الرواية هى الحياة العجيبة التي لا دستور لها.
تكمن في جوانب الإبداع الروائي للكاتبة الروائية الدكتورة جمال حسان ثمة توجهات إبداعية متنوعة تطال الواقع وما وراءه، بما يحمل من إشكاليات وتأزمات وقضايا لا حصر لها. ولعل أدب الكتابة عن المرأة، جسدها، وذاتها من ناحية، وأدب الحرب بما له وما عليه، ورواية التاريخ بما تحمل من رؤى وتوجهات من ناحية أخرى، هي ما تجسده هذه المسيرة المتميزة من الكتابات القصصية والروائية التي اشتغلت عليها الكاتبة في إبداعها السردي، والغريب أنها تعمل على هذه الواجهة الإبداعية المتنوعة في مضامينها وموضوعاتها بامتياز، وهى تعيش خارج الوطن وكأنها تعايشه بمنجزها، وتتفاعل مع ما يحدث داخله قلبا وقالبا.
فمنذ أن صدرت روايتها الأولى "للحقيقة ألف وجه" عام 1999، ثم روايتها الثانية "بنات.. بنات" عام 2000 ثم تتابعت بعد ذلك أعمالها السردية الإبداعية في مجالات القصة القصيرة والرواية حتى بدا عالمها الروائي والسردي المكون من خمسة مجموعات قصصية وتسع روايات وكأنه عبارة عن رؤية محددة تطغى عليها ظاهرة البحث عن هذه الحقيقة الغائبة والمضمرة دوما والتي بدأت في تتبع وجوهها وجوانبها الحاضرة في شتى المجالات الواقعية والقومية والوطنية منذ روايتها الأولى القائمة على هذه الموتيفة.
وإذا كانت الكاتبة قد استفادت من تجربتها العلمية والعملية في مجال التحليل النفسي والسيكولوجي في تدوير أعمالها السردية في مجالات القصة القصيرة والرواية فقد أدارت روايتها "وديعة" الصادرة عن دار العين 2015 بشكل احترافي وتميز كبيرين، من خلال هذا الطرح السردي الذى حاولت أن تشكل من خلاله نوعية خاصة من التجريب الميتا سردي الروائي طال في بنيته الأساسية المعنى والدلالة واشتغل فى نفس الوقت على تأويل حشد من محكيات الشكل والمضمون فى اتجاهات عدة تتمحور جميعها حول إشكالية الغيبوبة، وظاهرة الاتجار بالأعضاء البشرية بالطرق غير المشروعة.
المستويات السردية:
تشكل المستويات السردية في نسيج هذا النص مجموعة خيوط متشابكة ومتداخلة فيما بينها، هذه الخيوط المنبسطة في نسيج الرواية هي مجموعة الأحداث المتواترة والقائمة على العقدة والحبكة الرئيسية المرتبطة بفعل الغيبوبة، وتداعيات هذا الفعل الحاصل في حالة شخصية المهندسة "وديعة عطية فاضل" والتي وضحت أسبابها من التسلسل المنطقي للأحداث، كما هي أيضا حقيقة حالة الغيبوبة العامة داخل شريحة خاصة من المجتمع في مثل ظروف ديستوبيا الفساد المتجذرة داخل إحدى المستشفيات الخاصة، التي أدخلت فيها المهندسة "وديعة" لعمل عملية استئصال ورم ليفي، اعتقادا منها أنه يحول بينها وبين الإنجاب، لكنها وقعت فريسة لعصابة منظمة للاتجار في الأعضاء البشرية.
وقد تبين ذلك من الحوار الذى دار بين زوجها الدكتور مراد، والطبيب الذى أجرى لها العملية، وهو الدكتور شاهر، الذى أخبره بأنه قد تم استئصال الرحم بالكامل بسبب حدوث نزيف شديد، وكان لا بد من هذا الإجراء لإنقاذ حياتها، وأنها أدخلت غرفة العمليات لهذا السبب مرتين متتاليتين، كان هذا الموضوع وتداعيات الآلام الناتجة عنه هو صلب العقدة والحبكة الدائرة حولها معظم الأحداث، والواقع عليها عبء اللغة والوصف والصورة والفكرة والسرد بمجمل حالاته، وقد قامت الكاتبة على المستويين السردي والتركيبي بتقسيم الشكل العام للرواية إلى عدة مستويات، المستوى الخاص بالغيبوبة التي ألمت بشخصية المهندسة "وديعة" من خلال الأحداث المرتبطة بهذا الموضوع. ومستويات سردية أخرى تخص بعض الشخصيات القريبة منها، والمحيطة بها سواء داخل أسرتها أو المجتمع الذى تعايشه، وتتفاعل معه كترميز عام لما هو حاصل على المستوى العام.
كما تنسحب هذه الأحداث أيضا إلى كل ما يدور في مجتمع المستشفى من ممارسات تدين هذا المجتمع الخاص بما يحدث فيه من وقائع السطو على الأعضاء البشرية خاصة (الكلى) وبيعها لمن يرغب، بأثمان فلكية، وقد استخدمت الكاتبة عدسة سردية مكبرة ترى من ورائها فعل الألم والوجع القائم على ديستوبيا الواقع القائم أمامها في صور هذه الغيبوبة الرامزة للبعد الإنساني الحاصل بالدرجة الأولى على أسرة المهندسة وديعة، وغيرها من الشخصيات الحاضرة في بؤرة الحدث الرئيسي، والمرتبطة ارتباطا وثيقا بما يدور حولها.
اشتغلت الكاتبة على هذه الناحية كمحور خاص في حبكة النص، قد تكون ارتباطاته بعيدة عما يدور في حالة الغيبوبة الحاضرة عند المهندسة وديعة، لكنه على المدى الآخر هو بعد سيكون له أثره عند فك الارتباط بين الغيبوبة الحاصلة للمهندسة وبين أسلوب آخر مرتبط بحالتها الطبية، يستوجب الاقتراب منه لحل حبكة الحدث الرئيسي المهيمن على هذه الظاهرة الحاضرة في جنبات المجتمع من خلال عصابات طبية تقوم بالاشتراك مع منظمات أخرى في الإتجار بالأعضاء البشرية. وقد استخدمت الكاتبة الأطراف المرتبطة بحالة المهندسة وديعة الاجتماعية، خاصة الأحداث الحاصلة في بعض أفراد المجتمع القريبين منها، على سبيل المثال صراع الطبيعة وآلامها عند بواب العمارة التي تقطنها وديعة وأسرتها، الشاب الصعيدي "بحر"، كذلك الحالة العقلية للمرأة "نرجس" جارتها كترميز لحالة الغيبوبة المتأصلة في جنبات المجتمع، وما يحدث على المستوى العام لكل هذه الشخصيات من تغيرات.
لقد كانت العلاقة بين الجارة (نرجس) وأبنتها كاميليا علاقة ملتبسة في شكلها ومضمونها، هي ترى أمها في غيبوبتها الذاتية حالة خاصة هي مسؤولة عنها، غير أنها تعيش بعيدا عنها، ولكنها مضطرة للاستعانة بأحد لرعايتها "جالت بعض الدموع بعينيها أخفتها على الفور، يجب أن تؤدى مهمتها الليلة بثبات وبأي شكل. هل أحبت أبيها أكثر من أمها؟ وهل كانت بالفعل تغير من أمها؟ بل ودت بالفعل أن تموت أمها ليبقى لها أبوها وحدها، كم تملصت من هذا السؤال مرارا وتكرارا". (ص138) لا شك أنها عقدة أليكترا التي سيطرت عليها طوال هذه الفترة. في هذه الحالات كان انتقال المشاهد والشخصيات يحدث في انقطاعات حقيقية في النسيج العام للنص ومن ثم تؤدى في تقدمه إلى نواح أخرى من الأحداث من محاولة ترميز الواقع من خلال ممارسات كل شخصية على حدة، ومدى ما يرتبط بطبيعتها وممارساتها الذاتية.
وقد انعكس ذلك كله على الحبكة والعقدة الرئيسية المرتبطة بناحية حقيقة الغيبوبة المتجذرة في واقع النص والآلام الناتجة عنها، كما وأنها تزيد أيضا من جريان الزمن عند إخضاعه لإيقاع سردي حافل بمجريات وقائع محددة بعينها، وأحوال الشخصيات في مسارات الأحداث، ويأتي ذلك من خلال الانتقالات السردية السريعة تجاه حقيقة حياة شخصية الزوج الدكتور مراد في ماضيه وحاضره، وكيفية ارتباطه بالمهندسة "وديعة" والحياة التي عايشوها بكل هذا الحب والعاطفة التي كانت تخيم على الأسرة، والأبن أمير وعلاقته بأمه وأبيه وزملاء الدراسة، كذلك حالة (بحر) بواب البناية التي تعيش فيها الأسرة، وعلاقاته بالسكان من ناحية، ثم جريان الزمن في حياته الخاصة تجاه أسرته المكونة من زوجته صابحة وابنتيه، وعمله السابق في شد المراكب فى النيل، ثم عمله كبواب، ورغبته الشبقية التي اتقدت فجأة بسبب بعده عن أسرته عندما رأى لطيفة في دكان البقال فادى "داخلته رجفة ونشوة مفاجئة وكاد يصيح بفرحة الغريق تنتشله الأيادي من طيات الموج، طاقة فتية حارة كماء الفيضان تندفع بكل حمولتها تشق طريقها في قلب صحراء جرداء شاسعة الأطراف في التواءات وانخفاضات بوعى غريزي". (ص103)
كان جريان الزمن عند (بحر) كمشاهد اعتراضية آخذة في التنامي حتى وصوله هو الآخر إلى منحنى "الغيبوبة" القائمة عندما وقع هو الآخر فريسة لعصابة بيع الأعضاء "من عالم النسيان، قفزت صورة النهر والشاطئ و أحلام الصبا البعيد بأن يصير في يوم ما ريسا، يمسك بدفة مركب أو صندل ينقل البشر والبضائع بين الشمال والجنوب". (ص88) كذلك شخصية (نرجس) أم كاميليا - جارة المهندسة وديعة – كمستوى سردي ثالث، وما يدور في فلك مخيلتها تجاه واقعها النفسي المتدني. فهي تعيش بمفردها، وتأتى بأفعال غير طبيعية، وعلاقتها بابنتها كاميليا والمجتمع الذى تتفاعل معه وتعايشه معايشة كاملة، علاقة غير سوية بسبب هذا الألم الإنساني الكامن داخلها، الناتج عن تراكمات الحياة وما يحدث لها على مستوى واقعها النفسي داخل السكن وخارجه.
وهو ما يمثل هو الآخر مستوى رامز لواقع آخر تجاه المكان والزمان في شخصية نمطية مغيبة هي الأخرى تعيش واقع مغاير، هي تعرف أنها عبء على الجميع خاصة أبنتها "هي تعيش قدرها كطائر هائم بين ماض عذب وحاضر مر". (ص138) كان الألم المتجذر داخلها يجعلها تقرأ أفكارا من سيرتها في صور شتى متخيلة وفوتوغرافية وتحاول ترجمتها إلى مواقف حمقاء تثير الرثاء كما تثير الضحك في بعض الأحيان.
كما اشتغلت الكاتبة أيضا على التهويمات والميتافيزيقا وما وراءها من رؤى لا شعورية تمس الواقع ذاته من خلال تيار الوعى والفلاش باك والحوار خاصة في سرد مشاهد ما وراء الغيبوبة من أحلام ولحظات أثيرية شكلت من وديعة روحا هائمة في غير عالمها الواقعي "حقيقة مدهشة تبدت لوديعة منذ دقائق. أنها حرة طليقة تسير على الأرض، وخفيفة تطير في الهواء كريشة دون أي مشقة أو تفكير حين تريد. لتثبت لنفسها تلك الحقيقة وتتأكد منها، استدارت وحلقّت ثانية نحو سقف الحجرة وكأنما يدا خفيفة جذبتها لأعلى، اختفى السقف فوقها كأنه سحابة تحركت من موضعها، وجدت نفسها تسبح في الفراغ الواسع فوق البناية التي كانت بداخلها من ثوان. كل الجدران والوجوه ذابت وتلاشت حولها". (ص95)
وقد احتفت الكاتبة بهذا الجانب من جوانب التقنيات الميتا سردية في التعبير عما وراء الواقع من رؤى سردية بثت فيها جميع المشاهد التي شاركت في توضيح المسار الرئيسي للرواية، وكأن وديعة تبحث عن الحقيقة الغائبة عنها فى هذا العالم الأثيري غير الواقعي، ورفض العزلة الباردة الموحية بالفناء في هذا الطقس القائم على البرودة في التعامل مع الناحية الطبية ومن ثم الإنسانية، وهو ما حققته الكاتبة في المسار العام للرواية من خلال الإحساس بالحياة عند كل الشخصيات الحاضرة ": ومنذ البداية فإن المفارقة التي قوامها أن المصطلحات التي تشير إلى الابتعاد عن الواقع هي الوسيلة التي يجرى بها الكشف عن هذا الواقع، وقد شرعّت نظرية التحليل النفسي في وضع حد لهذه المفارقة، حين اكتشف فرويد أن سلوك المريض الذى يبدو عديم المعنى في ظاهره، هو يحمل في نفس الوقت معنى آخر داخله، ويكون عادة هذا المعنى متطابقا مع ما يمر به المريض من إشكاليات وتأزمات خاصة تمس حالته، والتي تكون فى بعض الأحيان متجذرة فى رغباته الدفينة.
وعلى هذا الأساس فإن الرغبة التي تبرز ضمن الحلم قد أصبحت مادة معاشة في نسيج الرواية، ومن ثم فإن الرغبة الحالية التي تعرضت للكبت عند المريض تستمد العزم والقوة من اللاوعى". (النقد النفسي، مفيد نجم، ج المستقبل، بغداد، ع 1477، 12 يوليو 2017 ص 8) لذا كانت الغيبوبة الحاصلة عند "وديعة"، والماضي المجتر عند "بحر"، والإحساس بالحياة مهما كان عند الجارة "نرجس" وانعكاس مأساة وديعة على أسرتها هو الألم الذاتي الذى انعكس على مسار حياتهم جميعا وكان له وقع الصمت والعذاب والانتظار. لذا كانت الرواية هنا ليست وحدة بالمعنى الكلاسيكي، بل هي جمع إشكالي من المحكيات يقوم على منطق التحاور والتقابل لا على منطق النسبية والخطية الذى يهيمن على شكل الرواية في معناها التقليدي، وقد قامت الكاتبة بعمل بانوراما سردية تتوزع على الأحداث والشخصيات ثم تتجمع فى خيوط ميتا سردية تبرز الجانب النفسي الداخلي عند كل شخصية مهما كان موقعها من النص.
وهو الجانب المضيء في نسيج النص والذى بدا يتمحور حول الإشكالية الرئيسية للحقيقة عند كل من الشخصية الرئيسية "وديعة" أو عند مركز المجتمع بأكمله. وتتحقق هذه المعادلة من خلال هذا الحشد من المحكيات التي اشتغلت عليها الكاتبة من خلال مجموعة من الشخصيات تبرز عوالم كل منهم على حدة، ومن ثم تتجمع هذه العوالم المتنوعة في ممارساتها وأحوالها وطبيعتها نحو الإشكالية الرئيسية فى النص، وهى - كما ذكرنا - إشكالية الاتجار بالأعضاء البشرية، وعلى الرغم من أن الجانب الذى تحدثنا عنه كان في تداعياته النفسية يغوص في جوانب الشخصية بكل أبعادها الميتافيزيقية من ناحية، والإنسانية من ناحية أخرى، إضافة إلى منطق الحياة وما قد تتعرض له الشخصية في مسار حياتها من منغصات وممارسات خاصة غير متوقعة.
وفى حوار للكاتبة حول تحليل البعد النفسي في المجال الإبداعي وهو ما يكون متوائما مع كتابتها السردية تقول الدكتورة جمال "أنا بطبيعتي أميل للتأمل الداخلي في الذات والخارجي في ظواهر الخلق وإبداع الخالق، وقد ساعدني هذا في عملي حيث إن المريض بالنسبة لي إنسان تعثر في رحلة الحياة. واكتشاف عناصر القوة والجمال فيه هو أنجح وسيلة في رأيي لتقويم العطب النفسي وإعادة انتظام وظائفه الجسدية والعاطفية والعقلانية. كما أن عملي في مجال الطب النفسي أتاح لى فرصة الاقتراب من النفس بصورة دائمة في كافة حالاتها بين الانكسار والغضب والفرح والتمرد وبقية العواطف الإنسانية، وكثيرا التداخل الصحي بتلك النفس في فترة العلاج". (د . جمال حسان أكتب عن أحاسيس المرأة الجسدية بخوف (حوار)، المحرر، مج نصف الدنيا، ع 375 30 أبريل 1997)
ويلاحظ من هذا الحوار أن أحداث الرواية ربما تنطبق والرؤية العلاجية التي ربما تقوم بها الكاتبة على مستوى عملها وكذلك على مستوى إبداعها، ولعل ما يدور في كواليس الرواية من أحداث وممارسات تعبيرية يطال بها الواقع وتجسيد الرؤى الذاتية فى واقع الشخصيات وعلاقاتها، وكذا الإشكاليات التي تتعرض لها في حياتها، والتي قد تمثل نهاية لها أو بداية بحسب رؤية الكاتبة والنص بمجموع مشاهده المتضمنة ما تمثله العوالم الذاتية لبعض الشخصيات الواقعة تحت تأثير ما، مثل الزوج مراد وحياته الخاصة والعامة منذ أن كان طفلا وتعلقه بأمه تعلقا غريبا، ثم علاقته الخاصة بوديعة فى حاضرها معه ثم فى غيبوبتها. والابن أمير وعلاقته بصديقه وجاره أنطوان، والتنمر الحادث له من زملائه في المدرسة، وإحساسه ومشاعره تجاه أمه التي افتقدها، حتى تصوره وتخيله لوجودها قريبة منه بصوره أو بأخرى، ولعل المدلول الروائي وهذه التكهنات النفسية الحادثة على مستوى الشخصيات يجعل هذا العالم المليء بالارتجاجات العنيفة، والرمال المتحركة، يمور في أشكال عدة من الرؤى الميتافيزيقية المجسدة لأحوال الشخصيات في صور تخيلية مغيبة في بعض الأحوال، وكأنها أحلام تمور داخل الذات ويشتعل بها واقعها.
البعد النفسى فى الأحلام:
وظفت الكاتبة الأحلام كعنصر مهم من عناصر ترتيب الأحداث، وتوظيف دلالتها الواقعة على بعض الشخصيات، وقد راعت في استخدام الحلم كمرحلة تستطيع منه الشخصية أن تتحكم في أحداث أثيرية ترى من خلالها ما يحدث في واقعها الذى كان، كما كانت التهويمات والنقلات النوعية الأثيرية التي تمت بعد أن دخلت وديعة في غيبوبتها بمثابة أحلام مضببّة أعادت بها الكاتبة أنسنت جسد وديعة مرة أخرى وجعلتها تتنقل بحرية في واقعها الذى كان، فكانت "وديعة" فى غيبوبتها كثيرا ما تتنقل في تهويمات أثيرية ربما للبحث عن حقيقة ما يحدث، تحاول فيها مشاهدة ما يحدث في هذا الواقع، وتتعايش حلميا مع بعض أفراد أسرتها كأنها موجودة معهم، وكانت هذه الأحلام تنعكس أحيانا على المقربين منها مثل ابنها أمير الذى صرح لصديقه أنطوان أنه يشعر أحيانا أن أمه تزوره في بعض تأملاته وأحلامه.
وفى أول هذه الأحلام أثناء تواجدها في المستشفى وانتظارها دكتور التخدير "خفت ضوء الغرفة الصناعي تدريجيا فابتلعها الإعياء كشبورة كثيفة مشبعة بالرطوبة والدخان والضوضاء. حلمت بأنها في الإسكندرية ترقب أمواج البحر من خلف نافذتها بأحد الطوابق العليا في بناية قديمة قرب الفنار" (ص8) ثم ما لبث الحلم أن تشعب إلى حافلة رحلات كبيرة تقل ركاب في طريقهم لقضاء أجازة في منتجع جديد، وفكرة الأجازة تقوم على إعادة تمثيل دراما معينة، ثم تظهر لها أشباحا في الظلام، ثم تأتى طفلة من خارج النافذة تبحث عن عروستها، ويتشعب الحلم إلى أضغاث من الأحلام تدور أحداثها في قسم الشرطة، ورشقها أحدهم بسكينة، وتهويمات أثيرية خالية من المعنى إلا أنها تعطى دلالة على التخبط واليأس في حالة مثل هذه الحالة التى أصبحت عليها "وديعة".
إلا أنى أعتقد أن هذا الحلم مع هذه الشحنة الغاضبة من لا مبالاة المستشفى بها، وتوقها إلى أنهاء هذا الطقس العلاجي المؤدى في اعتقادها إلى الإنجاب السريع له دلالة على أن ما رأته "وديعة" فى هذا الحلم من أحداث يتواءم مع ما يدور في عقلها الباطن من أمنيات محددة، كذلك الحلم الذى رأته وديعة في اليوم السابق على دخولها المستشفى، وكان حصادا لهذا النوم القلق الذى يسبق اليوم الذى ستجرى فيه العملية "تسيران معا يدك بيده في الهواء الطلق على شاطئ بحر كما لو كنتما في العين السخنة لكن على غير توقع، تغوصين في دوامة رمال متحركة تبعدك عنه بطريقة مخيفة ويتوارى في وسط المفاجأة" (ص53).
الحلم فى السرد يعد أحد تقنيات تيار الوعي، لأن تيار الوعي في معظم حالاته عادة ما يهتم بمستوى ما قبل السرد، حتى يحقق الهدف من حضوره، والهدف من ذلك أن "الرواية التي يطابق فيها المنظور الروائي منظور إحدى الشخصيات، أو يكاد، تكون فيه الشخصية حاضرة كل الأحداث، ومن ثم فهي الرواية المعبرة عن كنه ما يدور داخلها من أحداث تهيمن عليها الشخصية وتنبثق من تداعيات الفعل ورد الفعل لديها". (تيار الوعى فى الرواية العربية الحديثة.. دراسة أسلوبية، د . محمود غنايم، دار الجيل، بيروت/دار الهدى، القاهرة، 1993 ص44) ويكون ذلك من خلال هواجسها التي تطلقها وتعبر عما يدور بخلدها، كما أنه يعبر أيضا عن الصراعات النفسية الدائرة، والحالات الوجدانية الخاضعة لمواقف محددة تمر بها، وهو ما حدث مع "وديعة" في رغباتها الخاصة، وهى الرغبات المرتبطة بالإنجاب، وعلاقاتها داخل الأسرة وخارجها، حتى في محيط العمل، خاصة وأن هذا الحلم كان يتم وهى متكورة داخل جنبات زوجها كما يبدو الحلم أيضا في مستوياته السردية بوصفه نصا ذا جمل مترابطة ترسم تتابعا للأحداث والأحاسيس الواقعة تحتها الشخصية في حلمها، وهو باعتباره نصا داخل النص الأصلي يعتبر انقطاعا في زمن السرد.
النهاية المفتوحة:
لعبت الكاتبة في نهاية روايتها على أن تترك الأحداث ممتدة ليس لها نهاية محددة، حتى تترك المجال للمتلقي للبحث وراء ما تضمنته الرواية من أحداث، خاصة وأن موضوع الإتجار في الأعضاء البشرية والمرتبط أساسا بـ (الكلى)، لم يحسم سرديا، بل جسدته الكاتبة من خلال التجاوزات، والمؤامرات المتعلقة بهذا الموضوع نحو أكثر من شخصية كانت البداية مع وديعة دون أن تفصح الرواية عن ذلك صراحة، كانت هذه العصابة التي تتزعمها الممرضة زيزي ومن يعملون معهم من أطباء وممرضات وسائقين وعمال تشبه إلى حد كبير المغناطيس الجاذب للحديد ونشارته، فهذه الممرضة التي تشكل القطب الرئيسي لهذه العصابة لها حضور خاص في البحث عن الفريسة حتى ولو كانت ممن حولها ومن يساعدونها في جرائمها، مثل حالة السائق وسيم.
فهي ترمى شباكها حول مرضى المستشفى ممن ترى في حالتهم الصلاحية لنقل كلاهم إلى آخرين، وأيضا على من يقعون في شباكها بطريق الصدفة مثل هذا الفتى الصغير الذى تم استئصال كليته لصالح أحد المتعاقدين، وكذا الشباب الثلاثة الباحثين عن عمل، مستغلين مشكلة البطالة، وفى حالات التعاقد الحرجة تلجأ العصابة إلى التعاقد مع العاملين معها مثل محاولة زيزي التعاقد مع وسيم وشراء كليته وإغرائه مرة بالجنس ثم بالمال. فهناك من ينجذب تلقائيا إلى بؤرة عملهم في سرقة الكلى وهى السلعة الرائجة عندهم، مثل "وديعة" والولد النحيل الذى استدرج لنقل كليته إلى مريض لديه القدرة على دفع مبالغ باهظة، لقاء حصوله على كلى سليمة، بينما يحصل الجسد المنقول منه الكلى على مبالغ متواضعة للغاية لقاء ذلك، وعلاوة على ذلك. وبجانب العالم الخاص بوديعة وغيبوبتها تطرح الرواية عوالم موازية لها ولإشكالياتها الخاصة بها ولكنها تتجمع جميعها لتقع في نفس شباك الوهم أو الخديعة أو الموت، وهو الحقيقة الكبرى التي تقوم عليها الرواية، والتي احتفت بها الكاتبة في معظم أعمالها.
البناء الفني:
استخدمت الكاتبة في روايتها اسلوب السيناريو السينمائي في تقطيع وتقسيم المشاهد والأحداث، وما يحدث منها على مستوى الواقع وما وراء الواقع، بما يتناسب والتنقل المستمر بين الأحداث المحتشدة، والمشاهد المتناثرة للوصول إلى عمق التجربة فى صورتها التعبيرية، بدءا من المشهد الأولى القائم على دخول وديعة مستشفى (طيبة)، والانتظار الطويل غير المبرر الذى حدث وظل معها حتى المساء مما يعطى انطباعا على أن هذه الأمور وراءها تأزمات متوقعة، وأمور وممارسات لها طبيعة القصد، وغير طبيعية ناتجة عن هذا الإهمال من إدارة مستشفى خاصة من المفترض فيها أنها تقوم بعمل يتناسب وطبيعة ما تقدمه من خدمة طبية متميزة، ومدفوعة الأجر بما هو معروف عن أسعار المستشفيات الخاصة في هذه المجالات المتخصصة. وتسير الأحداث على النحو الذى جرت عليه بالرواية، وتأخذنا بطبيعتها فى طرق متعرجة بحسب طبيعة الشخصيات الحاضرة، والعلاقات المتوطنة داخل كل منها تجاه الأحداث والتداعيات التى تأخذنا فى بعض الأحيان إلى ماضى الشخصية وتسلسل تاريخها الذاتى، والأحداث الوهمية المتصلة بها.
ولعل ما كان يحدث في أسرة وديعة بعد دخولها في حالة الغيبوبة من صدمة، وآلام طالت الجميع الزوج الدكتور مراد، والأبن أمير، والأب، والأم، بل والأخت وجدان المقيمة في الكويت وجيرانها وزملائها في العمل، كل ذلك قد وطّن شحنة كبيرة من الآلام والأوجاع لدى الجميع. وجعل المسار العام للرواية يأخذ أبعادا يتأثر بها الجميع، حتى من تسببوا فيها، فقد انسحبت الآثار العكسية على أعمالهم الشريرة التي يقومون بها. كما كان اشتغال الكاتبة بضمير الغائب للبنية السردية وعلى الفلاش باك والمونولوج الداخلي أمر لا بد منه لطبيعة الأحداث وجبلة الشخصيات الذاتية والنفسية وطبيعتها في مواقفها المختلفة.
فما حدث للزوج مراد من خلال هذه المأساة العائلية المفاجئة، جعل حياته تنقلب رأسا على عقب، مما أدى إلى تراكم الآلام في رأسه ومحاولته الدائمة للوصول إلى حل لمأساته التي لا يعرف لها نهاية على الأطلاق، لذا كانت خواطره كثيرا ما تتحول إلى وقائع من الماضي سبق له أن مر بها، وأسئلة كثيرة يحاول أن يجد لها جوابا، خاصة علاقاته المرتبطة بمأساته وأهمها هذه العلاقات المرتبطة بوديعة، ثم هذا الحديث الداخلي العابر كمتخيل محبط يستحضر في الذاكرة بلغة ساردة كل الذكريات التي مرت تقريبا حلوها ومرها. لذا نجد مراد وقد استحضر مشاهده مع أمه زهيرة في حياتها مع أبيه، استحضر معها أيضا بداية علاقته مع وديعة كيف بدأت، وكيف صارت، وما أصبحت عليه الآن "ربما لاحت له ذكرى تلك الليلة من قبل وغالبا في سياق مختلف. كان كل شئ يبدو طبيعيا مشبعا بظلال المساء ومزيج من السحر والشوق حين تركته وديعة ينبش جسدها بجرأة عاشق ملهوف حتى عمق أعماقها، استسلمت له وغفلت عن خزيها متعمدة لتمنحه ما أراد على شاطئ مظلم خارج المدينة، لم تنس وديعة تلك الليلة، كثيرا ما كانت تفلسفها بأنها لو لم تستجب لمراد لضاع منها ومن نفسه لفتيات اللذة العابرة للأبد". (ص504)
كما أن طبيعة عتبة العنوان التي أطلقتها الكاتبة والمكونة من مفردة واحدة وهو أسم "وديعة" وهى الشخصية الرئيسية والمحورية في النص، وهى باستخدامها لأسم الشخصية بمعنى الوداعة في هذه الحالة الدرامية الفجة يضع مفارقة صارخة في عتبة النص بين دلالة المعنى لمفردة الاسم وبين الواقع الفاعل في مجريات النص حيث أن المريض الذى يدخل أي مكان للعلاج فيه، من المفترض أن يكون وديعة لدى هذا المكان سواء أكان عيادة أو مستشفى أو أي شيء من هذا القبيل. وقد صنعت الكاتبة من عتبة النص مفارقة كبرى رامزة للأحداث الحاصلة في نسيج النص، وبين أسم الشخصية في مفردة "وديعة" وبين ما حدث معها، ومع غيرها من البشر في هذا المكان والزمان، لقد عبرّت عتبة النص عن النص في جميع مكوناته تعبيرا حاضرا شكل الحقيقة التي بنت عليها الكاتبة روايتها والتي شغلتها منذ روايتها الأولى "للحقيقة ألف وجه",