يعتبر الصحافي البريطاني اليكس رويل الذي أقام لفترة في لبنان حيث عمل مراسلاً لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» وصحف بريطانية وأمريكية أخرى أن الأنظمة العسكرية القاسية التي انتشرت في منطقة الشرق الأوسط منذ منتصف القرن الماضي والتي واجهتها ثورات وانتفاضات الربيع العربي في مطلع القرن الواحد والعشرين، تأثرت بشكل مباشر أو غير مباشر بنفوذ وتدخلات النظام المصري بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. ففي كتابه بعنوان «نحن جنودكم» يتطرق رويل إلى الدور في هذا المجال الذي لعبه عبد الناصر في ست دول عربية بالإضافة إلى دوره في بلده مصر. وهذه الدول هي سوريا والعراق ولبنان والأردن واليمن وليبيا.
ويركز الكاتب على الناحية السلبية التي لعبها الرئيس المصري السابق عبر مشاركته في تنظيم ودعم الانقلابات العسكرية، والتوجهات الديكتاتورية القمعية والدموية في تلك الدول التي حدثت فيها الانقلابات في الفترة التي كان ناصر خلالها ما زال على قيد الحياة، وحتى في الفترات اللاحقة لوفاته في عام 1970. ويقول رويل إنه اعتمد في أبحاثه على مصادر تاريخية موثوقة ومقابلات أجراها مع مسؤولين عاصروا تلك الفترة ولعبوا أدواراً سياسية أساسية خلالها، بحيث تنقل في السنوات الماضية بين بيروت وعمّان والقاهرة والإسكندرية والكرك ومدن أخرى. كما تعمق في دراسة خطابات عبد الناصر في مراحل قيادته المختلفة وما صدَرَ عنه من كتابات أو مقابلات صحافية المتواجد الكثير منها في مكتبة الإسكندرية. ومن المصادر الأخرى التي اعتمد عليها مذكرات شخصيات عملت مع عبد الناصر أو كانت من أقاربه ومن بعض ضحايا الممارسات القمعية التي مارستها الاستخبارات المصرية في السجون ضد خصوم الرئيس المصري السابق من شيوعيين وإسلاميين متشددين أو معارضين لمواقفه الملتزمة بالقومية العربية، والداعية للوحدة العربية والجمهورية العربية المتحدة.
ولكن المؤلف لا يشير إلى أي من السياسات الإيجابية التي مارسها عبد الناصر لتعزيز حقوق المرأة أو حقوق الأقليات في بلده وفي بلدان المنطقة والعالم التي تعاون معها في منظمة عدم الانحياز العالمية، وفي منظمات العالم الثالث الأخرى، ولا إلى عدم فساده مالياً. لكنه يشير إلى انه وفي عام 1947 التقى عبد الناصر وزميله في حركة الضباط الأحرار زكريا محي الدين (حسب مذكرات محي الدين) مع مؤسس (حركة الإخوان المسلمين) وقائدها الأول الشيخ حسن البنا وأعلنا تأييدهما لحركة ضباط الأحرار قبل حدوث الانقلاب المصري ضد الملك فاروق واقالته في عام 1952. إلا أن العلاقة بين الجانبين توترت (حسب قول رويل) لاحقاً بعد اغتيال البنّا، ثم محاولة اغتيال عبد الناصر. (ص 25). وفي عام 1955 يقول رويل، انعطف اهتمام عبد الناصر نحو الشؤون الخارجية بالإضافة إلى شؤون مصر الداخلية واستمر هذا التوجه حتى نهاية حياته.
وبدأ ذلك الانعطاف لدى مشاركته في مؤتمر باندونغ في أندونيسيا حيث تعرّف على رئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو وقادة 21 دولة من دول عدم الانحياز وأكثرها من دول العالم الثالث، وبينهم الماريشال اليوغسلافي جوزيف تيتو، والقائد الثوروي الكوبي فيديل كاسترو، والزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا. وصار لعبد الناصر الدور الهام في هذه المجموعة إلى جانب نهرو والزعيم الصيني شو إن لاي والرئيس الأندونيسي أحمد سوكارنو. (ص 49). ونتيجة لهذا الاجتماع ودور عبد الناصر فيه نجح القائد المصري لاحقاً في الحصول على الدعم العسكري والتزويد بالأسلحة والأموال للمشاريع الاستثمارية الضخمة في مصر من الاتحاد السوفييتي، وبالتالي نشأت علاقة قوية وتحالف وثيق له مع القيادة السوفييتية استمرا حتى نهاية حياة الرئيس المصري.
وهناك قضية أخرى لم يركز عليها الكاتب كفاية، وهي أنه في تلك الفترة وهي نجاح عبد الناصر في نسج علاقة بالقيادة الأمريكية في ظل رئاسة الرئيس دوايت ايزنهاور الذي ساهم في إفشال الهجوم الإسرائيلي ـ البريطاني ـ الفرنسي على مصر في عام 1956 بعدما قرر عبد الناصر تأميم شركة قناة السويس. (ص 51/50). ويعتبر الكاتب ان سبب تدخل الرئيس ايزنهاور ضد الغزو البريطاني ـ الفرنسي ـ الإسرائيلي لمصر في عام 1956 عاد إلى أن رئيس الوزراء البريطاني انتوني ايدن لم يستشره شخصياً قبل اتخاذ قرار الغزو، وبالتالي تجاوز حليفه الرئيسي. بيد أن القضية كانت أعمق من ذلك إذ أن عبد الناصر كان يناور دبلوماسياً. فمن جهة، كان متحالفاً مع السوفييت ومن جهة أخرى فتح حواراً مع مسؤولين أمنيين في أمريكا بينهم الكاتب المسؤول الأمني مايلز كوبلاند وغيره، كتأمين الخطوط والخيارات السياسية المتعددة في حال تأزمت علاقته مع روسيا. أي أن عبد الناصر لم يكن مَطيّة لجهة سياسية واحدة، بل تعامل مع الدول التي تؤمن مصالح مصر. وهكذا فإن المؤلف يبالغ في تعداد سلبيات نظام عبد الناصر على حساب إيجابياته ويتجاوز الموضوعية في بعض الأحيان برغم انه يذكر أموراً هامة تاريخياً في أحيان أخرى تفيد القارئ.
كما يبالغ في وصف التعذيب الذي كان يمارَس سجون مصر ضد خصوم عبد الناصر ليصل في الخلاصة إلى أن النظام في عهد عبد الناصر والأنظمة التي تعاونت معه أو تحالفت معه في الجمهورية العربية المتحدة وفي مشروع القومية العربية كانت متوحشة وفاسدة من دون أن يتطرق إلى أنظمة كانت في المعسكر الآخر ولم تكن قومية عربية وقامت بممارسات مشابهة في آسيا وأفريقيا وأمريكا وأوروبا لتحقيق مصالح امبريالية. هذا الأمر بالطبع لا يبرر الممارسات القمعية والتعذيب في السجون ولكنه يشير إلى أن الكاتب كان انتقائيا في تركيزه الشديد على التنديد بنظام عبد الناصر، وكأنه رأس الأفعى في القمع. ولعل السبب في ذلك دور نظام عبد الناصر في عمليتي اغتيال شخصيتين مقربتين جداً من الكاتب هما الصحافي اللبناني الراحل كامل مروه ورئيس الوزراء الأردني في عهد الملك حسين هزاع المجالي.
الصحافي كامل مروه كان (حسب المؤلف) من كبار الصحافيين في العالم العربي ولبنان المقربين سياسياً من الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز، في وقت كان الملك السعودي تسلم السلطة من شقيقه الملك سعود، وقرر مواجهة مشاريع عبد الناصر في المنطقة بعد سقوط النظام الملكي العراقي عام 1958 إثر انقلاب دموي كان لمؤيدي عبد الناصر وحزب البعث العراقي الدور الأساسي فيه. ولعل الأمر الذي أثار عبد الناصر ضد الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز، بعدما كانا تهادنا حول أمور أخرى كانت «دعوة الملك السعودي إلى إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1966 عبر التعاون بين الملك السعودي وشاه إيران». ورأى عبد الناصر أن هذه الدعوة كانت بمثابة إعادة إحياء (حلف بغداد) الذي قاده النظام الملكي العراقي السابق، والذي برأي عبد الناصر كان موجهاً ضد نظامه وخططت له الامبريالية العالمية الساعية للحد من انتشار القومية العربية. (ص 197).
وبما أن كامل مروه كان من كبار الصحافيين والسياسيين المتحالفين مع الملك السعودي فيصل ومشروعه، وكان يكتب المقالات في هذا المجال في الصحف التي يملكها في لبنان ويساهم في التقارب السعودي ـ الإيراني عبر دعمه لقياديين مسلمين واسعتي النفوذ في لبنان والمنطقة لدى الطائفتين الشيعية والسنيّة فإن عبد الناصر اعتبره خصماً خطيراً ضد مشروعه في العالم العربي (حسب ما أورده الكاتب بناء لمقابلات مع المقربين جداً من مروه). وقرر عبد الناصر توكيل عملية اغتيال مروه إلى حليفه في لبنان إبراهيم قليلات الذي أوكلها بدوره إلى أحد محازبيه عدنان شاكر سلطاني. ونُفذت عملية الاغتيال في 16 أيار (مايو) 1966. واعتُقل سلطاني وحوكم هو وقليلات غيابياً ولكن تم الافراج عنه لاحقاً بعد مداخلات من جانب مقربين من عبد الناصر في لبنان، وبعدما صدرت أشد العقوبات ضدهما (ص 191 ـ 190).
بالنسبة لهزاع المجالي فإن عملية اغتياله كان دافعها خلاف نشب بين الملك الأردني حسين والرئيس عبد الناصر عام 1960 حول بداية تخلخل أواصر العلاقة المصرية ـ السورية في الجمهورية العربية المتحدة، وإيفاد عبد الناصر لنائبه عبد الحكيم عامر إلى سوريا لمعالجة الموضوع، حيث حصل خلاف بينه وبين عبد الحميد السراج حسمه ناصر لمصلحة السراج بعد اغتيال المجالي، مكافأة له! ولعل الفقرة الأخيرة من الكتاب تلخص النظرة العامة لكاتبه من منطلق أخلاقي وسياسي محدد قد لا يشاركه فيه كثيرون، فيما هناك آخرون يؤيدونه. يقول رويل في ختام كتابه: «لبنان أصبح رهينة أُصيبت بجرح في عمقها بسبب المقاتلين القساة الذين شاركوا ميدانيا في حربه الأهلية (1990 ـ 1975). أن أكثرية قادته السياسيين الحاليين شكلوا جزءاً أساسياً في تلك الحرب التي قتلت مئة وخمسين ألفاً من مجموع سكانه الثلاثة ملايين، (هكذا كان عدد السكان آنذاك)». وقد رأينا في صفحات هذا الكتاب كيف أن عبد الناصر لم تكن مسؤوليته محدودة أو غائبة لدى انطلاق الحرب الأهلية اللبنانية. وبعد سبعة عقود على انقلاب عبد الناصر وأكثر من نصف قرن على وفاته، ما زال بعض أنظمة وشعوب العالم العربي متمسكاً بتراثه كوالدٍ رمزي للأمة العربية. (ص 140).
ولعل أحد المقاطع في الكتاب الذي قد يرى فيه البعض توجهاً غير سلبي لدى الكاتب قوله بأن عبد الناصر كان يملك بعض بُعد النظر بالنسبة للقضية الفلسطينية. هذا المقطع يقع في الصفحة (258) من الكتاب حيث يقول رويل: «بالنسبة لعبد الناصر كان خلافه مع الفلسطينيين حول طبيعة نهاية الصراع مع إسرائيل، ووسائل الوصول إليه. ففيما كانت منظمة التحرير الفلسطينية في تلك المرحلة تسعى لاستعادة كل شبر من الأرض الفلسطينية وإزالة دولة إسرائيل، كان عبد الناصر يطرح ما يسمى حاليا حل الدولتين، أي التوصل إلى اتفاق يوافق فيه جيران إسرائيل العرب على توفير السلام الشامل لإسرائيل في مقابل إعادة إسرائيل إلى الفلسطينيين والعرب الأراضي التي سلبتها منهم في حرب 1967 بحيث تعود إسرائيل إلى حدودها ما قبل تلك الحرب. ومن أجل تحقيق ذلك الهدف وافق عبد الناصر والملك حسين على قرار الأمم المتحدة رقم 242 فيما رفضته منظمة التحرير الفلسطينية وسوريا آنذاك».
كما وافق عبد الناصر، حسب قول المؤلف في الصفحة التالية 259 على خطة وزير الخارجية الأمريكي في تلك المرحلة وليم روجرز التي استندت إلى قرار الأمم المتحدة 242 ما أثار موجة معارضة من منظمة التحرير والمنظمات الفلسطينية الأخرى ضد عبد الناصر واتهامه بالجبن والخيانة، فرد ناصر عليهم بإقفال إذاعة فلسطين في القاهرة وإيقاف دعمه المادي لتلك المنظمات في غزة. أما مواجهة الملك حسين مع منظمة التحرير فذهبت إلى أعمق من ذلك ووصلت إلى معارك أيلول الأسود في الأردن، التي ساهم لاحقاً عبد الناصر في تهدئتها وفي التوصل إلى اتفاقية وقف إطلاق نار حولها بين الرئيس عرفات والملك حسين ومصر تحت قيادته. وكان ذلك إنجازه الأخير، ففي اليوم التالي وبعدما ودّع ناصر ضيوفه، أصيب بنوبة قلبية أودت بحياته وكان في الثانية والخمسين من عمره.
الكتاب:
Alex Rowell: We Are Yours Soldiers (Simon and Schuster, London 2023). pages. 402402 »
عن (القدس العربي)