يدفع الفلسطيني عن نفسه الموت ويتشبث بالحياة الحرة والكريمة، هذا ما تكشف عنه هذه القصة الطالعة من قلب الخراب الذي يصنعه الصهيوني في أرض فلسطين كل يوم. حيث يدفع الكاتب الفلسطيني عن نفسه الموت بكتابة الموت نفسه، وتحويله إلى عمل أدبي يدوم حتى تعود فلسطين.

مريم

رياض بيدس

 

بكت مريم الفتاة الصغيرة بكاء مرّا. ومسحت دموعها بطرف يدها. لم تكن تدري ماذا تفعل : كان المطر غزيرا جدا يكاد لا يتوقف، وصندوق لعبتها المفضلّة تقطر ماء، وكانت مريم مغسولة بالمطر البادر الذي يلسع مسامه جسدها وعظامها بقسوة شديدة.

نظرت الى بقايا البيت، ورأت أنه تحوّل الى كتلة من الردم والدمار. لم تفهم ماذا جرى: قبل يوم كانت تجلس مع والديها بجانب المدفأة، والآن تحوّل البيت الى كتلة من الردم. كانت تفهم بشعورها البسيط الأول البسيط أن البيت لم يعد موجودا. ونادت بصوت يائس خائف ومرعوب: ماما ماما وين أنتي؟! بابا بابا وين أنت؟! لكن لم يخرج من كوم الدمار أي صوت!

كانت قطعة من الباطون التي تمسك بها قضبان حديدية هي التي حمت مريم. وعندما حلّ كل هذا الخراب بالبيت أرتعبت مريم وشعرت ان كل ما ظلّ عالقا من سقف البيت سيسقط عليها ويسحقها. أنسحبت الى الخارج وبدأت تحاول أن تفهم بعض ما جرى وما سيجري. ضمّت لعبتها الى صدرها تريد أن تجد دفئا ما، لكن الماء المتقطّر منها كان باردا جدا، وبكت كما لم تبك من قبل: ماما .. ماما أنا هون تعالي خذيني من هون! لكن لم تأت الأم ولا الأب ولم يخرج أي صوت من الردم. أجالت بصرها في أرجاء المكان، فرأت شجرة الزيتون المعمّرة جدا والتي كانت تلعب بجانبها أحيانا مع أولاد خالها الذين ربما قتل معظمهم في هذه الحرب.

وجرّت صندوق لعبتها بخيط أصفر على الأرض غير مبالية بالوحل الذي كان يلتصق به. وأقتربت من جذع شجرة الزيتون المنخور والمسوّس الذي كانت تختبيء فيه أحيانا لتلعب لعبة الغميضة مع أقربائها الذين كانوا يأتون لزيارتهم بين حين وآخر. في الماضي كانت لا تفهم معنى هذه اللعبة، لكنها كانت تضحكها حين كانوا يعثرون عيها مختبئة في عمق الجذع. وتساءلت بينها وبين نفسها: هل سيخّربون هذه الزيتونة كمان ؟!

مشت ببطء ودخلت الى عمق الجذع وأخذت حبات المطر تتساقط منها. جلست ووضعت صندق اللعبة في حضنها وتساءلت حزينة وخائفة: متى سيرجع أبي وأمي؟! ونظرت الى ركام البيت ولم تر أحدا وقالت لنفسها: بعد شوي بتعتّم الدنيا.

كان جذع الزيتونة شبه ناشف. فارتاحت مريم للأمر. كان كل ما في الجذع يساعدها على الراحة، خاصة من الرطوبة والبرد القارس.

بعد وقت قصير بدأ التعب والخوف والبرد يتعبها ويرعبها. وكانت تشعر بضوء البرق يخترق جفنيها فيما تظل هي تتهته من النعاس والتعب.

وشيئا فشيئا زحف النوم الى جفنيها وغفت وهي تحلم بأبيها وأمها والمدرسة والكتب والدفاتر التي كانت تدرس فيها. ثم حلمت أن أمها تحضر لها هدية كانت عبارة عن ليغو جديد تستطيع أن تبني به بيتا جديدا. وربتت أمها في الحلم رأسها وكتفها وقالت لها كما كانت تقول لها دائما: دائما تعملين على تركيب البيوت، فلا بد أن تصبحي مهندسة عندما تكبرين!

أبتسمت مريم وهي تحلم، فيما كان اللون الأزرق الغامق يحتل ما تحت جفنيها ووجهها. وأبتسمت أكثر عندما سمعت صوت أمها تناديها: مريم مريم!

وبعدها همدت!

 

(23 شباط 2024)