كان للقاء مع الكاتب العراقي كه يلان محمد في جلسة تقديم كتاب "القراءة صنعة العظماء" للعماني نعيم محمد الفارسي فرصة لإلقاء الضوء على جوانب من آراء محمد في أهمية القراءة وأدوارها، والخروج بها من التعميم والتبسيط والتخمة الاستهلاكية التي طالتها إلى استكشاف جوهرها وعمقها في حقيقته.
أربيل (العراق) - مع توالي الأيام الأخيرة لسنة 2024 وعلى مشارف عام جديد نظم نادي المدى الثقافي، فرع أربيل، بالاشتراك مع معهد غوته الألماني ندوة لمناقشة كتاب “القراءة صنعة العظماء” ضمن فعالياته التي شملت حلقات نقاش حول العديد من المؤلفات والمواضيع الخاصة بمفهوم القراءة، كما اتسع برنامج النادي في غضون هذا العام لاستضافة أسماء ثقافية، وبذلك أتيحت الفرصة لفتح باب الحوار بين القراء والكتاب بشأن أعمالهم الإبداعية.
أن تكون قارئا
في الجلسة الأخيرة شارك الكاتب العراقي كه يلان محمد مع الحضور وأعضاء النادي بتقديم ورقة حول أهمية الإصدارات التي تكرس للإبانة عن أهمية القراءة، ومنها ما نشره الكاتب العماني نعيم محمد الفارسي بعنوان “القراء صنعة العظماء”.
وأشار محمد في سياق مشاركته إلى دور البيئة في الاهتمام بالقراءة لافتا إلى ما قاله سارتر بأن الإنسان لا يولد قارئا بل يكتسب صفة القارئ متأثرا بالواقع الأسري والمجتمعي الذي ينشأ في كنفه. وتابع قائلا بأنه ليس من المنطق التوقع بأن الاهتمام بالكتب والقراءة بالمستوى نفسه لدى الجميع، لذا من الضروري تحديد ما يجعل القراءة عرفا لدى البعض بينما لا يبدو الأمر بذات الوزن من الأهمية عند غيرهم.
وأردف صاحب “كهف القارئ” موضحا بأنه كما يوجد التفاوت في الاهتمام والشغف بالقراءة على مستوى الأفراد، كذلك ثمة تباين بين المجتمعات في مستوى التثقيف بالقراءة، مؤكدا بأن رصد هذا الاختلاف من وظيفة المختصين بعلم الاجتماع، لأنهم أدرى بطبائع المجتمع. وذكر محمد بأن اللافت في عصرنا هو المفارقة المتمثلة في تصاعد المؤلفات التي تدور حول أهمية القراءة وتزايد الفعاليات التي تقام دعما للمطالعة وفي الوقت نفسه يُسمع كلام يستنكر العزوف عن القراءة.
وعن جدوى أن تكون قارئا أشار كه يلان محمد إلى رأي دونالين ميلر التي تعتقد بأن القراءة تجبرك على أن تكون هادئا في عالم لم يعد يسمح بذلك، كما ذكر ما قاله الجاحظ بأن القراءة عقل غيرك تضيفه إلى عقلك. ومن المؤكد أن القراءة تتبعها حزمة من الأسئلة حول ما يجب أن يقرأ؟ هل من الضروري قراءة كل ما هو بالمتناول من الكتب؟ ماذا عن محدودية الزمن وما تأمل أن تجد له متسعا لقراءته؟
تستشف أطياف كل هذه الأسئلة في فصول مؤلف نعيم بن محمد الفارسي، وفي ذات اللقاء أدارت العضو بنادي المدى سيماف خالد حوارا مع ضيف الجلسة كه يلان محمد على ضوء تلك التساؤلات الهامة المثيرة للنقاش حول فعل القراءة.
تحدث محمد بداية عن الرابط بين القراءة وصنعة العظماء، وقال “قبل الإجابة على هذا السؤال أقول بأنني لا أعتقد بوجود هدف مسبق من القراءة، وليس الغرض من مصاحبة الكتب سوى اكتشاف عالم يتمثل في الآراء والأفكار التي ربما تزيدنا ريبة بما هو سائد ومتداول.”
وأضاف “نعم كل الأسماء والشخصيات التي يفرد لهم المؤلف فصول كتابه هم من مشاهير الفكر والأدب والعلم بدءا من الجاحظ مرورا بأديسون وأنور السادات وتوفيق الحكيم ومي زيادة وسلامة موسى كلهم قد تركوا بصمة على خارطة الفكر وإلى الآن هم ملهمون ليس فقط بما قرأوه أو كتبوه بل من خلال سيرتهم وانشقاقهم عن السائد، فمثلا لو استجاب توفيق الحكيم للشكليات لربما أكمل دراسته في مجال الحقوق وصرف النظر عن المسرح والأدب، وبالتالي كان الوسط الثقافي يخسر رائدا في كتابة المسرح الذهني. فعلا القراءة تصبح عاملا للنبوغ الإبداعي والفكري، لكن ذلك كما لاحظته في متابعتك لسيرة العظماء يتطلب مراسا وابتعادا من نفس وظيفي.”
وحول سؤال هل يمكن أن يكون “القراءة صنعة العظماء” عاملا لتجسير الهوة بين القراءة والجيل الواعد من اليافعين؟ أجاب محمد “نعم يفيد الكتاب كل من يهتم بالقراءة خصوصا من يريد معرفة دور القراءة في النهوض الفكري والخروج من الخط التقليدي في النظر إلى الأمور واختار المؤلف شخصيات من خلفيات فكرية ومهنية متنوعة ومن التاريخ القديم والحديث كما يتسع نطاق الكتاب لشخصيات معاصرة.”
وحول التحديات التي تواجه القراءة وكيف يمكن التغلب عليها؟ قال محمد “الاستمرارية هي التحدي الأبرز بالنسبة إلى القارئ؟، لأن القراءة ذهاب نحو المجهول ويغامر الإنسان بمصاحبة الكتب وليس في ذهنه أيّ تصور مسبق حول ما يقود إليه الطريق. إضافة إلى ذلك فإن ما يتصدر المشهد أو ما يصطلح عليه بالمؤثرين هم أشخاص لا يكون للكتب إلا دور ثانوي في يومياتهم. وبالتالي ما يكون في الصف الأول ليس علي حسين ولا لطفية الدليمي ولا علي حرب ولا العقاد بل وجوه تتقمص دور الوعاظ في جبة الحداثة.”
أهمية القراءة
إن كان يرى أن الكاتب قدم أدوات كافية لجعل القراءة جزءا من حياة يومية، أجاب محمد “يتطرق نعيم بن محمد في مقدمة كتابه إلى هذا الموضوع معلنا بأنه ليس ضمن برنامجه تقديم آليات أو أدوات بشأن منهج القراءة، ولكن من خلال ما يتوارد في الكتاب نلاحظ وجود اختلاف حول خط القراءة، هناك من يؤمن بمبدأ الانتقاء في منهجية القراءة، فسلامة موسى ورجاء النقاش من أصحاب هذا الاتجاه، بينما أنور الجندي يؤكد بأن زكي مبارك قد نصحه بقراءة كل ما يتوفر له من الكتب والمجلات، فيما ينصح الكاتب الأميركي صديقته سالي بوب تيلور بقراءة جميع أنواع الكتب، لأن العقل الراجح حسب رأيه يستطيع الفصل بينها وانتقاء الأعمال الجيدة من السيئة.”
وبسؤاله هل تغيرت رؤيته للقراءة بعد الإطلاع على هذا الكتاب؟ قال “طبعا هذا الصنف من المؤلفات يجدد علاقتك بالكتب، وما أخذني إلى صفحاته أكثر هو أن الأسماء التي اختارها الكاتب أغلبها معروف ولست بجديد العهد مع مؤلفاتهم، رجاء النقاش توفيق الحكيم مي زيادة مصطفى محمود نجيب كيلاني سلامة موسى هؤلاء قرأت أعمالهم.”
وتابع مبديا رأيه حول فكرة التنوع في القراءة التي ركز عليها الكتاب، فقال “بطبيعة الحال القراءة لا تنحصر في مجال معين، لأن المعارف كلها متشابكة. صحيح ربما يكون التركيز على حقل معرفي أو مجال أدبي محدد لكن هذا لا يمنع متابعة مجالات أخرى، أكثر من ذلك فإن القراءة المستمرة تؤدي إلى اكتشاف المزيد من الأسماء والإطلاع على المعطيات الفكرية فعملية القراءة أشبه بسباق التتابع، كل عنوان هو طريق للكتاب المنشود. ومع الوقت تتسع شبكة المؤلفين الذين تقرأ أعمالهم.”
بسؤاله ما هو الكتاب الذي أثر عليه شخصيا وجعله يرى القراءة بشكل مختلف؟ أجاب محمد “أكيد لا بد من وجود كتاب يشدك أكثر نحو عالم القراءة، ‘هؤلاء علموني‘ لسلامة موسى هو هذا الكتاب بالنسبة إليّ، كذلك ‘تأملات في الإنسان‘. كما أن ‘خوارق اللاشعور‘ لعلي الوردي من العناوين التي قرأتها في البدايات، ومن حسن حظي أن كل من قرأت لهم في البدايات كان يتميز أسلوبهم بالسلاسة والانسيابية في التعبير، مثلا أنيس منصور، هو صاحب طريقة ساحرة في تقديم معلومات غزيرة بلغة بسيطة وفي مساحة محدودة.”
أما عن كيفية التعامل مع فترات انقطاعه عن القراءة، فقد قال محمد “لا أدعي بأنني قارئ نموذجي لا يمكنني أن أتنفس إلا داخل المكتبات، لكنني أحاول ألاّ أنقطع عن القراءة، وإذا شعرت بأن هناك ظروفا تبعدني عن القراءة أو المزاج لا يكون مناسبا، فمن الضروري أن أحافظ على خيط مع هذا العالم من خلال تصفح الصحف أو متابعة بعض البرامج الوثائقية الخاصة بمحطات تاريخية مفصلية في حياة الشعوب أو بسيرة المشاهير، وليس بالضرورة أن يكونوا مفكرين أو أدباء.”
وتطرق بالحديث إلى دور نوادي القراءة وتأثيرها على التشجيع في الاهتمام بالقراءة، معتبرا أنها تساهم بشكل كبير في انتشار ثقافة المطالعة، كما أن المشاركة في حلقات ونوادي القراءة فرصة لمناقشة ما تضمه الكتب من الأفكار والآراء، كما يكون المشارك أكثر انتظاما في قراءاته ويكتسب مع الوقت مزيدا من الدراية باختيار العناوين.
وفي ظل التطور الذي يشهده العالم على الصعيد التكنولوجي والمعلوماتي ورد سؤال لكه يلان محمد هل ترى في القراءة ضرورة؟ فأجاب “هناك بعض أشياء أنت تقرر هل هي ضرورية أو ثانوية في حياتك كما لا يمكن إقناع من لا يؤمن بأهمية ممارسة الرياضة للصحة بأن يكون مهتما بالرياضة لأنه لا يحبها. كذلك الأمر بالنسبة إلى القراءة فالموضوع يعود إلى قرارك قبل أن يكون مرتبطا بالعوامل الخارجية أو إسداء النصائح والاقتراحات.”