اعتاد القارئ على التعامل مع شخصيات مُتخيّلة في الأعمال الروائية أو شخصيات متنكّرة وغير معروفة على الأقل، ولكن بعد صدور رواية «حوريات» للكاتب الجزائري الفرنكفوني كمال داود عن دار غاليمار، وبعد فوزها بجائزة غونكور، فوجئ القراء بفضيحةِ رفع دعوى قضائية ضدّ الكاتب كمال داود المتّهم بسرقة الملف الطبي، وأسرار شخصية تخص السيدة سعادة عربان، واحدة من ضحايا العشرية السوداء في الجزائر، التي كانت تتعالج عند زوجته الطبيبة النفسية، طبيبة محلّفة خانت ثقة مريضتها وأفشت لزوجها باعترافات جلساتِ علاجٍ دامت ست سنوات.
روت السيدة سعادة قصتها الكاملة في لقاء تلفزيوني عرضته القناة الجزائرية الأولى، المرأة التي فقدت صوتها وحبالها الصوتية بسبب محاولةِ ذبحها وهي طفلة عمرها خمس سنوات وتصفية عائلتها. روت عن معاناتها مع الصدمة لمدّة خمس وعشرين سنة، وهي تتعالج كي تتجاوز ما حدث وتتعافى من جروح الذاكرة. وعندما عرض عليها كل من الروائي وزوجته أكثر من مرة كتابة قصتها، رفضت بحزم لتفاجأ بعد فوزه بالجائزة برسائل واتصالات تخبرها بأنّ قصتها كلّها مكتوبة في الرواية بالتفاصيل. قالت إنّها لم تنم طوال ثلاثة أيام وهي تقرأ كيف تمّ تشويه قصتها وسمعتها، اعترضَت باكية وهي تثبّتُ نظرتها على الإعلامي: "هذه قصتي أنا، هذا تاريخي أنا، ويحق لي وحدي كيف ومتى أرويه".
التطابق بين شخصية «فجر» في «حوريات» والسيدة «سعادة عربان»
في رواية "حوريات"، منح الروائي كمال داود اسم "فجر" إلى بطلته، وغيّر لونَ عينيها من الأسود إلى الأخضر، واسم القرية التي حدثت فيها المجزرة، عدا ذلك نسخ الملف الطبي الخاص بسعادة عربان في الرواية، نسخ اعترافاتها وأسرارها وصراعاتها النفسية ووصف حتى وشوم جسدِها. تقول السيدة سعادة عربان إنّ تفاصيل شخصية فجر مطابقة لتفاصيل حياتها، بدءًا من نجاتها من عملية الذبح وهي طفلة إلى فقدانها لصوتها، جهاز التنفس المثّبت في عنقها، تبنّيها من قبل السيدة منتوري، صالون التجميل الذي تملكه، استقرارها في مدينة وهران، دراستها في ثانوية لطفي، محاولتها للإجهاض، وحتى مشاكلها مع أمها التي تبنّتها مذكورة في رواية "حوريات". تطرح هذه الرواية جدلًا كبيرًا في أحقية ما قام به كمال داود، وتناقش تساؤلات جادّة في المجال الإبداعي وتقاطعه مع الالتزامات الأخلاقية في الحياة الواقعية.
فمن ناحيةِ، هل يحق للروائي أن يغذّي موهبته ومخيلّته من تجارب غيره، مقابل مجد الأدب وخلود الأعمال وأسماء أصحابِها وعلى حساب آلام الآخرين وانتهاك خصوصيتهم؟ هل يكفي أن يغيّر ملامح البطلة والاسم كي يريح ضميره ويشعر بأنّه لم يقم بأية انتهاكات أخلاقية، خاصّة أنّ الأمر يتعلّق بملف طبي؟ وماذا سيحل بالأدب إن اقتصر الروائي على كتابة تجاربه الشخصية أو المتخيّلة فقط؟ ألا تحتوي جميع الأعمال وعلى مدى التاريخ شخصيات تم تغيير أسمائها وملامحها وحكايات حدثت فعلًا في الواقع، ولولا الكتّاب الذين قرأنا لهم لما وصلت إلينا، ولما كنّا لنعرف عنها شيئًا؟ كل هذه التساؤلات لم يحسم الكتّاب والقراء آراءهم بشأنها بين الإدانةِ والتأييد والخطوط الحمراء التي على الكاتب ألاّ يتخطّاها.
داود يصوّر مدينة وهران وكأنّها مقاطعة أفغانية
في بداية الرواية، يحدّد كمال داود الزمن الحاضر للرواية بتاريخ 16 يونيو/ حزيران 2018، في مدينةِ وهران، ويصف على لسان البطلة الأمكنة وبيئة المجتمع، ولكن من زاوية لا تشبهها خاصة في الزمن الذي ذكره، وهران الباهية، المعروفة بانفتاحها وبتوافد السياح إليها كل صيف، وبتنوع توجّهات سكانها، صوّرها على أنّها مقاطعة أفغانية بانغلاقها واختناق المرأة الخاضعة للرجل فيها، وتعميم ذلك على نساء المدينة، ليروّج للقارئ الفرنسي والأوروبي صورة غريبة عنها، مدينة تعامل فيها المرأة أفضل من الكباش بقليل. وتفكّر البطلة بإجهاض جنينها كي لا تتسّبب بمجيئه، ليس إلى هذا العالم فحسب، ولكن إلى هذا الوطن بالذات، المدينة التي لا تجد فيها النساء الوقت لزيارة صالون التجميل إلاّ يوم الجمعة وقت الصلاة، وقت انشغال الرجال بالعبادة في الظهيرة. ليهربن من المطبخ مسرعات برؤوسهن المحجبة والمحنية. نظرة ليست قاتمة فحسب بل خاطئة عن المدينة في الزمن الحاضر؛ فلو تم تصوير هذا في قرية محافظة من قرى الجزائر، ربما كان ذلك التصوير ليكون معقولًا، ولكن الحياة في وهران في سنة 2018 لا تشبه على الإطلاق الحياة التي صوّرها كمال داود في رواية "حوريات".
معركة بين حوريات الأرض والسماء
كتب كمال داود رواية "حوريات" بلغة فرنسية شاعرية جميلة وبوحٍ جريء وقوي على لسان جميع شخصياته التي تنقل معاناتها خلال العشرية السوداء من زوايا مختلفة. وينطلق السرد من بوح البطلة فجر التي تبدأ بمخاطبةِ من تسمّيها "حوريتي" ليتضّح بعد الصفحاتِ الأولى أنّ تلك الحورية الغامضة ليست سوى جنين في رحمها تشعر بأنّها أنثى وتخاطبها على امتداد الفصول في حوارات جوانية صامتة، تروي لها حكايتها ويومياتها ومشاعرها ورأيها في كل ما يحدث حولَها، ورغم أنّها تخطّط لإجهاضِها إلاّ أنّها تتمسّك بها في الوقتِ نفسه وتجد فيها القوّة وصوتَها المفقود.
هنالك شخصية أخرى تصفها البطلة بالحورية في الفصول اللاحقة هي "طيموشة" الأخت التي ذبحت معها في نفس الليلة، وتعيش بسببها عقدة ذنب الناجين من المذبحة. تتحدّث شخصية "فجر" أيضًا عن حوريات السماء اللاتي أعدّهن الله في الجنّة بلهجةٍ ساخرة وتوضح موقف البطلة، ليس من الإسلاميين فحسب الذين كانوا يقتلون باسمِ الدين، ولكن من الدين نفسه ورموزه وطقوسه وشعائره. يسترسل كمال داود في ذلك السرد الناقد والناقم على امتداد الصفحات المئة الأولى. وفي كثيرٍ من الأحيان كان ينزاح عن سرد حكاية تسردها الشخصية ليكتم صوتها ويطغى صوته، ولم تتصاعد الأحداث ويدخل في استعادة ليلة المذبحة وعرض شخصيات أخرى إلاّ بعد 138 صفحة من سرد متواصل ومكرّر، تصف شخصية فجر أيضًا بالحوريات زبوناتها اللاتي تزيّنهن وتقارنهن بالحوريات التي يتحدّث عنهن الإمام في خطبة الجمعة، لتبدو هذه المقارنات مثل حربٍ بين حوريات السماء وحوريات الأرض.
تقسيم الفصول والدوائر الزمنية
قسّم الروائي كمال داود الروايةَ إلى ثلاثةِ فصولٍ متفاوتة الصفحات، وكل فصلٍ يحملُ عنوانًا من كلمة واحدة: "الصوت، المتاهة، والسكّين"، كما بدأ يعدّد الأصواتَ الراوية ابتداءً من الفصلِ الثاني الذي يفتتحُ بهِ السرد صوت "عيسى الغرضي" السائق الذي سيقلّ فجر إلى مدينة غليزان ويروي لها حكايته مع الإرهابيين، ثم يتدّخل صوت "ميمون" حبيب "فجر" ويبدأ بسرد كيف تأثرت حياته ومصير عائلته بسبب الحرب الأهلية. في الفصل الثالث تظهر شخصيات جديدة ساردة تتمثّل في الإمام المتّهم بالمتاجرة بلحم الحمير في عيد الأضحى وشخصية حمرا الإرهابية التي ستروي حكاية اختطافها وإرغامها على الزواجِ من إرهابي. اعتمد كمال داود تقنية الفلاش باك في جميع فصول الرواية ولم يكن استخدامها كلاسيكيًا، إذ كان السرد يدور في دوائر زمنية تتقدّم وتتأخر.
يبدأ الفصل الثاني بحوارٍ بين فجر وعيسى في سيارته وهي حافية القدمين ثم يعود بالزمن إلى الخلفِ قليلًا ليصفها تائهة في الطريق السريع تبحث عمّن يقلّها، ثم يستعيد عيسى الصوت ليكمل الحكاية التي بدأها ليعيدنا الكاتب إلى نقطة البداية أين تمّ الاعتداء على فجر، وسرقة هاتفها وأموالها وسيّارتها. ويستمّر داود بتفكيك الزمن وتركيب ذاكرة الشخصيات مثل قطع البازل في الفصول المتبقية بتداخل الأصوات والحوارات، مانحًا الصوت مرةً للشخصيات الجديدة، ومرةً للبطلة التي تعلّق على ما يحدث مخاطبةً حوريتها.
العشرية السوداء وضحاياها تيمة جوهرية
في رواية "حوريات" قرّر كمال داود فتح أبواب الذاكرة التي أغلقتها السلطة ودعت الشعب إلى المضي قدمًا ليكون النسيان واجبًا والمصالحة خيارًا محتومًا لطيّ صفحةٍ دموية من تاريخ الجزائر. ولكنّ الكاتب يفكّر بأنّ هذه الحرب التي راح ضحيّتها عدد أكثر من المصرّح به يفوق مئتي ألف شخص لا يجوز أن تمحى وتنسى، والتاريخ عليه أن يذكر ما عاشه الناسُ من مآس، ومن فقدٍ ومعاناةٍ وتأثير تلك العشرية ما زال مستمرًا على الكثير من الضحايا ممّن فقد أهله أو بيته أو عمله أو أعضاءه أو عقله!
يعترض كمال داود على هذا الأمر بالتناسي ويؤكّد على ضرورة أن نسمع تلك الأصوات التي تمّ إرغامها على السكوت والصمود بدون أن يكون لهم فرصة التكريم أو الإضاءة على الخسارات الفادحة. في هذه الرواية، يسيطر موضوع محنة العشرية السوداء على كل فصول الرواية وجميع شخصياتها من ضحاياها، بدءًا من الطفلة فجر التي تمّت محاولة ذبحها وتصفية عائلتها وكانت الناجية الوحيدة؛ إلى عيسى الغرضي الذي نجا من حاجزِ أمني مزيّف، بإصابةٍ وعرجٍ في الساق واكتسب موهبة حفظ التواريخ وأسماء القرى والضحايا والمجازر، ليذكرها في كل جلسة ومحضر؛ إلى شخصية "ميمون" الذي تعرّض للنبذ بسبب الشك في نسبه، إن كان ابن الإرهابي الذي خطف أمه أو ابن العسكري الذي تم ذبحه وهو لم يولد بعد؛ إلى شخصية حمرا المراهقة الفاتنة التي اختطفها الإرهابيون من قريتها وتمّ تزويجها بالأمير ثم خليفته بعد اغتياله وما عانته حمرا بعد هربها من المجتمع الذي نبذها ورفضها وسمّاها بالإرهابية لتعاني من الفقر والجوع والتشرّد؛ بالإضافةِ إلى شخصيةِ الإمام الذي لديه أخ إرهابي توأم سُجِن بسببه وتعرّض للتعذيب ولوحق في كل مكان حتى وجد لنفسه ملاذًا في قرية "حد الشكالة".
في هذه الرواية يتحدّى كمال داود السلطة ويتحدّى النسيان، يمنحُ الصوتَ لمن لا صوتَ له ويعيد كتابة التاريخ بناءً على التجارب التي عرفها عن الضحايا والتغطيات الصحافية التي كان يقوم بها خلال عشر سنواتٍ من الحرب في الجزائر. ثيمة العشرية السوداء كانت ثيمة قوّية وأليمة وصادمة، وهي من دون شك أحد أسباب فوز رواية "حوريات" بجائزة الغونكور.
عن (ضفة ثالثة)