تتميز القصة القصيرة، بانها تهب المبدع فرصة التعبير عن تلك اللحظات التى يتجمع فيها الزمن، بماضيه وحاضره ومستقبله، حيث تتداخل فى بعضها، فيعيش المبدع كل الأزمنة فى زمن. هنا أحد المبدعين الذين يجيدون ما تحتاجه القصة القصيرة من تكثيف، ولكنه التكثيف الذى يجسد تداخلات الزمن، فيستحضر ذلك الزمن البعيد، حيث الحب الذى كان، حينما كانت صباح تُعرض عنه، ليكتشف فى نهاية الزمن أنها لم تكن مُعرضة عنه، بل كانت مثله، تحمل له ما كان يحمله لها.

فيلم قديم

أحمد أبو خنيجر

 

رغم الظلام الخفيف الذي يعم البلدة، خطت قدمي بذاكرتها القديمة نحو بيت الريس جمعة، أتشمم رائحة الدروب التي مشيت بها في الصغر وبدايات الشباب قبل أن أهجر البلدة، بالتأكيد لم يكن الجو الخانق للصيف هو السبب في إحساسي المتعاظم باختلاف الرائحة، حيث بدا الهواء ثقلا على روحي المجهدة، أحس كأنني أخوض في لجة راكدة، حاولت استدعاء بعض الذكريات القديمة التي تخص هذه الدروب: لعبي ومرحي وهروبي واستخفائي بها؛ لكن لا شيء يأتي إلىّ، وكأنما الذاكرة ـ كحالها دوماـ تعاند في أشد اللحظات احتياجا إليها.

بعد خطوات يضيق الدرب وينعرج؛ كان لأقدامنا صوت وهي تدب بقوة فوق هذا الأديم، أظنها دبة الحياة التي كنا نسعى لامتلاكها في ذلك الزمن البعيد، أتبسم الآن من هذا التصور الساذج الذي أجج البجاحة والتهور داخل صدورنا فخرجنا نواجه الدنيا بأحلامنا العارية، هل سقط هذا الإحساس أم ترانا فقدناه في غمرة معاركتنا للحياة وتفرقنا في الدروب المتقاطعة والمتباعدة.

ورأيتها في انعطاف الدرب، هي نفسها ببسمتها وضحكتها الهادرة، هتفت: صباح. غير أنها كانت تقود طفلا صغيرا من يده، يبدو باكيا ويحاول التملص منها، كانت تمسكه بيد، وتضع الثانية على رأسه، يا الله صباح بكل عنفوانها وشبابها الغض النضر والجلابية المحبوكة على قدر جسمها؛ يحاول الطفل التراجع، لكن قبضتها الحاسمة على يده تدفعه للتحرك للأمام، بينما اليد التي على رأسه تعبث بشعره تطمئنه فيأنس لقبضتها وبسمتها، تكلمه بشفاه مبتسمة ووجه مشع بالطيبة، حاولت أن أكلمها لأنبهها لوجودي، لكن صوتا لم يخرج مني، وانتبهت إلى أنى لا أسمع كلامها للطفل ولا وقع خطواتهما على الدرب، خفضت بصري تجاه الطفل، ورحت أدقق في ملامحه، بجلابيته المخططة حافي القدمين وهائش الشعر، كانا يقتربان كأنما فى فيلم قديم بطيء الحركة، وحينما حاذياني نفضتني المفاجأة، إذ كنت الطفل الذي تقوده صباح، هل توقفا ونظرا نحوي، أو هكذا تخيلت قبل أن يرتطم ظهري بالحائط القريب وأنا أتراجع من هول ما رأيت، التفت عفوا نحو الحائط، وفي اللحظة صار الدرب خاليا إلا مني، والظلام أكثر كثافة وروحي بالكاد تلتقط الأنفاس، وكأنما زمتة الصيف قد قللت من الهواء، تساءلت: أي مشهد هذا الذي رأيت ولماذا بدوت خائفا وباكيا على هذا النحو؟ وكان على أن أخطو مسرعا متخطيا انعطاف الدرب.