كانت تشعر بقدر كبير من الرهبة وهي تحملها وتمضي في الطريق، تضمها لصدرها، ثم تقف لتنظر نحوها، ترى وجهها الصغير هادئا وعيناها مغمضة تبدو كالنائمة، لكن حركة كفها الصغير وهى متشبثة بملابس أمها كانت تخبرها أنها مستيقظة، وربما تشعر أن حدثا غريبا وجديدا عليهما سيحدث.
تمشي في طريقها، ورغم مرور ستة أشهر على ولادتها لطفلتها، لا تزال تشعر بجرح القيصرية يقسمها لنصفين، ومعه ألم في وسط ضهرها أرجعته لحقنة البنج النصفي التي أعطاها لها طبيب التخدير، ثم أخبرها ضاحكا أنه غرسها عميقا بسبب امتلاء جسدها.
لم تكن في وضع يسمح لها أن تفكر أنها دعابة سخيفة، كانت الحماسة والقلق قد ملآ روحها، ولم يعد هناك مكان لإحساس آخر.
كانت تلك هي المرة الثانية التي تخرج بها وحدهما، دون أن يصحبها زوجها، لم يشتر لها عربة أطفال لأنه رأى أنهما لن يحتاجا لها، فمن يخرج بطفل في هذا السن، ويتعرض لفوضى وتوتر العناية به في مكان عام أو في زيارة لأصدقاء أو أقارب.
هي لم تكن لديها سوى صديقتين، إحداهما جارة قديمة منذ كانت تعيش مع أمها، والأخرى معها في العمل.
ولم يكن لديها أقارب، فبعد موت أمها منذ عشر سنوات لم يسأل عليها أحد، وهي لم تعرف أحدا مقربا ينتمي لفئة الاقارب تلك.
مات والدها قبل ولادتها في حادثة عمل، ترك أمها شابة صغيرة حامل في شهرها الخامس، عاشا معا كل حياتهما في بيت صغير لكنه هادئ ونضيف، تعلمت أمها تطريز الملاءات والمفارش، وتعاملت مع مصنع صغير كان يعطيها قطع القماش، ثم يستلمها منها ويمنحها مبلغا معقولا نظير عملها، فيما بعد توسعت قليلا في ذلك العمل واستخدمت حجرة في البيت الصغير الذي عاشت فيه مع ابنتها لتحويلها لمشغل واستعانت بثلاث فتيات، كان العمل رائجا واستطاعت أن تدخر مبلغا لتؤمن مستقبل ابنتها، واشترت لها شقة جميلة، لتضمن لها مكانا يأويها بعد وفاتها لأن البيت الذي يعيشان فيه بالإيجار، وقد يطالبها به ورثة صاحب العقار بعد وفاتها.
تعلمت ابنتها وتخرجت في كلية التجارة، وعملت في شؤون العاملين في مصنع لحوم مصنعة ينتج السوسيس واللانشون، وعندما أكملت عامها الثالث والعشرين، أصيبت أمها بالسرطان، قدمت على إجازة من عملها، وقضت معها شهرا ونصف في المشفى وفي ليلتها قبل الأخيرة أفاقت من غيبوبة سكنتها معظم الوقت، تشبثت بيد ابنتها وقالت لها إنها ترغب أن تموت في بيتها على فراشها، وبالفعل غادرا المشفى وقضت يوما واحدا في البيت ثم ماتت.
استمرت في المضي عبر الشارع الذي بدا لها طويلا وبلا نهاية، كانت الساعة قد قاربت الثامنة صباحا، ومع ذلك كانت الشمس ساطعة والجو حار وخانق، كانت تتصبب عرقا، وتململت الصغيرة في وضعها، توقفت عن المشي ونظرت نحوها، حيث كانت مفتوحة العينين وتضحك، غيرت من وضعها بحيث حملتها بين يدها وأصبحت كل منهما ترى وجه الأخرى، وأكملت سيرها.
أخبرت الصغيرة أنها معها، وستكون دائما كذلك.. قالت سنكون أصدقاء كما كنت أنا وأمي. ..
فكرت وهي تواصل سيرها أن عليها أن تشتري عجلة للصغيرة، ستخبر زوجها أنها جاءتها هدية من زميلات العمل حتى تستقر فيها الصغيرة وتبدو مرتاحة أكثر أثناء سيرهما في الشارع، كما إنها تمنت كثيرا أن يكون لديها طفل تدفعه في تلك العربة اعتقد ان الأمر يبدو أنيقا ويمكن الجميع من رؤية أنها أم لصغير جميل، فكرت أيضا أن عليها أن تصنع إطارا جديدا لصورة تجمعها هي وأمها، صورتها وهي طفلة وأمها شابة غاية في الجمال تمسك كل منهما يد الأخرى وينظران بثقة وسعادة نحو الكاميرا، فكرت أنه عندما تكمل الصغيرة ثلاثة أعوام ستأخذها للتصوير وستتخذ كل منهما نفس الوضعية، فكرت حتى أنها ستعلق الصورتين متجاورتين.
ساد الحزن عليها عندما وصل تفكيرها لذلك، لأن زوجها سبق وأزال الصورة من على الحائط مرتين، مرة أخبرها أن وضع الصور على الحائط أمر غير مستحب لديه، وأنها يمكنها ان تحتفظ بها في خزانتها، لكنها نقلتها فقط من حائط الصالة، لمنضدة صغيرة في حجرة النوم، الأمر الذي أغضبه حتى أنها سقطت من يده بدون قصد كما قال لها وتهشم إطارها الخشبي. ومن ذلك الوقت وهي في درج ملابسها الداخلية ملفوفة بقطعة من القماش.
هدأت لحظة عن التفكير ثم قالت لنفسها إنها يوما ما ستصنع إطارا لها وتضع الصورتين جوار بعضهما، صورتها مع أمها وصورة لها مع الصغيرة.
ليس لها صورة واحدة على حائط البيت، حتى أن صورة زفافها لم تبق سوى أسبوع على الحائط، ثم حملها زوجها من مكانها بينما كان يتشاجر معها، لأنها سمعت صوت مفتاحه يلج في الباب وكانت تعلم بمجيئه لكنها لم تظهر عند باب الشقة لاستقباله وملاقاته كما تفعل أي زوجة وفية محبة لزوجها، الذي عاد من جلسته على المقهى القريب وأشتري لها خبزا للعشاء وهو الأمر الذي لن يفعله مرة أخرى لأنها لم تقدر معروفه، كانت في المطبخ تعد العشاء عندما دخل غاضبا، تشاجر معها ثم حمل صورة الفرح من على الحائط وذهب ناحية سلة القمامة وظل يدقها حتى تكسر الإطار الزجاجي، فأخرج الصورة ومزقها ورماها في القمامة وبصق فوقها وغادر المطبخ.
هدأ بعد قليل، فهو طيب القلب كما تقول عنه أمه، هادئ الطباع كما يقول عنه أخوه، داعبها وطلب منها أن تبتسم في وجهه حتى لا يغضب مرة أخرى بسبب أفعالها، حركت شفتيها بما يشبه الابتسامة لكنها لم ترضه فدخل في وصلة شجار أخرى لأنه لا يصدق كيف تزوج من إمرأة جاحدة مثلها رغم خطئها في حق زوجها يبادر هو في مصالحتها ولا يجد منها سوى النكران، احتاجت هي لعام حتى اعتادت أن تبتسم فور أن يطلب منها ذلك تبتسم ابتسامة تبدو عادية وراضية ومتفهمة، عقب مشاجراته الحامية التي تحدث بسبب سخيف أو تحدث دون سبب، يجيء بعد عشر دقائق أكثر أو أقل، هادئا ومعتذرا وطالبا منها أن تبتسم في وجهه لتنال رضا الله، وحتى لا يغضب عليها زوجها، يطلب منها أن تكون متفهمة وأن تتوقف عن النكد الذي يرى أنها بارعة جدا فيه.
شعرت بدموع تسيل على وجنتها فتوقفت مرة أخرى ومسحت بشال الصغيرة وجهها، وجاهدت أن تبتسم في وجهها الصغير الجميل، أخفتها في حضنها، وضعت قبلة على رأسها وأكملت الطريق.
لكنها تحدثت بصوت مرتفع قليلا موجهة كلامها للصغيرة، طلبت منها ألا تخشى شيئا ووعدتها أنها ستحميها ولن يستطيع أحد أن يقوم بإيذائها.
فكرت لحظة في أنها ليست ضعيفة، وأنها تربت على يد سيدة قوية.. لكنها فقط تريد أن تحافظ على البيت، حرصت منذ اليوم الأول ألا ينهار زواجها لأي سبب، بعدما بقت بمفردها سبعة أعوام بعد وفاة أمها، أكلت الوحدة روحها.
لكنها الآن سيدة بيت ولديها رجل تطهو له، تنتظر عودته، تنام جواره، تسمع أنفاسه فلا يشوش عقلها الصمت المقبض.. قالت لصديقتها إن كل شيء في الزواج جميل ما عدا زوجي.
لكنها مع ذلك تأقلمت على الحياة معه، صارت تردد مقوله أمه أنه طيب القلب، ورأي أخيه أنه هادئ الطباع، تقولها لنفسها حتى تهون عليها الحياة.
كانت قد حصلت على إجازة الوضع من عملها وفوقها ثلاثة أشهر أخرى إجازة دون مرتب، وعندما سئمت من شجار زوجها وعصبيته ولم تعد أعصابها تحتمل ذلك الجحيم، وصار ترديدها لعبارة أمه وأخيه مبتذلا ومضحكا أكثر من اللازم، كما أوشكت مدخراتها التي استقطعتها من أموال عملها طوال العام الماضي لتستعد لمصروفات ولادة الطفلة وشراء أشيائها على النفاد، خصوصا أنها استنفدت معظم الأموال التي تركتها لها أمها في تجهيزات ومصروفات الزواج.. فكرت في عدم تجديد الإجازة والعودة للعمل. خصوصا أن زوجها رفض أن يتكفل هو بثمن علب اللبن الصناعي الغالية، قائلا إن مسئوليتها هي إطعام الرضيعة في هذه السن وأنه لن يتحمل خطأها وليس له ذنب أنها لا تستطيع إرضاعها.
في البداية رفض زوجها فكرة عودتها للعمل مبكرا هكذا وتحجج أن الطفلة صغيرة، لكن عندما عرضت هي أن تسدد نفقات الحضانة للطفلة اثناء تواجدها في العمل تظاهر لحظة بالتفكير، ثم أضاف شرطا أن تتولى هي مسؤولية توصيلها واستلامها كل يوم، وأنه لن يتدخل في ذلك أولا لأنها ليست مسئوليته وثانيا لأنه غير موافق على عودتها للعمل.
كانت تعرف أنه يتحرق شوقا لعودتها للعمل، لأن راتبها يساعد في المصروفات، ويعتمد عليه في بعض المصاريف الثابتة وسداد الفواتير الشهرية، كان راتبها أكبر من راتبه مرتين، هي في النهاية خريجة جامعة، بينما حصل هو على تعليم متوسط، وتدبر له أخوه الأكبر وظيفة مكتبية في عمل حكومي، واكتفى هو بتلك الوظيفة التي تنتهي في الرابعة، يعود في الخامسة للبيت.
أخوه الأكبر زميلها في العمل، والذي تحدث مع رئيسها ليتوسط له عندها، لتقابل أخاه الصغير ويتعرفا، ذهب لرئيسها وكان بمثابة أب لها وعلى علاقة طيبة بها بسبب طيبتها وأخلاقها ومهارتها في العمل وأخبره أنها وحيدة واوشكت على نهاية الثلاثينات، ويجب أن يفعلوا الخير ويساعدوا في تزويجها وأنه يرى أن أخاه مناسبا لها تماما، فهو طيب القلب، هادئ الطباع.. صحيح أنه ليس جامعي لكنه يعمل في وظيفة حكومية محترمة لا تقل عن وظيفتها، صحيح أنه لا يملك شقة لكن يعرف أن "ليلى" لديها شقة تركتها لها والدتها، وهكذا تدخل رئيس ليلى في العمل وحضر مقابلتهما الأولى في كافتيريا الشركة في وقت الراحة، بعد يومين أخبرت ليلى رئيسها بموافقتها على العريس، وتم الزفاف في أقل من شهرين، تكفلت فيهم ليلى بمعظم المصاريف، لأن أخاه قال وهو يبتسم بسماجة إن المليان يصب على الفارغ، ويقصد بالفارغ العريس. العريس الذي يقول عنه أخوه إنه هادئ الطباع.
والذي يعمل في وظيفة تنتهي بعد العصر بقليل، يغادرها عائدًا للبيت - بيت ليلى - وما إن يدخل حتى يغلق الباب بالمزلاج من الداخل.
كانت تلك الحركة رغم عاديتها، تشعرها بانقباض قلبها.
تشعر أنها رهينة، حبيسة في مكان معزول وليس هناك أحد في هذا العالم سواها هي وسجانها الذي ينهي تناول الغداء ويمسك بريموت التليفزيون ويدور في قنواته حتى يغلبه النوم على جلسته تلك، كان يبقى في البيت كل ساعات الليل ربما يوم واحد يذهب للمقهى القريب أو يزور والدته غير ذلك يبقى المزلاج مغلقا وكئيبا .
تغيرت الأمور عندما أنجبت الصغيرة، أصبحتا رهينتان، مما خفف عنها كثيرا.
اليوم هو الأول الذي تعود فيه لعملها، بعدما استعد زوجها وذهب لعمله، جهزت الصغيرة وأحضرت الحقيبة التي على شكل دب برتقالي، والتي اشترتها في تجهيزات ما قبل الولادة، وضعت لها علبة اللبن الصناعي وترمس الماء الساخن وببرونة معقمة وغيار وحفاضات، ارتدت ملابسها وحملتها ومضت في اتجاه الحضانة التي تقع في نهاية الشارع الطويل الذي تسكنه مع زوجها.
تحتضن الطفلة، وتشعر بألم شديد أسفل بطنها، ووخز في منتصف ضهرها، تتصبب عرقا، وتقلد ما تشبه ابتسامة الرضا وتقول إن زوجها طيب القلب كما تقول أمه هادئ الطباع كما يقول أخوه، تردد ذلك وتمضي بطفلتها نحو نهاية الشارع.