اعتادت الكاتبة المصرية أن تغلف نصوصها، بالكثير من العناصر الشعرية، التى تجذب القارئ ، مغلفة إياها بالرومانسية الجاذبة، فتجعل القارئ مضطرا لأن يزيل القشور من السطع، للوصول إلى الثمرة، التى دائما ما تخرج فيها من الخاص للعام. وهو ما نعيشة كأنموذج لصيغتها فى القصة القصيرة، حين نقرأ

«حين خبَّأ صوته في إحدى مغاراته السحيقة»

أماني فؤاد

 

تروي صديقتي الشامية قصة عشقها لجبل، تُقسِم إنها بالفعل قد أحبّت جَبَلا، وأنها عندما كانت ترغب في تدليله كانت تناديه: "جبل بن صخر بن جدار بن حجر". تقول وقتها كان لا يفعل شيئا سوى أن يميل بجسده المدكوك ناحية اليمين، ثم ينظر إليها مليا، ربما بشخوصه إليها على هذا النحو كان يحفر عميقا ليثقب صدرها بإحدى الجرافات الثقيلة التي تركها طغاة التاريخ فوق مدارجه، اعتقدَ أن بتجويفها على هذا النحو قد ينتهي من استجوابها دفعة واحدة، فتعترف بأنها قطعا مذنبة، فاستنادا على مقولات جداته، وفقهاء ثقافته، منذ الملك "شمشي أدد الخامس" قبل الميلاد؛ كثيرا ما هدد بإلقائها من فوق قمته الشاهقة.

ملحوظة: عندما تحكي صديقتي الروائية عنه -وهي لا تكف في كل لقاء- يتجسد مقام الوله مثل شموس صغيرة تنطلق من مداراتها، فيرتفع الوجد بالطاولة والمقاعد التي نجلس فوقها، تتطاير حقائبنا، والأكواب، وطلاء أظافرنا، تنسحب اللغات في مواجهة عينيها، وتتلاشى قسوة الكون.

تَذكرُ أنها كلما عرفته أكثر؛ ازداد مأزقها مع اللغة، فلقد كانت بحاجة لمفردات أكثر صلابة، وأكثر رهافة أيضا؛ لعلها تقبض على وصف لائق للسحاب الشفيف الذي يحوط قمته، تَبَدُّده المفاجئ وكأنه قد أُصيب بِمَس، الابتهالات المبهمة لِصَخرِهِ الكتوم، كبريائه الحزين، أحجاره التي تملك من الصلابة ما تُفتّت قلبا، ومن الرقة ما تُفجِّر فيضا.

تذكُر أيضا أن هذا الجبل كان كلما مشّط شعرها الطويل أزاحه جانبا لبرهة؛ ليرسم بشفتيه اسمه فوق جيدها، ويلون أحلام عُشّاق واديه، يكتب مقولات من سكنوا كهوفه من صوفية ورُهبان، وجل ما يحفظ من أبيات الحب والغزل.

استطراد: الروائية ليست "لينا الهويان الحسن" ولا "بسمة الخطيب" كما أنها ليست سحر خليفة، فلا داعيَ للبحث عن امرأة بعينها داخل النص.

عَشِقته حينما اجتاحها الشلال العذب الذي ينهمر من قمته، كأنه أسطورة النهر الذي ينبع من السماء مباشرة. تقصّ المتمردة التي لا يروقها إلا التفرد أنها تركت العالم بمخلوقاته كافة وذهبت إليه مُستَلَبة، لتقف تحت أحد مصبّاته الشاهقة، مدت يديها فامتلأت، فنهلت من مياهه العذبة حتى ارتوت، مدتهما ثانية فجفلت من الحصى المدبب المتساقط مع الماء، هذا الذي أدمى نعومتها في كل مرة، فلقد كان جُرمُها أنها امرأة مولعةٌ بالفكرة، متلبسة بالكتابة، فحين نزع الجبل قناعه في إحدى المرات ذكر لها أن هناك فارقا كبيرًا بين الأفكار التي تكتبها وشروط الحياة في واديه وفوق صخوره.

تتذكر مندهشة أنها منذ أيام رأته -على ضخامته المهولة تلك- يجلس في غرفة شاحبة الإضاءة، شديدة الفوضى، ذراعاه مقيدتان خلف المقعد بحبل متين، كما رُبطت قدماه جيدا، لاحظت أن الحبل ذاته نفذ إلى روحه والتف حول عنقِها، على ذقنه آثار الدماء التي تسقط من شفتيه وأسنانه. نظرت جيدا، ثم مسحت على عينيها غير مصدقة، وتعجبت كيف قيد ذاته على هذا النحو. تأكدت مرة أخرى أنه جبلها بكل تضاريسه، بقمته التي يكسوها الجليد بضعة أشهر من كل عام، تعرفه بتكويناته الجيولوجية التي ترسم تغضنات جبهته، بِجَلدِه لها، وللعالم من حولهما. تصورت أنها ربما تحلم، لذا استدارت سريعا لتخرج من هذا المشهد العبثي، وتوصده جيدا، ألقت نظرة سريعة ثانية فلمحت آثار صبغة شعره الأسود على سفحه المترامي.

لوهلة سمعت حشرجة غضب فاستدارت لتنصت، فلقد كان منذ فترة قد خبأ صوته في إحدى مغاراته السحيقة، كان يحدث نفسه: "لماذا تعود تلك البلهاء كل آن، ألم توجعها كدمات الصمت الزرقاء، خبزها اليومي الذي أرسله خصيصا لها، ألم تدرك أن شلالاتي قد ساقوها إلى خزائن الأعداء، وأن الأغنيات قد احترقت، يكفيني فقط أن أحمي الصغار، ما لي وامرأة تُنكر أن القبح بهذا العالم هو الجوهر".

يسمع صوت بكائها فيصرخ: "لم يعد في حوزتي لكِ شيء، ولا حتى الحصى الصغير الذي كنتِ منه تشتكين، ابتعدي فأنا منتج حرب كما تصفين". يأمرها أن تُحكم غلق المشهد، وأن توصد بابه بقفل ضخم.

تكمل "الشامية" بقولها إنها في كل صباح، منذ أن قيد ذاته لئلا يحن إليها، تنتظر أن تصيبها لعنة الأحجار، المدهش في الأمر أن ظلال الجبل -رغم قيده- كثيرا ما تتراءى فوق صفحة المياه الزرقاء التي تحده مباشرة.