يسعى الباحث هنا إلى الكشف عن هذه الصفحات المهمة من الذاكرة الفلسفية العربية التي طواها النسيان، ليميط عنها اللثام، ويكشف عن الإسهام المتفرد لبديع الكسم في هذا المجال والذي اعترف به الغرب، بينما تناسته الذاكرة العربية لأن آفة جارتنا النسيان. لهذا نعيد توجيه النظر إليها في باب علامات.

«البرهان في الفلسفة» في محاولة فهم المهمّة الفلسفيّة

أوس يـعـقـوب

 

صدرت أخيرًا عن المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة "طي الذاكرة"، طبعة جديدة من كتاب "البرهان في الفلسفة"، للمفكر السوريّ محمد بديع الكسم (1924 ــ 2000). صدر الكتاب أوّل مرّة، باللغة الفرنسيّة، عن "دار المطابع الجامعيّة" Presses universitaires de France, PUF  في باريس، عام 1959. وكان عنوانه "فكرة البرهان في الميتافيزيقاL'idée de preuve en métaphysique"  (رسالة دكتوراة للمؤلّف الكسم). وفي عام 1991، نشرته وزارة الثقافة السوريّة في دمشق، باللغة العربيّة بترجمة لمواطنه جورج صدقني، أستاذ الآداب في "جامعة دمشق"، الذي صدّر الكتاب بمقدّمة غنيّة وضافية تحدّث فيها عن مؤلّف الكتاب، وعن خمس عشرة مقالة ومحاضرة له. وللكتاب باللغة بالفرنسيّة أكثر من طبعة نُشرت في فرنسا وسويسرا، نتيجة الترحيب اللافت للانتباه الذي وجده من الفلاسفة وأساتذة الجامعات والمتخصّصين، والذي أشار إليه المترجم صدقني في مقدّمته للترجمة العربيّة.

بحسب الناشر، يُعَدّ كتاب "البرهان في الفلسفة" من أهمّ الكتب الفلسفيّة في الأعوام الستّين الأخيرة، وستتيح إعادة نشره إمكانيّة الاستفادة من منهجيّة الكسم ورؤيته الفلسفيّة، وهو كتاب يشتمل على سمات بحثيّة تمكّن من معرفة كلّ ما هو جديد في الفلسفة والمنطق ومتابعته؛ ومن أجل هذا كانت حيازته ضرورة لكلّ فيلسوف، أو طالب علم في حقل الفلسفة.

إسهام الكسم لفهم المهمّة الفلسفيّة
صدرت حول هذا الكتاب تعليقات قيّمة لمفكّرين أوروبيّين كشفت أهمّيّة هذا المنجز في حقل الفلسفة، نذكر منها قول جان إيكول: "لا نستطيع إلّا أن نثني على الشجاعة التي أظهرها السيد الكسم، وعلى الطريقة الواضحة والدقيقة التي عالج بها الموضوع"، وما قاله بورجلان: "الكتاب إسهام جيد في جهد الوضعيّين والمناطقة والمؤرّخين لفهم المهمّة الفلسفيّة". أمّا ليڤراز فيرى أنّ "هذا الكتاب الممتاز دفاع عن الفلسفة، وربّما وجب على كلّ مهتمّ بالفلسفة أن يقرأه"، فيما قالت "مجلة العلوم الفلسفيّة واللاهوتيّة": "الكتاب يدحض موقف الفيلسوف بيرلمان (حاييم)، والمؤلّف الكسم يدافع في هذه المسألة عن حقوق الفلسفة". وذهب المفكّر البريطانيّ جوزيف بوخنسكي إلى أنّه "الآن نستطيع القول إنّ العرب عادوا بعد غياب طويل يساهمون في العمل الفلسفيّ، ويقومون بدورهم في بناء الحضارة الإنسانيّة".

إضافة إلى ما سبق، استشهدت أهمّ مطوّلات المؤلّفات الفلسفيّة بفقرات من هذا الكتاب، مع التأييد والتقريظ، مثل "فينومينولوجيا الموجود" لغابوريو، وغيره. واستنادًا لكلّ ما ذُكر من ثناءات وتقريظات على هذا الكتاب عمل المركز العربيّ على إعادة نشر الكتاب في الشهر السابع من هذا العام، لأنّه لا يجوز أن يطّلع عليه الأجانب، والفرنسيّون بوجه خاصّ، وأن يبقى العرب غافلين عن أنّ فيلسوفًا كبيرًا منهم رفع شأن الفلسفة عاليًا في الأوساط الفكريّة والثقافيّة في العالم الخارجيّ، بحسب المركز العربيّ. ووفقًا لقول الباحث والأكاديميّ السوريّ، الدكتور علي محمد إسبر، عن الكسم، فإنّه "يمكن القول من دون مبالغة إنّنا بإزاء فيلسوف سوريّ عالميّ الرؤية لا يقلّ أهمّيّة عن مارتن هيدغر، ولا عن برتراند راسل، وغيرهما من أعلام الفلسفة الغربيّة المعاصرة؛ ولكن للأسف الشديد يبدو أنّ هنالك غيابًا كبيرًا لفكره الفلسفيّ النادر والفريد عن المشهد الثقافيّ العربيّ"!

ويرى إسبر أنّ قراءة هذه الأطروحة/ الكتاب "أشبه باكتشاف أبجديّة ثانية في أوغاريت؛ ولكنّها أبجديّة تدفعنا إلى إعادة قراءة تاريخ الفلسفة على نحو مغاير للقراءات السائدة، غربًا وشرقًا، على نحوٍ تامّ؛ بل تجعلنا نكتشف عقلًا فلسفيًّا عبقريًّا حدّد على نحو حاسم ماهيّة التفكير الفلسفيّ".لقد طرح الكسم في كتابه هذا الفكرة المركزيّة لكلّ فصلٍ في بدايته، ثمّ أوغل في مضمونه المباشر، بعرض الفكرة وإيضاحها وفحصها وتتبّعها في تاريخ الفلسفة، ومناقشة الاعتراضات المحتملة عليها، وصبّ جهده الفكريّ على نظريات البرهان الفلسفيّ، لا على البرهان نفسه. وكان تعامله مع "تقنيِّي الفلسفة" أكثر من تعامله مع الفلاسفة أنفسهم، وكانت أعمال الفلاسفة مصدر الأمثلة التي استشهد بها لإثبات رأيه، وهي أمثلة أراد بها لفت انتباه القارئ إلى ضرورة الرجوع إلى موقف الفيلسوف، وليس تعليمه هذه النظريّة الفلسفيّة أو تلك، ولا تزويده بمعلومات عن هذا الفيلسوف أو ذاك. وكان أمله فيما ذهب إليه، أن يكون مؤلّفه الذي نستعرضه في هذه المقالة، عونًا على تبديد حالات سوء فهم، وإزالة أنقاض متراكمة في ميدان الفلسفة، وتعبيرًا عن تقدير مَن يرون في محبّة "الحقّ" شغل الإنسان الشاغل.

"الفيلسوف الصامت"
الفيلسوف السوريّ محمد بديع الكسم واحد من القامات الفكريّة السوريّة الكبيرة، أمثال ياسين الحافظ، وإلياس مرقص، وصادق جلال العظم، وجورج طرابيشي، والطيب تيزيني ... الذين يغلب في أعمال كلّ واحد منهم طابع، ومنطق، ويسود منهج، ويبرز منحى ... وقد سمّي ﺑ"الفيلسوف الصامت"، وهو ذو رؤية فلسفيّة أخلاقيّة، وكان متقنًا لأكثر من لغة أجنبيّةٍ (كالفرنسيّة والإنكليزيّة)، وملمًا بلغاتٍ أجنبيّةٍ أخرى، بالإضافة إلى إتقانه اللغة العربيّة لدرجةٍ جعلته أحد أعضاء "مجمع اللغة العربيّة" في دمشق، كما كان حريصًا على متابعة كلّ المستجدات الفكريّة والفلسفيّة العالميّة، وعلى إغناء طلّابه ممّا اغتنى به.

وُلد الكسم عام 1924، في حيّ (مئذنة الشحم) في مدينة دمشق، ونشأ في أسرة اشتهرت بالعلم والتقوى، فقد شغل والده الشيخ محمد عطا الكسم (1844 ــ 1938) منصب مفتي ديار الشام عام 1917، وبقيّ فيه حتّى وفاته. أنهى دراسته الثانويّة عام 1942، وعُين موظفًا في "المكتبة الظاهرية"، وقضى فيها عامًا، ثمّ سافر إلى مصر لينال الإجازة الجامعيّة في الفلسفة من جامعة فؤاد الأوّل عام 1947، ثمّ حصل على الدراسة العالية في الفلسفة عام 1948. ولما عاد إلى سورية عُين مدرّسًا في مدينة اللاذقية الساحليّة، ثمّ عضوًا في "لجنة التربيّة والتعليم" في دمشق، ثمّ اختير للتدريس في جامعة دمشق عام 1950. في عام 1954، أُوفد الكسم إلى جامعة جنيف في سويسرا، ونال شهادة الدكتوراة في الفلسفة عام 1958 بدرجة الامتياز في رسالته "البرهان في الفلسفة"، وكان عمرُهُ آنذاك أربعة وثلاثون عامًا.

عُين الكسم عند عودته من جنيف عام 1958 أستاذًا مساعدًا في قسم الفلسفة في جامعة دمشق. وفي عام 1959، سافر إلى القاهرة، وأمضى فيها عامًا واحدًا، رجع بعدها إلى دمشق ليدرّس في جامعتها، وصار أستاذًا عام 1968، وفي العام ذاته أُعير إلى جامعة الجزائر، ليسهم في خطة التعريب التي نهضت بها الحكومة الجزائريّة، ثمّ عاد إلى دمشق عام 1972. في عام 1981، أُوفد مدّة عام إلى فرنسا وسويسرا لمتابعة بحوثه الفلسفيّة، عاد بعدها إلى سورية ليتابع التدريس في الجامعة، إضافة إلى عمله في "هيئة الموسوعة العربيّة"، التي عيّن فيها بقرار جمهوريّ عام 1983 عضوًا في مجلس الإدارة المؤقّتة، ورئيسًا لقسم العلوم الإنسانيّة، وأسهم في وضع النظام الداخليّ للموسوعة مع إشرافه على كتابة بحوث الأجزاء الأولى ومراجعتها. وفي أثناء عمله في الموسوعة، وبتاريخ 17/10/1990، كرّمه "مجمع اللغة العربيّة" بضمه إلى عضويّة المجمع، والإفادة من خبراته على المستويين العربيّ والعالميّ، ولمدّة عشر سنوات تلت أدّى الكسم دوره مجمعيًّا متميّزًا إلى أن وافاه الأجل في الخامس من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2000، بعد مسيرة حافلة في التدريس والتأليف والترجمة، مؤثّرًا في أجيال من الطلّاب والباحثين العرب وغير العرب.

لم ينجز الكسم بعد أطروحة الدكتوراة أيّ مؤلَف فلسفيّ على الإطلاق، غير أنّه كتب عددًا من المقالات والمحاضرات نشرت في "مجلّتي "الثقافة" و"المعرفة" بدمشق، إضافة إلى ترجمته لكتاب "الخلق الفنّيّ: تأمّلات في الفنّ"، تأليف بول فاليري، صدر عن دار طلاس في دمشق، 1998. صدر عنه: كتاب "بديع الكسم"، أعده وقدّمه عزت السيد أحمد، وهو يشتمل على 22 مقالًا من مقالات الكسم، وطبعته وزارة الثقافة السوريّة عام 1994.

"البرهان في الفلسفة"... قيمة علميّة ومعرفيّة نادرة
بالعودة إلى كتاب "البرهان في الفلسفة"، المؤلَف الفلسفيّ اليتيم للدكتور الكسم، والذي أعاد المركز العربيّ طباعته، لقيمته العلميّة والمعرفيّة، وفي ظلّ ندرة نسخه وصعوبة إتاحته للعامّة، فإنّه يقع في 280 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا. وهو كتاب نادر الوجود كان ذائع الصيت لدى الجامعيّين العرب، وخصوصًا منهم طلّاب الكسم نفسه (كان يدرّس الفلسفة الغربيّة، والمنطق الرياضيّ، والمنطق الجدليّ عند هيغل، وغير ذلك)؛ ما جعلهم ينتظرون ترجمته بشغف، وهو شغف لم يقتصر على الطلّاب، بل شمل حتّى الأساتذة. وقد خصّه المفكّر السوريّ الراحل أنطون مقدسي في دراسة بعنوان "من المنطق إلى الميتافيزيقا"، نشرها في العدد (334) من مجلّة "المعرفة" السوريّة عام 1991.

الكاتب والسياسيّ السوريّ عبد الباسط سيدا، وقد كان أحد تلامذة الكسم في جامعة دمشق، يُرجِع كتابَ "البرهان في الفلسفة" إلى مذكرة في مادّة الفلسفة الغربيّة كان الكسم يدرّسها في ستّينيات القرن العشرين، عنوانها "الحقيقة الفلسفيّة". وكانت هذه المذكرة تشرح مفاهيم التوكيد والحكم (كلّ حكم هو صادق من مُصدِرِه)، والحقيقة وصاحبها والقضيّة (الحقيقة متضمّنة في حكم صاحبها، والتعبير عن الحكم هو القضيّة) ... إلخ. يقول سيدا: إنّ "الكسم كان يحتج على الأحكام المسبقة والمواقف الأيديولوجيّة فيها، لأنّها لا تتسق مع المناقشة الفكريّة التي تحترم خصوصيّة الفكر وحرّيّة التعبير".

أمّا الدكتور علي محمد إسبر فيرى أنّ الكسم استطاع في رسالة الدكتوراة/ الكتاب، "تقويض منطق البرهان في تاريخ الميتافيزيقا الغربيّة، فما أراد قوله هو أنَ حقيقة الوجود لا ترتبط على الإطلاق بنظريّات الفلاسفة الغربيّين وحدهم؛ بل يجب أن يسهم البشر كافةً في عمليّة كشف هذه الحقيقة، بأن تتمازج في هذه العمليّة الأساطير القديمة وروحانيّة الشرق وتصوّرات الشعوب الناطقة بلغة البانتو وعواطف أفراد القبائل البدائيّة"، مبيّنًا أنّ الكسم يؤكّد في سياق أطروحته أنّ "مهمّة الفلسفة الأساسيّة هي تحريرنا من الظلمات التي تحيط بنا من كلّ جانب، ولن نتحرّر منها إلّا إذا أسهم النوع الإنسانيّ كلّه بتنوّعه وتناقضاته واختلافاته بالمسير في طريق النور. وهذا يعني أنّ الكم الهائل من الحقائق الذاتيّة التي يصل إليها أفراد النوع الإنسانيّ على مرّ الأزمنة هي التي يجب أن تكوِّن مفهومنا عن الحقيقة".

إلى ذلك، يرى الباحث والمحاضر في الفلسفة والفكر العربيّ والإسلاميّ، الأكاديميّ السوريّ حسام الدين درويش، في مقالة له بعنوان "بديع الكسم… الفيلسوف المعلّم"، أنّه "على الرغم من أنّ التصوّر الذي يتبنّاه الكسم للفلسفة يمكن أن يؤدّي، من منظور العظم (جلال الدين)، إلى "أعماقٍ مرعبةٍ من اللاعقلانيّة المتطرّفة والعدميّة المغلقة واليأس المطبق"، فإنّ نصوصه الفلسفيّة القليلة جدًّا عمومًا، ونصّه الفلسفيّ الأبرز "البرهان في الفلسفة"؛ بعثت الأمل في وجود إسهامٍ عربيٍّ في الفلسفة المعاصرة إلى درجة القول إنّ الرسالة تمثّل عودة العرب "بعد غيابٍ طويلٍ إلى الإسهام في العمل الفلسفيّ، وبالتالي إلى القيام بدورهم في بناء الحضارة الإنسانيّة"". يضيف درويش: "في ذلك النصّ الفلسفيّ الخالد، يغيب أو يُغيّب التاريخ، لتحضر الفلسفة بوصفها الميتافيزيقا، أيّ بوصفها ’البحث عن أكثر الحقائق أهمّيّة في حياة الإنسان الروحيّة’. ثمّة انتقاداتٌ كثيرةٌ يمكن توجيهها إلى "فلسفة الكسم"، تبدأ بلا ــ تاريخيّتها ولا تنتهي بذاتويّتها ونفسانيّتها، لكن كلّ تلك الانتقادات، وغيرها، لا تقلّل، من وجهة نظري، من فلسفيّة تلك الفلسفة، ولا من غناها بالكثير من الأفكار المثيرة والمهمّة والمعلومات النادرة الوفيرة والمفيدة".

من جهته، يؤكّد الشيخ مظهر الجركش، المدير الثقافيّ لـ"مركز الدراسات الإسلاميّة" في دمشق، أنّ أقوال الدكتور الكسم تعبّر عن نفسها من خلال كتاباته، فهو يستهل كتابه "البرهان في الفلسفة" بالحديث عن القضيّة الكبرى في الفلسفة، وهي البحث عن الله، فيقول على لسان آينشتاين: "إنّ شيئًا ما يتحرّك في الكون"، وكأنّه يقول: "إنّ في هذا الكون كائن يتحرّك ينظمه لا ندري كنهه". وبحسب الجركش، فإنّه "لمّا كان الدكتور الكسم لا يريد أن يطرح فلسفته ابتداءً في كتابه "البرهان في الفلسفة"، تجنبًا لإثارة غلوّ المغالين، وإبطال المبطلين، وهو ابن البيئة المحافظة، ويعلم دوافعها ومنازعها، ويعلم أنّ الناس مستعدين أن يذهبوا إلى أقصى التطرّف لو شعروا أن أحدًا يمس المقدّس، وأنّ هنالك من هو على استعداد أن يضحي بالآخر إذا خالفه العقيدة، لذا فإنّنا نراه يتكئ على الفلاسفة الآخرين ليوصل لنا الفكرة الأساس لنظريّته القائلة: ’إنّ كلّ قضيّة يطرحها إنسان هي صحيحة ما دام قانعًا بها وقادرًا على البرهان عليها برهانًا قاطعًا. ولكن على ألسنة أرسطو مرورًا بابن سينا، وكارناد، وآير، وغيرهم من الفلاسفة والمفكّرين"، لافتًا إلى أنّ "من يقرأ كتابات الكسم يستشعر أنّ الرجل آمن إيمانًا عميقًا بالإنسان، فأحبّ كلّ الناس، وآمن بالوطن، فأعطاه كلّ جهده، وآمن أنّ معرفته أمام المعرفة الكلّيّة ضئيلة فتواضع، وكان مهذبًا كلّ التهذيب، ولم تستطع كلّ الفلسفات الميتافيزيقيّة أن تبعده عن التفكير أنّ في هذا الكون شيئًا يتحرّك يجعل فيه هذه النظام الفائق الاتّزان، والعصيّ على العقل والبرهان. ولم تقنعه فكرة أنّ الإنسان وليد الصدفة، وأنّ الحياة الإنسانيّة لا يمكن أن تكون بلا معنى، فالتقى بفلسفته مع كلّ فلسفات العالم، التي تدعو في نهاية المطاف إلى الحقّ والخير والجمال".

بدوره، يقول الباحث الأردنيّ الراحل، أسامة بركات، في محاضرة نظمتها "الجمعيّة الفلسفيّة الأردنيّة" في عمّان، في آب/ أغسطس 2016، إنّ الكسم، "انتزع اعترافًا مبكرًا بأصالة وعمق نتاجه الفلسفيّ"، وتابع قائلًا: إنّ "المفكّر الكسم حدّد معنى الفلسفة ولغتها، وبحث في الحقيقة الفلسفيّة، والنزعة الإنسانيّة وخصائص التفكير الحرّ، وفلسفة الجمال ودور الفلسفة في توحيد الفكر وإنجاز ثورة ثقافيّة وإنسانيّة، إضافة لكثير من البحوث حول بعض الفلاسفة، كهيغل، وغيره". يضيف بركات: "إنّ الكسم يرى في فلسفة القوميّة العربيّة عقيدة اجتماعيّة سياسيّة ترتكز لمبادئ الحقوق الطبيعيّة للإنسان، ولرابطة المحبّة الإنسانيّة، وتهدف في أولى أولويّاتها للإصلاح الاجتماعيّ، والارتقاء الأخلاقيّ العربيّ. ولمّا كانت القوميّة العربيّة تعبّر عن ضمير الإنسان العربيّ المتيقّظ، وتتضمّن دعوة حضاريّة لترقي المجتمع العربيّ والإنسانيّ، فهذا سبب كافٍ ليبادر المجتمع الإنسانيّ بدعم هذه الدعوة، كما أنّ هذه الدعوة تستلزم نضالًا قويًّا أخلاقيًّا، وهذا النضال، أو الكفاح الأخلاقيّ، هو بعينه نشاط فلسفيّ تشترك فيه كلّ مكوّنات الأمّة".

إنكار واتّهام بالإقلال من الكتابة
لقد طرح الكسم في كتابه هذا أهمّ ما جاء في الفلسفات الإنسانيّة، وخاصّة التي تبحث في الميتافيزيقا، حتّى ليغدو من يفهم كتابه، كأنّه أصبح ملمًّا بالأساسيّات من الفلسفة. وفي صفحات قليلة العدد، مقارنة بغيره من الموسوعات الفلسفيّة، يتناول المفكر السوريّ في مؤلّفه هذا، آراءَ أكثر من 250 من المفكّرين والفلاسفة الغربيّين، أهمهمّ (هيراقليطس، وبارمنيدس، وسقراط، وأفلاطون، والقديس أوغسطين، والقديس أنسلم، وتوما الأكويني، ورينيه ديكارت، وباروخ سبينوزا، وجورج فيلهلم فريدريش هيغل، وإيمانويل كانط، وكارل ماركس، وألبرت آينشتاين، وهنري برغسون، وبرتراند راسل، ولودفيغ فتغنشتاين، وألفرد آير، ورودولف كارناب، وجان هرش، وغاستون باشلار... وغيرهم)، ومن العرب المسلمين (أبو نصر محمد الفارابي، وأبو علي الحسين بن سينا، وأبو حامد محمد الغزالي، وأبو الوليد محمد بن رشد، والشيخ محمد عبده، ومحمد إقبال، ومالك بن نبي، وربحي كمال، وسامي الدروبي ... وآخرين). وكان على معرفة حتّى بالفلاسفة المغمورين وأفكارهم، وهي معرفة تشهد على ثقافته الموسوعيّة، وسعة اطّلاعه في حقل الفلسفة؛ ينبئنا بذلك مترجم الكتاب جورج صدقني، الذي كان يدرس الآداب في جامعة دمشق خلال تدريس الكسم مادتَي الفلسفة العامّة والمنطق لطلّاب هذا الاختصاص.

يقول صدقني: إنّ "الكسم كان يفاجئ الطلّاب أحيانًا خلال تناوله آراء مشاهير الفلاسفة، مثل ديكارت، وهيغل، بعرض رأي فيلسوف تركيّ، أو ياباني، لم يسمع به أحد من قبل، وإنّ سعة اطّلاعه هذه حجزت له احترامًا خاصًّا لدى أساتذة الجامعة كلّهم، حتّى كان أكثرهم صرامة وهيبة إذا سُئل يجيب أوّلًا، ثمّ يحيل السائل على الدكتور الكسم". وينقل صدقني عن سامي الدروبي قوله له: "استفيدوا يا جورج، الأستاذ بديع أحسن أستاذ فلسفة في الشرق الأوسط". وعلى الرغم من الاعتراف الشامل بقدر الكسم، فإنّ ذلك لم يمنع من إيقاع الظلم به؛ فقد اتُّهم بالإقلال من الكتابة، وأُنكر عليه وضعه نهجًا منطقيًّا صارمًا لقياس الحقيقة، وامتلاكه فلسفة خاصّة به تمهِّد لفلسفة إنسانيّة تنفي التعصّب وتوطّد السلام، بتركها تقرير الحقيقة إلى كلّ إنسان؛ ما يفضي إلى تفاهم البشر واعتراف كلّ منهم بالآخر.

لكنّ مصادر عدّة تؤكّد أن إقلال الكسم من الكتابة ليس بتلك القلّة التي صُوِّرت. فعلى الرغم من أنّ ما قاله في محاضراته ودروسه على مدى أربعين عامًا كافٍ لملء عشرات الأسفار الضخمة، فإنّه كان ذا شعور مفرط بمسؤوليّة الكلمة، وهذا الأمر ليس عيبًا في شخصيّة الباحث، بل إنّه دليل على صدق التزامه بالحقيقة واستجلائها. ولا نرى ردًّا أبلغ على هذا الحكم الظالم في حقّ الكسم إلّا من خلال نظرة عَجْلى إلى مختلف كتاباته الواسعة التي امتدّت إلى ميادين الفلسفة والعلوم الإنسانيّة.
كانت أولى كتابات الكسم أثناء دراسته في جامعة القاهرة، حين نشر تلخيصًا لكتاب الفيلسوف الفرنسيّ هنري برغسون "التطوّر الخالق"، الذي يُعدّ أصعب كتبه، وكتيبًا عن الشاعر الفرنسيّ بول فاليري، ثمّ كتبَ في دمشق مقالتَين الأولى بعنوان "العاطفة القوميّة بين مزايا الأمّة وعيوبها"، والثانية "الإنسانيّة الصحيحة في القوميّة الصحيحة". وبعد تلك الفترة المبكرة نشر مقالة عنوانها "دور الفلسفة في توحيد الفكر العربيّ" في القاهرة، ثمّ مقالة عنونها بـ"الثقافة القوميّة والثقافة الإنسانيّة"، وقدّم محاضرة بعنوان "الشرق والغرب في فلسفة رينيه غينون"، كما كتب مقالة "الحقيقة الفلسفيّة" في مجلة "جامعة دمشق"، ومحاضرة عن "طاغور الفيلسوف" في ذكراه المئويّة، بيّن فيها فلسفة الهند عمومًا، ودعوتها إلى القضاء على الفرديّة، والتحرّر من الجهل، وكذلك مقالة بعنوان "مفهوم الوطنيّة في فلسفة فيشته" في دمشق، وقد حلّل فيها كتاب الفيلسوف الألمانيّ يوهان غوتليب فيشته. يرى الكسم، في هذا السياق، أنّ فيشته خاطب الأمّة الألمانيّة، ونقد فلسفة التنوير واللغة والحضارة الفرنسيّتين، وأوضح الطابع القوميّ للشعب الألمانيّ.

بعد ذلك كتب في دمشق مقالة بعنوان "الشعب وحرّيّة الفرد في فلسفة هيغل"، بيّن فيها أنّ لا حرّيّة للفرد عند الفيلسوف الألمانيّ هيغل إلّا حين يعيّن بنفسه قاعدة سلوكه، ومقالة أخرى "حول أزمة الإنسان الحديث"، حلّل فيها كتاب الفيلسوف الأميركيّ تشارلز فرنكل "أزمة الإنسان الحديث"، تعرّض فيها لوجهات نظر جاك ماريتان، وكارل مانهايم، وراينهولد نيبور، وأرنولد توينبي، ثمّ مقالة "النزعة الإنسانيّة"، التي أوضح أنّها دفاع عن الفرديّة ضدّ العبوديّة ــ الإقطاعيّة، وعن حرّيّة التفكير ضدّ سلطة التعصّب، وعن نبالة الإنسان ضدّ قوى الطبيعة، ثمّ حرّر مقالتَي "الغاية والوسيلة"، و"من خصائص التفكير"، إضافة إلى تحرير مقالة بعنوان "الإنسان حيوان ناطق"، وقد كشف فيها عن منطقيّة منهج الجدليّين في أنّ الإنسان ينزع إلى العقل بتجاوزه نفسه، وأنه حيوان صانع، وحيوان سياسيّ، وحيوان فيلسوف، ثمّ كتب مقالة بعنوان "الحرّيّة أساسًا"، تناول فيها علاقة الحرّيّة بالحقيقة والقيمة، ومحاضرة عن "الثورة الثقافيّة" في الجزائر، التي عرّف فيها الثورة بأنّها ثقافيّة أوّلًا، وهو يرفض تسمية انتفاضات التاريخ جميعًا بـ "الثورات"، لأنّها لم تستبدل بالتبعيّة استقلالًا، وبالقهر حرّيّة، وبالمذلّة كرامة. أما الثورة الثقافيّة العربيّة، من منظور الكسم، فإنّ عليها تجاوز أخطاء التجارب الأخرى، وإشاعة منظومة من القيم تستطيع مجتمعةً أن تُنمّي في المواطن صلابة نفسيّة تحميه من الانحرافات المختلفة.

وفي مقالته "ازدواج الدلالة في الثقافة العربيّة"، يترافع الكسم دفاعًا عن الثقافة العربيّة، وعن اللغة العربيّة، فينبري لكتاب يحمل هذا العنوان لمجموعة علماء حاولوا فيه تصوير ظاهرة الأضدّاد في اللغة العربيّة دليلًا على لامنطقيّة العقل العربيّ، متصدّيًّا لمزاعمهم ومفنّدًا وداحضًا. جدير بالذكر أنّ مترجم الكتاب، جورج صدقني، سياسيّ سوريّ، وأستاذ الآداب في جامعة دمشق. وُلد في محافظة طرطوس في عام 1931، وتوفي في عام 2010. ترأّس اتّحاد الكتّاب العرب، وكان عضوًا في "مجمع اللغة العربيّة" في دمشق. صدر له عددٌ من الأبحاث والترجمات في الفلسفة والسياسة والتربيّة.

مراجع تمّ الاستعانة بها:
1 ــ حسام الدين درويش، مقالة بعنوان: "بديع الكسم… الفيلسوف المعلّم"، موقع صحيفة "العربي الجديد"، تاريخ النشر: 24/03/2023.
2
ــ سمير الزعبي، مقالة بعنوان: "فيلسوف دمشق للقرن العشرين"، موقع "مدوّنة وطن"، تاريخ النشر: 21/04/2008.
3
ــ كريم الحلو، مقالة بعنوان: "فلاسفة سوريّون معاصرون تركوا إرثًا فكريًّا غنيًّا"، موقع "إندبندنت عربيّة"، تاريخ النشر: 05/05/2021.
4
ــ تقرير إخباري بعنوان: "فكر الكسم في ندوة أردنيّة"، موقع صحيفة "الشرق الأوسط"، تاريخ النشر: 28/08/2016.
5
ــ موقع "المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات" [https://www.dohainstitute.org/ar/Pages/index.aspx.
6
ــ موقع "الموسوعة الدمشقيّة" [https://damapedia.com/].
7
ــ موقع "مجمع اللغة العربيّة" بدمشق [https://arabacademy-sy.org/].

 

 

عن (ضفة ثالثة)