّ مشاريع اليوم التالي الإسرائيلية والأميركية المجهولة لا تتضمن حلًا لقضية فلسطين، بل حلولًا "إبداعية̔ لكيفية إدارة قطاع غزة بحيث لا تشكل تهديدًا أمنيًا لإسرائيل" (ص66)، وفي الرؤية الأشدّ قتامةً "يمكن أن تصمت حماس عن سلطة مفروضة بعد الحرب إذا كانت تتوافق معها، لأنها تدرك أن إدارة القطاع لم تعد متاحة لها، إلّا إذا تركته إسرائيل ركامًا وطلولًا على حاله، وانسحبت وواصلت محاصرته، فحينها ستكون حماس القوة المنظمة الرئيسة القادرة على إدارة القطاع، أي إدارة الخراب في غياب دعم دولي للإعمار واستمرار الحصار" (ص65).
ولناحية سلوك السلطة الفلسطينية في رام الله تجاه ما يجري في غزة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وغياب أي تنسيق مع حركة حماس "فهو سلوك من يعتقد أن حماس جنت على نفسها، ويُفترض أن تتحمّل وحدها عواقب عملها. وتروم السلطة الاستفادة من هذه "الفرصة" المتاحة، بقضاء إسرائيل على حركة حماس، لكي تتسلّم هي إدارة قطاع غزة من جديد، سوية مع الضفة الغربية. وتمثل محاولات جهاز المخابرات الفلسطيني العودة إلى العمل في القطاع مؤشّرًا على بدء التنافس على إدارته" (ص67). أي أنّ ثمة سباقًا محمومًا، منذ الآن، ولم تنقضِ الحرب بعد ولا بانت نتائجها الميدانية، نحو حكم غزة في "اليوم التالي" الذي لم يأتِ بعد!
حول ما أسماه الباحث "الجريمة" في عنوان فرعي في ختام الفصل الأول، يرى أنّه "في ما عدا الأهداف السياسية المعلنة التي تبغي إسرائيل تحقيقها بغضّ النظر عمّا تسبّبه من ضحايا بين المدنيين (وعدم الاكتراث هذا معلن بصياغات عدة، تغطي حقيقة استهداف المدنيين)، وحتى لو لم نأخذ تصريحات الوزراء والنواب الداعين إلى الإبادة في الاعتبار، فإن الفظائع المرتكبة على نحو متكرر حتى تحوّلت إلى نهج متكامل، تكشف إرادة لتقويض مقومات الحياة في قطاع غزة، والإضرار الجسدي والمعنوي بأكبر عدد من سكانه ودفعهم إلى الهجرة" (ص70). ويفصّل الدكتور عزمي عناصر قصف المنازل والتجويع الفعليّ واستهداف وكالة الغوث الأونروا، وعدد الشهداء والجرحى الرهيب، وتضرّر قطاع البيئة وقطاع التراث الثقافي، وكل ذلك يظهر في جدول تفصيليّ بالخسائر الاقتصادية الناجمة عن الحرب الإسرائيلية على غزة بحسب القطاعات، مع مقارنتها بالخسائر الناجمة عن حربَيْ 2014 و2021.
مؤكدًا "أنّ الانتقام وحده لا يفسر هذه الدرجة من التدمير، ولا استعادة هيبة الردع الإسرائيلية وحدها، على أهمية هذا الدافع"، إذ يرى أن هنالك إرادة في تحويل غزة إلى "عبرة"، وتأليب المجتمع الفلسطيني على حركات المقاومة، وحتى فكرة المقاومة نفسها "فقد يدفع حجم الخسائر في غزة أجزاء من الغالبية الصامتة إلى لوم المقاومة على نتائج عمليتها غير المحسوبة، مع أنه لا يوجد فعل يبرر ردّ الفعل الإسرائيلي بحرب إبادة" (ص81 ــ 82) عادًا "أنّ سبب جرائم الإبادة هو العنصرية والغطرسة والعقلية السائدة والمهيمنة على أصحاب القرار في إسرائيل، وأيضًا أهدافهم السياسية" (ص82). ويخلص الباحث في ختام الفصل الأول إلى أن توقّع نهوض قوى سياسية فلسطينية مقاومة للاحتلال ليس ضربًا من الخيال في ظل عدم الوصول إلى حل عادل يضمن للشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية في تقرير المصير.
التحدّي الأخلاقيّ:
وإذا ما انتقلنا إلى الفصل الثاني الذي يحمل عنوان "قضايا أخلاقية في أزمنة صعبة"، سنجد أن الدكتور عزمي يرى فيه أنّ توحّش الحرب والقتل بالجملة يثير تأملات وجودية، مشيرًا إلى أنّ هذا الفصل "غير موجّه إلى مجرمي الحرب ولا إلى ضحاياهم الذين تكفيهم همومهم" (ص 83) بل يهدف – في تعبير الباحث – إلى "تمييز القضايا الأخلاقية التي أثارتها، وتثيرها، الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ومعالجتها على حدة (...) وذلك بسبب طمس حدود الأخلاق، أي ما يميّزها، في غمرة التجييش والاستقطاب السياسي وحتى الاستقطاب الهويّاتي في زمن الحرب. إنّها المعضلات الأخلاقية التي تواجه الإنسانية، نتيجة للأعمال الوحشية التي تُرتكب خلال العدوان، والوسائل التي استخدمها لتحييد الحكم الأخلاقي على ما يُرتكب من جرائم" (ص 83 - 84).
لا يكتمل بحثٌ ذو طابع فكريّ، سياسيّ، من دون نظرة فلسفية، وهذا ما يفعله الدكتور عزمي بشارة انطلاقًا من الخلفية الأكاديمية الفلسفية التي تميّزه عن معظم الباحثين والمحلّلين العرب عند تفكيك الحدث، أو الأيديولوجيا، أو النصّ. القراءة الفلسفية التي أسماها تأملًا وجوديًا ضرورة حتمية في معالجة طوفان الأقصى وتداعياته على طرفي الصراع، وبخاصة على غزة التي تتحمّل نتائج الإبادة الرهيبة وتفرض الأسئلة الفلسفية والأخلاقيّة على المتأمّل في فظاعاتها ومآسيها غير المسبوقة. يقول الدكتور عزمي: "لا تكون القيم الأخلاقية محرّكًا للفعل البشري أصلًا، لا في الحروب ولا في غيرها، إلّا في حالتين: 1. إذا أثّرت هذه القيم في بنية الإنسان الشعورية الانفعالية، بحيث تحمله على الفعل أو الامتناع عن فعل، أو الشعور بالذنب إذا فعل العكس (...) 2. إذا صيغت القيم الأخلاقية في معايير يمكن التنشئة عليها (أو أصبحت أعرافًا أو قوانين) ويحترمها الفرد لذاتها، أي التزامًا بها، أو إحساسًا بالواجب، لا خوفًا من العقاب" (ص 84).
"أما ما يسمّى الضمير الإنساني الفردي (ولا يوجد ضمير جماعي إلّا في الاستعارة) فهو جمع بين استدخال (Internalization) المعايير الأخلاقية وتذويتها في البنية الشعورية للإنسان" (ص 84 - 85). يريد المفكر والباحث القول إنّه لا يمكن التعويل على "الضمير الجماعيّ"، لأنّه غير موجود، فبالكاد يوجد الضمير الفردي الذي تحرّكه دوافع قد لا تكون من النوع الأخلاقي (يعدّد بعضها). حتى سعي الفرد إلى تحصيل السعادة مثلًا يتمّ بوسائل يمكن محاكمتها أخلاقيًا، وبالتالي لا يكون هذا السعي في حد ذاته قيمة أخلاقية (ص 85). ويصحّ الأمر نفسه بالنسبة إلى قيم الحياة والكرامة الإنسانية والحرية. يعطي الكاتب مثلًا "قيمة الكرامة، فإنّها تتقاطع مع المشاعر القوية ضد الإذلال إلى درجة الانتفاض على من يمارسه (...) والأهمّ أنها قد تؤدي إلى الشعور بالذنب عند ممارسة الإذلال ضدّ الآخرين، إذا كانت قيمة أخلاقية فعلًا لا مجرّد مشاعر ذاتية بالكبرياء" (ص 86).
وكأنّي بالدكتور عزمي بشارة، مستندًا إلى تيار فكري من روسو إلى فرويد، يؤمن بأنّ "الحياة الأخلاقية ممكنة" (لا أقاسمه هذا التفاؤل) لأنّ الاجتماع الإنساني يقوم، بالنسبة إليه، على ترويض الغرائز (وسبقته إلى ذلك الديانات التوحيدية من منظور معاكس). فتنجم عنه معايير وأعراف اجتماعية وتركيبات نفسية فردية مختلفة (ص 86). ويعبّر الدكتور عزمي عن رأيه الشخصي، موضحًا في الهامش (ص 86) أن رأيه يشمل مجموعة فرضيات لا إثبات عليها سوى قدرتها التفسيرية، فيقول: "ليست المعطيات الطبيعية أخلاقية ولا غير أخلاقية. ولكن، من ناحية أخرى، ثمة في رأيي المتواضع، فضلًا عن الغرائز التي يروّضها الاجتماع البشري، معطيات إنسانية طبيعية، لا تحتمل تسمية قيم بالطبع، ولكنها تشكل استعدادات طبيعية لنشوء الأخلاق. فمن ناحية، لا تنشأ الأخلاق عن قانون أخلاقي مفترض قبْليًّا، كما عند إيمانويل كانط (17241804)، ومن ناحية أخرى، ليس جميع ما يُفطر عليه الإنسان مجرّد غرائز يجب ترويضها، أو قمعها، من أجل تمكين الاجتماع البشري من التحقق. وكما نوازع إنسانية طبيعية تتعارض مع الاجتماع البشري، توجد أخرى تدفع إليه" (ص 86-88).
يقترب الباحث في تؤدة وتأنٍّ من صلب موضوع بحثه، أي غزة والإبادة التي تعرّضت ولا تزال تتعرّض لها، ممهّدًا الطريق بقناعاته الفلسفية قبل إسقاطها على الموضوع الأساس. يمرّ على مسألة "الدفاع عن الذات" (التي قد تتوسع لتشمل الجماعة) فدفاع الإنسان عن حياته أمرٌ طبيعي مدفوع بغريزة البقاء لا بالأخلاق، ويُفترض أنّه حق في نظر الآخرين (ص 87) ثم مسألة النفور من التسبّب في الألم للجسد البشري "وقد يكون هذا إسقاطًا من نفور الإنسان من شعوره بالألم على فعل التسبب بالألم الجسدي للبشر الآخرين، كما قد يكون نفورًا غريزيًا عند الإنسان الطبيعي من مرأى إيذاء الجسد الإنساني"، بينما ثمة في المقابل جماعات ومجتمعات تتغلّب على النفور الغريزي من إيذاء الجسد الإنساني "برفع حق الدفاع عن النفس فوقه، وبالمنظومات العقابية، وشيطنة الآخر وتنمية مشاعر الاحتقار أو الحقد تجاهه، بحيث تقمع مشاعر النفور من العنف، أو تجعل تحمّلها ممكنًا" (ص 87). الكيان الصهيوني مثل حيّ على الفكرة الأخيرة، فهو ينمي مشاعر الاحتقار والحقد تجاه الآخر، ويقمع مشاعر النفور من العنف فيدفع إليه و"يقدّسه" ويجعل تحمّله ممكنًا.
من الفرد والجماعة في مبحث الأخلاق، إلى الدولة والأخلاق، حيث "لا تكفي الأحكام الأخلاقية على الدول لإقناعها بتغيير سياساتها، لأنّها ليست مدفوعة أصلًا بالأخلاق" (ص 89). يا لبلاغة القول: الدول، تاريخيًّا واليوم والأرجح إلى أخر الأزمنة، لن تكون يومًا مدفوعة بالأخلاق. لا تعني المسألة الأخلاقية الدول التي لا تقتنع إلّا بلغة المصالح (الاستراتيجية والاقتصادية) ذاتها. فالأخلاق تتطور مع نمو الوعي الذاتي (الفردي)، بينما لا تطوّر الدول "أخلاقها" الخاصة بها، على ما يرى الدكتور عزمي بشارة بفكر ثاقب. كما لا استعدادات طبيعية لدى الدول، ولا دوافع غريزية، ولا وعي ذاتي فردي. وتصوغ الدول المعايير بلغة الأخلاق والقوانين الوضعية، بيد أنّها جميعها غير ملزمة في غياب من ينفّذها! وبالتالي "أصبح النقاش الأخلاقي الدائر بشأن الصراعات الدولية، بما في ذلك الاحتلال، غير متعلق بالفضيلة، بل بانطباق المعايير المتفق عليها على الأفعال التي ترتكبها الدول، والعجز عن تنفيذها بسبب تصرّف الدول الكبرى بموجب التحيّزات المختلفة والاصطفافات والمصالح الاستراتيجية وغيرها من المصالح، وليس بموجب المعايير" (ص 91).
أيّ معيار أخلاقي تعطّله إذًا مصالح الدول الكبرى وصراعاتها التي تعزّز شريعة الغاب بين الدول. ومع ذلك لا يقفل الباحث باب الأمل فالحكم الأخلاقي على الدول جائز، في رأيه، ويمكن تبرير ذلك "أولًا بأنّها مؤلفة من بشر أفراد ذوي عقول وإرادات، ويمكنهم التمييز بين الخير والشر، كما أن موضوع فعلها، أو على الأقل المتأثرين به، هم بشر، أفراد وجماعات، وثانيًا لأن غاياتها وأساليبها ونتائج فعلها قابلة للحكم الأخلاقي الفردي المنطلق من قيم، وأيضًا من معايير أخلاقية متفق عليها" (ص 92). مرة أخرى، لا أدري إن كنت أستطيع مشاركة الباحث تفاؤله.
يستدعي المؤلف ذكر المحكمة الجنائية الدولية التي أنشئت عام 1998 في أعقاب جرائم الإبادة المرتكبة بعد نهاية الحرب الباردة (في رواندا والبلقان) و"لم تتمكن منذ تأسيسها من معاقبة مسؤولين أو ضباط من قوى عظمى وأيّ أفراد شاركوا في ارتكاب جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية، أو جرائم إبادة جماعية، في الحالات التي خرجت فيها دولهم منتصرة من الحرب، وظلّت كذلك. تخصصت المحكمة في معاقبة المهزومين، فحيث تتدخل الدول، تدخل اعتبارات لا علاقة لها بالأخلاق" (ص 93). ليست الحقيقة ضحية الحرب الأولى كما يقال، بل تسقط الاعتبارات الأخلاقية قبلها عند خوض الحرب. هنا نندفع في التهام كلمات مقطع فائق البلاغة فلسفيًا ووجدانيًا للدكتور عزمي:
"يُسوَّغ السقوط بانفصال منطق الدولة وأسبابها (Raison d'états) عن الأخلاق بحجة المصالح، أو بحجة اضطرار الدولة إلى القيام بأعمال غير أخلاقية في خدمة غايات تعدّها مستحقة لذلك، مثل الحرب نفسها. وما دامت هذه تسمح بخرق القيمة الأولى، أي الحق في الحياة، بتشجيعها على قتل أفراد العدو، ولا يسري فيها على العدو ما يسري على الصديق، فماذا يكون مصير القيم الأخرى الأقل شأنًا؟ حين تنطلق حملات الدعاية والكذب الأولى، تكون الأخلاق قد وُضعت جانبًا، وطلب منها أن تلتزم الصمت، وأُخرست الأصوات التي تتكلم باسمها، فالخيط الرفيع الفاصل بين الحياة والموت لا يتحمّل إلحاحها. وهنا تحديدًا، تصبح إثارتها مسألة مصيرية بالنسبة إلى الضحايا. ويتجاوز واجب إثارتها النقاش بشأن "عدالة" الحرب: أهي حرب عادلة (يُقصد بها في عصرنا حروب التحرير والدفاع عن النفس أو الحروب التي تندلع بعد استنفاد السبل غير العنيفة)، أم حرب عدوانية غير عادلة؟ البشر كيانات أخلاقية بفعل الاستعدادات الطبيعية المذكورة، وبفعل الوعي والإدراك والاجتماع البشري، وربما تكون الاصطفافات في زمن الحرب من أعظم التحديات التي تتعرض لها كيانيتهم الأخلاقية" (ص 93).
عن العلاقة بين الأخلاق والهوية، يرى الباحث أنّ الأخلاق الخاصة (أي الفردية) "تتطابق مع الأخلاق العمومية، بحيث يصعب التمييز بينهما في إطار الجماعات الوشائجية (...) ولا يقلّل التفرد، وإدراك الفرد فرديته من خلال التمايز بين الأخلاق الفردية الخاصة والأخلاق العمومية، وازدياد احتمال القرارات الأخلاقية فرديًا، من أهمية الجماعة المرجعية، حتى لو أصبحت جماعة هوية متخيلة مثل القومية والأمة. وفي حالة نشوب العداوة والخصومة، ولا سيما الحرب، تزداد وشائجية الجماعية المتخيّلة، أي قبليّتها، أو طابعها العصبوي. وتزداد الفجوة بين الأخلاقيات داخلها والأخلاقيات خارجها، وتصل إلى حدّ التناقض" (ص 94). ويدلّ الباحث بقوّة على "نفاق الدول الغربية" خلال العدوان على غزة، أي مؤسساتها الحاكمة، في موقفها الداعم للحرب واستمرارها، حتى بعد أن اتضح حجم الجرائم الكبرى، مستثنيًا حكومات إسبانيا وأيرلندا وبلجيكا.
ومقدمًا أمثلة على استخدام الأفعال المبنية على المجهول (أي تجهيل الفاعل) مثل "قُتِل" و"أُصيب" فلسطينيون أو "وقع انفجار في مستشفى" بدلًا من قصفت إسرائيل مستشفى، أو اعتماد جملة "لم يتمّ التأكد أو التحقق من الرواية" حين ترد شهادة من فلسطينيّ بشأن مجزرة ما! فضلًا عن صمت المؤسسات الحاكمة إزاء القصف الشامل على الأحياء المكتظة بالسكان، وإزاء التجويع وقطع الماء والكهرباء عنهم وقصف المستشفيات والمدارس (ص 95)، للخلوص إلى القول "إنّ فلسطين لوضوح قضيتها" (كأنّما المقصود أيضًا: لوضوح هوية شعبها) "تشكل حلبة مميزة لفعل النفاق الذي لا يقتصر على الغرب، بل تمارسه دول عربية وإسلامية" (ص 95). ويطرح الباحث السؤال: كيف نلجأ إلى الصياغات العالمية لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية بشأن الاحتلال وغيره لكشف النفاق وننكرها في الوقت ذاته؟ مجيبًا: "لا تكمن المهمة في إنكارها وفضح زيفها، بل في فضح التشدّق بها، والتنكر لها، وعدم الالتزام بها أو بالقانون الدولي، وتفريغه من مضمونه في منظومة دولية تخضع فيها القيم المصوغة في معاهدات وتفسيراتها للمصالح وعلاقات القوة" (ص 96).
التساؤل الأهمّ في مسألة الأخلاق والهوية يطرحه الدكتور عزمي على النحو اآتي: "أتنجم دوافع من يحتجّون على الحرب بألم وحرقة أخلاقيين عن بنية أخلاقية إنسانية لا تتحمّل شعوريًّا ما يُقترف من جرائم في حق الشعب الفلسطيني، وترفض السكوت عنه، أم تنجم عن الهوية القومية أو الدينية التي تجمعهم بالضحايا؟" ليجيب عن عمق هذا التساؤل بأنّ "الدافعين شرعيان، ويمكن أن يُصاغا بلغة العدالة، لأن الشعب الفلسطيني يتعرّض للظلم وقضيته عادلة. وهؤلاء الذين يتظاهرون في دول أوروبا وأميركا، مطالبين بوقف إطلاق النار، ربما تحرّك بعضهم الأخلاق الكونية الناجمة عن شعور بالانتماء المشترك إلى هوية واحدة، لا قومية ولا دينية، بل إنسانية تجعلهم قادرين على تخيّل أنفسهم في مكان الضحايا. وهذا أرقى أنواع الانتماء المشترك، فالإنسانية بوصفها جماعة مرجعية كبرى يُفترض أن تسود فيها القيم الكونية". (ص 97).
وكم بليغ لي قارئًا، ابتكار الباحث والمفكر القدير معادلة "الإنسانية جماعة مرجعية كبرى" التي يمكن أن تكون عنوانًا لأطروحة فلسفية كبيرة. ويشير الدكتور عزمي في ختام هذا المحور عن الأخلاق والهوية إلى تقديم الشباب اليهود الأميركيين خدمة كبيرة في تضامنهم مع الشعب في غزة وفي رفضهم الممارسات الإسرائيلية "إمّا من منطلق القيم الكونية، وإمّا من منطلق فهمهم للقيم اليهودية بالتوفيق بينها وبين القيم الإنسانية، أو حتى من منطلق الهوية اليهودية المشتركة مع إسرائيل. وفي هذه الحالة، تكون الهوية المشتركة دافعًا لرفض احتكار إسرائيل الحديث باسمها وتشويهها بجرائمها وممارساتها في حق الشعب الفلسطيني. وهو منطلق هوياتي، ولكنه مناقض للعصبية الهوياتية، إذ يذكر هويته لا للتباهي بها، بل لكي يرفض نصرة من يدعي تمثيل الهوية إذا كان ظالمًا" (ص 97).
إلى مبدأ "الدفاع عن النفس" الذي اختزلت به الولايات المتحدة (وبعض حلفائها الغربيين ضمنًا) وأعداد كبيرة من الصحافيين والمثقفين جميع القضايا الأخلاقية المترتبة على شن الحرب على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ثم تحييدها باستخدام العبارة الواحدة "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس"، علمًا بأن محكمة العدل الدولية قررت أنه ليس للدولة التي تحتل أراضي الآخرين حق في الدفاع عن النفس، "فهي تدافع عن احتلالها لا عن نفسها". وثمة في المقابل مواثيق دولية تبرر الحق في مقاومة الاحتلال، وبالتالي و"من ناحية منطقية، فإنّ حق الدفاع عن النفس منسوب إلى الشعب الرازح تحت الاحتلال، ويسمّى حق المقاومة (...) والمقاومة تتجاوز في نظر حركات التحرير مجرد حق في الدفاع عن النفس إلى الواجب الأخلاقي أيضًا"، يقول المؤلف الذي يصف الطريقة التي تمارس بها إسرائيل "الحق" في الدفاع عن النفس، وتكرار بعض الدول هذه العبارة في تبرير العدوان وقتل آلاف المدنيين الأبرياء والأعداد المهولة من الأطفال، بأنهما أمران "يتجاوزان النفاق إلى الانحطاط الأخلاقي" (ص 100).
هذان الأمران: النفاق والانحطاط الأخلاقي، يكتملان بإطلاق صفة "الشرّ المطلق" على كتائب عز الدين القسام، والشرّ مستحضر هنا لأجل شيطنة الآخر. ويعرّج الباحث بأدواته الفلسفية على مفهومي الشرّ لدى نيتشه وكانط (ص 101) للقول إن "غاية أبواق الدعاية الإسرائيلية هو نعت حماس بوصفها شرًا مطلقًا، أي شيطنتها، وهذا يعني شرًّا أنطولوجيًا قائمًا بذاته، لا أول له ولا آخر، لا بداية له ولا نهاية (...) ولا علاج له سوى محاربته والقضاء عليه" (ص 101).
"ليس قتل المدنيين الفلسطينيين عارضًا جانبيًا للحرب" عنوان المحور الرابع في هذا الفصل، إذ يرصد الباحث "أسف قادة الدول على قتل المدنيين نتيجة العمليات الحربية، حتى لو سيقت لذلك مبررات مثل حصول خطأ، أو وقوع "أضرار جانبية" (collateral damage) ناجمة عن قصف أو مواجهات" أما "إسرائيل، فلا تعتذر ولا تقدم تبريرات من شأنها تحييد الحكم الأخلاقي على قتلها المدنيين بادعاء حصول أخطاء، بل تعلن أنّها تقصف المباني والأحياء السكنية وحتى المستشفيات، بغض النظر عن وجود مدنيين" (104)، مؤكدًا أنّ تاريخ الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، ككل استعمار استيطاني، عرف استهدافًا مقصودًا للمدنيين، وذلك منذ ما قبل نشوء إسرائيل وحتى جريمة التهجير الكبرى عام 1948، بارتكاب مجازر منظمة ضد قرى بكاملها (105). إسرائيل تستهدف المدنيين لأسباب مختلفة في رأي الدكتور عزمي بشارة: "1. تلقين المدنيين درسًا بحيث "لا يكررون مثل هذه الأفعال"، 2. التسبب في معاناة متواصلة تفوق قدرة البشر على الاحتمال، لدفع السكان نحو توجيه نقمتهم إلى حركات المقاومة والانقلاب على فكرة المقاومة، 3. تلقين الجنود الإسرائيليين كراهية العرب تلقينًا، والعنصرية كموقف و"نظرية" في الوقت ذاته، البُعْدُ الأول فيها مدان أخلاقيًا، والبُعْد الآخر علم زائف (pseudo - science) يقود إلى حماقات بسبب سوء التشخيص وسوء التقدير لضحايا التمييز العنصري" (ص 105 - 106).
وفي بحث موضوع "أخلاقية حق المقاومة وأخلاقية الأفعال التي قد تُرتكب باسم هذا الحق" يردّنا الباحث إلى اعتراف الأمم المتحدة بحق الشعوب في مقاومة الاحتلال باستخدام جميع الوسائل المتاحة وفق مبادئ الأمم المتحدة وميثاقها (هنا في الهامش تذكير بقرار الجمعية العام رقم 2649 الذي يعود إلى عام 1970 والذي يؤكد حرفيًا على "شرعية نضال الشعوب الخاضعة للسيطرة الاستعمارية والأجنبية، والمعترف بحقها في تقرير المصير، لكي تستعيد ذلك الحق بأية وسيلة في متناولها") (ص 107). ولكن مع التسليم بحق الشعب في مقاومة الاحتلال، وحق الشعب الواقع تحت الاحتلال بممارسة العنف في مقاومة الاحتلال، كنوع من الدفاع عن النفس (مقاومة) وسعي لممارسة حق تقرير المصير (تحرّر)، ولا سيما بعد وصول الوسائل الأخرى إلى طريق مسدود، يسأل الدكتور عزمي بشارة: "هل يُستنتج من ذلك عدم جواز الحكم على أخلاقية أفعال مقاومة الاحتلال؟"
ليجيب: "بل هو جائز، وربما ضروري (...) فجواز مقاومة الاحتلال بالقوة لا يعني فقدان القدرة على التمييز بين الخير والشر في أفعال المقاومة ذاتها، ولا سيما حين يتعلق الأمر بالتسبب في الضرر الجسدي للأبرياء (...) وغالبًا ما يكون الضرر أكبر من الفائدة السياسية، حين توحّد مثل هذه العمليات الرأي العام خلف تشديد قبضة الاحتلال" (ص 108109). ويخرج الدكتور عزمي بقول حاسم في هذا الصدد: "إن استهداف المدنيين بالقتل أو التنكيل عمل غير أخلاقي لا يبرره حق المقاومة"، غير غافل عن "أن عمليات المقاومة تستحق الإشادة من منظور نضالي، في حين أن أعمال استهداف المدنيين والتنكيل بهم أعمال غير أخلاقية، إضافة إلى أنها تلحق الضرر بالمقاومة"، حتى مع ملاحظة الباحث أن بعض الأعمال قام بها "جمهور" لا ينتمي إلى حركة المقاومة، وأنّ الجيش الإسرائيلي قتل العديد من الرهائن الإسرائيليين (في لجة الارتباك ورد الفعل الفوضوي) بالقصف من المروحيات. ومع ذلك، "يصبح من واجب حركة المقاومة أن توضح ما حصل، وهذا لا يمس بها، بل يزيدها صدقية" (ص 109).
معضلة أخلاقية حقيقية تمثّلت، بالنسبة إلى الدكتور عزمي، في قصف المستشفيات والمدارس، وسط صمت "العالم" إزاء هذا الخرق الشنيع للقيم الأخلاقية والأعراف، بحيث يشكل الصمت نفسه انتكاسة للأعراف المقبولة دوليًا ومراجعة لحصيلة تجارب بشرية مريرة وطويلة، ويطرح سؤالًا مثيرًا للذعر: إلى أين يتجه هذا العالم؟ عادًّا "أنّ قصف المستشفيات، بوصفها الأماكن التي يُعالج فيها الجرحى والمرضى هو جريمة حرب. يُضاف إلى ذلك في حالة غزة لجوء آلاف المدنيين للاحتماء فيها، لأنهم كانوا يستبعدون قصفها، إذ لا تُقصف المستشفيات في الحروب، ويُفترض أن يكون قصف المستشفيات والمدارس شرًّا من أيّ زاوية نظر (سواء أسميناه شرًا مطلقًا أم لا)، ولذلك يشعر الإنسان بالغرابة والحرج لمجرّد مناقشته وطرحه، فمن الصعب الإقناع بالبديهيات الأخلاقية (وليس يصحّ في الأذهان شيء... إذا احتاج النهارُ إلى دليلِ)" (ص 111 – 112).
نقاش مع هبرماس حول الأحكام الأخلاقية والمصطلحات القانونية:
المحور السابع من هذا الفصل الثاني تحت عنوان "نقاش مع هبرماس حول الأحكام الأخلاقية والمصطلحات القانونية"، وفيه ردّ بليغ مفحم لا أفضل منه على هذا الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني المعاصر الذي وقّع في الثالث عشر من ديسمبر/ كانون الأول 2023 مع ثلاثة آخرين بيان "مبادئ التضامن" ضد منتقدي إسرائيل، مثيرًا زوبعة انتقادات لموقفه المستغرب كفيلسوف فكرة "التواصل" وتأييده للكيان الصهيوني في فعله الإباديّ الوحشيّ الذي بدأ غداة "الطوفان". هنا يقول الدكتور عزمي إنّ بيان يورغن هبرماس "لا يستحق أي مناقشة حوارية، فالحديث عن بيان سياسي مقتضب يتركز أساسًا على تبرير تحديد حرية نقاد إسرائيل في ألمانيا في التعبير، ورفض ما تقوم به إسرائيل في قطاع غزة من إبادة جماعية، لأسباب متعلقة بألمانيا ذاتها وتاريخها، وأيضًا لسبب يبدو له بديهيًا، وهو أن الحرب الإسرائيلية على غزة، التي سمّاها "الانتقام بهجوم مضاد"، لا يجوز أن تكون محلّ خلاف.
وبدلًا من توجيه النقد إلى الحرب الفعلية الجارية في الواقع، فضّل هبرماس التشديد على حرب افتراضية تجري بموجب "مبادئ توجيهية للحرب"، كما سمّاها، وهي "تجنّب سقوط ضحايا من المدنيين"، وأن يكون الهدف "إحلال السلام في المستقبل" (...)" (ص 112 - 113). هنا يوجّه الدكتور عزمي بشارة أولى ضرباته الفكرية لهبرماس بقوله: "لا أعتقد أن هبرماس يمتلك الغرور الكافي لكي يحسب إسرائيل منصاعة لمبادئه التوجيهية، لكنه وضعها على كل حال بوصفها شروطًا بلاغية لأغراض الصياغة، بحيث يبدو دعمه الحرب التي تخوضها إسرائيل مشروطًا، مع أنه غير مشروط. فليس للفرد الذي يدعم حربًا أن يضع شروطًا على الدولة التي لا تستشيره في كيفية دعم الحرب. إن دعم المثقف الفرد العلني للحرب هو دعم غير مشروط بطبيعته" (113). أمّا قول هبرماس "على الرغم من القلق على مصير السكان الفلسطينيين، فإن معايير الحكم تزيغ عن الطريق تمامًا عندما تُعزى نيّات الإبادة الجماعية (Genocide) إلى التصرّفات الإسرائيلية".
هذا النفي الوقح لحصول الإبادة يردّ عليه الدكتور عزمي بالقول: "إنّ همّ هبرماس منصبّ على ألّا يُسمّى ما يتعرض له السكان الفلسطينيون إبادة جماعية، فالأمر – بالنسبة إليه – يتعلق بحسن استخدام المصطلحات (...) إذا لم يكن قتل عشرات الآلاف، غالبيتهم من النساء والأطفال على وقع التهديد بمعاقبة سكان غزة الذين لا يُعدّون مدنيين والتلويح بتهجيرهم والتسبّب في نزوح الملايين فعلًا، إبادة جماعية، فما هو؟ يمتنع الفيلسوف الألماني عن التحديد، بل حتى عن الإدانة" (ص 113). أمّا مسألة "معاداة السامية" التي أقلقت هبرماس أيضًا، وخصوصًا في ألمانيا، فيعلّق عليها مساجله بالقول: "لا يُشغِل هبرماس ما يجري للسكان الفلسطينيين، ولا تصرّفات إسرائيل، بل ردود الفعل المعادية للسامية في بلده. ولا تعنيه أغلبية ردود الفعل الناقدة لإسرائيل وغير المعادية للسامية، وهو لا يكلّف نفسه عناء ذكرها" (ص 114). مقدمًا مثل السياسيين والمثقفين والإعلاميين الذين تظاهروا في فرنسا ضدّ اللا سامية في الوقت الذي ترتكب فيه إسرائيل المجازر في غزة.
"والحقيقة أنهم لم يتظاهروا ضد أي شيء محدد يحصل لليهود لكونهم يهودًا، بل احتجاجًا ضدّ من يتكلّم على ما يجري في غزة ويحاولون فتح معركة أخرى لتمويه المجازر التي ترتكبها إسرائيل، ولإعادة رسم حدود حرية التعبير بالمناسبة لتنتهي حيث يبدأ نقد إسرائيل" (ص 116). ويوضح الباحث السبب الحقيقي لاستمرار اللا سامية والعنصرية العرقية في أوروبا في أوساط اليمين واليمين المتطرّف وهم حاليًا أشدّ المؤيدين لإسرائيل (ص 116). ويصف الدكتور عزمي بيان هبرماس ورفاقه بـ"المعيب والمنافق أخلاقيًا" عادًّا أن هبرماس صدق في أمر واحد فقط، وهو أن حرب إسرائيل "هجوم انتقامي" وفق تعبيره. كما يخص الباحث، في ختام هذا المحور، موقف أستاذة الفلسفة التركية المقيمة في أميركا شيلا بن حبيب المنتقد لحماس، بردّ مختصر، ليخلص إلى وصف "سقوط هؤلاء المفكرين في الامتحان الأخلاقي حين برروا حربًا شاملة تشنها دولة محتلة على الشعب الخاضع لسلطتها، ولم يضعوا حدودًا واضحة لما يمكن أن تقوم به دولة الاحتلال ضد المدنيين العزّل، حتى لو افترضوا أن الشعب رهينة حركة إرهابية، وليس رهينة الحصار والاحتلال" (119).
لا تكتمل مساجلة هبرماس إلّا بتوقّف الدكتور عزمي عند النقطة الثانية المتعلقة بالهولوكوست والعداء للسامية، مقرًّا بوجود علاقة فعلية بين المحرقة ضد يهود أوروبا واللا سامية "وإن كانت اللا سامية لا تفسّر الأمر برمته، فلا لتفسير ظاهرة بحجم المحرقة من دون أخذ عوامل مثل نشوء الدولة الشمولية" (ص 119)، وطارحًا السؤال: "ما علاقة قضية فلسطين بالأمر؟"، مجيبًا: "لا توجد أي علاقة للفلسطينيين والعرب والمسلمين بهذه الجريمة التي ارتُكبت في أوروبا ولا بخلفياتها الفكرية والأيديولوجية. ويُعتبر الشعب الفلسطيني متضرّرًا منها، وإن كان ضحية ثانوية لها بالنسبة إلى الأوروبيين، فقبل الهولوكوست لم تحظَ الصهيونية بنجاح في إقناع اليهود بالهجرة إلى فلسطين، وأسهمت الجريمة الكبرى التي ارتُكبت ضد يهود أوروبا في زيادة معدلات الهجرة، وأيضًا في تعاطف الدول الأوروبية مع المشروع الصهيوني.
الفلسطينيون هم بالنسبة إلى الأوروبيين أضرار جانبية في سياق حلّ المسألة اليهودية في أوروبا بإقامة دولة يهودية خارجها، في فلسطين تحديدًا" (ص 120)، مشيرًا إلى أنّ "التعامل الإسرائيلي الأداتي في استخدام المحرقة هو بالطبع إساءة إلى ضحايا النازية، وتقليل من شأن المحرقة ذاتها، لا يقترب من درجة إنكار المحرقة، ولكنّه من النوع نفسه (...) ما تقوم به إسرائيل باستخدام الهولوكوست هو فعل لا أخلاقي" (ص 121)، مع التأكيد على أنّه لا ينبغي في الجهة الفلسطينية المقابلة "التقليل من شأن الهولوكوست، فهذا استخفاف لا مبرّر له بحياة بشر مضطهدين بسبب دينهم (عرقهم بالمفاهيم النازية)، ولا حاجة للفلسطيني إلى التقليل من شأن الهولوكوست لمناقضة الصهيونية، فهي لم تحصل في بلادنا، ويُفترض أنّ أوروبا وحدها تتحمّل وزرها" (ص 121) لافتًا الأنظار إلى أن ثمة "تواطؤ غير أخلاقي إسرائيلي – أوروبي يستفيد منه الطرفان، الأول، بتقمّص دور الضحية خارج أوروبا وإلقاء الذنب على الفلسطينيين أو العرب، في حين أنّ التخلّص من عقدة الذنب يُفترض أن يكون في محاربة العنصرية في أوروبا ذاتها" (ص 122).
حول "الكيل بمكيالين والسؤال عمّا جرى للقيم الكونية" يردنا الدكتور عزمي بشارة في كتابه القيّم والفلسفي بامتياز إلى جوهر السؤال الأخلاقي والقيميّ، مؤكدًا على أنّ "في العلاقات الدولية، لم يفرض القانون نفسه يومًا، ولا القيم الكونية. وظلت قيم الحرية والمساواة مواضيع للنضال من أجل تحقيق العدالة في إطار الدولة الوطنية" (ص 125). ليختم هذا الفصل بنظرة تفاؤلية: "إنّ القضية الفلسطينية قضية عادلة، وكذلك الحق في مقاومة الاحتلال، ويمكن، بل يجب، الدفاع عنها أخلاقيًا. وما انتشار ظاهرة الشباب المؤيد للقضية والمتضامن مع سكان غزة ضد همجية العدوان الإسرائيلي إلّا دليل على ذلك، فالحديث هو عن جيل أخلاقي ينفر من الأيديولوجيات الشمولية والعصبيات على أنواعها، ويحرّكه التعاطف مع ضحايا الظلم" (ص 127).
(يتبع)
ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.
عن (ضفة ثالثة)