وتستمر "الكلمة" فى محاولاتها لأن تصبح منبرا تنويريا، للولوج إلى أعماق النصوص الأدبية، علها تساهم في نشر الوعي القرائي، وأن تصبح فى يوم ما.. مرجعا للولوج إلى أعماق الكتابة.

ثورة التنوير .. فى القصة القصيرة

قراءة لبعض قصص العدد

شوقي عبدالحميد يحيى

 

منذ نهايات القرن التاسع عشر، وتحديدا فى العام 1899، عندما أصدر قاسم أمين كتابه عن تحرير المرأة، أو رفع الحجاب عنها، وكأنه أيقظ روحا جديدة تدب فى الوطن المصرى. حيث إرتفع سقف مطالب المرأة ولم يتوقف عند رفع الحجاب عن الوجه، وإنما رفع الحجاب عن العقل والإرادة، فبدأ المجتمع فى بناء مدارس البنات بعدها بسنوات، وبعدها بسنوات أخرى، بدأت الأعداد تتزايد للدخول إلى تلك المدارس. ودخلت البنت للجامعة فى العام 1929، على أيدى التنويريين الأوائل، أحمد لطفى السيد وطه حسين. وإن بدا أن أحد عشر عاما فى السر، وكأنها فعل مُشين، يجب ألا يظهر للعلن.

فإذا كانت المرأة –بصفة عامة- تُعتبر (عورة) فإن هذا ما يضع المجتمع فى الازدواجية البغيضة، حيث كان- وما يزال- ولع المتمسكين بتعاليم البيئة الصحراوية، لا يحتاج إلى دليل. حيث كان التعليم هو العتبة الأولى التى خطت عليها المرأة العربية، وبدأت –بعدها- المرأة فى مصر وفى كثير من الدول العربية تدخل مجال الإبداع الأدبى، مطالبة برفع الحجاب، لا عن وجهها فقط، وإنما عن عقلها بالدرجة الأولى، فكان أهم شئ اهتمت به الكاتبة العربية، المطالبة بمزيد من الحقوق، ورغم ذلك فما زال أمام المرأة العربية الكثير، حتى تحصل على حقها كإنسان حر، له من الرغبات والاحتياجات الإنسانية، ما تطالب به فى مجتمعاتنا العربية، التى لا تزال تتمسك بالماضى، فى الكثير من الأمور، نظرا لسيطرة الموروث على عقول الرجال، حيث تأتى المرأة فى بداية هذا الموروث، وخاصة جسدها. ولهذا جاءت كتابة المرأة باحثة عن: حق الاختيار، وحق الحب، حق الحياة.

وقد تخيرت "الكلمة" نماذج من الإبداع القصصى، تمثل أكثر من بلد عربى، تمثل الكتابة النسائية فى كل مكان، حيث لازال الماضى يجثم على صدور الرجال فيها، ومساهمة ونُصرة لتلك الأصوات. وقع الاختيار على المصرية د أمانى فؤاد ، واللبنانية د لنا عبد الرحمن، والسورية دبهية كحيل، ومن مصر-أيضا- تم إختيار الكاتبات أسماء عواد وأسماء هاشم  وعبير الحلوجى ونهى محمود، حيث جاءت أغلبهم من صعيد مصر الذى يشهد حتى اليوم، الإنغلاق الفكرى، والخضوع لكل وسائل التنوير. إلى جانب بعض الأصوات الرجالية، تقتنع بحق المرأة فكان نموذجها  الكاتب الصعيدى – أيضا- أحمد أبو خنيجر. ولا زالت المسيرة في بداياتها.

حين يخبئ صوته فى إحدى مغاراته السحيقة

دأبت د أمانى فؤاد، ان تخبئ رسالتها داخل مجموعة من الإغلفة الإبداعية، فهى لا تقدم رسالتها مباشرة إلى القارئ، لكنها تدفعه دفعا للبحث والتأمل، وربط الأطراف المتباعدة، رغم محدودية السطور التى تقدمها. ففى قصة "حين يخبئ صوته فى إحدى مغاراته السحيقة"، تتناول أمانى فؤاد، العلاقة بين الرجل عموما، والمرأة _أيضا –عموما، ورغم أنها تقولها صراحة { فلا داعيَ للبحث عن امرأة بعينها داخل النص}، إلا أنها تاتى بالأمثلة الناطقة بالحب، وتناول العلاقة الأبدية بين الرجل والمرأة، فتذكر السورية لينا هويان الحسن ، صاحبة "اشباح الحبيبات"، "نجمك العاشق" والقائلة {مصيرنا ليس هناك فى النجوم، إنما فى إنعكاس تلك النجوم}أى على الأرض، لذا كان اختيار الكاتبة لها، ليس عشوائيا، فهو المبدأ الذى تتبعته د أمانى، فى الكتابة عن الحب للحب، وكأنه الذراع التى بها تُنحى ما يدور حولنا من حروب. وأيضا اللبنانية بسمة الخطيب صاحبة " شرفة بعيدة تنتظر" والتى يفوح منها الترقب والانتظار للحبيب. والفلسطينية سحر خليفة صاحبة " لم نعد جوارى لكم" ، "الميراث"، واللذان يوحيان بالثورة النسائية على سلطة الرجل. الأمر الذى يؤكد فصدية إختيار الكاتبة لغيرها من الكاتبات الساعيات إلى الثورة على ما رسخ فى عقيدة الرجل. غير أنها -د أمانى- لا تعلن الحرب على الرجال، ولكنها تعلن الحرب على القبح، والقتل الذى أصبح سمة العصر، وتدعو للحب المخبأ فى الصدور، الرجل والمرأة معا، رغم ما يُبديه الرجل من جهامة، وخشونة، ورغم قوله { ما لي وامرأة تُنكر أن القبح بهذا العالم هو الجوهر"}. مستدعية صور المرأة فى محيطنا العربى، الذى يضج بالحروب والقبح، ويتناسى تلك الروح الرومانسية المخبأة فى الصدور. فها هو الرجل، المتشبه بالجبل، الذى لا يهتز لشئ، يضمر الوله والحب، ولكنه ينكره. فأمام نظرة المرأة، حيث{ ينظر إليها مليا.. تنسحب اللغات في مواجهة عينيها، وتتلاشى قسوة الكون}. ورغم صلابته- الظاهرية- إلا أنها { لمحت آثار صبغة شعره الأسود على سفحه المترامي}. وتراقبه من بعيد فترى { تَبَدُّده المفاجئ وكأنه قد أُصيب بِمَس، الابتهالات المبهمة لِصَخرِهِ الكتوم، كبرياؤه الحزين، أحجاره التي تملك من الصلابة ما تُفتّت قلبا، ومن الرقة ما تُفجِّر فيضا} ف { عَشِقته حينما اجتاحها الشلال العذب الذي ينهمر من قمته}. فكلاهما، الرجل والمرأة، يذوبان حبا، وعشقا، لكن المكابرة المتغلغلة فى الأعماق من مئات السنين {فاستنادا على مقولات جداته، وفقهاء ثقافته، منذ الملك "شمشي أدد الخامس" قبل الميلاد؛ كثيرا ما هدد بإلقائها من فوق قمته الشاهقة}. فالموروث، المتسرب ، سَيَرَ النفوس على غير ما تشتهى، وكأننا أمام دعوة لهجر ذلك المورث المتجهم، والداعى لوضع الحجارة والعراقيل بين الرجل والمرأة، بين طرفى الحب ليصبح لغة حياة.

وتجمع د أمانى بين شعرية الرؤية، وشعرية اللغة، تتمثل من البداية فى العنوان، حيث يصبح الصوت هو المعبر عن الأحاسيس، والناطق بما تعتمل به النفس، لكنه مخبأ، فى مكان سحيق وكأنه صامت أمام تلك الأحاسيس، أى فقد دوره، ليزداد الداخل ثورانا، وكأنه الماء يغلى داخل القدر ف{ خبأ صوته في إحدى مغاراته السحيقة}.

 وفى تشبيه الرجل بالجبل، لتتسع الرؤية، ويلقى الجبل بظلاله على المشهد، فنشعر بضخامة الجبل ، وصلادته، وجفاف تكويناته. وغيرها من الاستعارات التى تغلف النص، وتجعله فى احتياج للقراءة أكثر من مرة، وصولا للرسالة المخبأة داخله.

بيت الأرابيسك- النول يغزل مرتين

تنتهج الكاتبة اللبنانية لنا عبد الرحمن، نهج الجدة الأولى "شهرزاد" فى الحكى، والانتقال من تفصيلة إلى تفصيلة أخرى، قد يتوهم القارئ ، للوهلة الأولى، أنها غير ذات صلة بما بعدها أو ما سبقها، لكنها تترك لذلك القارئ، أن يَلُمَ أشتات الحكاية، ليصل هو إلى تلك الرسالة التى عنيتها بقصتها القصيرة، حيث تحمل فى القصتين رسسالة تنويرية، لتكون الأثر المرجو من القراءة. حتى لو حملت القصتان رسالتين مختلفتين، لكن مادتهما واحدة. لذا أردنا أن نتخير لها قصتان ، لا واحدة.

ففى القصة الأولى "بيت الأرابيسك"، تحضر الأم ويكون لها الدور الفعال فى حياة الجيل، بل الأجيال المتعاقبة، بما يصنع الجمود تحت تلك النظرة المترسخة فى أعماق الأجيال. فَتَحتَ إلحاح الأم.. او التقاليد والعادات المتحكمة، ترضخ الساردة للزواج من قاطع طريق. وفى أعماقها تود الخلاص منه، أو الخلاص من بقايا الموروث الذى يُثقل الحركة. حيث تود الأبنة التخلص من بقايا أمها فتود التخلص من معطف الفرو والقبعة التى لا تتناسب مع عصر الفتاة. ورغم أنه غَيَرَ حُلته، غَيَرَ الشكل الخارجى، لكنه لم يغير المضمون، فلا زال هو نفس الشخص، ولا زال يحبس القطط . تلك التى كانتها الساردة { وأعود لتأمل تلك اللوحة التي تضم صورة فتاة صغيرة تسحبها يد رجل ضخم، وهي تسير خلفه وليس سوى الضباب يمتد بينها وبينه}، فتصور الساردة نفسها بتلك القطط التى كانتها وهى صغيرة تطيع أمر الأم. لكنها أخيرا تفتح الشباك على الحياة، وتتأمل تيارها يسرى، فتقرر أن تُعد العشاء الذى تصورت أنها أعدته فى البداية{حين أفتح النافذة تتسلل إلى البيت روائح كثيرة، بعضها شهي يدفعني للتفكير بالطهو، بدمج مكونات كثيرة، لإعداد وجبة عشاء مميزة، فقد تمكنت أخيرًا من فتح النافذة}.

فإذا كانت الكاتبة قد حلمت انها بطلة لفيلم، فإنه التخيل الذى ورد لذهنها عندما وجدت نفسها على سرير واحد مع قاطع طريق، لكنها أضمرت  تلك الرغبة ، فلم يعرفها أحد. وكأنها تصف ما ظلت طوال تلك الفترة منغلقة على أحلامها وأمانيها، إلا ان الحلقة ُتُتم استدارتها، حيث ترسل الشمس أشعتها من خلال شيش الشباك، والدنيا حر، فتكون أمام ضرورة أن تفتح الشباك، لترى الحياة بازدحامها وحركتها، حيث عربة النقل تحمل عمال اليومية المكدسين عليها، والشمس تُلهب أجسادهم، و {بالجدار قرب النافذة، أصوات هدير السيارات ترتفع بصخب} بينما هى قد حَبست نفسها داخل أفكارها، فتقرر فتح الشباك، والخروج للحياة، تخرج عن الوهم، وعن العجز، تخرج عن أوامر أمها، ومفهومها الذى دائما يستحضر (سى السيد)، تخرج عن الماضى كله، لتعيش الحاضر، حيث فتح الشباك ليس إلا إشارة إلى الانفتاح على العالم. وكأننا أمام دعوة لترك الماضى، وان نعيش حاضرنا، بكل ظروفه، وألوانه. حيث الثورة هنا ليست على الأم تحديدا، بقدر ما هى على المجتمع الذى أفرز الأم، بكل روافده الثقافية.

ورغم أنه قد ارتبط ذكر الأم أو الأب بالماضى، وإلصاقه بالعادت السيئة التى ترسخت فى أذهان الكثيرين، إلا انها –الكاتبة- أرادت أن ترد للأم –الحقيقة- إعتبارها ودورها، وكأنها تستكمل رؤية "الأرابيسك" فى قصة "النول يغزل مرتين" حيث رأت رؤية مختلفة فى الأخيرة، حين رأت انه رغم أن الأم تحكى عن تجربتها، بينما بناتها يتصورن أنها تقرأ من كتاب الحكايت المسمى بالنول، حتى أن الساردة، بحثت عن هذا العنوان كثيرا، فلم تعثر له على وجود، وتموت الأم، وتبحث البنات عن أصل ما كانت تحكيه الأم. إلا أن الساردة، تبحث فى السوق و{عند مرورها من شارع شعبي، يكتظ بالمارة والباعة الجوالين وآخرين يفترشون الطرقات ليعرضوا بضاعتهم، وكأن الكاتبة تستعير ذللك الذى بالشارع من إودحام وبيع وشاء ، بالحياة عامة. توقفت أمام رجل عجوز، هرم، رثت لحاله من شدة هرمه، وتساءلت: كيف من الممكن أن ينزل كل يوم للشارع لينادي على بضاعته؟}. وكأنها تستدعى ذلك الزمن الذى كانت فيه أمها(منذ خمس سنوات). فتشترى من عنده بوصلة، حيث تصبح البوصلة هنا إشارة إلى الهداية، إشارة لمعرفة الطريق، عندما يتعذر الإهتداء إلىه، تفرح بها كثيرا لتأرجحها. وعندما تريد تضفير شعرها إلى ضفائر، تتعب كثيرا، فتقرر الذهاب إلى المختصة لتفعل لها ذلك، فتأتى الأم لها فى المنام { تجلس عند رأسها، على حافة السرير، تمسح شعرها وتحكي لها من جديد حكاية النول، ثم تترك لها ورقًا أبيض وقلمًا أزرق، قبل أن تمضي من جديد}. وكأن الأم هنا هى الخبيرة التى تبحث عنها. غير أن الأم تعطيها ورقا أبيض وقلما أزرق. وكأنها ترشدها إلى وسيلة العصر، العلم. فبينما كانت الأم، أو فى الماضى كان الاعتماد على الخبرة، فإن الاعتماد هنا على العلم. وكأنها دعوة لترك الماضى، والعيش فى العصر الحالى.

وتأتى شاعرية القصتان، فى إضمار المعنى المراد، أو رسالة كل قصة، فساقتهما بحكى عادى، وكأـنها تستدعى جدتها الأولى "شهرزاد" لتحكى عن حكاوى عادية، لكنها تُضمر المعنى المقصود، لتلعب القصة دورها الحقيقى، فى عملية التنوير، وليتولى التراكم، إحداث أثره للنهوض إلى ما يجب أن تكون عليه المصرية، والعربى حيث يجب ان يكون.

نداء الواجب

وتناول القاصة السورية د. بهية كحيل فى قصتها "نداء الواجب" المفهوم الخاطئ للمعنى السامى، فأمام نداء الوطن حينما يتعرض للإعتداء الخارجى، فمدان كل من يتأخر عن تلبيته، اما فى أوطاننا العربية، فقد تم لى عنق الأشياء، حيث اصبح الرئيس هو الوطن، وكل من يهدد كرسيه، مدان ومخالف، بتأثير النسق الثقافى الذى ينظر للرئيس على أنه ولى الأمر، حتى لو انحرف عن المعنى الصحيح للرئيس. فما يجرى على أرض سوريا، التى مازالت هضبتها محتلة منذ العام 1967، دون أن نشهد أو نسمع أن قوات قد سعت لتحريرها من المغتصب، حتى بات الأمل فى استعادتها، شبه منعدم، بينما نرى أن الأرض السورية قد رُويت بدماء المحاربين فيها للسنة، بينما الرئيس ينتهج منهج الشيعة، وكل منهما يعتبر الآخر خارج عن الملة. فقامت جماعات، وتدخلت بلاد خارجية، لا للمساعدة وحقن الدماء، وإنما، وإيمانا بذات المبدأ، حفاظا على مصالحها. متناسين –جميعا- أن الدماء التى تسيل، وراءها أناس، وحياة يمكن أن تُهدر. وهو ما عبرت عنه الكاتبة فى قصتها، بطريقة إبداعية، تخبئ وراء السطور، اكثر مما تعرضه فيها.

فنرى أحدهم وقد لبى (نداء الواجب)، تاركا خلفه زوجة وأربعة أفواه من الصغار الذين حرموا من أبيهم، حيث نجد الأم عاجزة عن الإلتحاق بوظيفة تحفظ لها كرامتها، فتعود بنا إلى النسق الممتد إلى الجذور، حيث نظرة الرجل الشرقى، أن البنت لابد لها من الزواج، وأن الزواج سترة ، فيخرجانها من التعليم للزواج، ثم تعود بنا أيضا إلى النسق الثقافى المزروع بأعماقنا، شئنا أم أبينا، وهو ألا تبيع ما تملكه من صحة البدن، حتى لو كان قد أصبح فى عنقها أطفال، لم يرتكبوا إثما فى حياتهم. فتقاوم، حتى تخور منها القوى، فلا تجد مفرا من إطعامهم .. من بيع جسدها.

تبدأ الكاتبة قصتها، بما يضفى على الجو، منذ البداية، ما يمكن أن يحدث فى الظلام {أطفئت أنوار المدينة، فخيمت العتمة}. فيثور ذهن القارئ ويفكر فى كل ما يحدث فى العتمة. ودائما تأتى الأفكار الشريرة فى المقدمة. ثم تتبع الجملة الأولى بما يُزيد الأمور ضبابية، وخوفا، حيث صوت الكلاب والذئاب، فى العتمة، يوقظ ما نام فى صدور الأطفال من مخاوف تم زراعتها فى المخيلة الطفلة{ الكلاب تنبح، الذئاب تعوي، والخطيئة تحوم في الطرقات} لنصل إلى {الخطيئة تحوم فى الطرقات}. فمعنى أن تحوم الخطيئة فى الطرقات، أن الرقابة قد غابت، والمقيد قد تم فكه، فانطلقت كل الموبقات فى الطريق العام. وبين الخوف الذى أُطلق عقاله، وسار على الأرصفة، تخرج صاحبتنا من خدرها، فى تلك الفوضى، وذلك الخوف {انسلت بهدوء من وراء قطعة قماش نصف مهترئة معلقة على باب البناء ،الذي لم يكتمل إنشاؤه بعد}. لنخرج من تلك الجملة بالعديد من الرؤى، التى لم تكشف عنه الكاتبة، ف(انسلت) كلمة تحمل مع الحركة، والحذر والخوف والترقب، الرعب. من وراء قطعة قماش مهترئة، حيث استغنت الكاتبة بهذه الجملة عن العديد من الأوصاف التى يمكن أن تعبر عن بؤس حال تلك المرأة. وليس بؤس الحال فقط ، وإنما تكشف عن أن البيت الذى يأويها، او الجدران التى تحميها، لم يكتمل إنشاؤه بعد. فالمرأة ليس لديها ما يحمى جسدها ، بل ليس هناك من حماية لها، ولأولادها. فلا ساتر للجسد، ولا حاجز للطامعين والمترقبين، والمتلصصين.

ثم يجد القارئ نفسه وقد تصور القهر الذى تعيشه تلك المرأة، ان ينام الأولاد جائعين {ابتلعت قهرها ومسحت دمعة بطرف سبابتها، فقد نام الأولاد الأربعة جائعين}، ودون أن تشتفيض الكاتبة فى الوصف، تتوقف عند هذه الجملة الفاتحة لعالم متسع لتجارب العديد من القراء، فتصبح القصة القصيرة، معبرة عن تجارب كل قرائها، ومعايشتهم لكلماتها، وما تحمله من فيض المشاعر، والأحاسيس، والذى هو الرؤية الأساسية للإبداع بكل صوره، حيث يبدأ دوره عند إثارة المشاعر، وتحريك الوجدان.

على أن ذلك النسق الممتد من آلاف السنين، لم ترثه المرأة وحدها، بل الرجل أيضا، فكان شريكا، بل كان عليه العبئ الأكبر، فتناجى المرأة زوجها فى ضباب العتمة وضياع الرؤية { أين أنت أيها الزوج الذي ستسترني، لمَ تركتني ورحلت؟ ما الذي دفعك للرحيل؟ وما الذي أجبرك على الغياب.. تنوء الذاكرة بوجعها (البلد ينادي)، قالها وغاب في لجة الحرب}. ولتصبح {أيها الزوج الذى ستسترنى} محاكمة للموروث  الذى تمسك به الرجل الذى خرج أيضا تلبية للواجب الذى حثه عليه  الموروث من حروب الصحراء، مقتنعا بأن هذا الواجب مقدم على واجب الحفاظ على من أُوتمن أولا.. بحمايتهم.

وكأننا أمام ثورة نسائية تدعو لانتفاضة صارخة، إنكم بتمسككم بذالك الموروث، إنما أنتم تهينون المرأة، بل تهينون الإنسان، الذى كرمه ربه، ودعاه لأن يعيش الحياة وفقما يحيط به من مجريات.

صباح يأتى لك

وفى قصة "صباح يأتى لك" للقاصة المصرية أسماء عواد تعانى الساردة القلق، والاشتياق، فتتخيل أن ذلك المجهول الذى انقذها، عندما وقعت على سلم المترو، حاملا تلك المواصفات التى تتمناها الأنثى (القوة والفروسية)، لكنه كان قبل أن يختفى فى المجهول، قد وضع بذرته، وأجج حلمها، للبحث عن ذلك الذى يحمل تلك المواصفات. 

وقد بدأت الكاتبة القصة بما يشبه الغموض، فلا يعرف القارئ إلى أين تسير القصة، غير أنها –الكاتبة- تسوق مفتاح الدخول إليها، فى جملة، تبدو صغيرة، غير أنها تفتح آفاقا بعيدة، وتتسع باتساع البحر الذى تجلس أمامه مع ذلك الحبيب المجهول، وغير الموجود، فتناجيه {وأنت تنطق بحروف المد سيذكرني بالأحدب في نوتردام} فتأتى كلمة (المد) لتتوافق مع حالة البحر وأحواله، والذى يحدث حين ترتفع مياه البحر، وقد تُغرق من على شاطئه. فكأن الساردة هنا، وهى تحلم بالحب والرومانسية، تخشى الغرق، وهى الحالة التى كان عليها "كوازيمودو" بطل راوية "أحدب نوتردام" لفيكتور هوجو، ذلك الذى تشوه وجهه، وحبسه القاضى "فرولو". ومُنع عن المشاركة فى الأفراح، ومعاشرة الناس فى أفراحهم، حتى يرى "أزميرالدا" ويقع فى هواها، لكنه لا يستطيع الوصول إليها، وكأنه يحلم بالمستحيل. وهى الحالة التى تتصورها الساردة  فى قصتنا. فالساردة تحلم بالحب، وتتصور من تحب، غير أنها فاقدة الأمل فى الوصو إليه.

وقد نجحت الكاتبة فى الابتعاد عن القول المباشر، وإنما اعتمدت على قراءتها، وثقافة قارئها. فمنحته المفتاح، وطلبت منه أن يدخل هو، ويتأمل تلك الحالة التى جسدتها، وصاغتها بلغة شاعرية ، معجونة بالتورية، فى مثل بداية القصة {في صباح يأتي لك دون أن تذهب إليه}. فإن كان المعتاد، ان يخرج المرء للشارع صباحا، ليواجه نور الصبح، فإن الصباح هو الذى جاء إلى الساردة، فقد كانت تجوب الشوارع، وجافها النوم، بحثا عن الحبيب.  

كما تأتى تلك الصورة الناطقة، والتى يعيشها القارئ، وكأنه يشاهدها، لا يقرأها {أن نجلس متواجهين، وجهي للبحر وظهرك له كي أتمكن من رؤيتك ضمن اتساعه الكبير. و سأسأل نفسي عندما أرى موجه، ما وجه الشبه بيني وبينه؟ كلانا جامع مانع، بحر من العطاء والحرمان معا}. فأن تتحايل الكاتبة للهروب من الصيغ التقليدية، وتنتهج الصيغ الإبداعية، فنرى الصور {نجلس متواجهين، ، وجهي للبحر وظهرك له} فخرجت بذلك عن الصورة المعتادة فى مثل ذلك اللقاء، أن يجلسا بجوار بعضهما البعض، ولكن جاءت المواجهة {كي أتمكن من رؤيتك ضمن اتساعه الكبير}، وكأن الحبيب قد أصبح جزءا من البحر، البحر الذى هو يشبهها فى أنها والبحر {جامع مانع) فالبحر جامع فى أعماقه "الدر كامنٌ، وهى تحمل فى أعماقها الحب والرغبة فى لقيا الحبيب، والبحر مانع، لأنه متسع ويحمل فى أعماقه –أيضا- الحيتان والغرق، وهى تحمل المسافة غير المحددة، والتى تصنع المجهول، فتمنع عنها اللقيا، واللقاء.

ومن الأمور التى تُحسب للكاتبة، أنها تغوص فى أعماق الأنثى التى تكونها، فتعبر عن مكنون الأنثى، وما تخشى البوح به، رغم أحقيته، فنقرأ على سيبل المثال {الآخر الذي أتمنى أن يلمسني عندما أرغب في البكاء} فهى تتمنى وتسعى لمن يهدهد نفسيتها، وأن يُشعرها بالأمان.

 ثم تستمر فى الكشف عن مكنون الإنثى {وعندما أصل إلى هذا المنعطف سأتسلح بالصمت . في ذلك اليوم ستسأل عن أشياء معتمة، وستأخذني أسئلتك إلى مناطق مليئة بالأشواك، لا يجوز أن ألقي بها في طريقك في أوائل لقاءاتنا} فهى تتسلح بالصمت، وكأنه الإجابة التى تريدها، لنستحضر تلك الصورة التى تكون عليها الفتاة عندما يسألها الأب، حين يأتيها خطيب تريده. وهى التى لا تود أن تبوح بكل شئ من المقابلة الأولى، لتظل، مثل البحر، فى جوفها الغموض، والإجابة، وهى طبيعة المرأة، التى تظل غامضة بالنسبة للرجل.

وتستمر –الكاتبة- فى رسم صورة الأنثى، وتُنشئ الترابط والعلاقة بين من تحلم به، ومن لا تستطيع الوصول إليه. فتتغير الوضعية، ويسيران بفرح فوق صخور الواقع، ومواجهة البحر، وهى تتصور أنه يسحبها للأعلى، وكأنها تطير فى الهواء، فتشعر بتلك القوة التى شعرت بها لدى ذالك الذى انتشلها من سلم المترو، واختفى{وعندما تسحبني إلى الأعلى سأفاجأ بقوتك فأستسلم لك}. وعندما تتحدث عن ذلك الفارس الذى سكن خيالها، وفارق، ذلك الذى تحولت فيه إلى الماء الذى يتشكل وفق الوعاء، وكأنها تعلن عن حالة الأنثى عندما تشعر بقوة الرجل {و في الوقت الذي تحولت فيه إلى ماء عذب كي أشكره، في نفس الوقت الذي تمنيت أن أنساب فيه بين يديه، كان قد قفز إلى داخل القطار مختفيا إلى الأبد}.

وعلى الرغم من تصور القصة، بأنها لم تغادر موقعها، أو حلمها، إلا أننا نتبين أنها لم تغادره جسديا، ولكنها غادرته، ذهنيا، ومشاعريا، فقد امتد بها الوقت منذ أن تعثرت على سلم المترو، وحتى اللحظة التى حلمت فيها به، بعد أن غادرها النوم، وسكنها القلق. وهو ما يخلق الحركية، التى تصنع القصة القصيرة.  

أسماء تكتب قصة حب

ورؤية أخرى لعجز المرأة عن ممارسة الحياة، عن الحب، حيث يبنى الصعيد جدرانا من الحيطان تعزل الشابة عن الفتى، وكأنها تعزلهما عن الحياة ببهجتها وانطلاقها، فترسم الكاتبة الصعيدية أسماء هاشم بمشاعر الحب، قصة مُتخيلة، تواجه فيها الحبيب، ويعيشان فى القاهرة، لتبرز الفارق بين الحب هنا والحب هناك، ليتحول إلى فرصة للتندر والضحك، الممزوج بالأمنبة والرغبة المستحيلة { بعيوننا المسكونة بدهشة أبناء المدن الصغيرة والقرى البعيدة ننظر لعشاق المدينة الذين يغيظوننا ويمارسون الحب علانية. متخاصرين، ومتشاكى الأصابع، ومتلاصقى الأكتاف، تشير إلى بنت تسند رأسها على كتف رفيقها وتقول ضاحكا مستفزا اياى:

شايفة!!

فأشير إلى ولد يلف ذراعه حول خصر رفيقته، واستعير نبرتك الساخرة:

شايف!!

نضحك حتى تمتلئ عيوننا بأشياء كانت مخبوءة، تدفعك لتقمص روح ولد شقى مسكون بالنزق..}

على الرغم من أنهم، هناك فى القرية الصغيرة المختبئة فى صعيد مصر، كان ما يستطيعونه، أنهم يتراسلون على مسافات متباعدة.  لكنها ورغم هذا التباعد كانت تخشى أن يرى كلماتها غيرها {وفى غمرة توحدى كتبت أوراقا كثيرة على هوامشها رسوم وشخبطات، أغنيات وأشعار، وحين قرأتها بصوت مسموع اكتشفت إنها لا تصلح للبقاء خارج ادراجى الخاصة فأخفيتها وظللت أياما صامته أمارس طقوسا خاصة لاستعادتى واستعادة لغتى فى الكتابة}. وكلما تذكرت ذلك انتابه الصمت. فتعبر بكلمات لنفسها عن نفسها، ولكنها لا تقتنع بأن ما هكذا يكون التعبير عن الحب، فتتخيل زميلة لها تكتب قصتها هكذا، فتنبهها، ما هكذا يكون التعبير عن الحب { قصص الحب يا أسما لا تحتمل التنظير والتأطير لا تحتمل التوقف لحظة الكتابة إنها طوفان مشاعر نسكبها}.

وحين تفيض مياه الحب، تغمر ما حولها، فتخرج الكلمات صادقة، دافئة، لا يُخطئها قارئ، ولا تحتاج لتأويل، لتبقى دفقة متوهجة، وكأنها الشمس بعد يوم شتوى ممطر، فتنتعش النفوس، وتطرب الأفئدة. وكأننا أمام دعوة لفتح النوافذ للحياة، كى تسير شمس الحب مع العاشقين على ترعة القرية الصغيرة، حتى لو فى صعيد مصر.   

دخول

كما تتناول القاصة المصرية عبير الحلوجى، فى قصتها "دخول" قضية طالما أرقت الأم التى لم تُنجب غير البنات، لتغلغل النسق الثقافى فى أفكار الغالبية العظمى من الناس، والتى يتم فيها توزيع تركة المتوفى لأنصبة يشارك فهيا الأعمام والعمات، فى الوقت الذى ربما لم يفكر أحدهم بزيارة هؤلاء البنات قبل وفاة الوالد، ففى قصتنا يتوفى الوالد عن بنتين، وزوجة، وتفيد القصة بأن سوابق الأعمام تؤكد أنهم لن يتنازالو عن حقهم فى الميراث، فتُظهر الكاتبة البعد القوى، عند المرأة وقدرتها على بلع كل ألوان الحزن، حتى على بنتيها اللتان تخرجان إلى دراستهما، دون أن تخبرهم الأم بما حدث. ثم تذهب إلى البنك وتفعل ما يحفظ لابنتيها حقهما.

فالقصة هنا، تعلنها برفض ما تم ميراثه من موروث، لا يراعى الظروف الحالية للمستفيدين، وينظر المستفيدون على أنه حقهم الذى شرعه الله، وهم لا يحبون أن يخالوا شرع الله، فى الوقت الذى يمكن أن يكون أحدهم لم يؤد أيا من شرائع الله. لذلك انتهجت الكاتبة اللغة المحايدة، البعيدة عن العواطف، وكأنها تقف أمام المحكمة لتعرض حججها التى يمكن أن تستعيد به حقها وحق بناتها، فهم من عاشوا معاناة صاحب المال.

الصغيرة

يلعب العنوان دورا رئيسا فى إلقاء الضوء على القصة بكاملها، حيث جاء معرفا ، ليعنى التشخصي والتحديد، ومنفردا، وكأنها، القاصة نهى محمود، تحمل الصغيرة فى وسط الشارع وتصرخ طالبة النجدة، فيبدو أن (الصغيرة) فى خطر ما. وهى بالفعل(الصغيرة) فى خطر، حيث تعانى الأم الحياة مع شخص، وافقت عليه رغم الفوارق الاجتماعية، والتى يرفضها المجتمع، كأن تكون الزوجة أعلى رتبة علمية، او أعلى راتبا، لكنها تحت مقولة أم الزوج، وأخيه الكبير، استجابت ووافقت على الزواج، مخالفة بذلك تلك التقاليد، وعاشت معه، مثلما تقول التقاليد، فتحملت عنه الكثير، غير أن ذلك لم يغير من حياته، وعاش هو وفق تلك التقاليد المتوارثة، والمتحكمة فى سلوك الأفراد. وعاش معها وفق صورة الرجل التقليدى، حتى حملت ابنتها ذاهبة إلى الحضانة بها، وهى تخاطبها وترجوها، وكأنها تفهم، أنها سوف لاتتركها تعانى، كما عانت هى، أو عانت أمها، وكأن المعاناة، للمرأة، متوارثة عن الأباء والأمهات، ويخشى الجيل الجديد أن يورثه للأبناء. فالقصة هنا تتناول تعاقب الأجيال، والوروث زازالت تأثياته عليها لم تتغير، فى الوقت الذى سعت فيه المرأة أن تتجاوزه، بينما الرجل يقف فى مكانه، وكأنه يأبى أن يتنازل عن ما يرى أنه (حقوقه).  

لم تنجح الكاتبة نهى محمود فى إختيار العنوان فقط، وإنما رغم بساطة الرؤية، وسهولة الوصول إليها.. نجحت أيضا فى السكوت فى بعض المواقف، وتركتها للقارئ، محافظة على التكثيف المطلوب للقصة القصيرة. إذ أنها نجحت فى عرض مسيرة حياة، من المعاناة، تخشى توريثها للإبنة، فى نطاق زمنى لم يتجاوز مسافة الشارع من البيت إلى الحضانة، فى نهايته، فى إدراك لأهم عناصر القصة القصيرة، والتى قال عنها يوسف إدريس (الطلقة).

كما تأتى العبارة (فهو طيب القلب كما تقول عنه أمه، هادئ الطباع كما يقول عنه أخوه) لتحمل فى طياتها رؤية الأهل لإبنهم، عندما يتقدم لخطبة، ومحاولة تجميل الصورة، متسترين على ما يمكن أن يكون من عيوب، مثلما ظهر من خلال القصة، وهى الرؤية التى تشير إلى إزدواجية الرؤية عندنا.

 وعندما أصبح الزوج يغلق الباب فور عودته، تقول الكاتبة (تشعر أنها رهينة، حبيسة في مكان معزول وليس هناك أحد في هذا العالم سواها هي وسجانها) لتخبئ وراء تلك الكلمات، عالما من الإنغلاق، والموانع، فلا فسح أو زيارات، او أى فرصة للترفيه، أو الترويح عن النفس، وكأن المرأة هنا مجرد أداة لأداء فروض المنزل، والزوج ، كما يراها (الرجل) الشرقى. وغيرها من الإشارات، التى تعمق من رؤية القصة، وعرضها لنموذج المرأة الشرقية التى تعانى فى العصر الحالى، رغم الخطوات التى خطاها العالم، عندما أعلن أن الزواج شركة مساهمة، على كل منهما أن يساهم فيها. فإذا كان الأدب عامة، والقصة القصيرة بصفة خاصة، يعتمد على إثارة العاطفة عند القارئ، لتحريك مشاعره، ودفعه نحو الفعل، فإن الكاتبة هنا آثرت أن تقدم التجربة المعيشة، فكثيرا ما تكون التجربة، بوقعها العقلانى، اكثر تاثيرا من اللعب على العواطف، والاعتماد على الصور البلاغية. وإن كانت الكاتبة قد تعملت مع ضمير الغائب(هو) دون استعمال ضمير المتكلم(أنا)، خوفا من تلك الطبيعة الملازمة للقارئ العربيى الذى يفتش فى كتابة المرأة، عن ما يمكن أن يجده من المخبوء وراء الكتابة.

فيلم قديم

بالطبع لم يكن الموروث ليقع عبؤه على المرأة وحدها، فالحياة، رجل وامرأة ، ذكر وأنثى. وبهما تستمر الحياة، فكان للرجل دور كبير فى محاولة التخلص من الشوائب- الفكرية- التى صاحبت ذلك الموروث، فأدلى أحمد أبو خنيجر، بموهبته الإبداعية، لمحاربة ذلك الموروث، دون أن يصرح به، ولكنه يقدم الحالة، ويترك قارئه يسبح وراء المخفى  وراء السطور. فقصة "فيلم قديم" تقدم بالفعل ما يشبه الفيلم القديم، الخارج عن تصور إنسان هذا العصر، حيث يرى السارد، امرأة ذاهلة تحمل طفلا صغيرا، ثم يكتشف أن هذا الطفل هو نفسه السارد. فنستطيع أن ندخل إلى العالم الداخلى للنص البسيط رسما، العميق معنى. لنرى أن قصة حب كانت بين السارد وتلك المرأة، ولكن البيئة المحيطة، بما ورثته من تعاليم ورؤى ، ترى أن الفتاة التى يمكن أن تبوح بالحب، تُقتل، لأنها خرجت عن المألوف، وأن ليس من حقها أن ترى حتى الرجل،أو يراها الرجل، قبل الزواج، خاصة أن أبو خنيجر من أسوان- صعيد مصر الجوانى-. فخبأت المرأة حبها فى القلب، وتناسى السارد ما كان، لتأتى هذه المصادفة باللقاء، وليكتشف السارد أن تلك المرأة هى ذاتها تلك الفتاة التى- كان- يحبها فى الصغر، وانها تحمل له نفس الحب، إن لم يكن أكثر. وهكذا أضاعت التقاليد، والموروث من آلاف السنين، على الفتاة أن تعيش وفق ما تهوى، ولينفتح النص حول رؤية حياة السارد، وكيف سارت به السنون. ولتحمل القصة القصيرة، فى سطورها القليلة، ما يمكن أن تحمله رواية كبيرة، وهذا دأب ابو خنيجر، الذى يابى إلا ان يساهم القارئ فى بناء النص، ويفك تشابك الأزمنة التى ضفرها-الكاتب- بخيرة المترس، ووعى العالم بأمور القصة القصيرة.

لكن طيفا أيقظه

ورؤية قد تبدو مختلفة عن كل تلك التجارب، إلا أنها تتناول ذات القضية، ولكن بالكثير من التورية التى تتطلب التأمل لما بين السطور. حيث يولد الأبناء كقطعة من الإسفنج، تلتقط كل ما تتعرض له. فينشأ على ما يعرضه الأباء والأمهات عليهم. وقد سكت الكاتب أسامة الرحميى، عن ذلك كله، وعرض تجربة إنسانية، لما يمكن تصوره  من الإحساس بالدونية فى قصته "لكن طيفا أيقظه". حيث يعرض تصرفات الفتى الصغير، من البيئة التحتية، عندما يحب، لكنه يرى أنه ليس أهلا لمن يحب. حيث تقف هى أمام شقتها قائلة { بصوت بدا إذاعيا لطيفا في فضاء بير السلم الحار: اتفضل}. وهى الدعوة التى يمكن أن تُفهم أنها للترحيب، وليس فيها أثر لذلك الذى توهمه، خاصة إذا ما تأملنا الجملة التالية حين ثارت الشكوك فى نفسه { كأنه سمع ضحكة مكتومة!! تشبه ضحكة الشماتة في الفصل؟!}. فاستخدام لفظ (كأنه) الذى يوحى بالظن، وليس باليقين. وإذا اضفنا { نظر إلى جانبه فجأة فرآها تنظر إليه}. إلا أنه فسر كل ذلك لما استقر فى باطنه هو من الدونية، للشبشب الذى ينتعله. وعندما يعلم أنها تزيد عنه ببعض الدرجات، يحاول-كإنسان- أن يبرر ذلك لنفسه { تزيد عنه بعدّة درجات، أرجع الفارق لانشغاله بالعمل خلال الدراسة، وهمس لنفسه: بجد هي شاطرة، وهو لا يتفرغ للدراسة تماما}. وهو الأمر الذى يقودنا إلى رؤية ابتساماتها فى الفصىل، وكأنها عملية داخلية يبرر بها الفتى لنفسه، كى يبعدها –ذهنيا- عنه.

 فصاحبنا ينتعل شبشبا أكبر من قدمه، وتلعثمه أمامها، خجلا من ذلك الشبشب، بينما نرى أنه يجلس فى الفصل فى آخر الفصل { حمد الله كثيراً أنه في آخر تختة ليختلس نظراته إليها دون أن يلحظه أحد}. فتقف (دون أن يلحظه أحد) لتحصر الرؤية فى داخله هو، وليس للغير الذى يصور له خياله بغير الحقيقة. فكل تلك مؤشرات تشير إلى وجود الإحساس بالدونية، وهو ما يُقعده عن التقدم نحوها والكشف عن مكنون نفسه لها. وتلك عقدة تترسخ فى الأعماق من سلوك من حوله. خاصة أن المدرس الذى عنده النتيجة، خرج إلى التلاميذ {عاد الموظف بجلبابه المكرمش وبيده كومة اوراق منكوشة، وأنصت إليهم واحدا واحدا بلا تذمر}. فالمدرس رغم ما بدا عليه من مظهر يوضح أنه ليس أفضل حالا من ذلك الطفل، إلا أنه بدا متسامحا، وعامل الجميع بنفس راضية. أى أن هناك من يماثله فى الوضع الاجتماعى، إلا انه لا يحمل تلك العقدة النفسية، التى يحملها الطفل فى نفسه.

وقد وفق الكاتب أن يكون الطفل والطفلة فى مرحلة المدرسة، أى بداية التفتح للحياة، أى شدة التأثر برؤى الأهل، وانطباع تصرفاتهم عليه. فلجأ الطفل إلى الحلم ليعوض ما يشعر به من قصور فى الوصول إلى من يحب.

فإذا كان الكاتب قد عرض الظاهر من أمور تلك المرحلة المبكرة من حياة جيل جديد، يبدأ مسيرته فى الحياة، فإن سلوكا قد ترسخ فى فى داخل أجيال سابقة، تتشربه، وتعيش به، ليصبح الجيل الجديد ضحية، لأجيال سبقت. فإذ كا هذا الطفل هومشروع رجل المستقبل، فهو يحقق قول جون أزبرون فى مسرحيته "أنظر للوراء فى غضب".