الشهر الماضي، لقي «عالم» الآثار الصهيوني زئيف أرليخ حتفه على يد أولي بأس شديد في بلدة شمع أو جوارها. لو لم يهلك، لما علمنا بقدومه أو تنبّه العالم أجمع لاندساسه بين القوى الغازية. كشفت مهمة أرليخ في جبل عامل راهنية الأطماع الإسرائيلية في الجنوب اللبناني وارتباطها باستعمار فلسطين في المخيّلة الصهيونية. نهاية الرجل ذي الشاربين الكثّين أتت بعد مسيرة «بحثية» طويلة سعى عبرها إلى تثبيت الرواية التوراتية لتبرير المشروع الصهيوني لاستيطان فلسطين. وقد أتى مصرعه على أثر إعلان نائب المدير الإعلامي السابق لنتنياهو أن «جنوب لبنان هو في الواقع، ومن الناحية التاريخية، شمال إسرائيل» بما في ذلك مدينة صيدا.
هذا غيض من فيض ما ادّعاه ونظّر له وعمل من أجله الصهاينة منذ نشأة حركتهم في القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا. وهو ما تُصرّ على إنكاره شريحة واسعة من صانعي الرأي في لبنان من باحثين وإعلاميين وناشطين. هذا الإنكار دلالة على جهلهم المعرفي أو تجاهلهم الكيدي لطبيعة الصراع من أجل «تحييد» لبنان عنه ولوم المقاومة. يسري هذا الجهل أو التجاهل على دور الأركيولوجيا عموماً في استعمار بلاد العرب والمسلمين بدءاً من حملة نابوليون على مصر في القرن الثامن عشر، ومروراً بغزو الجزائر في القرن التاسع عشر، وانتهاء باحتلال المشرق العربي واستيطان فلسطين في أوائل القرن العشرين.
تخطّت الأركيولوجيا الإسرائيلية هذا الاستنساب لتسعى نحو الاستئصال الكامل لكل ما يمكن أن «يلوّث»»
سرديّة الأرض اليهودية
اللافت أنّ الفصل المهني الحادّ بين العسكري والعالِم والذي بات متعارفاً عليه اليوم لم يكن موجوداً حينها. تُعزّز هذه الحقيقة - مقرونة بالهوية المزدوجة لأرليخ كعالم وعسكري - استمرارية الزمن الاستعماري عند الكيان في يومنا هذا. وعت المؤسسة الرسمية الصهيونية حساسية هذا التقارب فحاولت وسائل الإعلام الصهيونية رسم صورة وديعة لأرليخ. نعتته إحداها بـ«مواطن مسنّ» وأخرى بـ«عالم الآثار العملاق» وادّعى جيش الاحتلال أن السبعيني لم يكن مفوّضاً بالانخراط في العملية العسكرية، رغم مرافقته لرئيس أركان لواء غولاني. لكن شقيق أرليخ كذّب هذا التنصل من صفة أخيه العسكرية، وقال إنه كان يرافق الجيش في مهمات عدة في فلسطين، واعتبر موقف الجيش وصمة عار على العائلة. تبييض صفحة أرليخ ليست حكراً عليه أو على شخصيات صهيونية. لقد جهدت البروباغندا الغربية في تظهير صُور مشرقة لعلماء آثار لعبوا دوراً محورياً في احتلال هذه البلاد وقد انطلت هذه البروباغندا على النخب الثقافية في منطقتنا. مثالان صارخان هما تي. إي. لورنس وغيرترود بيل. صنع فيلم «لورنس العرب» (بطولة بيتر أوتول وعمر الشريف) أسطورة لورنس المغامر الذي قاد الثورة العربية ضد العثمانيين.
غفِل الفيلم عن إبراز هوية لورنس الشاب كعالم آثار صال وجال في جبل عامل والجليل والساحل السوري من أجل كتابة أطروحته للدكتوراه عن القلاع الصليبية، قبل أن يعود ليعمل في التنقيب في نواحي نهر الفرات. تجوّل لورنس بحُرّية في بلاد الشام وبحوزته كاميرا ومسدّس. فقد استحصل عن طريق اللورد جورج كرزون، وهو من كبار قيادات الاستعمار البريطاني، على تصريح خاص من الباب العالي. وكان لورنس يُطلق الرصاص في الهواء عندما يعثر عمّال التنقيب تحت إمرته على آثار جديدة ويشرب نخبها في كأس حيثي أثري من دون اكتراث لقوانين حفظ المقتنيات الأثرية. بعد نشوب الحرب العالمية الأولى، سارع لورنس إلى الالتحاق بالاستخبارات البريطانية وعُيّن في «مكتب الاستعمار» لشؤون الشرق الأدنى وعمِل تحت إمرة الجنرال اللّنبي. يتجاهل الفيلم ما اقترفه لورنس من فظاعات أثناء القتال في هذه المرحلة، والنفسية المريضة التي حكمت تبريره لها، والتي تعكس العنصرية الاستعمارية التي نجدها عند أرليخ وأمثاله. وفي أفلام إنديانا جونز وغيرها من بطولات وهمية للرجل الأبيض في مواجهة الشعوب «المتخلّفة». حاول لورنس إقناع زميل له يُدعى ستيرلنغ الانضمام إلى حملة غزو فلسطين، فروى له آخر مغامراته، عندما أودت «طلقتان جميلتان» من الهاون بحياة 70 جندياً عثمانياً وجرح 30 وأسر 80 في أقلّ من عشر دقائق. وختم لورنس قائلاً: «هل ترى كم كانت ممتعة؟».
غيرترود بيل .. خاتون بغداد:
رغم تعاطف لورانس بعد انتهاء الحرب مع الدعوة لإقامة دولة عربية، لم يُبدّيها يوماً على مصالح وطنه الأم بريطانيا. وبقيت نظرته تجاه العرب نظرة فوقية، بدلالة تذّمره لاحقاً من ارتباط اسمه بالعرب إلى حدّ تغيير اسمه القانوني إلى «شو» بدلاً من «لورنس». بعد نصف قرن من إصدار فيلم «لورنس العرب»، تفنّنت هوليوود في إحياء ذكرى غيرترود بيل، عالمة الآثار الإنكليزية التي عاصرت لورنس، وعرفت باسم خاتون بغداد، عبر إنتاج فيلم بعنوان «ملكة الصحراء» (بطولة نيكول كيدمان). رسم الفيلم صورة بهيّة عن بيل تبنّت فرضية النسوية الاستعمارية والاستشراق حول تحدّي المرأة الغربية والمستقلة للذكورية العربية، وافتتانها بها في آن. تاريخياً، لم تحِد بيل عن لورنس في خِدمتها للاستعمار البريطاني. تعلّمت بيل الفارسية والعربية وقضت حوالى 15 عاماً من حياتها تروم إيران وبلاد الهلال الخصيب، وتلتقي بأهله من حضر وبدو، وتتعرّف إلى جغرافيته وتضاريسه. لكنها عندما رفعت تقريراً إلى إدارة العمليات العسكرية في لندن بعيد اندلاع الحرب العالمية الأولى، رأت في هذه البلاد ما يراه كل مستعمر، مورد نفط وموطئ نفوذ وشعوباً يمكن تجييرها لأغراض استعمارية.
وقد اجتمع لورنس وبيل مع ونستون تشرشل (نصير الأسلحة الكيميائية) عام 1921 في القاهرة لتقرير مصير العراق وترسيم حدوده. عارضت بيل إقامة دولة عربية مستقلة في سوريا، خوفاً من انتشار نزعة الاستقلال إلى العراق. بعد تنصيب الأمير فيصل على العراق، استمرّت بيل في خدمة المصالح البريطانية كمستشارة للملك الجديد. تبوّأت منصب مديرة الآثار العراقية، وأسهمت في خطّ قوانين للتنقيب وفي إنشاء متحف وطني حيث ختمت حياتها وهي تصنّف ما تم انتشاله من حفريّات المدن السومرية. إلى جانب أدوارهما كجاسوسين استعماريين، أسهمت نشاطات لورنس وبيل الأثرية في بناء رواية تاريخية استنسابية شدّدت على الإرث الأوروبي (القلاع الصليبية) والقديم (ما قبل الإسلام) لمنطقة الشرق الأدنى. تجاهلت هذه المقاربة كذلك العلاقة التفاعلية بين المجتمعات المقيمة في ربوع هذه «الآثار»، وبين تلك «الآثار». سُلخت هذه الآثار عن محيطها فوُضعت في متاحف أو سُلبت ونُهبت.
في حالة المشروع الصهيوني، تخطّت الأركيولوجيا الإسرائيلية هذا الاستنساب لتسعى نحو الاستئصال الكامل لكل ما يمكن أن «يلوّث» سرديّة الأرض اليهودية. وصلت هذه السياسة العنصرية حدّ قصف مقامات تحمل أسماء أنبياء توراتية في جبل عامل مثل بنيامين ودانيل وشمعون. لو كان هؤلاء الغزاة هم فعلاً أصحاب هذه الأرض والمقامات، لما تعاطوا معها بهذه الطريقة الهمجية. لكنّهم قادمون عبر البحار في سفن الاستعمار. تمكّن المقاومون من صدّ إحدى أدوات هذا المشروع عندما واجهوا أرليخ وأردوه قتيلاً. لكنّ ردّ الصاع صاعين يكون عبر إدراج رؤية تاريخية وعمرانية نقيضة للرؤية الاستعمارية – وليس مجرّد إعمار ما تهدّم - في أي برنامج إعادة إعمار. إنّ ما بدأته البندقية يستحقّ أن يستكمله الإزميل.
*أستاذ جامعي
عن (الأخبار) اللبنانية