يقدم هنا المفكر الأمريكي الشهير صاحب مقترب/ أو نظرية النظام العالمي المقترب متعدد المناهج والتخصصات الذي بلوره باعتباره حركة معرفية ترمي إلى فهم العالم المعاصر باعتباره وحدة شاملة تتفاعل كل مكونتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية جميعا. مؤكدا أن نجاح تحليل النظم العالمية سيتحقق باختفائه كحركة معرفيَّة، نتيجة لإعادة تنظيم جذريَّة لعالم المعرفة.

تحليل النظم العالمية كحركة معرفيَّة

إيمانويل والرشتاين

ترجمة: إبراهيم يـونس

 

تقديم المترجم:

منذ تسعينيات القرن المنصرم، برزت توجُّهات بحثية في إطار العلوم الاجتماعية في العالم العربي تعتمد على المداخل البينية والمتعددة والعابرة للتخصصات، ولم يكن ذلك إلا مظهراً لرد الفعل العربيّ على ما يُعرف بأزمة علم الاجتماع. ومع ذلك ليس علينا أن نفكِّر في أزمة علم الاجتماع بقدر ما علينا أن نفكِّر في أزمة العلوم الاجتماعية بشكل عام. الطريقة التي نفهَم بها جميع أبعاد النظام العالمي (وعالمنا العربي في القلب منه) هي بالتأكيد محور الحديث هنا. جاء هذا النص خاتمة لكتاب «دليل روتليدج لتحليل النظم العالمية» الصادر عام 2012 (تحرير: كريستوفر تشيس-دن وسالفاتور بابونز)، وهي من كتابة عالم الاجتماع إيمانويل والرشتاين (28 أيلول 1930 - 31 آب 2019). ويأتي تقديم هذا النص باللغة العربية في وقت تَندُر فيه الكتب والدراسات والمقالات العربية – وحتى المترجمة – عن تحليل النظم العالمية، على أمل أن يُشجِّع القارئ على النظر بطريقة مختلفة إلى العالم الذي نحيا فيه ومعرفتنا حوله.

المقال:

تحليل النظم العالمية (World-Systems Analysis) هو أكبر من أن يكون وجهة نظر، أو نظرية، هذا إن اعتُبر أصلاً نظرية. إنه حركة معرفيَّة، وهذه أهميته الحاسمة في مواصلة تطوير العلوم الاجتماعية التاريخية. والحركة المعرفيَّة حركة فكريَّة اجتماعيَّة تقترح إعادة توجيه الطرق التي نُنظِّم بها فَهمنا للعالم. وفي حالة تحليل النظم العالمية، فإنه قائمٌ على رفضٍ لتصنيفات العلوم الاجتماعية الموروثة عن القرن التاسع عشر ويقترح استبدالها بعلم اجتماعي تاريخي جديد.

ربما حدث على مدى آلاف السنين أن أُكِّدت أي حجة أو اقتراح أو مفهوم في العلوم الاجتماعية التاريخية لآلاف المرّات. إنّ تَتَبُّع تاريخ المفاهيم ممارسة هامة في تاريخ الفِكر وأحياناً ما يكون مُثمراً. لا يمكن أن يكون لمفهومٍ أو مجموعة مفاهيم تأثيرٌ على التطور الجاري في المعرفة الجماعية إلا عندما تتبنّاه فِرَقٌ من الأشخاص كثيرة بما يكفي. وعندما تُبلغ تلك العتبة، يمكن إذاً للمرء أن يتحدّث عن هؤلاء كحركة معرفيَّة، ما يعني أن هناك مجموعة من المفكرين قادرين عدديّاً ومتماسكين تنظيمياً بدرجة كافية بحيث يمكنهم المشاركة في المناقشات الجماعية وربما كسبُها بمرور الوقت. وبطبيعة الحال، إذا كَسَبوا النقاش، فإنّ هذه المفاهيم ستُشكِّل نمطاً من التحليل يُهيمن مؤقتاً ويخضع بدوره لتحدٍّ لاحق من حركاتٍ معرفيَّة جديدة.
تشكَّلت الفرضيات السائدة للعلوم الاجتماعية التاريخية في الفترة الممتدة تقريباً بين عامي 1850 و1945. جرى تحليل تلك الفرضيات في تقريرٍ للجنة كولبنكاين التي ترأّستُها [1]. كان السياق الذي جرى فيه تبنّي تلك الفرضيات هو نفسه حالة النظام العالمي كما كان آنذاك، الفترة التي كانت فيها الهيمنة الغربية على النظام العالمي في قِمّتها سياسياً واقتصادياً وثقافياً. وإن فكّرنا في القطاع المهيمن على النظام العالمي آنذاك، فإنّ هناك فروقاً جذريَّة بين «الغرب والبقيَّة».
لكن هذا السياق تغيَّر بعد عام 1945، وقدَّمت الحقائق العالمية المتغيِّرة بدورها اختلافات عديدة عن النموذج المنظّم للعلوم الاجتماعية التاريخية المعمول به حتى العام نفسه. كان التغيُّران الأساسيان في الحقائق العالمية بعد عام 1945 هما: 1- تولّي الولايات المتحدة دور القوى المهيمنة، والعلاقة الخاصة التي أقامتها مع الاتحاد السوفياتي. 2- القوة الكبيرة التي أظهرتها الحركات المعادية للنظم (Anti-Systemic Movements)  في جميع أنحاء النظام العالمي في فترة ما بعد عام 1945.
قاد النموذج المنظِّم للعلوم الاجتماعية، القائم على الفروق المعرفيَّة الجذريَّة بين الغرب والبقيَّة، إلى فصل تخصُّصي حاد في نمط دراسة كل منهما. هنا ظهر تقسيم العمل الأكاديمي بوضوح، وأوكِلَ البحث في ماضي المجتمعات الغربية إلى التاريخ، فيما أصبحت نظيراتها المعاصرة محوراً لثلاثة من التخصصات التعميمية: الاقتصاد يدرس السوق، والسياسة تدرس الدولة، والاجتماع يدرس المجتمع المدني. وانقسمت دراسة العالم غير الغربيّ بين دراسة الأنثروبولوجيا لما دُعيَ المجموعات «القَبَليَّة»، ودراسات الاستشراق التي درست الحضارات الكبيرة التي وُصِفَت بـ«العليا» وقيل إنها متجمِّدة. واجه نمط الدراسة هذا صعوبة في التكيُّف مع الحقائق الجديدة لما بعد عام 1945، وقاد ذلك إلى نقاشٍ حول ما إذا كان يمكن للمرء أن يُكيِّف الفرضيات السائدة ليجعلها أكثر صِلة بالحقائق العالمية الجديدة.

كان هناك في الفترة الممتدة بين عامي 1945 و1965/1970 أربعُ محاولات مختلفة لملاءمة الفرضيات السائدة للعلم الاجتماعي العالمي مع تلك الحقائق، وبَدَا أن كل محاولة كانت تُجري بعض التعديلات المعقولة على النموذج، ومع ذلك عبَّرت كل منها عن حدودها. كانت أول، وغالباً أهم، محاولة هي نظرية التحديث (Modernization Theory).  فبدلاً من فصل دراسة العالم «المُتحضِّر» عن دراسة بقيَّة العالم باعتبارهما مواقع معرفيَّة، حاولت نظرية التحديث أن تؤرِّخ الفروق بين الموقعين، وطرحت أنه ليس للعالم «المتقدِّم» وجود أنطولوجي مختلف عن العالم «المتخلِّف»، وإنما أن الأول متقدِّم مؤقتاً ببساطة على الثاني، فيما يمكن للبلدان المتخلّفة أن «تلحق» بالبلدان المتقدّمة عبر التعلُّم من نموذج البلدان الأكثر تقدّماً وإجراء تغييرات أساسية محددة في ممارساتها السوسيوثقافية.

كانت المحاولة الثانية هي نظرية التبعية (Dependency Theory) التي بَزَغَت عن تحليل اللجنة الاقتصادية لأميركا اللاتينية  (ECLA)، بإشراف راؤول بريبيتش، لعلاقة المركز والطرف، الذي جرى تطويره بعد ذلك مع مزيد من التأييد السياسيّ لعديد من مفكّري أميركا اللاتينية وجنوب آسيا. لدى نظرية التبعية نموذج زمنيّ مختلف عن نموذج نظرية التحديث. وفي معارضتهم لفكرة أن جميع الدول بدأت من النقطة نفسها لكنّ بعضها تقدَّم سريعاً عن البعض الآخر، أكَّد منظّرو التبعيةبكلمات أندري غوندر فرانك – على «تطوّر التخلُّف». ما عناهُ ذلك أنه منذ لحظة البداية، تحرّكت بعض المناطق قُدُماً لتصبح «متقدِّمة»، فيما راحت المناطق الأخرى تتحرَّك في الوقت نفسه نحو أن تصبح «متخلِّفة». وتبع ذلك أن التغيُّرات التي كانت ضرورية من أجل اللحاق لم تكن في الحقل السوسيوثقافي، وإنما في حقلَي السياسة والاقتصاد، وبهذه الطريقة وحدها يمكن للدول «المتخلِّفة» أن تُفلِتَ من موقعها المُتدنّي.

المحاولة الثالثة كانت الماركسية التحريفية (Marxist Revisionism) التي أخذت شكلين. الشكل الأول كان تبعات خطاب خروتشوف الشهير للمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي عام 1956. أرَّخ النموذج السوفياتي لما بعد عام 1956 تلك الفروق على غرار نظرية التحديث، واقترح السوفيات طريقة للحاق تبيَّن أنها متشابهة بشكل مثير مع الطريقة التي قدَّمتها نظرية التحديث، ومع ذلك كان هناك فرقٌ واحدٌ حاسِم. اقترحت النسخة السوفياتية أن النموذج أو البلد «المتقدِّم» الذي يُراد محاكاته إنما هو الاتحاد السوفياتي لا الولايات المتحدة.

والشكل الثاني للماركسية التحريفية – والذي يمكن أن يكون أكثر أهمية – هو ذهابُها في اتجاهٍ آخر بدأ مع المناقشة حول «نمط الإنتاج الآسيوي» التي جرت في المقام الأول في المجر وبعض دول أوروبا الغربية. كان نمط الإنتاج الآسيوي أحد مفاهيم ماركس الأقل شعبية، وهو مفهومٌ جرى حظره علناً من قِبل ستالين. كان لإعطاء مصداقية متجددة لهذا المفهوم نتيجتان نظريتان. أثار المفهوم تساؤلات حول تلقائية تسلسل أنماط الإنتاج التي من المفترض أن تؤدي من المشاعيَّة البدائية إلى العالم الشيوعي في المستقبل، وبالتالي أتاح مناقشة صِحَّة مفهوم «التقدُّم» التنويريّ الحتميّ والذي يتطور في خطٍّ أوحد.

أمّا العواقب الأخرى فكانت تلك المتعلقة بالنقاش حول «المسألة القومية». إن كان لبعض البلدان أو المجتمعات أو التكوينات الاجتماعية، لا جميعها، أن تمر عبر نمط الإنتاج الآسيوي (أو ما يعادله)، فذلك يعني أنه لم يعد هناك مسارٌ واحد تمر عبره جميع البلدان. يعني ذلك ضمنياً أن على التحليل الاجتماعي «الماركسي» لأجزاء محددة من العالم أن يكون قائماً على الخصوصيات التاريخية لكل جزء من تلك الأجزاء. كانت الماركسية الكلاسيكية أساساً تعميمية، ولكن في المقابل قاد هذا النقاش المرء في اتجاه المعرفة التحديدية، ما مكَّن التحليل الماركسي من الابتعاد عن محاولة ملاءمة التاريخ غير الغربي لتسلسل مشتقّ من تحليل الفكر والمؤسسات الأوروبية [2}.
وأخيراً، كانت المحاولة الرابعة قائمة على المفهوم البروديليّ [يعود إلى فرناند بروديل] «المدى الطويل» (Longue Durée) وتأكيده المزدوج على الأهمية المركزية للتاريخ الاجتماعي-الاقتصادي جنباً إلى جنب مع تقليل أهمية التاريخ السياسي العَرَضيّ أو ما يسمى بالتاريخ الوقائعيّ (Histoire évènementielle). حقّق هذا الهجوم على التأريخ السياسي الدبلوماسي السرديّ التقليدي نجاحاً كبيراً في أجزاء هامة من المجتمع التاريخي العالمي.

تكمن حدود كل من محاولات التعديل الثلاث الأولى في أنها استمرت في اعتبار الدول أو المجتمعات أو التكوينات الاجتماعية كياناتٍ منفصلة ومستقلة تتبع مساراتٍ مستقلة ومتوازية، بوتيرة مختلفة، نحو مستقبل لا مفر منه إلى حدٍّ ما. فشل هذا في تفسير الاستقطاب المستمر لمناطق مختلفة من النظام العالمي، استقطابٌ بدا أن يكون متوسِّعاً لا يتقلَّص. وكانت حدود الطريق البروديليّ أن أنصاره مالوا إلى أن يقتصر عملهم على تحليل الفترة ما بين القرن الرابع عشر والقرن الثامن عشر، وكانوا غير مستعدّين بوضوح سواء لأن ينظروا إلى الوقت الحاضر أو إلى المدى الطويل من التغيُّر التاريخي على مدار آلاف السنين.

كانت الثورة العالمية لعام 1968 هي ما أبطل النجاح النسبي لمحاولات التعديل الأربع تلك. من المؤكد أنه لم تكن بنى المعرفة هي الشغل الشاغل لدى الطلاب والشباب الذين قادوا مختلف الانتفاضات التي نربطها بعام 1968. كانوا مهتمّين في المقام الأول في هجومهم على مختلف بنى السلطة بما رأوه عواقبَ وخيمةً لهيمنة الولايات المتحدة جنباً إلى جنب مع ما رآه عديدون منهم (وربما معظمهم) تواطؤاً سوفياتياً مع الولايات المتحدة. ثانياً، كانوا قلقين من فشل الحركات التاريخية المعادية للنظم في تنفيذ خطوتها الثانية الموعودة في استراتيجية الخطوتين – الاستحواذ على سلطة الدولة أولاً، ومن ثم تغيير العالم – التي اعتمدتها هذه الحركات في أواخر القرن التاسع عشر. ونتيجة لذلك قالوا لتلك الحركات: لقد استطعتم (في جزء كبير من عقدي الخمسينيات والستينيات) أن تستحوذوا على سلطة الدول بدرجةٍ ما، لكنكم بالتأكيد لم تغيِّروا العالم.

ومع تواتر العمليات الثورية العالمية بدأ يشعر الكثير ممن شاركوا في تلك الانتفاضات بأن الأنماط الحالية لتنظيم المعرفة والمقولات التي يجري استخدامها كانا في حد ذاتيهما عقبات رئيسية أمام أنواع التحولات التي أرادوا تحقيقها. لقد حوّلوا كامل تركيزهم نحو الطرق التي هَمَّشَ بها الإطار المعرفيّ السائد «الشعوب المنسيَّة» بشكلٍ ممنهج، وطالبوا بأن تعيد مؤسسات المعرفة تركيز اهتمامها على الحقائق التاريخية والسوسيولوجية. خلق هذا التوجُّه الجديد – الذي نظر إليه كل من مؤيديه ومعارضيه بصفته توجُّهاً سياسيّاً – تغييراً آخر في واقع النظام العالمي وجعل من الممكن لمعارضي المعرفة في جميع التخصصات أن يحصلوا على دعمٍ كافٍ بحيث يقال إنهم أصبحوا حركاتٍ معرفيَّة.

ولِدَ تحليل النظم العالمية كحركة معرفيَّة في ذلك التوقيت وبداخل هذا السياق. ما حاول تحليل النظم العالمية أن يفعله هو أخذ جوانب من محاولات التعديل الأربع وضمّها سويةً بما يشكِّل أداةً من شأنها أن تتحدّى، جوهرياً، تلك الفرضيات المعرفيَّة القديمة السائدة التي شكَّلت ما يُدعى التخصصات المعرفيَّة بصفتها حُججاً فكريَّة وأجهزة تنظيميَّة وظواهر ثقافيَّة. وكأيّ حركة معرفيَّة، لا يتمأسَسُ تحليل النظم العالمية على جيشٍ منضَبِط، وإنما تشكيلة من الأفراد الذين يتشاركون الفرضيَّات الرئيسية، ويسعون في الوقت ذاته إلى تأكيداتٍ مختلفة داخل الإطار نفسه. إذاً، سأبدأ بتوضيح ما تعنيه بالنسبة إلي مجموعة الحُجَج التي أسمّيها تحليل النظم العالمية. وسأتبعُ ذلك ببعض من النقاش حول متغيرات أخرى داخل المعسكر العام لتحليل النظم العالمية.

العنصر الأساسي الأول في تحليل النظم العالمية، بالنسبة إلي، هو التأكيد على وحدة التحليل: نظامٌ عالميٌّ بدلاً من دولة أو مجتمع أو تكوين اجتماعي. كلمة «عالَم» (World) ليست مطلقاً مرادفة للكونيّ (Global) أو الكوكبيّ (Planetary) ولكنها تعني ببساطة الإشارة إلى وحدة كبيرة نسبياً (من حيث المساحة والسكان) في داخلها تقسيمٌ قُطبيٌّ للعمل. وبكلمات بروديل، نحن نتحدث عن «عالَمٍ» لا «العَالَم». العنصر الأساسي الثاني، بالنسبة إلي، أن «النظم العالمية» مثلها مثل كل النظم ليست أبديَّة، فلديها حَياة. تأتي إلى حيِّز الوجود؛ تمضي في مساراتها التاريخية في إطار القواعد التي تحدد النظام وتحكمه، وتتحرَّكُ في نهاية المطاف بعيداً عن التوازن بحيث يدخل النظام في أزمة بنيويَّة مفْصَلِيَّة. الأمر الحاسم هنا هو الحُجَّة القائلة بأن جميع النظم تاريخية ونسقيَّة. كان تأكيد نظرية التحديث على تاريخية الفرق بين المركز والأطراف أمراً أساسيّاً، لكن أيضاً فكرة بريبيتش وروّاد التبعية عن توسُّع الفجوة بين المركز والأطراف بدلاً من تقلُّصها هي جزء هام من تفسير الانحراف عبر الزمن بعيداً عن التوازن.

العنصر الأساسي الثالث هو رفض الفصل الأنطولوجي للميادين المُتخيَّلَة الثمينة جداً لمجموعة الفرضيات السياسية والاقتصادية والسوسيوثقافية القديمة السائدة. كان الاستقلال الفكري للميادين الثلاثةالاقتصاد والسياسة والاجتماع – بالنسبة إلى منظّري التحديث مثلهم مثل أولئك الذين التزموا بمجموعة الفرضيات السائدة قبل عام 1945، السمة الأساسية المميزة لما أطلقوا عليه الحداثة (Modernity). أمّا بالنسبة إلى تحليل النظم العالمية، فإن هذه الميادين الثلاثة مرتبطة ارتباطاً جوهرياً. إنها تُعرِّف كلاً منها، وليس هناك بين تلك الميادين من ميدان «أوّليّ»، وإنما يجب أن يُحلَّلوا في تعريفهم المتبادل في ما بينهم. وبالتالي، فإن تحليل النظم العالمية بالضرورة لا تخصُّصيّ (Unidisciplinary) في إطار العلوم الاجتماعية التاريخية على عكس الدراسات البينية وتلك المتعددة التخصصات والعابرة لها.

أخيراً، يرفض تحليل النظم العالمية مأسَسة مفهوم الثقافتين التي جرت في القرن التاسع عشر، ويطرح تجاوز هذا الانقسام المعرفيّ الزائف (والحديث تاريخياً). يرجع تاريخ الانقسام التحديدي-التعميمي بين الفلسفة والعلوم إلى النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ومع ابتكار «العلوم الاجتماعية» في القرن التاسع عشر بصفتها فئة تتوسطهما، جرى تضمين هذا الانقسام في العلوم الاجتماعية كانقسام بين التاريخ التحديدي والعلوم الاجتماعية التعميمية الثلاثة. يؤكد تحليل النظم العالمية على أن الانقسام المعرفيّ بين التاريخ والعلوم الاجتماعية التعميمية كان دائماً على خطأ، والآن قد عفا عليه الزمن.

ومع اكتساب تحليل النظم العالمية القوة بصفته حركة معرفيَّة، ظهرت نماذج أقل أو أكثر تنوّعاً داخل المعسكر الكبير. وضعت هذه النماذج تأكيداتٍ مختلفة أو إضافية على البحث وجدول أعمال المعرفة. كان أحد تلك النماذج ما طرحه كريستوفر تشيس-دن وتوماس هول وآخرون. جادل هذا النموذج ضد قصر جهود البحث على «النظام العالمي الحديث» بصفته «اقتصاداً عالميّاً رأسماليّاً» (اقتصادٌ تموقَع حيِّز وجوده فيما هو أقل من العالم بأسره). وفي ذلك جرى اقتراح ترك مسائل رئيسية محددة دون مناقشة، واحدة منها كانت تحليل ما يجري في العصر الحديث في المناطق التي عُرِّفَتْ بأنها خارج التقسيم القُطبيّ للعمل في الاقتصاد العالمي الرأسمالي، فضلاً عن العمليات المعقَّدة التي دُمِجَت من خلالها تلك المناطق في التقسيم القُطبيّ للعمل.

وعلاوة على ذلك، لم تخشَ هذه المجموعة فقط من أن ممارسة تكريس الجهود البحثية، في المقام الأول، وحتى حصراً، على الاقتصاد العالمي الرأسمالي أدَّت إلى ما يمكن تسميته بالاستبعاد المكاني للتحليل. بل وأعربوا أيضاً عن قلقهم إزاء ما يمكن تسميته بالاستبعاد الزمنيّ الطويل الأجل للتحليل. أعربت هذه المجموعة عن رغبتها في النظر في مسألتين طويلتي الأجل. إحداهما كانت التطور التاريخي الطويل الأجل للتفاعل الاجتماعي البشري. لقد واجهوا بنشاطٍ القضية القديمة العهد المتمثلة في «التطور» التاريخي: ماذا «تطور»، وما إذا كان التطور غائيّاً.
فضلاً عن ذلك، رأت هذه المجموعة أن هناك معرفة قيِّمة يمكن اكتشافها عن طريق المقارنة المنهجية لمختلف أنواع النظم التاريخية التي يتعين بالضرورة استخلاص حالاتها من تحليلها بكل أنواعها، في كل المناطق الجغرافية، على مدى آلاف السنين. يمكن للمرء أن يسمي ذلك التحليل المقارِن للنظم التاريخية.

هناك نموذج آخر من التحليل المقارِن للنظم التاريخية طرحه جيوفاني أريغي وتاكيشي هاماشيتا وآخرون، اقتصر هذا النموذج على الفترة التاريخية «الحديثة» (منذ حوالى عام 1500 حتى الآن). اقترحوا في الأساس مقارنة تطوّر نظامٍ تجاريٍّ مُتَمَركِزٍ حول الصين مع ذاك الذي تطور كنظامٍ تجاريٍّ مُتَمَركِزٍ حول أوروبا الغربية خلال فترة ما بعد عام 1500. لقد نظروا في الطرق التي اختلفت بها بُنى النظامين – يطرح أريغي أن الاختلافات لا تزال قائمة حتى يومنا هذا – وفي الروابط المتزايدة بينهما على مر القرون. حوّلت الأهمية الاقتصادية والجيوسياسية المتزايدة للصين في النظام العالمي، منذ ثمانينيات القرن العشرين، انتباه باحثي العالم إلى الدور التاريخي للصين، وأدّى ذلك بشكل خاص إلى شكاوى حول إهمال الباحثين ذوي التوجّه الأوروبي لدورها. وتبع ذلك إنتاج كمية كبيرة نسبياً من الأدبيات عن الصين والعالم باللغات الأوروبية والشرق آسيوية. هذه الأدبيات متنوعة، ويمكن اعتبار بعضها فقط ضمن الإطار الواسع لتحليل النظم العالمية.

أصر أندري غوندر فرانك في كتاباته لما بعد عام 1990 على تصوّر وجود نظامٍ عالميٍّ (WorldSystem) واحدٍ قائمٍ بمفرده (الأمر الذي جعله يكتبها بدون شَرطة) تقفّى أثر وجوده إلى حوالي 5000 عامٍ على الأقل. بالنسبة إلى فرانك، كانت الصين دائماً مركز هذا النظام (باستثناء فترة وجيزة إلى حدٍّ ما في القرن التاسع عشر وجزء من القرن العشرين). وبينما استخدم فرانك العديد من الأدوات المنهجية المستمدّة من تحليل النظم العالمية، راح يهاجم النماذج الأخرى (نعم، جميع النماذج الأخرى) باعتبارها أورومركزيَّة، ورَفَض مفهوم الرأسمالية ذاته كمتغيرٍ يجب على التحليل أن يتضمّنه. أصرَّ آخرون من داخل مجموعة الباحثين ذوي التوجه الصيني هذه، مثل كينيث بوميرانز، على إعادة تحليل البيانات التي تقارن بين أوروبا الغربية والصين في الفترة بين القرن السادس عشر والقرن الثامن عشر، وسعوا إلى إظهار أن ما سمّاه بوميرانز «الاختلاف الكبير» (The Great Divergence) حدث حصراً في القرن التاسع عشر، ومع ذلك لا يسعى بوميرانز إلى وضع نفسه ضمن عائلة مُحللي النظم العالمية بالرغم من أن تحليله الملموس يتفق في بعض النواحي مع نموذج أريغي وهاماشيتا. في الواقع، يعزز نموذج بوميرانز وجهة نظر العلوم الاجتماعية التقليدية السائدة التي اعتَبرَت أن التحول الرئيسي في العصر الحديث كان الثورة الصناعية التي قيل إنها حدثت – بشكل أساسي على الأقل – على أعتاب القرن التاسع عشر في إنكلترا.

بينما كان هذا الجدال دائراً بين محلّلي النظم العالمية في الفترة بين عامي 1970 و2010، حدث شيئان أدّيا إلى تغيُّرٍ في طبيعة تحليل النظم العالمية بصفته حركة معرفيَّة. كان الأول صعود، وحتى انتصار، العولمة الليبرالية في النظام العالمي. وكان الثاني تغيُّر موقف منظمات التخصصات المعرفية الرئيسية والكتب المقرّرة إزاء تحليل النظم العالمية. لننظر في كل منهما على حدة. قُوِّضَت هيمنة الليبرالية الوسطية نتيجة الثورة العالمية لعام 1968، ولحق ذلك ركود الاقتصاد العالمي الذي بدأ في سبعينيات القرن المنصرم (مرحلة ثانية B من دورة كوندراتييف)، الأمران اللذان سمحا للقوى المحافظة بإطلاق محاولة عالمية لعكس جميع التغيُّرات السياسية والاقتصادية والثقافية التي حدثت في الفترة بين عامي 1945 و1970. أطلقت هذه الحملة السياسية على الليبرالية الجديدة اسماً مضلّلاً، وتجسَّدت أساساً في النجاح السياسي لكل من مارغريت تاتشر في حزب المحافظين بالمملكة المتحدة، ورونالد ريغان في الحزب الجمهوري بالولايات المتحدة.

حوّل الليبراليون الجدد الإطار التحليلي الذي طبّقوه على النظام العالمي من «التنموية» (Developmentalism) التي سادت في الفترة بين عامي 1945 و1970، إلى شيء ما أطلقوا عليه العولمة. لقد استخدموا هذا الإطار الجديد لفرض برنامج عملي أُطلِق عليه إجماع واشنطن، وذلك بشكل أساسي من خلال وزارة الخزانة الأميركية وصندوق النقد الدولي. لقد طالبوا جميع البلدان التي لم تكن «متقدّمة» بوضع برنامج يعطي الأولوية للنمو الموجّه نحو التصدير في الوقت نفسه الذي تفتح فيه تلك البلدان أبوابها أمام الاستثمار الأجنبي المباشر، وخصخصة الشركات المملوكة للدولة، والحد من برامج الرعاية الاجتماعية، وتقليص حجم بيروقراطياتها. جيوسياسياً، كانت هذه الجهود السياسية ناجحة للغاية في أرجاء المعمورة في الفترة الممتدة تقريباً من منتصف سبعينيات القرن المنصرم إلى حوالى عام 1995.

وجاءت استجابة من داخل العلوم الاجتماعية التاريخية لهذا الواقع السياسي العالمي الجديد بجعل العولمة الكلمة الأكثر طنانةً في البحوث والنشر. واحدة من نتائج ذلك كانت فارِقة في إكساب محلّلي النظم العالمية مكانة أكاديمية أكثر احتراماً إلى حد ما. كان تحليل النظم العالمية في السابق إمّا خاضعاً لإدانة شديدة بسبب أخطائه المزعومة أو مُقابَلاً برفضٍ تهكُّميّ للاعتراف بطابعه العلميّ، ولكن فجأةً أُشيدَ به وراح يُنظر إليه باعتباره رائداً لنظرية العولمة، وإن كان ذلك في نسخة شديدة الالتزام سياسياً. وأصبح تحليل النظم العالمية (غالباً يُشار إليه باسم نظرية النظام العالمي) مدرجاً في الكتابات والكتب المقرّرة كواحدٍ من بين قائمة بدائل نظريةٍ عديدة للعولمة.

لكن تحليل النظم العالمية لم يكن في الواقع رائداً لنظرية العولمة، وإنما كان شيئاً مختلفاً تماماً. لم يسعَ تحليل النظم العالمية يوماً إلى أن يصير واحداً بين قائمة بدائل نظرية، وإنما نظر إلى نفسه كتعبيرٍ عن رفضٍ لكامل إطار العلوم الاجتماعية السائدة. دعا تحليل النظم العالمية إلى إعادة تشكيل جذريَّة للإطار الفكري للعلوم الاجتماعية وإلى إعادة تنظيم لا تخصُّصية، لقد جمع بين نظرة العلوم الاجتماعية التاريخية هذه ومَطلَب التغلُّب على التقسيم المعرفيّ لـ«الثقافتين» وإعادة إقامة إطار معرفيّ واحد لجميع المعارف. قُوبل انتصار إجماع واشنطن في النصف الثاني من تسعينيات القرن المنصرم بتحدٍّ سياسي مع تحوّل وعود الليبرالية الجديدة بالإنعاش الاقتصادي العالمي إلى سراب. وعزَّزَت الأزمات المالية المتعاقبة والمستمرة منذ ذاك الحين خيبة الأمل المتزايدة تلك، وأدَّت في النهاية إلى تساؤلات جادة حول جدوى العودة الموعودة إلى «النمو» الاقتصادي العالمي.

إنّ الدرجة التي يمكن للاقتصاد العالمي الرأسمالي أن يستأنف إليها عائداته، التقليدية والمتكررة، وصولاً إلى التوسُّع الطبيعي، محل نقاش حتى داخل معسكر محلّلي النظم العالمية. إذا كان المرء يعتقد، مثلما أعتقد، بأن النظام العالمي الحديث يمر بأزمة بنيوية، وبالتالي فإنه يتشعَّب، وأنه في خِضَم الانتقال إلى نظام عالمي جديد، فإنّ السؤال الوحيد المتبقّي هو ماذا سيحل بتحليل النظم العالمية بصفته حركة معرفيَّة في إطار تلك العملية؟ تكمن قوّة تحليل النظم العالمية بصفته حركة معرفيَّة في مقاومته لإغراء تعريف نفسه بشكل ضيق أو دوغمائيّ، في ذات وقت عدم سماحه بتعريف نفسه بشكل فضفاض بحيث يصبح أي شيء يتعامل مع مسألة خارج مساحة أممٍ أو مجتمعاتٍ أو تشكيلاتٍ اجتماعية منفردة واحداً من عائلة التحليل. كان ذلك مشروعاً تنظيمياً شاقّاً، ومع ذلك فقد نجح حتى الآن. نجح تحليل النظم العالمية بصفته حركة معرفيَّة، نسبياً، في نشر أنصاره داخل جميع تخصّصات العلوم الاجتماعية التاريخية، ونشر قواعده التنظيمية خارج الولايات المتحدة ليس فقط في أميركا اللاتينية وأوروبا الغربية وشرق آسيا، ولكن أيضاً في أجزاء أخرى من العالم.

والسؤال المطروح على تحليل النظم العالمية بصفته حركة معرفيَّة هو ما إذا كان بإمكانه الاستمرار في اللعبة التنظيمية بالطريقة نفسها التي لعب بها حتى الآن. وحتى المرحلة التي سيحدث فيها التحول البنيويّ، يمكن قياس مدى نجاح تحليل النظم العالمية باختفائه كحركة معرفيَّة نتيجة لإعادة تنظيم جذريَّة لعالم المعرفة. إنه لمن المبكّر جداً التنبؤ بما إذا كان ذلك سيحدث بالفعل، ولكن إذا انتهى الأمر بتحليل النظم العالمية إلى أن يكون مجرّد موقف نظري آخر داخل العلوم الاجتماعية، فسيكون بذلك قد فشل في تحقيق ما أمل تحقيقه.

الهوامش:
[1] Immanuel Wallerstein (1996). Open the Social Sciences: Report of the Gulbenkian Commission on the Restructuring of the Social Sciences. USA: Stanford University Press  (المترجم).
[2]
يقصد بكلمة التعميمية Nomothetic الفروع التي تبحث عن قوانين علمية يمكن تعميمها، في حين يقصد بكلمة التحديدية Idiographic الفروع التي تدرس الجزئيات أو الظواهر الخاصة (المترجم).
المصدر:
Immanuel Wallerstein (2012). Conclusion: World-Systems Analysis as a Knowledge Movement. In S. J. Babones & C. Chase-Dunn (Eds.), Routledge Handbook of World-Systems Analysis (pp. 515-521). USA: Routledge.

 

عن (الأخبار اللبنانية)