لا شك أن السيرة التي وضعها تيموثي برينان Timothy Brennan، الأستاذ في قسم الدراسات الثقافية والأدب المقارن في جامعة مينيسوتا، لإدوارد سعيد، جاءت في وقتها. فنحن في الولايات المتحدة نعيش زمن ما بعد جورج فلويد، حيث تنصبُّ اهتماماتنا، كأكاديميين، ومواطنين، وبشر، على قضايا العدالة: الاجتماعية، والسياسية، والعرقية. وفي جامعة مينيسوتا، التي تقع في مِينيابوليس التي يسود فيها التوتر، شدَّد العميد كورسون على أننا في العلوم الإنسانية، وفي جميع حقول الدراسة في الحقيقة، "ينبغي أن نركز على فهم السلطة والعدالة في الولايات المتحدة." وقد كان إدوارد سعيد هو الباحث الذي جعل من دراسة السلطة والعدالة، لا في الولايات المتحدة فقط، بل في العالم كله، شاغلَه الأساسي طوال حياته. ويبيِّن لنا برينان في كتابه أماكن العقل Places of Mind كيف سعى سعيد لتحقيق ذلك الهدف بعزيمة لا تلين وشغف كبير، وأسَّس الحقل المعرفي الجديد لدراسات ما بعد الاستعمار ليتأمل الشرط الخاص بمن جرى تهميشهم، ومعاملتهم بصورة ظالمة، كما تمَّ استغلالهم تاريخيّاً. لقد واجه سعيد، بشجاعة وإصرار، من يقيمون من الأكاديميين في برجهم العاجي، ويتمسكون بمُثُلهم الليبرالية الزائفة، محاولاً فتح عيونهم على الظلم الصارخ الذي يتعرض له الفلسطينيون، وعمليات النهب والدمار التي تسببت بها الإمبريالية. وكما يشير برينان، فقد وضَّح لنا سعيد "أن من الضروري أن يكون المثقف هو ضمير المجتمع" (336).
لقد كتب برينان هذه السيرة لا كنوع من الاعتراف بفضل سعيد وميراثه [البحثي] المتميز فقط، بل كبيان خاص بمن يتمسكون بدعوة سعيد لقول الحقيقة في وجه السلطة. إن المساهمة السياسية في مسيرة سعيد المهنية عظيمة، فقد أورثه كتابه الاستشراق عداوات أروقة السلطة المظلمة، لكنه في الوقت نفسه أصبح بطلاً في عيون الطلبة والباحثين في بقاع كثيرة من العالم. فـالاستشراق، ككتاب ومنهج، تحوَّل إلى تعويذة يلوذ بها الكثير من الصحافيين، وخريجي الجامعات، وحتى السياسيين – دون أن يكون لديهم على الأغلب معرفةٌ بخلفياته ومعانيه الضمنية. لقد كان "مشروعاً" ضخماً في التاريخ الغربي الحديث، بتعبير إدوارد سعيد، نقلاً عن قسطنطين زريق. فالكتاب لم يكن مجرد نظرية في الاستقطاب، كما فهم الكثير من نقاد سعيد، بل هو تأويلٌ للإمبريالية. ولهذا فإن برينان، عندما يبحث ظروف تأليف الاستشراق وأثره، يركز على الجانب الثقافي والموسيقي في سعيد، ويحتفل به كشخص، آخذاً في الحسبان طبيعته القلقة، والأسئلة التي أرَّقته، والسحر الذي تمتع به. ولكونه تلميذاً من تلامذته في جامعة كولومبيا، وصديقاً له كذلك، فإن برينان قد تأثَّرَ خطى شيخه – لنستعير تعبير البروفيسور محمد شاهين في مراجعته لكتاب برينان – وأنجز عدداً من الدراسات الهامة حول مفكرين مثل فيكو وهيجل. وقد كانت معرفته بالتاريخ الثقافي الأوروبي ضرورية للتصدي للكتابة عن سعيد، لأن الصعوبة في فهم سعيد، كما قال مرة أحد أصدقاء سعيد وتيموثي، تكمن في حاجة القارئ أن يدرس كلَّ ما قرأه سعيد.
إن برينان، من جانبه، يقوم برحلة بحث وتنقيب في الأرشيف، ويحاور موسيقيين، وأعلاماً في الأدب، وأكاديميين، وروائيين، وشعراء، وصحافيين. كما أنه يعكف على البحث في مخطوطات سعيد وأوراقه في جامعة كولومبيا، ويكتشف قطعاً من الأعمال الإبداعية، نثراً وشعراً – ويقوم باقتباس وافر منها في الكتاب (ونتمنى أن يقوم بتحريرها ونشرها فيما بعد). إنه يتفحَّص خطباً، وأفلاماً (بلى، لقد ظهر سعيد في بضعة أفلام)، وروايات (بلى، لقد ظهر سعيد كشخصية روائية في بضع روايات)، وأفلاماً وثائقية، بعضها كان عنه وبعضها الآخر أعدَّها هو بنفسه. كما أنه يدقق النظر في كتابات سعيد السياسية بين عامي 1993 و2003، ويوثِّق الجوائز العديدة، المحلية والدولية، التي حصل عليها سعيد، في الوقت الذي يهتمُّ فيه بعلاقات سعيد الشخصية القريبة والبعيدة. ثمَّة حدوسٌ واستبصارات لابنة سعيد، نجلا، وابنه وديع، وزوجته مريم، وشقيقتيه جين وغريس؛ ووصفٌ لسعيد وطبيبه الهندي، المتخصص في الأمراض السرطانية، والأحاديث التي دارت بينه وبين الطاقم الطبي الذي عالجه في المستشفى. ومن الأشياء التي لا تنسى الحادثة [التي يذكرها الكتاب] عن الطالب الفلسطيني الذي حضر محاضرة لسعيد في إنجلترا، ثم انتظر دوره ليتكلم معه شخصياً طالباً منه مساعدة مالية. وقد تسلَّم ذلك الطالب في الشهر التالي شيكاً من سعيد. إن أماكن العقل هو سردٌ استقصائي معزز بصرامة البحث العلمي.
يتكوَّن الكتاب من اثني عشر فصلاً، ويتتبع مسيرة سعيد المهنية في جامعة كولومبيا، وكذلك السنوات التي قضاها من عمره في تاريخ فلسطين المضطرب العنيف، ومشاركته في المؤتمرات الدولية، وفي صفحات المجلات والصحف – النيويوركر، على سبيل المثال، والأهرام – والهجمات العنيفة التي شنها على سعيد كتابٌ يمينيون ومنظمات قوية صهيونية الميول والهوى. إن من الصعب، من ثمَّ، تلخيص هذه النوافذ الاثنتي عشرة التي يفتحها برينان على العقل السعيديِّ، لأن الحضور الثقافي والعالمي لسعيد هائل وتصعب الإحاطة به. فقد ألقى محاضرات في أكثر المراكز الثقافية والأكاديمية علوَّ كعبٍ في أوروبا والولايات المتحدة، وعقد اجتماعاً خاصاً مع نيلسون مانديلا، والتقى العديد من صُنَّاع القرار في وزارة الخارجية الأميركية. لكنه كان انتقائياً: ففي مرة من المرات – وحسب مصدر موثوق من أصدقاء سعيد – أخبر أحد الوسطاء سعيد أن أحد حكام البلدان العربية متشوِّقٌ للقائه، فأجاب أنه يفضل أن يذهب للعب التنس.
وأن يحقق أكاديمي متخصص في الأدب، لا في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، أي "العلوم النافعة"، هذا الحضور الكبير على الساحة العالمية لهو أمرٌ لافت للنظر. واللافت أيضاً هو الطائفة الواسعة من أصدقاء سعيد، والمراسلين، والزوار، والمعلمين، الذين يشكلون، كما يبين لنا برينان، مجموعةً من الرجال والنساء، الموهوبين والمشهورين، خلال النصف الثاني من القرن العشرين: نادين غورديمر، وليونيل تريلينغ، وميشيل فوكو، ونعوم تشومسكي، وتوني تانر، وكينزابورو أوي، ويو يو ما- والقائمة تطول. فقد تبادل الرسائل معهم ومع آخرين، وهي ترينا، بالإضافة إلى تفانيه في الصداقة والعلاقات الشخصية، التحديات الثقافية التي واجهوها.
يضيف برينان إلى هذه الشخصيات البارزة، قائمة العار ليوضح لنا الخبث الذي اتسمت به شخصيات أميركية مشهورة ناصبت سعيد العداء، واضطر للتصدي لها: أي هؤلاء الذين نبع تعصبهم الأعمى من مناصرتهم لإسرائيل، ودعمهم لها – على الرغم من أن كتابيه الاستشراق، والمسألة الفلسطينية، وغيرهما من أعماله، تُدَرَّس على نقاط واسع في إسرائيل. كما أن سعيد أقام علاقات صداقة حميمية مع ناشطي حقوق الإنسان الإسرائيليين – إسرائيل شاحاك، وهو أحد الناجين من الهولوكوست، وسارا روي، وكلاهما يمثلان، بالنسبة لسعيد، الروح الحقيقية للتحدي اليهودي، مثلهما مثل عمالقة سابقين عظام، كأدورنو، وبنيامين، وماركس. كما أنه واجه هجوماً شريراً، بسبب رميه حجراً على السياج الحدودي بين لبنان وإسرائيل: فقد وبَّخه المتعاطفون مع الصهيونية على ما فعله (وأطلق عليه بعضهم وصف "بروفيسور الإرهاب")، في الوقت الذي يكشف فيه دعمُهم لعمليات التطهير العرقي الإسرائيلي لفلسطين نفاقَهم وانتهازيتهم التي لا حدود لها.
يسخر برينان بشجاعة من كريستوفر هيتشينز ، وروبرت أوين ("مطلقاً عليه لقب "الجبان")، وآخرين، حتى مقدمي البرامج التلفزيونية، مثل باولا زان، وبالطبع الكريه أبراهام روزينتال، من نيويورك تايمز. وهو يوثِّق المناسبات العديدة التي تمَّ فيها التشهير بسعيد، وحرمانه من الجوائز، وشطب اسمه من قوائم الحائزين على الجوائز – حتى في أماكن يفترض فيها أن تكون معاقل للنزاهة والاستقامة، مثل جامعة هارفارد. (في كتاب حديث الصدور يحاجج ضد أطروحة سعيد حول غزو نابوليون لمصر، وعندما يذكر اسم سعيد في الكتاب، فإن المؤلف – ولربما المحرر في مطبعة جامعة ييل – يشطب اسم سعيد من فهرس الأسماء). وفي الوقت الذي كان فيه سعيد يتعالج من مرض السرطان، تسببت الأدوية في انتفاخ الجزء السفلي من بطنه، فسخر الكارهون منه قائلين إنه أصبح سميناً. ثمَّة مثلٌ عربي معروف يقول: عندما تقع البقرة تكثر السكاكين. وقد تكاثر الجزارون التافهون منذ وفاة سعيد.
لقد كان سعيد موسيقياً بارعاً. ويلاحظ برينان، منذ البداية، أن سعيد رغب أن يكون موسيقياً، وظلَّ طوال حياته عازفَ بيانو موهوباً. وعلى كل حال، فإنه في أواخر عمره رغب في العزف أمام الجمهور، وكتابة مراجعات نقدية حول الموسيقى. وقد كتب برينان نفسه عن الموسيقى (الكوبية والأفرو – لاتينية)، وهو، في مواضع عديدة من الكتاب، يناقش كتابات سعيد، ويناقش، مطوَّلاً، تأويلَ سعيد لأوبرا عايدة في كتابه الثقافة والإمبريالية، ويورد الآراء الإيجابية والسلبية التي أثارها ذلك التأويل. ويلاحظ برينان، بصورة مثيرة للاهتمام، أن سعيد تحوَّل للتحليل الموسيقي بعد خيبة الأمل التي شعر بها تجاه قادة منظمة التحرير، وفشلهم في التفاوض بذكاء وحنكة، أو عدم قدرتهم على وضع ذواتهم المضخمة جانباً لصالح القضية الفلسطينية. لقد كتب سعيد مقالة نصف شهرية بالعربية لكي ينبه القراء العرب إلى فشل زعمائهم، بينما شجَّع الموسيقى لأنه آمن بضرورة حقن "الموسيقى بالنقد الاجتماعي": والتعبير لدانيال بارينبويم الذي "أحب" سعيد، كما يشير برينان. وهكذا، ولإيمانهما بأن الموسيقى قادرة على شحذ العقول من أجل الممارسة، أنشأ سعيد وبارينبويم معهداً للموسيقى في رام الله: أوركسترا الديوان الشرقي – الغربي، التي ما زالت نشطة في إقامة حفلاتها، بدعم من إسبانيا وألمانيا، وليس هناك بلد عربي واحد يقدم قرشاً واحداً من ذلك الدعم.
في الوقت الذي جعل فيه سعيد من القضية الفلسطينية مركز اهتمامه، فإنه لم يتجاهل أبداً واجباته كأستاذ نحو طلبته. وقد صارع رعب مرض سرطان الدم (اللوكيميا)، وعارض اتفاقيات أوسلو وعيوبها (التي ما زالت تسبب الأذى والشرور للفلسطينيين حتى هذه اللحظة)، وظلَّ يكتب وينشر إلى آخر يوم في حياته. والفصل الأخير من الكتاب يصف الشهور الأخيرة من حياة سعيد. لقد عانى لأكثر من عقد من الزمن، لكنه رغم ذلك واصل عمله الأدبي والموسيقي والسياسي. وكما يقتبس برينان منه: "لقد ألقيت ... هذه المحاضرات خلال ثلاث ليال متوالية كنت تلقيت فيها العلاج الكيماوي. وليس من السهل عليَّ تفسير كيف فعلت ذلك، لكنني قمت بذلك ... وشعري يتساقط." وفي يوم الخميس الخامس والعشرين من أيلول (سبتمبر) عام 2003، توفي سعيد. وأتذكر في اليوم التالي، الجمعة، أن بريدًا إلكترونيًّا كتب بطريقة ضعيفة، جرى تداوله. يقول ذلك الإيميل إن سعيد، وهو في غرفة العناية المركزة، تمتم لنجلا بصوته المتعب الواهن: "لا تنسوا فلسطين".
وفي كتابه أماكن العقل يشدد برينان على أن قراءه لن ينسوا هذا الفلسطيني/ العربي/ الأميركي، الذي ولد في القدس، ومات في نيويورك، وجرى دفنه في مقبرة بروتستانتية في لبنان: إدوارد سعيد.
*
لقد جرت ترجمة كتاب برينان إلى العربية، وسيكون إضافة قيمة إلى الدراسات العديدة التي تم نشرها عن سعيد في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. واختار مترجم الكتاب، وهو البروفيسور محمد عصفور، عنوان ميادين الفكر: سيرة ثقافية، للنسخة العربية. ويعدُّ عصفور واحداً من أهم المترجمين في العالم العربي، وقد ترجم حتى الآن الاستشراق وكتباً ومقالات أخرى لسعيد. وأود أن أشكر البروفيسور محمد شاهين على عزيمته وإصراره اللذين لا يفتران، وهو صديق مقرب لسعيد وبرينان، من أجل نشر الترجمة عن سلسلة "عالم المعرفة" في الكويت، التي تشرف على نشر ترجمات الأعمال الكبيرة في العلوم الإنسانية. ومن بين المزايا التي تتمتع بها "عالم المعرفة" أنها تحظى بدعم أمير الكويت، الذي يوجه بأن لا يباع أي كتاب يصدر عن الدار بأكثر من دولار واحد، حتى يتسنى له الوصول إلى قطاع واسع من القراء في العالم العربي.
في ترجمته العربية، فإن كتاب برينان سيمثل معياراً جديداً لكتابة السيرة في العالم العربي. إنه رائد ومجدد لسببين:
الأول: أن سعيد في العالم العربي هو مثارُ إعجاب، بصورة حصرية، كما تمَّت مناقشة عمله بسبب كتابه الاستشراق. لقد أصاب تأويله للسلوك الغربي تجاه الإسلام والعرب، وبصورة أشمل، للشعوب المستعمَرة سابقاً، وتراً حسّاساً لدى القراء، كما فعل، بالطبع، إصرارُه على توضيح المظالم التي تعرَّض لها الفلسطينيون، ونقدُه الذي لم يفتر لسياسات إسرائيل الوحشية. وكتاب برينان سيشكل بالنسبة للقراء العرب صدمة جيدة لأنه سيشدُّ اهتمامهم إلى الرحلة الملحمية العظيمة التي قطعها سعيد ليصبح مدافعاً بارزاً على مستوى العالم عن القضية الفلسطينية. إن الكثير من كتاب الصحف، وخبراء الإعلام، وحتى السلطات الدينية في العالم العربي، لا يعرفون أن الفهم الكامل لشرح سعيد لمشروع الاستشراق يتجاوز شعار "نحن في مقابل الآخر" الذي استهوى الكثيرين منهم. لقد كان الطريق إلى ما أنجزه سعيد شاقاً، ويوضح برينان كيف أن الكثير مما هو سياسي في عمل سعيد ذو مصادر فلسفية، وأن تحليلات سعيد الثاقبة للشأن الفلسطيني، والأميركي، والعالمي، لم تكن نتيجة التراجيديا الشخصية الخاصة به كفلسطيني، بل هي برنامجٌ نظري عمل عليه سعيد بحدية، ومشقة. لقد آمن سعيد بأن الإعداد الثقافي يسبق الطموح السياسي: فلكي تلعب دوراً فاعلاً في الحقل السياسي، فإنك في حاجة إلى مقدار هائل من القراءة، والانفتاح الثقافي، والتمكن من ناصية عدة لغات، والاستقامة الثقافية الشديدة، والتحرر من "أغلال العقل" التي يفرضها الدين – لنستعيد كلمات وليام بليك. يذكِّر برينان، وهو يهدي كتابه بسماحة وكرم "إلى الشعب الفلسطيني"، الفلسطينيين والآخرين في العالم، بالنموذج الثقافي الذي مثَّله سعيد وهو يكافح من أجل تحقيق العدالة.
الثاني: هو أن السيرة التي وضعها برينان لسعيد تمثل نموذجاً للطريقة التي يمكن أن تُكتب السيرُ وفقاً لها في العربية. فالسيرة تبقى نوعاً نادراً في العربية، وهذا النوع من السيرة، الذي يعتمد البحث الاستقصائي في الأرشيف وفي السيرة الشخصية، أكثر ندرة. يمكنني أن أذكر فقط سيرة الشاعر خليل حاوي التي كتبها شقيقه، حيث كان لدى الأخ كلُّ ما لشقيقه من صور، ومخطوطات أولية، ومقالات صحفية، وذكريات شخصية، وسجلات عائلية، ومعلومات تخصُّ حاوي في الجامعة الأميركية في بيروت؛ كما أنه قضى قرابة عشر سنوات وهو يعمل على الكتاب. لكنه رغم ذلك، لا يقارن بعمل برينان. فالسير بعامة، إن تسنى لها أن تكتب بالعربية، تركز على جانب واحد من حياة الكاتب/ المفكر، دون نظر إلى التجربة برمتها. أما برينان، فقد كتب هذه السيرة بعد أن درس حياة سعيد وفكره، في كل مجال ممكن من عمله. و"الببليوغرافيا المختارة"، التي وضعها في نهاية الكتاب، وتتضمَّن قوائم بكل طبعات كتب سعيد – تلك التي وضعها بنفسه، أو شارك فيها مع آخرين، أو قام بتحريرها، شديدة الأهمية. يضمِّن برينان قوائم بالأفلام، والوثائقيات، والأعمال غير المنشورة، و"مختارات قصيرة من الأفلام التي تصور محاضراته ومقابلاته،" ومواد أخرى يمكن أن تكون مصادر لا غنى عنها للباحثين في المستقبل. وهكذا، وكما نرى في عمل برينان، فإن على السيرة أن تشمل كل جوانب حياة المؤلف، مدعومة بدراسة شاملة لمنجزه. وينبغي أن تتم محاكاة هذا النوع من المقاربة في الأعمال التي سيتم إنجازها مستقبلاً في العالم العربي؛ فنحن بحاجة إلى سير تقوم على بحث استقصائي، وشامل، شبيه بعمل برينان، عن نجيب محفوظ، ومحمود درويش، وطه حسين، والعمالقة الآخرين في التاريخ الأدبي العربي.
هذا الكتاب واضح، يتمتع بصفاء الفكر، ممتعٌ في القراءة، محتشدٌ بالمعرفة. وأخيراً مبروك لتيموثاوس، الصديق والزميل العزيز. وبالنيابة عمن سيقرأ كتابك في العربية، أو (في أية لغة أخرى): شكراً.
*جزء من هذه المراجعة تمَّت قراءته في جامعة مينيسوتا في مناسبة الإعلان عن صدور كتاب برينان في 19 آذار (مارس) 2021.
عن المجلة الثقافية التي تصدر عن الجامعة الأردنية