تكشف لنا هذه الدراسة كيف أن هذه الرواية استطاعت أن تقدم سردا مختلفا متميزا، بتناوله لانتهاكات اجتماعية متواصلة، وبقدرته على مستوى تشكيل راويه وانحرفاته عن وظائفه التقليدية، ليقف على الأعراف بين الحضور والغياب والشفاهية والكتابية والصوت المفرد وصوت المجتمع في بنية سردية مميزة.

بلاغة الراوي وكثافة السرد

قراءة في رواية «حتى مطلع الفجر» لمحمود أبو عيشة

محمود فرغلي

 

تتشكل أدبية النص السردي من خلال وعي الكاتب بأدواته وقدرته على تطويعها، والخروج بوظائفها عن الإطار التقليدي المرسوم لها، ومن ثم يشكل الانحراف عن السرد المعياري مؤشرًا على هذا الوعي، والحرص على تأكيد خصوصيته السردية وتحقق أدبية نصه، وفي رواية (حتى مطلع الفجر) للروائي والقاص المصري محمود أبو عيشة تتعدد الأدوات والتقنيات السردية التي توسَّل بها الكاتب لتحقيق أدبية نصه، رغم ما يبدو على النص من معالجة تقليدية لوقائع وشخصيات ريفية مكررة، لكن وعى الكاتب هو وحده الكفيل بأن يخرج عن دائرة التكرير؛ ليبعث ما هو مكرر في صورة جديدة من خلال سرده ولغة وشخصياته ورواته.

وسوف نركز في دراستنا على الراوي وبلاغته، وكيف استطاع أن يتجاوز أبو عيشة أدواره التقليدية إلى آفاق حداثية يتجاوز فيها وظائفه التقليدية، فلم يعد هو الراوي العليم المهيمن أو الصوت الواحد الذي يقوم بعملية السرد وإنما أصبح مرتكزًا لتعدد أشكال السرد بين السرد اللاحق والسابق والأحادي والمتعدد، إضافة إلى تعدد صيغ الرواية، كما إن تدخلات الراوي المباشرة أو غير المباشرة في القصة تستطيع أيضا أن تتخذ الشكل الأكثر تعليمية لتعليق مسموح به على العمل، وهو ما يطلق عليه وظيفة الراوي الأيديولوجية، أي أنها تتعلق بالنشاط التفسيري للراوي، وذلك إلى جوار وظائفه التقليدية، من سرد وتنظيم وتوزيع وتعبير... إلخ

فكما هو معروف في علم السرد لا يمثل الراوي مجرد أداة لعرض الأحداث إنما هو في البدء أداة للإدراك والوعي، وأداة للعرض، بالإضافة إلى ذلك، فإنه –أيضا- ذات لها مقوماتها الشخصية التي تؤثر- إيجابا وسلبا- على طريقة الإدراك، وعلى طريقة العرض"[i] ربما ارتبطت بلاغة الراوي لا بنوعية ما يقوم به من وظائف، فثمة من المشترك الفني الكثير بين مختلف الرواة؛ إنما بعملية الخلخلة التي يقوم بها المؤلف لدور هذا الراوي، ووظائفه، وتشكيله لطبيعته الفنية والفكرية من ناحية أخرى، بحيث تبرز وظيفة من وظائفه متفوقة على وظيفة أخرى، بصورة تتحدد من خلالها أهمية هذه الوظيفة في عملية السرد والمسافة  التي يقفها الراوي منه ودور هذا الراوي في تشكيل البنية الكلية للعمل السردي ككل. حيث يمثل انحرافه عن الوظيفة التقليدية له وهي الحكي المجرد إلى وظائف أخرى؛ يمثل انتقالا من المعيارية إلى الشعرية، وهذا الإجراء الذي يفترض وجود راوٍ معياري شبيه باللغة المعيارية التي تحدث عنها موخاروفسكي وراو منحرف عن هذا الراوي المعياري يشبه اللغة الشعرية عنده أيضا"[ii]

فبلاغة الراوي هي مجموعة من الإنحرافات في طريقة الحكي وترتيب الزمن وسرعاتها وأسلوبه والمسافة التي يضعها بينه وبين الشخصيات قربا وبعدا، اتصالا وانفصالا حضورا وغيابا. وفي رواية (حتى مطلع الفجر) يؤسس الراوي بلاغته على عدة مقومات جعلت منه من خلال خطابه القولي شخصية مميزة، بل شخصية من لحم ودم، وإن لم تكن واحدة من شخصيات الراوية الفاعلة على الأقل؛ ذلك أنها لا تقف على مسافة واحدة في عملية السرد بل إنها تتأرجح بعد وقربا، وقد خوّل لها من الوظائف ما جعلها ذات طبيعة مميزة نسجت بناءً سرديا مميزا ذا خصوصية سردية تنبع من الراوي ذاته ووظائفه.

الراوي المتعالي:
والتعالي ليس مسافة سردية يقفها الراوي من سرده، إنما هي سمة لخطابه القولي، لا فيما يخص أفعال الشخصيات داخل البنية السردية، إنما في تعليقاته على مواقف تلك الشخصيات وأدوارها وأفكارها وما يصدر عنها من أقوال وأفعال يقوم هو بتفسيرها، ومن ثم يمكن القول إن أول مؤشر لبلاغة الراوي هو خطابه التعليقي المتعالي عن طبيعة الشخصيات، التي لم تنل في معظمها حظا من التعليم، ولعل أقرب الشخصيات إليه من هذا الجهة هو شخصية (عربي) لكن على أية حال نجد أن الراوي يعرف أكثر من الشخصيات لا بما يسرده فقط، إنما بما يقوله هو عنها وبما يطرحه من احتمالات حولها، وبما ينص عليه من تعليقات ذات صبغات مميزة دينية وإيديولوجية وطبية وتاريخية لا علم للشخصيات بها.

وتبدو براعة المؤلف في خلط هذه التعليقات بعملية السرد وتضفيها في ضفيرة واحدة متناسقة بحيث لا تشعر أنها مقحمة أو أنها نوعٌ من التزيد أو التَّعالم من قِبل المؤلف في صورة الراوي، فالوصف لديه يختلط بالتعليق بالسرد في بوتقة واحدة، وتتم عملية التوسع في الزمان والمكان تاريخا وجعرافية بطريقة مدهشة، فمثلا حين يتحدث عن صباح لعربي بعد لقاء آثم مع عفاف يقول" اعتدل ببساطة مرعبة؛ بدأ صباحا موحشا في المنعس المسقوف بجذوع شجر مستعارة من الخال الطيب، وبوص أفرنجي من سوق الخميس، وشكاير كيماوي لمنع تسرب المطر، فاجأه النهار بقلب مثقل وعينين مسهدتين مشتبكًا في فك طلاسم أفكاره المتوحشة"[iii]

فالفقرة السابقة ليست مجرد وصف لمكان نوم عربي، بل إنها تفتح تاريخيا لمكوناته ومصادرها المختلفة، كما إن مجازية العبارة الأخيرة تلقي الضوء على تفاعل البيئة زمانيا أيضا مع الشخصية المأزومة في واحدة من لحظات أزمتها. وتتسع دائرة التعالي على الراوي تارة فنجد راويا آخر- ربما المؤلف الضمني- أكثر بعدا، بل إنه يتجاوز الأرضي إلى الأسطوري والمتخيل، فنجده يخصص فصلا كاملا ينظر من خلاله إلى علاقة عربي وفرحانة، حيث تظهر شخصيات مثل: الملاك والقرين، لتتسع دائرة الحكي على نحو وجودي يطرح من خلاله الكاتب تساؤلاته حول قضايا الوجود الإنساني والخيروالشر والحرية والجبروالموت والحياة.

ويتبع هذا النوع من التعالي من حيث زاوية النظر تعال آخر في اللغة من خلال راوٍ كتابي يناقش الأفكار ويفسر أفعال الشخصيات ويعلق عليها ويستعين بالنصوص الدينية المختلفة، وفق إيديولوجية دينية يستخدمها الكاتب للتخفيف من سردية زنا المحارم، هذا التخفيف لجأ إليه الكاتب ليقيم حدا فاصلا بين الراوي- وهو كلي الحضور في مجمل الرواية- وشخصياته التي يسيطر عليها النزق، خاصة في نسائها، والخنوع في مجمل شخصياتها، فيظهر بصورة المحايد، وهنا تظهر وظيفة الراوي الإيديولوجية، أي التي تتعلق بالخطاب التنويري أو التربوي أو الأخلاقي أو المذهبي الذي يحمله الراوي في عبارته وفي طريقة سرده للأحداث وتتعلق أيضا بالقوانين التي يستعملها في ترابط الأحداث، إذ تكشف هذه القوانين عن الاتجاه الفكري الذي تدعو له القصة أو تعبر عنه"[iv] وقد اضطلع الراوي الكتابي بهذا الدور من خلال التناصات الدينية والخطب والتعليقات والتفسيرات التي حلمها خطابه الذي غلب عليه الطابع التقريري والتفسير، واتسم بانفتاح الزمني على القصص القديم، في مقابل راو آخر ذي طبيعة شفاهية يقوم بعملية السرد.

ولا يكتفي الراوي بعرض إيدلوجيته بل يغوص داخل الأخير مبينًا مواقفهم الفكرية ومفسرا للأفعالهم الحياتية، فهو على سبيل المثال يجعل من عربي شخصية جبرية مسيرة يدفعها قدرها دفعا إلى السقوط" يرى أنه لا يفعل إلا ما كتب له وهو في بطن أمه من قبل الملاك الذي وكل به... يعرف آخرته، يتقبلها راضيا يسعى إليها منذ علقة السلم" [v]

لعبة الاحتمالات
رغم أن الراوي من النوع العليم الذي يتحرك بخفة في الداخل والخارج وفي الباطن والظاهر، إلا إن ترك العنان لهذا النوع الرواة من خطورة بمكان، بحيث يضرب العملية السردية برمتها في مقتل؛ بقتله للدهشة الكامنة في الانحرافات غير المتوقعة في عملية السرد، لذا لجأ الراوي إلى لعبة الاحتمال والترجيح بين عدة خيارات فيما يتعلق بمواقف الشخصيات واختياراتها، بحيث يخفف من غلواء المعرفة الكلية الضاغطة، هذا اللعبة ظهرت جليا في مواقف عدة للشخصيات، فمثلا يصف الراوي دولاب عربي، ومراياه قائلا " أخذه اغتصابا أو استرضاء من أمه شبه العمياء، لاستبقائه حتى لا يهج"[vi]، هذه العبارة لا تخلُّ بقدرات الراوي المعرفية، لكنها تخفف من غلوائها من خلال لعبة الاحتمال، رغم أن الاحتمالين مقبولين من وجهة نظر كل شخصية، فالمرايا اغتصاب من عربي، واسترضاء من أمه، وهي عملية مقبولة منطقيا ولها ما يبررها، وهو عماء الأم  من وجهة نظر عربي، وتطييب خاطر عربي ومنعه من الهج من وجهة نظر أمه. إن المقصد من ذلك كما ذكرنا أن الراوي لم يعرض هذا الأمر بطريقة مباشرة ولم يكن المتحكم والمسيطر في تقديم المعلومة أو المعرفة وإنما ترك الأمر للعبة الاحتمالات ليقوم المتلقي بتفكيكها على النحو الذي رأيناها، فالراوي يعرف ويُظهر أو يتظاهر أنه لا يعرف.

وفي موقف سابق يقول عن عربي أيضا" يهاجمه نكد مجهول الأسباب بالنسبة له طبعا"[vii] كان يمكن للراوي أن يكتفي بالجرء الأول من العبارة، لكن إضافة قوله " بالنسبة له طبعا" تمثل جزءا من المعرفة الكاشفة أن هناك آخرين يعرفون على رأسهم الراوي طبعا،  وهذه العبارة تُحيل الشخصيات إلى كائنات ورقية لا واقعية حين يأتي بها الراوي، فيما تظل لها واقعيتها في مجمل أحداث الرواية، ومن ثم جاءت تعليقات الراوي ولعبة الاحتمالات للتخفيف من ضغط الواقع، خاصة أن العمود الفقري للرواية يمس مُحرما من المحرومات وهو زنا الأقارب بما يحمله من إثم مضاعف.

وفي تعليق ثالث يؤكد ذلك نجده يقول في وصفه للحظة ضرب البنت ذات الثماني سنوات: " ارتعشت يده في لحظة فارقة لا يصدقها عقل، ربما يظنها سيئو الظن حيلة روائية"[viii] وهذا التعليق يخفف به كما ذكرنا الجانب المأسوي للشخصيات، ليقبَلها القارئ ككائنات ورقية حينا وككائنات واقعية من لحم ودم حينا آخر،  ويعود الكاتب إلى هذا الموقف مرة أخرى في سياق آخر حيث يقول:" لكل قصة أكثر من جانب، هذا ما تقوله النظريات الحديثة التي تعتمد القراءات اللانهائية لكن الجانبين المؤكدين هما جانب الخير وجانب الشر، الجنة والنار، حسب زاوية النظر، زاوية عربي القاتل الافتراضي أم زاوية البنت القتيلة الافتراضية، التي نجت بمعجزة ربانية، لا نقول معجزة روائية، هل تذكرونها ، البنت ذات السنوات الثماني التي أفلت رأسها من عصا عربي العمياء، هل  مازالت على قيد الحياة لا نعرف مصيرها، فرحانة تعرف " [ix]، إن الكاتب بهذه الحيل الروائية يضعنا أمام نمط جديد من الرواة ذي خصائص شديدة التنوع والثراء، ويجعل كل الأحداث المؤثرة والمحورية في الرواية موضع تساؤل أو تشكك، في لعبة سردية، تجنح للبعد عن المحاكاة بمعناها التقليدي، إلى نمط من السرد الكثيف، حيث عملية التشكيل السردي جزء من الأحداث، فلا يكتفي السرد بإظهار الحكاية، إنما يتطرق إلى سياقاتها التاريخية والفنية، ويهتم بكشف دور الرواة في تشكيلها. وغني عن القول بأن التمثيل السردي الشفاف يصوغ العالم المتخيل باعتباره امتدادا للعالم الواقعي، فيكون اتصال المتلقي به ميسورا باعتباره مرآة سردية تنطبع على سطحا الأحداث، أما التمثيل السردي الكثيف، فيصوغ العالم المتخيل بوصفه حقيقة سردية يتولى الرواة ابتكارها، فيتعرض لقضايا التركيب والصيغ، وكل ما له صلة بالصنعة السردية" [x] ، وفي هذا النط المركب من السرد تتحول وظائف الراوي ولا تتوقف عند مجرد عرض الأحداث، بل التعليق عليها وترجيح بعضها على بعض، وعرضها من وجهات نظر متنوعة، بل الالتفات إلى عملية السرد ذاتها من خلال لغة شارحة، فنجده يتحدث عن موت القارئ ولا نهائية الدلالة وتعدد القراءة وزاوية النظر، وكلها مصطلحات نقدية تكشف عن طبيعة خاصة للراوي وللمؤلف الضمني الذي يظهر أحيانا متعاليا عن هذا الراوي الذي يتحول نفسه إلى  شخصية لا تشارك في أحداث القصة وإنما تظهر في إطار ورقي بوصفها شخصية ورقية تقوم بعملية الحكي، الذي يتراوح بين الشفاهية والكتابية، الصوت المفرد وصوت المجموع، وتتأكد عملية تخفيف السرد في وظيفة أخرى للراوي ذات طابع أيديولوجي فكري يفسر الأمور تفسيرا دينيا، بدءا من العنوان، فكثيرا ما تأتي الآيات القرآنية لتقدم لنا راويا مؤدلجا بأيديولجية دينية إسلامية يفسر من خلالها الراوي أعمال الشخصيات وأفكارها وتوجهاتها وما يترتب عليها من جزاء.

وفي فقرات أخرى تتم الإشارة إلى الراوي مباشرة بوصفه شخص أخرى ويقوم بالكلام شخص آخر ربما يكون المؤلف الضمني، ويتمحور دوره الأساسي في أن يلفتنا إلى عملية السرد ذاتها، فيما يعرف بسرد السرد أو اللغة الميتاسردية على نحو ما سنفصل القول، لكن من المهم  هنا أن نشير إلى أن هذا الصوت الأكثر تعاليا من الراوي؛ يخفف أيضا من معرفة الراوي ذاته ويظهره بغير صورته السائدة في مجمل الرواية، فهو يجهل كثير من الأمور ويرجح كثيرا منها أيضا في لعبة احتمالات مستمرة ، ازدادت نبرتها خاصة مع قرب نهاية القصة، فمثال ذلك قوله عن عربي وعفاف " :لم بفكرا أن حبشي يمكن أن يرجع إلى الدار لأي سبب، حتى لو كان سببا واهيا اخترعه الراوي ليعكنن عليهما، الحمار قمصت مثلا، نقلة السباخ وقعت على الأرض، حصرته المياه وسوس له  شيطانه وتبع أنف الكلب، وفوجئ بلحم عربي الصعب داخلا بعمق في لحم عفاف الطري، هذه ثالثة الأسافي، فأصابه الجنون وأمسك أقرب شيء إلى يده، قلة الشيشة، الشعبة، الفأس، مطواة قرن غزال، وقتلهما أو قتل أحدهما"[xi] ، إن الكاتب يضع الحدث الأساسي في الرواية وهو العلاقة الآثمة بين عربي وزوجة أخيه موضع التشكيك، والتساؤل، ويقوم بعملية تفنيد وترجيح لمختلف الاحتمالات وفقا لما يدور في فكر شخصية حبشي المزعنة، ووفق لطبيعتها، ليأتي الفعل السردي في النهاية مطابقا لطبيعة تلك الشخصية، ومن ثم يمكن القول بأن الصوت السارد يتماس مع صوت حبشي الداخلي وتخيلاته ورؤاه فيما يمكن أن يحدث من وراء ظهره وهو في طريقه إلى الحقل، يقول الصوت المتعالي في هذه الواقعة:" وإذا كان الراوي الذي يدعي العلم ببواطن الأمور لا يعرف فهل يستطيع حبشي أن يعرف وبماذا تفيد المعرفة، نعم يعرف ولا يصدق نفسه حتى هذه اللحظة"[xii]

وفي لعبة الاحتمالات يقف الراوي بين الحضور والغياب والمعرفة وعدم المعرفة، فكم من أمر ينص فيه صراحة على عدم المعرفة، أو يذكر عدة احتمالات لأمر واحد دون ترجيح،" وصلا معا عفاف وعربي ما انقطع أو مانظن نحن أنه انقطع... فالراوي يعرف والجارات تعرف...لكننا لن نجزم بهذا ولن نستطيع أن نقول قولا واحدا لأنا لا نملك أربعة شهود عدول، ولن نتمكن بحال من الأحوال أن نمرر الخيط المشؤوم بين الميسم والكأس"[xiii] ، حيث يقف الراوي بين العلم وعدمه، وهو أمر نابع من أيديولوجية الراوي ذاته، وخوفه من الوقوع في القذف دون دليل، فهو ذو أيديولوجية دينية صرف تتناقضا مع أيديولوجيات معظم الشخصيات، وفي المقابل وفي أحايين أخرى نجده يرصد كل نأمة تصدر من الشخصية، ويدخل إلى أعماقها ويذكر أحاديث النفس الأحلام والرؤى والأفكار التي تحوم في رأسها. وأحيانا من خلال استباقات زمنية تكشف عن معرفته التي تفوق معرفة الشخصيات كمعرفته بموت ماهر، فيما ينكر معرفته بما سيحدث في مواضع أخرى من مثل قوله" أو تموت بلد غما، لا نعرف بعد ماذا سيحدث، ربما لانعرف أبدا، حسب ظروف السرد الذي يمضي في طرق ليست مستقيمة على الإطلاق، فلسنا ندعي الاحاطة بكل شيء، فقد تشابكت الخيوط وأربكت المؤلف الذي يأخذ على عاتقه هذا الأمر بجدية"[xiv]، إن ما يقصده الكاتب من إرباك المؤلف هو إرباك القارئ، من خلال ما يقوم به من عمليات تشتت للبناء السردي ومن خلال المواقع التي يأخذها الراوي حضورا وغيابا وظهورا وخفاء، ومن خلال ما يقوم به من تعليقات تمثل انحرافات سردية تكسر الإيهام وتذهب بكل التوقعات بعيدا، وتفتح النص على احتمالات لا تخص الشخصيات فقط بل تخص الراوي ذاته، حتى يطرح التساؤل حوله وحول طبيعته بوصفه سؤالا مركزيا، و أكثر أهمية من الشخصيات ذاتها، إذ تحولت أو انمحت كل إيديولجيات الشخصيات تحت أيدلوجية الراوي المسيطرة فكريا لا سرديا على البناء الكلي للنص.

وتستمر لعبة الاحتمالات في إطار من تكثيف السرد وعملية كسرالإيهام المستمرة، فشخصية الملاك التي تظهر في صورة المراقب والشاهد لما يجري بين عربي وفرحانة، يخرج عن طبيعته الملائكية ليتحول إلى شخصية تضحك وتتمنى اللذة، ويغوص الراوي في أعماقها، ويشرح أسباب تخليها عن وظيفتها في حماية الأطفال على رؤوس الغيطان، من خلال طرحه احتمالات بشرية بالأساس ليسقطها على ملاك يصنعه ويراه يتتبع اللذة المحرمة بين عربي وفرحانة ، حيث تتسع دائرة الثم ليتجاوز عربي دائرة البشرية، ويتحول إلى رمز للخطئية واللعنة المزروعة في أرحام نساء كثر، والبازغة آثارها في أطفال عديدين من خلال ملامح ووشائج عديدة. كما تستمر عملية إرباك القارئ المقصودة من خلال تواريخ وأسماء معينة ذات دلالات من مثل عربي، وميلاده في السادس من أكتور، بلد، حبشي،  كلهذا يحيل إلى دلالات معينة، ربما يقصد منه الكاتب سوى عملية إرباك للقارئ وشحذ لذهنية ليعيد قراءة كل خطابات الرواية ومستوياتها الفنية والأسلوبية والتاريخية المتعددة.

الراوي بين الشفاهي والكتابي:
إذا كانت كثافة السرد مما يميز رواية أبو عيشة فإن الأكثر تميزا هو طبيعة الكثافة التي لم تتخذ شكلا كتابيا على نحو ما نجده في أكثر من عمل من مثل ظهور الراوي بصورة مترجم على نحو (ساق البامبو) للسنعوسي مثلا، أو في صورة كاتب يقوم بجمع مادة كتابه على نحو ما نجده في البحث عن وليد مسعود لجبرا خليل جبرا، إنما أخذ هذا السرد المكثف طريقه للرواية من خلال راو شديد الخصوصية يتحدث بصوته تارة وبصوت المجموع تارة لها أيديولوجية فكرية ورؤى دينية واجتماعية متنوعة، لا يحكم بها على الشخصيات ولا يجبرها على أن تأتي ما تأتي بقدر ما يكشف عن مبررات عملها وما تقوم به من أفعال محاولا تفسيره وفقا لطبيعة كل شخصية. فهو راو ذو خصوصية من تلك الناحية كما إن له خصوصية أخرى في طبيعته التي تتراوح بين الراوي الشفاهي والراوي الكتابي.

إن الراوي التقليدي ذو طبيعية كتابية بالأساس، خاصة إذا كان من النوع العليم الذي يعرف أكثر من الشخصيات، لكنه قد يتحول من طبيعته الكتابية إلى الشفاهية بتقيات سردية تعبر عن وعي المؤلف وقدرته على تطويع أدواته، ومنها الراوي نفسه، فهو إن كان يتكلم أحيانا ويكتب أحيانا، ويقوم بوظائف عديدة؛ إلا إنه في النهاية من صنع ومن بنات إبداعه، وقد انتقل الراوي من الكتابية المنفصلة عن الشخصيات إلى الشفاهية التي جعلته يقف متجسدا بوصفه شخصية من شخصيات الرواية، كامنة في مكان ما، لكنها في الوقت لاتتدخل في الأحداث، ولنستمع إلى هذا المقطع حيث يتوجه الراوي إلى بلد الأم التي تخاف على عربي وليدها: "لا تخافي يا بلد عربي زي القطط بسبع أرواح، سوف يروي لنا، بأحداث لا كلمات، كل شيء يلعب في التراب ويصنع عرائس الطين..."[xv] ، فهذه العبارة تؤكد حضور الراوي من ناحية، كما إنها تؤكد من ناحية أخرى شفاهية الراوي، وكأنه هاجس يسكن بال بلد أو صوتها الداخلي، وتتأكد جدلية الكتابي والشفاهي من هذه الجملة المركزية في الفقرة حيث يقول:" سوف يروي لنا بأحداث لا كلمات"  هذه العبارة التي جاءت على لسان الراوي تكشف لنا عن طبيعته المتداخلة، بين العين والسمع أو الأحداث والكلمات، والكتابية والشفاهية في آن واحد، حيث يؤلف هذا النوع من السرد للإيهام بأنه كلام تلقائي skaz ، ويتم الإخبار عنه بلغة تمثل نموذج السارد الروائي ومصوغة بصرامة في إطار تواصلي (لغة التواصل العادية) وكيفية الإخبار"[xvi]، وما يتسم به الكلام من عفوية واكتناز للكلام العادي يقول الراوي مثلا: " على كل حال لسنا في عجلة من أمرنا، فطولها قد عرضها وفرق الراكب من الماشي حل البردعة" [xvii] وفي موضع آخر يقولهم مجرد ناس... نأخذ بظاهرهم الذي تراه العين أو تسمعه الأذن أو يحكي لنا على أنه حقائق، لذا قالوا العهدة على الراوي، لكننا نروي أملا في الوصول إلى المعاني السامية"[xviii] ، حيث يتماس الراوي مع الراوي بمفهومه الشعبي أسلوبا ووظيفة، فيما يتماس الكتابي مع الشفاهي في عبارة من مثل قوله" ولو أننا نستطيع دخول دماغ عربي، لوفر علينا وعليكم سادتي القراء كثيرا من البحث والتقصي، وضرب الأخماس بالأسداس"[xix] وهذا التماس أسلوبي بالأساس يقصده الكاتب قصدا محدثا نوعا من الانحراف المقصود لطبيعة الراوي الذي يحكي شفاهة وكتابة، ورغم علمه بتوجهه إلى قراء ما؛ فإن صيغه الأسلوبية ونداءه المقصود يجعلان من القارئ مستمعا، ويطبعان السرد بطابع شعبي يتناسب مع فضاء الشخصيات زمانا ومكانا وثقافة.

إن الراوية من حيث شفاهيتها وكتابيتها تتضمن خطابين، أحدهما شفاهي سردي تتبع الحركة السردية بسرعة وتوتر ويضمخها بالأمثال والأقوال الشعبية المناسبة ويتفاعل مع الشخصيات، وربما يكلمها بنفس لغتها، وخطاب أخر فوق سردي، فكري بالأساس يلتفت فيه الراوي لسرده ولشخصياته وأفكارها ويحللها وفقا لأيديولوجيته، ومن ثم جاء الخطاب كتابيا تقريرا مضمخا باللغة البلاغية بمعناها التقليدي، حريصا على المجاز والعبارة المتأنقة واللفظة الفصيحة تمتح بلاغتها من تناصاتها الدينية المختلفة.

اللغة الشارحة (الميتاسرد):

الفارق بين الراوي العليم والرواي المشارك في درجة المعرفة، والمسافة من السرد، ورغم سيطرة الراوي العليم على مجريات السرد على مجمل أحداث الرواية إلا إن أبا عيشة أحدث نوعا من الانحرفات في وظائف الراوي، فيدعي أنه لا يعرف  أو يقول أنه لا يعرف، "لا نعرف بعد ماذا يحدث ربما لانعرف أبدا " في لعبة الاحتمالات التي سبق أن فصلنا فيها الحديث، ولكن فارقا آخر يتمثل في التفات السارد لنفسه وحديثه عن سرده وتعرجاته، بصورة تجعل من السرد الشفاف سردا مكثفا، لاتستطيع أن تمسك فيه بالراوي ومكانه ودرجة حضوره أو غيابه، وقد اعترف هو نفسه بعدم استقامة سرده وتعرجه، "حسب ظروف السرد الذي يمضي في طرق ليست مستقيمة على الإطلاق فلسنا ندعي الإحاطة بكل شيء، فقد تشابكت الخيوط، وأربكت المؤلف الذي يأخذ على عاتقه هذا الأمر بجدية مرضية رغم أن البعض أعلن لا نعرف كيف يموت المؤلف ما علينا فقد جئنا إلى الدنيا وفي إحدى اليدين أول ما خلق الله القلم.....فليسامحنا القارئ العزيز، وليجتهد معنا ليسد الثغرات التي ننساها سهوا أو نتركها عمدا"[xx].

هذه الفقرة المطولة تنتمي إلى الميتا سرد أو اللغة السردية الشارحةmetanarrtive[xxi] ، أي التفات الراوي أو السارد إلى ما يسرده وتعليقه عليه في عملية قطع متعمدة، ومثل ذلك قوله  عن بلد "  ينام رأسها الصغير فوق ركبتين نحيلتين، تتفرج على العابرين، التعبير مجازي طبعا" [xxii] ، وما كان حديث الراوي عن تشكلات السرد واحتمالات القراءة وموت المؤلف وغيرها إلا نوعا من اللغة السردية الشارحة التي تكسر الإيهام وتضع السرد بصورته التقليدية بين قوسين لصالح سرد آخر أكثر كثافة وتداخلا. فيقوم الراوي بكسر تتابع الأحداث من أجل تعليق أو تفسير أو ترجيح رأي لصالح أخر أو شرح لوجهة نظر وهكذا في تداخل بين عالمين افتراضيين واقعي متخيل وتخيلي سردي، من خلال "مجموعة من التقنيات الأسلوبية في مجال السرد، وهي تقنيات تعمق درجة الإيهام من جهة ، وتبدده من جهة أخرى" [xxiii] وهذه التقنيات سمحت بانفتاح السرد زمانيا ومكانيا وتم من خلالها تشتيت الزمن بشكل فني مع الحفاظ على الخط السردي المتخيل، وبناء الشخصيات في إطار فني محكم، فتلك الممارسات الأسلوبية كانت قاصرة على الراوي ومن ثم كانت مصدر بلاغته.

الخلاصة من العرض السابق أن محمود أبو عيشة استطاع ببراعة أن يقدم لنا سردا مختلفا متميزا، ولم يكن هذا التميز على مستوى السرد بتناوله لانتهاكات اجتماعية متواصلة، وإنما أيضا على مستوى تشكيل راويه وانحرفاته عن وظائفه التقليدية، ليقف على الأعراف بين الحضور والغياب والشفاهية والكتابية والصوت المفرد وصوت المجتمع في بنية سردية مميزة.

 

[i] عبد الرحيم الكردي، الراوي  والنص القصصي، مكتبة الآداب ، القاهرة، 2006، ص18

[ii] عبد الرحيم الكردي، السابق، ص69

3  محمود أبو عيشة، حتى مطلع الفجر، دار مصر اليوم للطباعة، ط1 القاهرة 2015، ص51

[iv] عبد الرحيم الكردي، الراوي  والنص القصصي، ص65

[v] حتى مطلع الفجر، ص82

[vi] حتى مطلع الفجر، ص53

[vii] حتى مطلع الفجر، ص52

[viii] محمود أبو عيشة، حتى مطلع الفجر، ص38

[ix] حتى مطلع الفجر، ص103

[x] عبد الله إبراهيم، السردية العربية الحديثة، الأبنية  السردية والدلالية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2013م، ص230

[xi] حتى مطلع الفجر، ص84

[xii] حتى مطلع الفجر، ص85

[xiii] حتى مطلع الفجر، ص79

[xiv] حتى مطلع الفجر، ص29

[xv] محمود أبو عيشة، حتى مطلع الفجر، دار مصر اليوم للطباعة، ط1 القاهرة 2015، ص24

[xvi] جيرالد برنس، المصطلح السردي، ت عابد خزندار، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 2003، ص213.

[xvii] حتى مطلع الفجر، ص102

[xviii] حتى مطلع الفجر، ص101

[xix] حتى مطلع الفجر، ص75

[xx] حتى مطلع الفجر، ص29

[xxi] جيرالد برنس، ص130

[xxii] حتى مطلع الفجر، ص49

[xxiii] عبد الله إبراهيم، السردية العربية، م س، ص245