في أيام البؤس والشقاء وفي الأيام السود، كان هم الناس هما واحدا هو لقمة العيش، فمنهم من حرص على لقمته الحلال بعد كد وشقاء ليقدم لأبنائه طعاما طيبا مباركا، وآخرون استصعبوا الأمر فاقتحموا مواقع الحرام ... هذا ما جناه الناس في بلاد غنية غنى الرافدين في أيام الحصار، إذ أجدبت الأرض ووهنت الأجساد، وجف الثدي والضرع، فلم يعد هناك مرعى، ولا زرع .
فقر... جوع .. مرض ..عوز …عزوبية… وابتلاءات لا مبرر لها .. الم يقولوا: إن (رأس الحكمة مخافة الله )!!! أين هؤلاء من الله البر الرحيم؟
كانت هذه مجرد أفكار تدور في مخيلته ... مقترنة بصمت عميق، كان يريد أشياء وأشياء، لكن من أين ؟ أليس لكل شيء ثمن؟
كسر جدار الصمت ونهض، اخذ كرسيه فجلس إلى جوار أمه وهي متكئة على السرير راحت بحديثها المعهود – ككل الأمهات - تحثه على الزواج مبررة دلك برغبتها في رؤية أحفادها قبل اقتراب الأجل. كان يحدثها بهدوء –برا وإحسانا - والمح لها انه فكر في الأمر وحسم واختار من يهواها القلب، أرادت بفضول أن تدخل في أعماق قلب ولدها لتعرف من هي صاحبة الحظ المرتقبة.
ألحت إليه، ثم ألحت، لكنه في آثر الصمت ... وفي لحظات قرر أن يوحي لامه بأوصاف حبيبته، فقال لأمه:
حبيبتي ممشوقة فارعة الطول مياسة اعشق جدائلها الطويلة التي تغطي أقراطها الذهبية الصفراء.
التقيها كل يوم أطالعها كل لحظة أراقبها كل ساعة من نافذة غرفتي المفتوحة، حيث يطل وجهها عليّ عند كل اشراقة للشمس.
سالت الأم: هل التقيت بها؟
قال: هل من عاشق لا يلتقي بحبيبته كل يوم؟ وهل من عاشقة لا ترى حبيبها ولو في طيف؟ لا تغيب عن شغاف القلب ولا نور العيون.. تحنو علي وتحبني بجنون.. أقف بقربها أياما.. وأيام فتهيج ذاكرتي وشجوني. قالت لي ذات يوم: هل تحبني مثلما احبك ؟ قلت لماذا هذا السؤال ؟ أتحتاج الحقيقة إلى برهان؟ احبك أكثر ، فأنت جديرة بالوفاء .
قالت الأم: هل اعرفها؟ أمن أقربائنا هي؟
قال: أوفى من أهلي وأقاربي ...عاهدتني ستكون معي في السراء والضراء.
قالت الأم: إذن هي من فتيات شارعنا؟
قال : إنها بلسم جراحاتي ..وكل ذكرياتي ..رعيتها صغيرة...حتى اشتد عودها...أبصرت جمالها...فعشقتها.
قالت الأم: وماذا عن الخطوبة؟
قال: لا علم لي بيوم خطوبتي ...لأنني مفتون حقا بحبها .
قالت الأم: إذن قل لي عن المهر.
قال : مهرها حبي ... ورعايتي.. ودموعي، وقبلاتي.
قالت الأم: إذن متى الزواج؟
قال اتفقنا على الخطوبة والمهر والزواج وعلى كل شيء حتى على حفظ الأسرار.
وعندها ضاقت الأم ذرعا فقالت: أرى جمالها قد اخذ منك مأخذا. أنا أمك. أليس لي الحق أن اعرف من هي؟
قال: نعم .. وارتسمت على شفتيه ابتسامه جميلة زادته تألقا. عندها أومأ بسبابته قائلا: أنها تلك النخلة الباسقة أمامك في باحة الدار التي سقيتها من دموع العين وشريان القلب ... تعهدتها يافعة وربيتها صغيرة وكانت جديرة بالوفاء لأنها أعطتنا أطيب التمر في أيام لاتعد من أيام العمر.