تعانى المرأة الكثير من المشاكل، داخليا وخارجيا. وإذا كان الكثير من الكاتبات، قد تناولن المعاناة الداخلية، مستخدمين ضمير المتكلم، الأقرب للبوح، والحامل لكثير من المعاناة الشخصية، فإن عبير الحلوجى، تتناول المشاكل الخارجية، التى تعانى منها الكثيرات والتى يأتى من أهمها مشروع الميراث. لذا استخدمت عبير فى قصتها "عبور" ضمير الغائب، وكأنها تقول من البداية، هى مشكلة الكثير من الصامتات.

دخول

عبـيـر الحـلوجى

 

توقيت مناسب تجلس على طرف السرير، تنظر بذهول لجسده الممدد والمغطى بالكامل. المفاجأة ألجمتها، الأمور تطورت سريعا، في أقل من ساعة انتهى كل شيء. أحضرت الطبيب بعد منتصف الليل حين رأته ينتفض، والعرق البارد يتصبب بغزارة من جبينه. لم توقظ ابنتيها، كي لا تقلقهما بعد يومهما الشاق في المذاكرة، ظنا منها أن الأمر بسيط. بمجرد ما دخل، أعلمها الطبيب أن حالته خطيرة وسرعان ما لفظ أنفاسه الأخيرة، قبل أن يتمكن من استدعاء عربة الإسعاف لنقله للمشفى. تجمدت بمكانها بضع ساعات، حتى ظهرت خيوط النهار، مرت عليها كالدهر. استعرضت فيها شريط حياتها معه، وكيف أنه فات كلمح البصر. كادت أن تفقد السيطرة على نفسها عدة مرات، وتطلق العنان لصرخاتها المكتومة. كلما همت تذكرت ابنتيها، وكيف سيقلب هذا الحدث حياتهما. تمنت لو أن القدر أمهله يوما واحدا فقط، كان موقفها أختلف تماما. اطمأنت قليلا بعد أن أغلقت الباب خلفهما. هرولت نحو النافذة، تتابعهما بنظراتها المضطربة. كلتاهما ذهبت لأخر يوم في امتحاناتها. استقلت الكبرى تاكسي متجهة للجامعة، احتلت المرتبة الأولى في سنواتها السابقة، ومتوقع أن يتوج تعبها بالتعيين كمعيدة في كليتها. أما الصغرى صعدت حافلة المدرسة، في الطريق لحضور يومها الأخير في اختبارات الثانوية العامة. بانطلاق الفتاتين تنهدت بعمق، وأرخت العنان لدموعها الحبيسة منذ الفجر. أخذ نحيبها يزداد، أمسكت الهاتف لتعلم أقاربهما، وتبدأ اتخاذ الاجراءات اللازمة. فجأة برق خاطر في ذهنها، وضعت سماعة الهاتف وانطلقت مسرعة نحو غرفة النوم. كادت تنكفئ على وجهها عدة مرات وهي ترتدي ملابسها على عجل. حاولت أن تتماسك قدر وسعها وهي تنظر للجسد المسجى بلا حراك. توقفت، اقتربت منه، احتضنته بقوة والدموع تنهمر من عينيها، قالت بصوت متهدج تخنقه الدموع: سامحني يا حبيبي، غصب عني لازم أنزل حالاً، علشان البنات، أنت عارف وأكيد حاسس بيا. لن يكفيها ما تبقى من عمرها لتحزن لفراقه كما ينبغي له ولعشرتهما الطيبة، لكن عليها أن تتحلى بالقوة والشجاعة، من اجل أبنتيها، لتحفظ حقوقهن، فلا تضيع هباءً، وتذهب لمن لا يستحق. قبل أن تعلن وفاته، اتجهت للبنك وفتحت حساب باسمها. نقلت فيه معظم الأموال من حسابهما المشترك، قبل أن تُجمَّد مدخراتهما ثم توزع وفقا لقواعد الميراث، وتفشل كل محاولاتها في إثبات حقها في تلك الأموال، التى جمعتها معه على مدار سنوات من الغربة والعمل الشاق لكليهما. لن يتنازل اخوته عن حقهم فيها. تعرف ما يضمرونه، في السابق رفضوا أن يبيع نصيبه من الأرض، بحجة أنهم يزرعونها، كما رفضوا شراءها، وبأريحية تامة وضعوا أيديهم عليها وعلى إيرادها. تكاد تجزم باستيلائهم عليها بعد معرفتهم بموته. عادت لبيتها. بمجرد أن فتحت الباب أطلقت صرخة مدوية على إثرها تجمع الجيران.