كيف يحاول علم الجمال وفلسفة اللغة عند أغامبين تصحيح أخطاء الحداثة؟
كيف تتداخل مقتضيات التعبير الإبداعي ومقتضيات الفلسفة؟ هذه المقالة تلخّص إجابة جورجيو أغامبين (الفيلسوف الإيطالي- المترجمة) عن ذلك السؤال. وهي تبدأ بتحديد العناصر الثلاثة الأساسية لعلم الجمال عند أغامبين، ثم تنتقل إلى مناقشة نظرية أغامبين عن الحديثين التي تشكّل أساس علم الجمال عنده. كذلك، نتعرف إلى عدد من ممثلي أغامبين الشعريين ـ من شعراء التروبادور إلى الشعراء الإيطاليين الحديثين، وتتكشف لنا نظرية أغامبين حول العلاقة بين الفن (لا سيما الشعر) والفلسفة. أخيرًا، تختتم المقالة بتفسير زعم أغامبين بأن الفلسفة قد فشلت في "تطوير لغة"، وتوضيح ما الذي يمكن أن ينطوي عليه إبطال هذا الفشل.
علم الجمال عند أغامبين وعلاقته بفلسفة اللغة
إن علم الجمال، وفلسفة اللغة، عند أغامبين، متداخلان لا ينفصلان. وباتباع كاثرين ميلز، أحد دارسي أغامبين (من بين اختصاصات أخرى)، يمكن أن نبدأ بتلخيص ثلاثة من عناصر علم الجمال، واللغة، عند أغامبين.
أولًا، ثمة مسألة التواصل المحض، وفيما إذا كان من الممكن فصل اللغة عن ما لم يُقل. ثانيًا، ثمة مسألة إيجاد أشكال جديدة من التجربة الخاصة باللغة، بدلًا من إيجاد أشكال أخرى من التجربة. وثمة هنا مسألة ثانوية تتعلق بالعلاقة بين التجربة واللغة، العلاقة بين الأشكال اللغوية واللالغوية من التجربة. أخيرًا، ثمة مسألة العلاقة بين الشعر والفلسفة، وفيما إذا كان من الممكن إبطال التعارض التقليدي بين شكلي التعبير هذين.
يشخّص أغامبين الحياة المعاصرة بوصفها حياة خالية من التجربة، أو بالأحرى حياة تتعارضُ الحقائق التي تحكمها (حقائقُ التطورات العلمية ـ التكنولوجية التي أصبحت تتحكم بحيواتنا)، مع إدراكنا العادي لأنفسنا، وللعالم، ولمكاننا فيه. أما حلّ أغامبين لهذه المشكلة فيكمن في اللغة، وفي إمكانية تعلم استخدام اللغة بطرق جديدة من أجل تأدية الدور الذي كانت تقوم به يومًا الأشكالُ الأخرى من المعرفة، أو التجربة اللالغوية. إن ثمة فارقًا تقريبيًا بين عناصر حياتنا العقلية المنطوقة ـ التي لها لازمة لغوية ـ والعناصر التي ليست كذلك، أو ليس بوسعها أن تكون كذلك. وعلم الجمال عند أغامبين محكوم بتصوره لدور اللغة في الحياة الحديثة، وأهمية التطورات اللغوية في مواجهة التحدي الذي يفرضه دمار التجربة.
بحثًا عن اللغة
يعتقد أغامبين أن ثمة ميلًا في الفلسفة الغربية لإسناد اللغة على أساس "سلبي". فما هو الأساس السلبي في هذا السياق؟ إذا كنتُ، على سبيل المثال، سأناقش أن اللغة هي بطريقة ما مبنية على ما لا يمكن قوله ـ ربما تكون اللغة هي ما لا نستطيع ألا نقوله، ما نحن عاجزون عن ألا نقوله، أو أن اللغة هي غيابُ امتناعِ الوصف ـ فإن تلك المناقشة ستكون لصالح الأساس السلبي للغة.
من ناحيته، أغامبين مهتم بأشكال اللغة التي لا ترتكز على مثل ذلك الأساس، أو، بكلمات أخرى، أشكال اللغة التي تنتج عن لغة تحدث من تلقاء نفسها، أو تنتج حين تكون اللغة سابقة على الـ"لا لغة"، على ما لا يمكن قوله. لكن، واحدة من المشاكل المحتملة هنا هي أن اللغة كما هو واضح لا تنبثق من لا شيء؛ فكيف يمكن تجنب وجود أساس سلبي للغة؟ إن التشبيه الذي يستخدمه أغامبين هنا هو الطفولة؛ حالةُ وجودٍ سابق للغة، وليس مرتبطًا سلبيًا باللغة. يلتفت أغامبين إلى الشعر للبحث عن هذه اللغة الجديدة، أو هذا الاستخدام الجديد للغة. وبهذا، يتمرد أغامبين على التعارض بين الشعر والفلسفة والذي قد يعود تاريخه على الأقل إلى زمن أفلاطون. زعم أفلاطون أن الشعراء هم سادة المظهر، في حين أن الفلسفة وحدها هي من تتيح وصول البشر إلى واقع غير متبدل في حد ذاته.
إن علم الجمال عند أغامبين متصل مع دراسته للشعر، مع فلسفة اللغة عنده، ومشروعه الفلسفي ككل. وفهمُ علمِ الجمال عند أغامبين يعتمد على كوننا قادرين على التنقل جيئة وذهابًا بين كل عنصر من عناصر هذا البنيان النظري. يلتفت أغامبين إلى الشعر للحصول على نوع من تجربة الحدِّ اللغوي، الاستثناء الذي يبين القاعدة، وعلى نوع من الأصالة والقوة التي يمكن أن يوجد فيها مصدرٌ لطريقة جديدة من الكلام. يعود أغامبين مرة بعد أخرى إلى القرن الثاني عشر، ونشوء الشعر الأوروبي الحديث في بروفانس وإيطاليا، متبوعًا بالاستجابة الإيطالية الواضحة لشعراء ما يُدعى "الأسلوب الجديد " (Stil Novo)، والذين يعد دانتي أكثرهم شهرة.
أدخلوا شعراء التروبادور
إن شعراء "التروبادور" مهمون لأغامبين، ويعود ذلك في جزء منه إلى أنهم يضعون تصورًا للغة مؤسَّسًا، قبل كل شيء، على "اتحاد المعرفة والحب". مع هذا لا يزال شعراء التروبادور، في آخر الأمر، يبنون اللغة على السلبية، لأنه كان من المتعارف عليه النظر إلى الحب باعتباره في أساسه بعيد المنال. ولا يزال يُنظر إلى اللغة على أنها في موقع إخفاق، عجز. هكذا، ونظرًا لهذا التركيز على الإخفاق اللغوي على أنه نقطة انطلاق اللغة، ليس من المفاجئ أن يكون أغامبين مهتمًا أيضًا بفكرة "اللغة الميتة". إنه مأخوذ، على وجه الخصوص، بواحد من أكثر أمثلة موت اللغة شهرة ودلالة؛ موت اللغة اللاتينية بين القرنين الرابع عشر والخامس عشر. لقد كان دانتي أحد أوائل "قاتلي" اللاتينية، وكانت مقالته التي تدافع عن الكتابة بالعامية (أي ما سيغدو إيطاليّة العصر الحديث) مقالة ذات تأثير كبير.
إن قتل اللاتينية، كما يلاحظ أغامبين، غير منفصل عن ولادة الإيطالية، وربما يصح هذا على خلق أي لغة. كما أن وجود أسلاف لأي لغة معينة يحتّم أساسها السلبي. أحيانًا، يشير أغامبين إلى "حلمه" بلغة، على "كلام بشري يكون أحاديّ المعنى". يحلم أغامبين بانتهاء الثنائية اللغوية، بزمنٍ سابق على سقوط برج بابل.
برج بابل
من اهتمامات أغامبين الشعرية الأكثر حداثة الشاعرُ الإيطالي جوفاني باسكولي. اعتقد باسكولي أن الشعر يعتمد على نوع معين من السلبية؛ أن لغة الشعر هي لغة ميتة. قبل المضي قدمًا، من الجدير أن نسهب هنا حول باسكولي، وكم كان محقًا. إن شعر العصر الحديث، ورغم أنه بمعان شكلية كثيرة مفرط في الحداثة، أقل اهتمامًا من الرواية، أو المسرح الحديثين، بجعل نفسه يبدو عصريًا. وحتى المرونة الشكلية للشعر الحديث لم تجعل بنى شكلية معينة تغدو مندثرة؛ لا يزال من الممكن اليوم كتابة سوناتات، لكن ليس من الممكن كتابة مسرحيات تتبع بنى شكسبير الشكلية. بكلمات أخرى، الشعر مدرك لذاته بوصفه مفارقة تاريخية، أو على الأقل بوصفه مثقلًا بأعباء تاريخه الخاص. كذلك، لا يزال لدى الروائيين مزاعم حول خلق إعلام جماهيري على نحو ليس لدى الشعراء غالبًا.
يُعرَّف شعر باسكولي، وفق رأي أغامبين، بمحاولته أن يدفع الفصل بين الصوت والمعنى في الشعر إلى حده الأقصى، أن يرغمنا على مواجهة الشعر كشكل من الموت اللغوي. لكنّ أغامبين يقلب ذروة السلبية رأسًا على عقب عندما يزعم أن هذا التعارض بين الصوت والمعنى، أو بين السيميائي والدلالي، يؤدي إلى تداعٍ، إلى صمت، وهو ما يعادل إيصال اللغة لذاتها، من دون وساطة أي شيء آخر.
أغامبين حول تاريخ الفلسفة وهو يعيد نفسه
يشبه أغامبين، في هذا المجال، جراحًا يدّعي أن اختبارنا للجسد يكون في أقصى درجاتِ المباشرة حين نفكك أجزاءه؛ عندما يتفكك الجسد ككل إلى الجسد كمركّب من الأعضاء والعظام. ويعني كل هذا أن أغامبين يجد أملًا في الشعر، في الفلسفة، في تجارب الصمت التي لم تُكتَشف بعد. في الوقت ذاته، تجتاح خيبة الأمل علمَ الجمال عند أغامبين: "لقد فشلت الفلسفة في أن تطور لغة ملائمة ... ولم يطور الشعر منهجًا أو وعيًا ذاتيًا". ويمكن فهم فشل الفلسفة في تطوير لغة بعدة طرق. فمن ناحية، يمكن للتنافر طويل الأمد بين اللغة الفلسفية واللغة العادية (رغم محاولات التوفيق بينهما) أن يشكّل عائقًا. كما أن قيمة التجريب باللغة محدودة إذا كانت اللغة التي يبدأ بها المرء تقنية للغاية، متخصصة للغاية، وغريبة للغاية عن غير الفلاسفة لدرجة أن نتائج أي تجربة لغوية تقوم بها ستفتقر إلى الأهمية بالنسبة إلى الغالبية العظمى من الناس. مع هذا، تبدو المشكلة أعمق من ذلك.
حقيقةُ أن محاولات الفلسفة لتعريف "لغة ملائمة" قد ركزت تاريخيًا على محاولة دمج اللغة والمنطق، وعلى اختزال اللغة أو تنقيحها ضمن حدود اللغات المنطقية (التي لا يمكن، وفق طبيعتها ذاتها، أن تُقال)، قد يعيد تأكيد الأساس السلبي للغة. وإذا كان هذا الميل في الفلسفة جزءًا من فشلها في تطوير لغة ملائمة، فإنه ميل يعود إلى أرسطو على الأقل. مع هذا، الفلسفة، هي عن وعي ذاتي حقل "مُعتَمد مكرَّس": الشخصيات الرئيسية في المعتمد المكرَّس الفلسفي خاضعة لإعادة نظر دائمة، لكن أهمية هؤلاء ضمن المُعتَمد المكرَّس نادرًا ما تكون موضع شك. أخيرًا، ربما تكون دعوة أغامبين للفلسفة لتقوم بتطوير لغة هي، بمعنى ما، دعوةٌ للفلسفة للتوصل إلى تفاهم مع تاريخها، دعوةٌ لإدراك أن الطريقة التي تستقلب بها ذلك التاريخ تعرقل المشاريعَ الفلسفية الجذرية بحق.
لوك دَن: خريج قسمي الفلسفة واللاهوت في جامعة أكسفورد. تشمل اهتماماته الرئيسية تاريخ الفلسفة، ميتافيزيقيا العقل، والنظرية الاجتماعية.
رابط النص الأصلي:
https://www.thecollector.com/art-philosophy-giorgio-agamben-poetry-language
عن (ضفة ثالثة)