تنتهج الكاتبة اللبنانية لنا عبد الرحمن، نهج الجدة الأولى "شهرزاد" فى الحكى، والانتقال من تفصيلة إلى أخرى، قد يتوهم القارئ ، للوهلة الأولى، أنها غير ذات صلة بما بعدها أو ما سبقها، لكنها تترك لذلك القارئ، ان يلم أشتات الحكاية، ليصل هو إلى تلك الرسالة التى عنيتها بقصتها القصيرة، حيث تحمل فى القصتين رسالة تنويرية، لتكون الأثر المرجو من القراءة. حتى لو حملت القصتان رسالتين مختلفتين، لكن مادتهما واحدة، والجو النفسى واحد، حتى أنهما يبدوان، كفصلين من رواية.

بيت الأرابيسك

لنا عبد الرحمن

 

كنت أنا.. وليس أي أحدا آخر، بطلة فيلم "موعد على العشاء". ينبغي عليّ الآن التصديق بأنني لم أضع السم في الطبق، ولم أتناوله تلك الليلة؛ لكن رغم كل ما حدث، وما لم يعرف أحد بحدوثه، ظللت على يقين بأني أنام مفتوحة العينين؛ لأنني أتمدد في سرير قاطع طريق، ذي شارب رفيع، ووجه لزج، يعود كل ليلة وعلى أظافره القذرة آثار دماء طازجة..

كنت أقول في سري: «لا بأس.. هذا أيضا سيمر»، وأعود لتأمل تلك اللوحة التي تضم صورة فتاة صغيرة تسحبها يد رجل ضخم، وهي تسير خلفه وليس سوى الضباب يمتد بينها وبينه.

في أحلامي، غالبا ما كنت أركض لاهثة لمسافات طويلة ثم أسقط مغشيًا علي؛ وحين أصحو أجد كل الأشياء في أماكنها، المزهرية التي تواجه سريري وفيها عود من البامبو ملتو على نفسه، الشباك المغلق، والستارة الرمادية، سجادة الأرض الفستقية بجانب السرير، ورائحة بهار الكاري تتسرب من بيت الجيران، الكومدينو الذي أضع عليه بعض أدوات زينتي في مكانه أيضًا، فرشاة شعري ملقاة بإهمال قرب علبة ظلال العين، السلحفاة العجوز تقضم ورقة خس في زاوية الغرفة، ثم الدولاب الكبير يجثم بثقل عند الحائط المائل.

تذكرت اليوم معطف الفرو الذي أمتلكه ولم ألبسه منذ أتيت إلى هنا، أي منذ عشرين عامًا. الطقس حار لا يمكن أن يمنح ترف الأناقة المبالغ بها، الأناقة التي لا أحبهاـ لذا ظل المعطف الذي اشترته لي أمي مع تلك القبعة البلهاء في آخر دولاب ملابسي، كيف لم أفكر بالتخلي عنهما طوال هذه السنين ؟ لمَ لمْ أتخلص منهما كي أفسح مجالًا لدخول شيء آخر إلى دولابي الخاص؟

خبيرة «الفينج شوي» تؤكد أن عليك ترك مساحات شاغرة في عالمك؛ لتتمكن الطاقة الإيجابية من اقتحامه. لا توجد أي مساحة في دولابي. سأعيد التفكير بالأمر بحيث ألقي كل ما لا أحتاج إليه خارجًا. لو فتحت النافذة سيبدو لي الهواء راكدًا في مكانه، ظلال أشعة الشمس تتسلل عبر شقوق الأرابيسك من النافذة المقنطرة من أعلى، لكن في حضور الظلال سطوة قوية لا يمكن إبعادها. كل شبابيك البيت محاطة بالأرابيسك، لا أعرف لمَ! إذ لم أختر شيئًا هنا، ولم أقدم أي اقتراح.

أحب أن أفتح الشبابيك على مصراعيها، وسماع صوت أطفال الجيران الذين يلعبون في الحديقة التي تقع أسفل البيت. الصوت الآمر يجعلني أبدو مثل هرة تتعلق بثقوب الأرابيسك لتبصر الشارع، ثم تسقط على الأرض. هل مضى عشرون عامًا على تمثيل دور القطة، وعلى وجودي هنا في بيت الثقوب هذا؟ ! هل مضى عشرون عامًا على تلك الليلة حين علا صراخ أمي لأنني قلت لها: «لا أريد أن أسكن في بيت رجل يرتدي زيًا لونه زيتي، ويضع مسدسًا على خصره يسبب لي الرعب». كان هذا الرجل ابن عمي، أمي قريبته أيضًا، هددت بالغضب والرحيل إن لم أرتضِ الذهاب معه، لم يكن مثل أبي أبدًا، أنا كنت أشبه أبي جدا، وهي كانت ترانا ساذجين ؛ لأننا لا نشبهها ولا نشبه ابن عمي صاحب البذلة الزيتية. كنت في سذاجة القطط حين صدقتها بأنها ستغضب، وسترحل إن لم أرضَ به، تدرك أمي دائمًا كيف تنفذ ما تريد بأي الوسائل، كيف تدير الرؤوس، وتلعب بالأفكار. هكذا نقلت وصايتي منها إليه. وأنا لم أكن مرة وحدي، في بيت أمتلك فيه حق فتح النوافذ.

قرر هو أن ينزع عنه بذلته ويهاجر إلى هنا، تخلى عن مسدسه، وتحول إلى قاطع طريق حديث، لا يمكن لأحد أن يكتشفه. توقفت عن الخوف منه منذ زمن طويل، ليس لأنه خلع زيه، وترك مسدسه، وارتدى زيا آخر، بل لأنني اكتشفت أنه لن يؤذيني؛ فقد كان مندمجًا في عالمه، إلى الحد الذي لا يسمح له سوى بحبس القطط.

الحرارة مرتفعة، الشمس ترسل مراسيلها عبر الثقوب المحفورة في الخشب، ألمس ثقوب الأرابيسك بأصابعي، سطحها ناعم، تجاويفها غائرة، حادة قليلًا، أشم رائحة غبار قديمة، جانب وجهي ملتصق بالجدار قرب النافذة، أصوات هدير السيارات ترتفع بصخب، أبصر سيارة نقل كبيرة تتكدس فيها أجساد عمال بناء، كوت الشمس جلودهم بلا رحمة. أنا هنا في الظل، أحرك مقبض النافذة، صوت صرير عتيق، حين أفتح النافذة تتسلل إلى البيت روائح كثيرة، بعضها شهي يدفعني للتفكير بالطهو، بدمج مكونات كثيرة، لإعداد وجبة عشاء مميزة، فقد تمكنت أخيرًا من فتح النافذة.

==================== 

النول يغزل مرتين

ليست حكاية النول هي التي دفعتها للبحث عن أصل القصة التي كانت أمها ترويها لها ولأخواتها كل يوم، بل عثورها بعد موت أمها وهن يجمعن حاجاتها على صفحات مهترئة خالية من العنوان ومن اسم المؤلف، تلك الصفحات التي أعادت قراءتها مرارًا لم تمكنها من معرفة حقيقة الحكاية وظلت نسرين مشغولة بالتفتيش عن كتاب اسمه «النول».

تسرب إليها إحساس خانق بالندم لأنها لم تسأل أمها أن تريها الكتاب الذي تقرأ منه كل يوم، لماذا ظل هذا الكتاب مجهولًا ولا يسمعن سوى باسمه من دون رؤيته؟

ولماذا حجبت الأم عنهن بقية الحقيقة مكتفيات بلذة الإصغاء فقط؟

لم ينفع نسرين البحث في المكتبات ودور النشر، ليس هناك كتاب يحمل هذا الاسم.. كانت تحس بالخجل عندما يسألها صاحب مكتبة أو دار نشر إذا كان هذا الكتاب لكاتب أو لكاتبة، لمؤلف شاب أو لمؤلفة مبتدئة، وحين تمط شفتيها إشارة لعدم المعرفة يتشعب أكثر بالسؤال كان يقول لها: «وهل هذا الكتاب قصة أو رواية، كتاب في علم النفس أو الفلسفة أو بحث اجتماعي؟»، لكنها لا تعرف أي معلومة توضحها عن قصة الكتاب المجهول.

ما كان يحدث كل ليلة منذ كن خمس طفلات، أن والدتهن كانت تسهر معهن في غرفة الجلوس وتحدثهن عن النول وكيف يغزل نسجه ومع كل خيط تلتف خيوط حكاية، ويتشكل نسيجها حتى تكتمل. كانت ملامح أمها تمتلئ بالفرح وتلمع عيناها وهي تتأمل وجوه بناتها يسمعن حكايات النول ويطرحن الأسئلة، كانت نسرين في ذاك الوقت أصغرهن وأكثرهن صمتًا، لم تكن تسأل، تكتفي بالإصغاء فقط.

كانت مبهورة بالاستماع إلى حكايات الخيوط الرقيقة جدًّا كيف تُجمَّع وتُضَمُّ لتتولد منها تضفيرات معقدة ومبهجة في آنٍ واحدٍ.

حاولت نسرين سؤال أخواتها الأربع عن مصدر القصص التي كانت أمهن تحكيها لهن، وما حقيقة كتاب «النول» ولماذا لم يظهر بعد وفاة الأم إذا كان موجودًا من الأصل؟ لكن أخواتها لم يظهرن أي تجاوب معها، أو انشغال بالبحث، أو رغبة بمعرفة المصدر السري لكتاب الأم. اكتفت أخواتها بهز رؤوسهن وانشغلت كل واحدة بعالمها الخاص.

رغم مرور الوقت، وتجاوز نسرين لفكرة الزمن الحاضر والانشغال ببحثها عن أصل الحكاية، فقد ظلت مهمومة بمعرفة الجانب الخفي الذي لا تعرفه، مما لم تُصرح به الأم.

لكن رحيل والدتها المفاجئ، فتح داخلها فجوة هائلة من الحزن، حزن تركها في حالة من الركود العدمي، ثم ازداد اتساع الفجوة مع فشلها في العثور على كتاب «النول» أو أي كتاب آخر يشبهه. إذ تطور بحثها إلى إمكانية تشابه الكتب منذ اعتادت التردد على المكتبات العامة والخاصة، ودور النشر، وأماكن الكتب المستعملة، ليقينها أن بين هذا الكم الهائل لا بد أن تحصل على ضالتها، لكن إحساسها بالفقد ظل يتسع مع كل كتاب تلامسه وتتعرف إلى سكانه، لم يكن بينهم ما يشبه حكايات والدتها أبدًا.

بعد انقضاء خمسة أعوام على رحيل الأم، حين كانت نسرين عائدة من عملها وعند مرورها من شارع شعبي، يكتظ بالمارة والباعة الجوالين وآخرين يفترشون الطرقات ليعرضوا بضاعتهم، توقفت أمام رجل عجوز، هرم، رثت لحاله من شدة هرمه، وتساءلت: كيف من الممكن أن ينزل كل يوم للشارع لينادي على بضاعته؟ توقفت لتشتري منه أي شيء، مثل الإبر، أو الخيطان، أو مصباح يدوي، أو إطار تضع فيه صورة لأحد تحبه.. كل هذه الأشياء من الممكن الاستفادة منها، لكن قبل أن تمسك بأي شيء وقعت عيناها على بوصلة صغيرة، غمرها فرح لرؤيتها، لطالما تخيلت أن البوصلة شيء ثمين جدًّا، لكنها لم تحصل عليها من قبل. أعطت النقود للبائع العجوز وسارت مبتعدة، وهي تضع نظارة شمس بنية على عينيها. كانت شمس الظهيرة لاسعة عند رقبتها وأعلى رأسها.

في البيت، بعد أن أخذت حمام ماء بارد، جلست لتمشط شعرها الطويل الأسود، في تلك اللحظة تذكرت البوصلة، أمسكت بحقيبة يدها وأخرجتها من الحقيبة، وضعتها أمام عينيها وصارت تستمتع برؤية إبرتها تهتز يمينًا وشمالًا قبل أن تستقر على خط واحد يحدد الاتجاه. جلست نسرين على المقعد المجاور وأمسكت الفرشاة وصارت تمررها على شعرها، وفي لحظة ما قررت أن تضفر شعرها ضفائر كثيرة كما تفعل الفتيات الأفريقيات اللاتي تشاهدهن في الشارع، بدأت بتضفير خصلات الشعر، وبعد إتمامها تضفير عشر أو خمس عشرة ضفيرة، أحست بالتعب وأدركت أن هذه المهمة لا يمكن أن تؤدِّيها وحدها، وأنها تحتاج الذهاب إلى امرأة متخصصة بهذه التسريحة، حلت نسرين ضفائرها، وربطت شعرها، ودخلت لتنام.

في ذاك المساء رأت والدتها تجلس عند رأسها، على حافة السرير، تمسح شعرها وتحكي لها من جديد حكاية النول، ثم تترك لها ورقًا أبيض وقلمًا أزرق، قبل أن تمضي من جديد.

=======================