يموضع الكاتب اللبناني هنا ما دار في لبنان وفلسطين وسوريا في سياقاته التاريخية والتحليلية الأوسع. محذرا من قبول الأمريكي كوسيط أو حكم، يتيح للصهاينة ما لم يتمكنوا من كسبه في الميدان، نتيجة الصمود والمقاومة الفلسطينية العظيمة. وضرورة اشتقاق إستراتيجية تحرير وتحرر لمواجهة الاستعمارين القديم والجديد، وقاعدتهما العدوانية في المنطقة: العدو الصهيوني.

مواجهة الكيان المغتصِب والهيمنة الأمريكية

رؤية المعركة في سياق الصراع الكوني

سعـدالله مـزرعـاني

 

قبل أن نباشر بتقييم «حرب لبنان»، لجهة الأسباب والمسار والنتائج، وهو أمر غاية في الأهمية، لا بدّ من أن نحاول أولاً تلمّس موقع تلك الحرب، التي أعلن رئيس أقوى دولة في العالم، عن اتفاق وقف إطلاق النار بشأنها، في السياق الحقيقي الذي ينتظمها. على أنّ الأهمية الفعلية لا تكمن في «مَن» أعلن نهاية الحرب، بل بالدرجة الأولى في ما قاله الرئيس الأميركي أثناء الإعلان، بشأن المعركة، وموقعها، وموقف إدارته من أطرافها. ومن خلال نظرة تاريخية سريعة، يظهر أنّ أهم التبدلات والتحولات في العالم كانت نتاج صراعاته، وخصوصاً تلك ذات المدى والتأثير الشاملين، كالحربَين العالميتين الأولى والثانية. فالأخيرتان تفاعلتا، بشكل وثيق، مع إحراز تقدم نوعي في حقول الإنتاج وأزمات النظام الإقطاعي، ما أطلق «الثورة الصناعية» في أوروبا، بدءاً من منتصف القرن الرابع عشر. واقترنت تلك الثورة، بدورها، بتقدم العلم وبالصراع من أجل كسر احتكاره، من قبل الكنيسة آنذاك، ومن ثمّ تسخيره لتطوير وسائل الإنتاج، من أجل زيادة الكمية والأرباح وكسب النفوذ، وتغيير التوازنات في مجالَي الملكية ونمط الإنتاج السائدين والعلاقات الاجتماعية القائمة ... إلخ.

أطلقت الثورة الصناعية الطبقة البورجوازية، وحوَّلت الملايين من عبودية الإقطاع باتجاه استغلال رأسمالي كان، هو الآخر، شديد الوطأة عليهم، ولا سيما في مراحله الأولى. آنذاك، تفاعل مع معاناة هؤلاء عدد من الكتّاب والمفكرين الأوروبيين، ومن بينهم إميل زولا، الذي كان الأكثر تأثيراً، ولا سيما في كتابه «جارمينال». ركّز زولا، مع مفكّري وأدباء وفلاسفة «التنوير»، على دور الفرد وحقوقه إزاء تعسف الاستغلال الرأسمالي الذي ولَّد أشكالاً جديدة من المعاناة والمآسي. ومع تحوّل الرأسمالية إلى المنافسة الاحتكارية، تبلورت هياكل اجتماعية وآليات استغلال رصدها كارل ماركس ورفيق فكره وكفاحه إنجلز، وتوصّلا إلى استنتاجات عبقرية حول دينامية عمل النظام الرأسمالي. واللافت، أنّ ماركس وإنجلز لم يتوقفا عند ما هو «إنساني» مبني على التعاطف الأخلاقي والفردي فحسب، بل انطلقا منه لاكتشاف ديناميات الاستغلال والاغتراب وتطور حركة رأس المال مع توطده وتوسعه، وكشفها إلى العلن.

لذلك شدّد المفكران على دور الصراع الطبقي كعابر لكل المراحل والأنماط، ورافعة للتغيير والتقدم. وأبرزا العلاقة السببية الجدلية، بين البنى الاقتصادية الإنتاجية والبنى الفكرية والأدبية والسياسية والفنية والقيمية وغيرها. وبالعودة إلى الثورة الصناعية، فقد أطلقت الأخيرة، في طورَيها الأوّلَين، أي المنافسة ورأسمالية الدولة الاحتكارية، صراعاً اتخذ طابعاً كونياً، وتخلَّلته حربان عالميتان. الأولى، بين الإمبراطوريات القديمة والجديدة، فيما كانت الثانية تهدف إلى إعادة توزيع خريطة النفوذ والأسواق والمواد الأولية والمواقع الاستراتيجية، إلخ. وما بين الاثنتين، انبثقت أول دولة اشتراكية في العالم في روسيا، كما تمّ وضع الأساس السياسي، عبر«وعد بلفور» البريطاني، لإنشاء الكيان الصهيوني في فلسطين. وكانت المحصلة أن فرضت التوازنات والمناورات والتقاطعات اصطفافاً جديداً ما بين قوى النازية والفاشية والإمبراطورية اليابانية من جهة، وبين المعسكر الغربي والدولة الاشتراكية الأولى في العالم، روسيا السوفياتية، من جهة ثانية.

الولايات المتحدة، كقوة جديدة صاعدة بزخم استثنائي في الحقول كافةً، قطفت، في تلك الحقبة، أكبر الثمار، على الرغم من أنّها قدمت أقل التضحيات. وخرجت كدولة عظمى أولى في العالم، يليها الاتحاد السوفياتي الذي تحمّل العبء العسكري والبشري والعمراني والاقتصادي الأكبر خلال الحرب. وشكّل الطرفان ثنائية قطبية حكمها توازن دقيق، في إطار ما سمّي بالـ«حرب الباردة». وهي حقبة شهدت انطلاق موجة تحرّرية غير مسبوقة في دول العالم الثالث، من مثل فييتنام والجزائر وغيرهما. انتهت «الحرب الباردة» بانهيار الاتحاد السوفياتي رسمياً عام 1991. ومذّاك تقف واشنطن منفردة على قمة الكون، وتقود موجة متواصلة من السيطرة والهيمنة، كان من أبرز نتائجها، على صعيد منطقة الشرق الأوسط عموماً والمنطقة العربية خصوصاً، الاعتراف الدولي بالكيان الصهيوني. في الواقع، استشعر الغرب، ومعه الكيان الصهيوني، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، انتصاراً «حاسماً». وبلسان عدد من المفكرين والمنظّرين، أعلنت واشنطن «نهاية» التاريخ، لمصلحة نظامها، بالمعنى الاقتصادي والأمني والعسكري والسياسي والثقافي والسلوكي. بطبيعة الحال، لم يصبح العالم «أفضل» بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته، بل إنّ مبالغة واشنطن خصوصاً، بالانتصارية والتفرد، جعلها تتحوّل إلى امبراطورية شريرة وإرهابية للاستغلال والجشع والقهر، أكثر من أي مرحلة في التاريخ.

نتيجة لذلك، فإنّ عوامل عديدة، من بينها المنافسة والصراعات والتطور الاقتصادي والدفاع عن المصالح الوطنية، أطلقت، أخيراً، موجة جديدة من رفض الأحادية، بدأتها موسكو بقيادة فلاديمير بوتين، بعد احتلال العراق عام 2003، وتكرست في سياسة روسيا الوطنية الخارجية، بدءاً من عام 2006. من جهتها، تواصل بكين، بقوة، مشروع النهوض التنموي والإنتاجي، الذي جمع ما بين دينامية السوق وأفضليات التخطيط المركزي والقطاع العام. وقد أنتجت تحالفات موسكو وبكين، سواء تلك التي تتم من خلال مبادرات منفردة أو منسقة بينهما، دينامية جديدة في العالم، انبثقت منها تكتلات قارية ودولية، أبرزها تجمّع دول «البريكس». وفي خضمّ تلك التحولات، برزت، كذلك، مبادرة ريادية استراتيجية من الناحيتين الاقتصادية والتجارية (بمدى يشمل 67 دولة)، عُرفت باسم «الحزام والطريق»، كما عززت موسكو مشاركاتها الدولية، الأمنية والعسكرية والسياسية، عبر التدخل في سوريا في أيلول عام 2016، مساهِمةً، بشكل فعّال، في إحباط مشروع السيطرة الأميركية - الصهيونية على دمشق. وفي السياق نفسه، تندرج العملية العسكرية الروسية الخاصة والاستباقية، ضد استفزازات ومشاريع الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، الذي كان قد تحوّل وفريقه إلى أداة في يد واشنطن في أوكرانيا.

لذا فإن التحركات الروسية والصينية المشار إليها، تنضوي بمجملها تحت عنوان رفض التفرّد الأميركي والدعوة إلى عالم متوازن ومتعدد الأقطاب. تزامناً مع ذلك، تبلور دور إقليمي مثابر للجمهورية الإسلامية الإيرانية في مناهضة مشاريع السيطرة الأميركية - الصهيونية على المنطقة العربية. واكتسب هذا الدور أهمية كبرى نظراً إلى الدعم الكبير الذي قدمته طهران للمقاومات العربية، جنباً إلى جنب النجاحات التي حققتها في حقول إنتاج الأسلحة الدفاعية المتطورة، وعلى رأسها الصواريخ والمسيّرات. يُضاف إلى ما تقدّم، العلاقات المتنامية باستمرار التي نجحت الجمهورية الإسلامية في إرسائها مع موسكو وبكين، ما أنشأ نقطتَي استقطاب جديدتين في العالم، في نطاقهما ترتسم خريطة الصراعات الأساسية الراهنة في كل العالم.

بناءً على ما تقدم، بالإمكان القول إنّ الولايات المتحدة الأميركية تُقاتل، حالياً، بضراوة للدفاع عن سيطرتها وهيمنتها الهائلتين في كل أنحاء المعمورة، بأشرس الوسائل وأشدّها بربرية. بدوره، فإنّ الكيان الصهيوني الذي انبثق من رحم الأساطير والعنصرية والعدوان، وفي كنف الرأسمالية الإمبريالية، يقاتل اليوم من أجل ترسيخ مشروعه العدواني الاغتصابي في كل فلسطين والمنطقة وتوسيعه، بدعم شرس من رعاته في واشنطن والغرب الاستعماري وأدواتهما المحليين. بصورة أعمّ، فإنّ «طوفان الأقصى»، ومن ثمّ حرب غزة ولبنان، هما محطّتان مهمتان ومشتعلتان في الصراع الكوني الآنف الذكر.

نسبية الانتصار والخسارة:

أحد أسباب التريّث في تقييم الحرب بين المقاومة والعدو الصهيوني، أن هذه الحرب لم تنتهِ تماماً بعد. ذلك، ببساطة، لأن الأسباب التي أدت إلى حصول «طوفان الأقصى»، ونعني بذلك «طوفان» التطبيع وآخره مع قيادة المملكة السعودية (قبيل 7 أكتوبر 23)، على وشك أن يُستأنف حالياً، وإن بوسائل بالغة الهمجية، اعتمدها العدو، وبرَّرتها واشنطن، ووفَّرت له ولها، مع عتاة حلفائها الغربيين والمتواطئين العرب، كل أسباب المضي في العدوان لأكثر من 14 شهراً!  إلى ذلك، فإن «حرب الإسناد» في لبنان التي حوّلتها تل أبيب إلى حرب برية، بهدف تصفية «حزب الله»، لم تضع أوزارها بشكل راسخ بعد، بسبب أن حكومة المتطرفين الفاشيين، بقيادة نتنياهو، قد أضافت إلى البُعد الإقليمي للصراع، بما هو صراع على المنطقة وثرواتها وأسواقها وموقعها ومصائرها، بعداً تلمودياً جامحاً يمسك أنصاره، في الحكومة الحالية، بمعظم القرار في كيان العدو. إلى ذلك، فإن التوليفة التي اعتمدتها واشنطن، في الشكل والمضمون، لوقف إطلاق النار الذي طلبته إسرائيل وأعلنه الرئيس بايدن في 27 تشرين 2 الماضي، هي عملية مفخّخة لتمكين جيش العدو، المرهق والذي تكبد خسائر فادحة في غزة ولبنان خصوصاً، من أن يحقق في ظل وقف إطلاق النار ما عجز عن تحقيقه أثناء القتال.

هذا الأمر، مقروناً بخروقات جيش العدو الـ 60 الجسيمة والدامية والشاملة (حتى منتصف الأسبوع الحالي)، يشير إلى المنحى الخطير والتآمري والعدواني الذي تتواطأ على تمريره واشنطن (الوسيطة)، والموجّه، أساساً، ضد لبنان وجيشه وشعبه وسيادته. وليس فقط ضد المقاومة. علماً أن ذلك لم يواجه بشكل حازم من قبل الحكومة اللبنانية. وهو يهدد، فعلاً، بانهيار وقف إطلاق النار الذي يؤكد نتنياهو أنه محدود، أو اختباري، خلال 60 يوماً. مع ذلك، لا بدَّ من تقييم ما حصل من جولات حتى الآن. لعل أول ما ينبغي ملاحظته في كل تقييم موضوعي وأخلاقي (لأن الأخلاق في عالم السياسة هي أحد أبرز شروط الموضوعية) أن المقاومين في لبنان، وقبلهم - حتى ما بعد وقف إطلاق النار بين العدو والمقاومة في لبنان - مقاومو غزّة، قد سجّلوا بطولات مدهشة: بكفاءة وإصرار وإرادة، فاجأت العدو قبل الصديق. وهذا إن دلَّ فعلى أن هؤلاء المقاومين هم أبناء أو أصحاب قضية حفّزت لديهم عظيم التضحيات والصمود والثبات.

رغم الخسائر الهائلة، وتفوّق العدو ووحشيته التي جعلت حربه حرب إبادة على المدنيين والعمران والحياة كما لم يحصل، بمثل هذه الضراوة والمدة والأدوات، في تاريخ كل الحروب. إن ذلك كان هو العامل الأساسي في تحقيق انتصار، نسبي على الأقل، وهذا ما حصل فيما يخص المقاومة التي أفشلت أهداف العدو، وإن لم تتمكن من تعطيل قدرته على الدمار والإرهاب والقتل واستهداف ملايين الناس: في غزّة أولاً، وفي لبنان ثانياً. دخلت المقاومة في لبنان هذه الحرب من موقع هجوم استباقي (دفاعي في الجوهر)، الأمر الذي عمَّق الانقسام الداخلي في بلد ترفع نسبة وازنة (ومقررة غالباً) من سياسييه وفعالياته المؤثرة، شعار «الحياد»، الموجّه أساساً ضد أي دور لبناني مناهض للسياسات الغربية عموماً. ثم إن الأزمة الطاحنة التي ضربت لبنان واللبنانيين بسبب النهب والفساد وعقم السياسات، والتباس موقف المقاومة منها تبعاً لأولوياتها، وحملة واشنطن لإلقاء مسؤولية الأزمة على سلاح المقاومة، قد شكّلت عامل ضغط على كل قرار بالغ التكلفة، كما هو الأمر بالنسبة إلى قرار «إسناد» غزة.

وبالفعل خاض العدو حربه ضد المدنيين اللبنانيين، كما حصل في غزة، وفي كل المناطق التي تشكل بيئة حاضنة للمقاومة. زاد في الصعوبات أن المقاومة كانت وحيدة على الأرض: حيادٌ مطلق للجيش وقوى الأمن، وكأن المعركة في بلدٍ آخر. عجزُ أي فريق وطني لبناني عن الإسناد والمشاركة بشكل ولو جزئي. تعاظمُ التآمر الداخلي بتحريض من واشنطن خصوصاً، لإضعاف المقاومة وتوهين جمهورها تمهيداً للانقضاض عليها لاحقاً، بعد ضربها عسكرياً كما كانت تأمل وتخطط تل أبيب وواشنطن معاً. لم تفعل الغارات القاتلة فعلها المنشود. لقد صمد جزء كبير من جمهور المقاومة وداعموها. في السياق لم تنجح، بشكل مؤثر، حملات التحريض على المقاومة في مدة الحرب. أول الأسباب، الموقف الشعبي والسياسي السلبي من العدو ومن جرائمه خصوصاً في غزّة. الثاني، القلق من اندلاع فتنة داخلية كان يخشاها الجميع ولو تظاهر البعض بعكس ذلك. لعبت دوراً مهماً أيضاً، في هذا الصدد، مواقفُ المقاومة نفسها لجهة حدود ومحدودية المواجهة في مرحلة «الإسناد» تقليصاً للخسائر العامة، وفي الصمود والمواجهة الباهرة في المرحلة الأخيرة.

هذا إلى مواقف مسؤولة لعدد من القادة من بينهم الزعيم وليد جنبلاط، ووسطية «التيار الوطني الحر»، والمناخ البيروتي والطرابلسي المتعاطف مع غزّة سياسياً والرافض لدعوات الفتنة. بيد أنه ينبغي التوقف، في هذا المجال، عند مسألة ما برز من خلل فادح في يقظة وحذر المقاومة، ومن اختراقات خطيرة تقنية وبشرية، في صلب أمنها. وهو خلل استمر واستشرى وتفاقم إلى درجة بالغة الخطورة وباهظة الأثمان على كل صعيد: منذ البدايات، وحتى اغتيال القائد الكبير الشهيد السيد حسن نصرالله! هذا إلى ما تبدّى من عدم التنسيق الكافي والضروري، بشأن إطلاق عملية «طوفان الأقصى» بين فرقاء «المحور»: لبلورة خطة مشتركة وشاملة، ولوضع «وحدة الساحات»، بشكل جدي، موضع التنفيذ الكامل، ولامتلاك تقدير صحيح، ولو نسبياً، بشأن التوازنات وردود فعل العدو وداعميه.

أمّا بالنسبة إلى الاتفاق وبنوده، فهو قد جاء على صورة الوسيط الأميركي، وضعف الموقف الرسمي اللبناني ممثّلاً بموقف الحكومة ورئيسها خصوصاً. كما جاء مشوباً بالتأثير السلبي للخسائر المشار إليها آنفاً، مرة في بعض البنود، وعموماً في مرحلتي التطبيق والرقابة: بقيادة مباشرة من الأميركي أيضاً! إن «الوساطة» الأميركية هي، دائماً، الوجه الثاني المكمِّل والاحتياطي للعدوان. كل ما جرى، منذ وقف إطلاق النار حتى اليوم، يؤكد ذلك، دون الحاجة إلى الاستفاضة فيما حصل. إنّ ما بدا وكأنه وقف إطلاق نار من طرف واحد، وتداركته قيادة المقاومة جزئياً، لم يكن سوى البداية في محاولة متكاملة العناصر والمراحل، لكي تحقق إسرائيل، بإدارة «الوسيط» الأميركي، بعد وقف إطلاق النار، ما عجزت عنه في أتون المواجهة. بذلك تكون الانتهاكات جزءاً أصيلاً من الاتفاق نفسه! تخوض واشنطن المعركة الآن، ومن الداخل اللبناني: بالتحريض على المقاومة، وبتغذية التناقضات الداخلية، وبمحاولة السيطرة على المواقع الأساسية، السياسية والأمنية، في مؤسسات الدولة، وبالتحكّم في إعادة الإعمار، وبالتهويل باستئناف الحرب ... إذا لم يتم نزع سلاح المقاومة بالطرق السياسية.

مرحلة تحرّر وجبهات مُواجهة:
المرحلة الراهنة، حيث الانتصارات والانكسارات النسبية، والمفتوحة على كل أنواع الصراع، تحتاج تناولاً أكثر تركيزاً، لجهة السمات والمهمات، خصوصاً بعد التدهور الدراماتيكي للوضع في سوريا. فبعد تحديد موقع الصراع في لبنان بوصفه جزءاً من الصراع في منطقة الشرق الأوسط الذي هو، بدوره، جزءٌ من صراع دولي، طرفه الأول الولايات المتحدة وحلفاؤها وأتباعها، وطرفه الثاني منافسوها وخصوم سيطرتها الاستعمارية، في كل أنحاء العالم. حاولت البرهنة، بشكل موضوعي، على أن محصلة وقف إطلاق النار بين العدو الإسرائيلي ولبنان والمقاومة، هي شبه تعادل في الأرباح والخسائر. وللتحديد أكثر، في هذه المرحلة، وبموجب هذا التوصيف، فإن الصراع في لبنان، بين المقاومة والعدو الصهيوني، إنما هو صراع مستمر، رغم وقف إطلاق النار، في محاولة مكشوفة من العدو وداعميه («الوسيط» الأميركي خصوصاً) لتمكين العدو من تحقيق أرجحية على حساب المقاومة ولبنان. وهو كذلك مستمر كونه جزءاً من المعركة المستمرة، بدورها، وبضراوة، بين الشعب الفلسطيني خصوصاً، وبين العدو الصهيوني وشركائه في حرب الإبادة.

أي إنه، بالمعنيين العام والخاص، صراع متواصل، منذ انطلاق عملية «طوفان الأقصى» التي تخضع، هي أيضاً، للعلاقة بين المحتل وبين الشعب الذي ابتلي باستعمار استيطاني فُرض عليه وعلى وطنه: بالتآمر وبالعنف والتهجير والقمع والمطاردة ولا يزال. أكَّدت عملية «طوفان الأقصى» بأن القضية الفلسطينية حيَّة في سواعد أصحابها وضمائرهم وفي تضامن ومشاركة، قوى وجهات تبنّت أولوية القضية الفلسطينية ومركزيتها في الصراع مع العدو الصهيوني وداعميه. وحيث أن الشعب الفلسطيني، في هذه الجولة من الصراع، قد صمد صموداً أسطورياً في مواجهة آلة الحرب والقتل والدمار الإسرائيلية المدعومة بالكامل من واشنطن والمعسكر الأطلسي، فقد انتسب كفاحه، في الأسباب والمجريات، إلى الصراع الدولي العام أكثر من أيِّ وقتٍ مضى.

ثم أن هذه المرحلة من الصراع قد أكدت، بأكثر الأدلة إقناعاً وإيلاماً وأذية، أن المعركة لم تكن، وليست ولن تكون، فقط، مع الاحتلال الاستيطاني الصهيوني وخلفه مجمل الحركة الصهيونية العالمية، بل هي، أساساً، مع معسكر واشنطن الاستعماري الإمبريالي الذي أسس لنشوء الكيان الصهيوني بالوعد المشؤوم الشهير عام 1917 في ظل الانتداب البريطاني على فلسطين وجزء من المنطقة. وهو قد رعى عملية نشوء ذلك الكيان وأمدّه بأسباب القوة في كل الحقول. كذلك فعلت واشنطن حين أزاحت لندن عن صدارة القوة والتوسع في العالم، لتصبح هي القوة الراعية والداعمة للمشروع الصهيوني في فلسطين، بكل الوسائل على غرار ما شهده العالم بأم العين ولا يزال، من دعم خاص شامل للعدوان الصهيوني بما يفوق الشراكة، إلى تأكيد أن إسرائيل هي أداة مباشرة، وأساسية، على صعيد منطقة الشرق الأوسط لخطة العدوان الأميركية: للسيطرة عليها بكل الوسائل، بما في ذلك الاحتلال والعنف والشرذمة والتفتيت، وآخر النماذج ما حصل قبل أسبوع في الشقيقة سوريا.

إنّ سمة هذا الصراع الدولي والإقليمي والمحلي، هي سمة تحررية عامة. وحيث أن قوى العدوان والاستعمار موحَّدة، عموماً، في توجهاتها وخططها عبر أطر ومؤسسات سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية ذات طابع إقليمي أحياناً، ودولي عموماً، فإن القوى الأخرى تفتقد تلك الوحدة بسبب تنوعها وتباين ظروف نضالها ومنطلقات توجهاتها وبرامجها. وهي تقع في تصنيف لينين الشهير تحت عنوان «الشعوب المضطهدة» وإن شملت حكومات تعاني من التسلط والنهب من قبل الرأسمال المعولم، أو حتى دول تمسك بالسلطة فيها طغم محلية تابعة وعميلة تلعب دوراً خطيراً في استرهان بلدانها وفي خدمة مشاريع السيطرة الاستعمارية في الحقول كافة. إن الجامع التحرري العام هو الحافز المحوري والجوهري من أجل صياغة برامج تحررية محلية ذات بعدين إقليمي وأممي بالمعنى النضالي المشترك: ضد العدو الأساسي الواحد والموحّد وضد أدواته في المرحلة التاريخية الراهنة.

أمّا إطار العمل أو صيغته المناسبة، فهي «الجبهة الوطنية». وهي صيغة يجتمع أطرافها المتنوعون، وحتى المتباينون في الخلفيات الفكرية أو الإيديولوجية أو الطبقية، في مشروع عمل مشترك ذي أولوية أساسية ومشتركة وحاسمة في توفير فرص التغيير وانتصار مشروعه. هذا التوحد لا يلغي أبداً التنوع والتباين وحتى التناقض في الأهداف البعيدة فيما يتعلق بتطور البلد المعني في المستقبل بعد إنجاز المهمة التحررية المشتركة وذات الأولوية الحاسمة كما أشرنا.
في ظروف لبنان الراهنة، يتعاظم الخطر الإسرائيلي مقروناً بإعلان أطماع جغرافية تتناول كل جنوبه. وبسبب الصيغة الراهنة لوقف إطلاق النار المفخَّخ بنص سيئ ورقابة أميركية كاملة الانحياز للعدو وشريكة له في عدوانه، يصبح العدو واضحاً بشكل لا يترك مجالاً للالتباس أو الخطأ. وبعد أزمات متراكمة بسبب النهب والفساد، تكبر المخاطر وتتعاظم أهمية العمل التحرري المشترك. كان ينبغي المباشرة بذلك قبل الآن، في مواجهة النهب المحلي والتدخل الخارجي الذي أخطره التدخل الأميركي. ليس من المقبول بعد الآن المراوحة في الاستنقاع السابق الذي تعززه الفئويات وسوء التقدير بشأن المرحلة والأولويات. هذا أمر لا يحتمل التأجيل. والتجربة اللبنانية التي كانت رائدة في مجالات عدة أهمها مقاومة العدو وهزيمته بالمقاومة والتوحد الجبهوي مقرونين بالمبادرات والبطولات والتضحيات، تشكل أساساً لتطوير صيغ جديدة وفعّالة وفقاً لما تطلبه المرحلة الراهنة وما تحمله من مخاطر تتزايد كل يوم.

بين عامين واستعمارين!
إن ما ينطبق على لبنان ينطبق، أيضاً، على البلدان العربية الأُخرى، مع مراعاة الظروف الملموسة، الموضوعية والذاتية، في كل بلد. النضال التحرري، كما هو وطني، هو، بالضرورة أيضاً، قومي وشامل: ولا مبرر لأي تأخير في المبادرة والتحرك الهادف وفي المضي بثبات وتصميم. فقبل21  سنة، غزت الولايات المتحدة العراق واحتلته. الذرائع كانت مفبركة وكاذبة. القرار كان محض أميركي لم يقتنع به أو يشارك في تنفيذه سوى تابعة واشنطن الدائمة بريطانيا. أقر يومها «المحافظون الجدد»، برعاية وتبني الرئيس جورج بوش الابن، إستراتيجية «الحروب الاستباقية»، ونظرية «وضع قوة أميركا في خدمة اقتصادها» المعولم واحتكاراته العابرة للقارات. وقع الاختيار على ما سمي ببناء «شرق أوسط جديد» واسع وممتد، من الباكستان إلى موريتانيا. البداية كانت من العراق (وقبله في احتلال أفغانستان) والنتيجة احتلال هذا البلد أيضاً، وتكريس استخدام القوة أداة محورية في النزاعات والعلاقات الدولية.

خابت المحاولة في العراق (ولاحقاً في أفغانستان). الخسائر كانت هائلة. أعقبها تعثر المغامرة الأميركية الإسرائيلية في لبنان عام 2006: عجزت إسرائيل عن تنفيذ الخطة الأميركية بتصفية المقاومة في لبنان، وفشلت واشنطن في إرهاب سوريا وإخضاعها. في أواخر عام 2011، كان موعد واشنطن مع تنفيذ قرارها بسحب جيوشها من العراق. الوجهة الجديدة كانت الشرق الأقصى حيث تنافس الصينُ واشنطن بقوة، متحولةً إلى ما يشبه مصنع العالم في الصناعات الأوسع استهلاكاً بوجه خاص. تبلورت في السياق، وفي ضوء فشل استخدام القوة، إستراتيجية «الحرب الناعمة»، فكانت سلسلة «الثورات الملونة»، وكان «الربيع العربي»، في محاولة لتحقيق ما عجزت القوات العسكرية عن تحقيقه بالغزو والاحتلال. من ابتكارات «القوة الناعمة» التفتيت. إثارة النزاعات البينية والداخلية. تغذية الانقسامات والعصبيات العرقية والطائفية والمذهبية. برز، في السياق، دور التطرف («داعش» و«الخلافة»، كصنيعة، بتزوير الدين والتدين، لتحقيق أهداف الإمبراطورية الأميركية. إنه شبه تكرار لتجربة أفغانستان، حيث تمكن «المجاهدون»، المدعومون من واشنطن وتابعيها الخليجيين، من إحراج الجيش السوفياتي وإخراجه مضرجاً بالهزيمة والخسائر) ما أسهم في تسريع انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته في أول تسعينيات القرن الماضي.

المشروع الصهيوني في فلسطين والمنطقة، ونفوذ الحركة الصهيونية الهائل في مؤسسات القرار و«صنع» الرأي في الولايات المتحدة، استعادا، مرة جديدة، أولوية الشرق الأوسط (العربي خصوصاً) في الإستراتيجية الدولية الأميركية، بالإضافة إلى أولويتي مواجهة روسيا في أوكرانيا والصين في تايوان. مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض عام 2016، انطلق، مجدداً مشروع «صفقة القرن» مدموغاً ببصمة صهيونية، عبر تكريس نتائج الاعتداءات الإسرائيلية من قبل الرئيس ترامب وعبر اتفاقات التطبيع «الإبراهيمية» التي قادها، وانتقاماً لخيبات واشنطن التي عزّزها، بالدرجة الأولى، تصاعد النفوذ الإيراني من مدخل القضية الفلسطينية. في ذروة الصراع على سوريا، بين محور واشنطن ومحور طهران، تدخلت موسكو مدشّنة تجربة دولة عظمى في المنطقة عبر التدخل العسكري المباشر، دعماً للسلطة السورية في أيلول عام 2016، ما منع سقوطها في أيدي تشكيلة من المعارضين (بينهم وأخطرهم تيارات إرهابية متطرفة من مختلف أنواع الإسلاموية) المدعومين من واشنطن والخليج والغرب عموماً.

تقدّم، في الموازاة، مشروع «الحزام والطريق» الصيني، مستهدفاً 67 دولة، وجاذباً أنظمة بعضها شديد الولاء لواشنطن، لاعتبارات المنفعة الاقتصادية، التي قد تأخذ بعداً سياسياً بعد توسُع وتوطد المشروع العالمي الطموح والمنافس. كان قلق واشنطن شديداً من النزعتين الروسية والصينية المناهضتين للتفرد الأميركي، ومن تعاون البلدين الكبيرين، ومن نشوء تكتلات وازنة تدعم محورهما في تصديه للهيمنة الأميركية: بشكل مباشر أو ضمني. في الأثناء، أيضاً، كان يتبلور «محور الممانعة» أو المقاومة الذي تتقدّمه إيران، والمناهض، هو الآخر، للسياسات والتوجهات الأميركية في الشرق الأوسط.
في صراع المحاور تلك، وبالارتباط الوثيق بالمحور المعادي لواشنطن في المنطقة، أدخلت عملية «حماس» باسم «طوفان الأقصى»، الصراع في طور جديد فاجأ العدو الصهيوني وداعميه، وكان صرخة اعتراض مدوية ضد مسار التطبيع التصفوي للقضية الفلسطينية. استغلت تل أبيب العملية لتطلق مساراً إرهابياً دموياً تدميرياً سرعان ما تحول حربَ إبادة وفرت لها واشنطن والأطلسيون كل وسائل التبرير والقوة والدعم في كل المنابر والحقول ما دشّن مساراً إجرامياً لم يشهد التاريخ له مثيلاً. بمبادرات جريئة ونبيلة (ومغامرة إلى حدٍّ ما بمقاييس التوازنات التقليدية)، كانت حرب «الإسناد» في الجنوب اللبناني وفي صنعاء التي فاجأت، بدورها، العالم، في قدرتها على الفعل والاستمرارية والتصميم. صنع ثلاثي غزة والمقاومة اللبنانية وصنعاء (ومعهم شعب غزة خصوصاً) مأثرة مقاومة وصمود أدهشت العالم!

النظام السوري الذي تكاثرت عثراته وصعوباته وأخطاؤه، واشتد الضغط عليه لإسقاطه بالتآمر والحصار وبتغذية التدخل الخارجي والاستنزافي، كان الضحية الأولى والانتكاسة الكبرى. أغرى ذلك نتنياهو، رئيس حكومة الفاشيين الصهاينة، بالإضافة إلى انخراط واشنطن وفريقها في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في غزّة، بتعاظم الأطماع الصهيونية وفقاً للمخططات والخرائط التلمودية والصهيونية التأسيسية التوسعية والطموحة. عزّز ذلك فوز ترامب الكاسح ضد منافسيه الديموقراطيين. وجهة المعركة المباشرة العتيدة خوض معركة فاصلة ضد إيران وصنعاء (بدأت أثناء إعداد هذا المقال) تتورط فيها واشنطن: تدشيناً لـ«إعادة رسم خريطة «الشرق الأوسط»»، كما هدَّد وتوعّد رئيس الوزراء الإسرائيلي غداة عملية «طوفان الأقصى»، وتطبيقاً لمشروعي «الشرق الأوسط الجديد» و«صفقة القرن». هذه هي بعض أهم عناوين تقرير نهاية العام الذي يستنزف، الآن، أيامه الأخيرة، ومعها أعصاب شرفاء العالم بسبب هول معاناة أهل غزة، ليبدأ عام جديد سيكون امتداداً واستئنافاً للعدوان وللصراع على أوسع نطاق.

لبنان يكابد الآن وطأة ذلك، خصوصاً عبر محاولة واشنطن تبديد تضحيات مقاومته وشعبه، وتمكين الصهاينة من أن يأخذوا في الهدنة (وليس السلم الذي لم يأتِ أوانه بعد) ما لم يتمكنوا من كسبه في الميدان، نتيجة الصمود والمقاومة والتضحيات العظيمة. إن مزيجاً من الخطأ أو التواطؤ وسواهما، هو ما أدى إلى القبول براعي وشريك العدو في أن يكون، أيضاً، وسيطاً وحكماً! يستدعي ما تقدم، على المستويين القومي والوطني، اشتقاق إستراتيجية تحرير وتحرر ذات برنامج كفاحي وأولويات واضحة في خوض معركة، هي، في الحقيقة، معركة استقلال حقيقي في مواجهة الاستعمارين القديم والجديد، وخصوصاً قاعدتهما العدوانية في المنطقة: العدو الصهيوني.

 

كاتب وسياسي لبناني

 

عن (الأخبار) اللبنانية