يسعى الكاتب المغربي، بترجمته لهذا الحوار القديم مع كاستورياديس إلى الكشف عن آليات الثورة وعلاقاتها المعقدة مع السلطة، وأهم من هذا مع الدولة باعتبارها بوصفها جهازا للهيمنة وليس سلطة. وأهمية أن تظل السلطة مع الشعب/ ومع الثورة، وألا تستولي عليها الدولة. لأن هذا الأمر يهدد الثورة في مجتمع الحداثة باستمرار.

الثورة كإبداع تاريخي

منظور كاستورياديس للمجتمع والحداثة

عبد المنعم الشنتوف

 

ترجمة وتقديم:

يقترب هذا الحوار الذي نقدم ترجمته العربية من سؤال «الثورة» بوصفه فكرة وتاريخا. ويسعى الفيلسوف الفرنسي الجنسية، اليوناني الأصل كرنيليوس كاستورياديس من خلال هذه المناظرة التي أجريت معه بمناسبة الاحتفال بمرور مئتي سنة على الثورة الفرنسية إلى القبض على السمات والمكونات التي ميزت الثورات الكبرى في التاريخ الحديث. يبدو كاستورياديس من خلال هذا الحوار الذي نشر لأول مرة في العدد 57 من مجلة «لو ديبا» المطارحة الفرنسية الشهيرة عام 1989 ثم ضمه إلى كتابه الموسوم «تقاطعات المتاهة: العالم المفتت»، مأخوذا بالمقارنة بين الثورة الفرنسية ونظيرتيها الأمريكية والإنكليزية. يتحدث كورنيليوس كاستورياديس في سياق هذه المناظرة الفلسفية، من داخل تراث الأنوار الأوروبي، وسيلاحظ القارئ أن كثيرا من الأفكار التحليلية الواردة في هذه المناظرة، تصوغ جوابا عن سؤال أساسي: لماذا أخفقت كل الثورات التي أعقبت الربيع العربي في إنتاج دولة مدنيّة تتأسس على قيم العقل والحرية والمواطنة.

النص:
* كيف يمكننا أن نموقع الثورة الفرنسية في تاريخ الثورات الكبرى أقصد الثورتين الإنكليزية والأمريكية اللتين طبعتا الدخول إلى الحداثة السياسية. وكيف يسعنا بالمقارنة مع خصومها أن نفهم كونها ثورة نموذجية بامتياز؟ ما الذي تدرجه من جديد على وجه التحديد؟ ولئن كانت تاريخا لفكرة الثورة ذاتها، فأي موقع تحتله داخله على وجه الدقة؟
** يهمنا أن نبدأ على سبيل الجواب بالتشديد على خاصية الإبداعية التاريخية التي تمثلها وتجسدها الثورة الفرنسية. إنها أول ثورة تصوغ بوضوح فكرة التشكيل الذاتي الجلي للمجتمع. كنا على معرفة مسبقة في التاريخ الكوني للمواجهات المتعلقة بتوزيع حصص الحنطة، وتمرد العبيد وحروب القرويين، وكنا أيضا على معرفة بانقلابات عسكرية مسلحة وملوك يقدمون على إصلاحات سياسية، وكنا نعرف في الآن نفسه أشكالا لإعادة المأسسة تتفاوت في مستوى طابعها الحذري. بيد أنه في الحالة الفرنسية، فإن المجتمع أو جزءا كبيرا منه وجد نفسه وهو يخوض مشروعا سيتحول بسرعة لافتة إلى مشروع بناء ذاتي واضح. لا نعثر على هذه الجذرية يقينا في الثورة الإنكليزية، وأيضا في الثورة الأمريكية. وعلى الرغم من التشديد في أمريكا الشمالية، على أن مؤسسة المجتمع تصدر عن إرادة البشر، فإنها تبقى متجذرة في الدين وفي الماضي، من خلال وساطة القانون العرفي الإنكليزي. وهي على وجه التخصيص محدودة من حيث طموحها. يتلقى الآباء المؤسسون والحركة التي يعبرون عنها من الماضي نظاما اجتماعيا يعتبرونه ملائما ويعتقدون في الآن نفسه في انتفاء أي حاجة إلى إدخال تغيير عليه. ولم يبق أمامهم غير تأسيس الملحق السياسي لهذا النظام الاجتماعي.
ومن هذا المنظور، يبقى التوازي مع الحركة الديمقراطية في اليونان القديمة مهما. اكتشف اليونانيون يقينا أن أي تأسيس للمجتمع يبقى تأسيسا ذاتيا. وسوف يستبقون من حيث التطبيق نتائج هذا الاكتشاف، خصوصا في المدن أو الحواضر الديمقراطية وتخصيصا أثينا. ويبدو هذا واضحا انطلاقا من القرن السابع الميلادي، وسوف يتأكد مع سولون ويستشرف ذروته مع ثورة سليستين 508-506 التي تميزت كما رأينا بجذرية جريئة في مستوى التمفصل الموروث السوسيو سياسي، التي عمدت إلى خلخلته بغية جعله منسجما والاشتغال السياسي الديمقراطي. وعلى الرغم من ذلك، فإن البناء الذاتي الجلي والواضح لن يصبح على الإطلاق مبدأ للاشتغال السياسي، ويشمل مؤسسة المجتمع في شموليتها. ذلك أن الملكية لن يتم إخضاعها إطلاقا للمساءلة والنقد، والشأن نفسه بالنسبة لوضعية النساء ولن نتحدث أيضا عن العبيد.
تتوخى الديمقراطية القديمة تحقيق الحكم الذاتي الفعلي لجماعة البالغين الذكور والأحرار مع الحرص على عدم المساس ما أمكن الأمر بالبنى الاقتصادية والاجتماعية الموروثة. ووحدهم بعض الفلاسفة السفسطائيين على وجه التخصيص في القرن الخامس وأفلاطون في القرن السادس، من سوف يكون في مقدورهم الذهاب أبعد من ذلك. تتمثل عظمة وأصالة الثورة الفرنسية، حسب تصوري، في هذا الذي تعاتب عليه في الغالب، أقصد نزوعها نحو أن تسائل قانونيا المؤسسة القائمة للمجتمع في شموليتها. لا يمكن للثورة أن تبدع سياسيا دون أن تدمر اجتماعيا. ويعرف المؤسسون هذه الحقيقة، ويعبرون عنها. ويمكن للثورة الإنكليزية وحتى الأمريكية أن تمنحا من تلقاء نفسيهما إمكانية تمثيل وإعادة بناء وامتلاك ماض مفترض. أما المحاولات القليلة في فرنسا للاتكاء والاستناد إلى تراث ما، فلم تلبث أن أجهضت، فهل يمكن للديمقراطية أن تكون منسجمة مع تعايش الثراء الفاحش والفقر المدقع. ووفق تعبير معاصر، أليست السلطة الاقتصادية بطريقة أو بأخرى سلطة سياسية؟ لم يكن بعد ذلك في فرنسا النظام القديم بنية سياسية بكل بساطة، وإنما بنية اجتماعية شاملة.
الملكية وطبقة النبلاء ودور ووظيفة الكنيسة داخل المجتمع وأشكال الملكية والامتيازات تشكل جزءا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي القديم. كان لزاما والحالة هذه أن تتم إعادة بناء المؤسسة الاجتماعية برمتها، ودون ذلك، لم يكن التجسد المادي للتغيير السياسي ممكنا. لم يكن في مقدور الثورة الفرنسية أن تكون ـ هل كانت ترغب في ذلك- مجرد اقتراح نظام سياسي ديمقراطي لبنية اجتماعية قارة وثابتة وعصية على التغيير. وكما هو الشأن دائما بالنسبة لحنة آرندت، فإن الأفكار تحول بينها وبين رؤية الأفعال والوقائع. غير أن الوقائع التاريخية الكبرى تشكل أفكارا أكثر ثقلا من الأفكار الفلسفية. الماضي العجوز بآلاف السنين الذي يقابل القارة العذراء يستلزم بالضرورة حتمية مهاجمة البناء الاجتماعي في حد ذاته. ومن هذا المنظور، فإن الثورة الأمريكية لا يمكنها بالفعل إلا أن تشكل «استثناء» في التاريخ الحديث، وهو ما يستتبع ضرورة عدم إمكان تقديمها باعتبارها قاعدة أو بدرجة أقل نموذجا. وكان المؤسسون على وعي كامل بذلك وأفصحوا عنه. وحيث كان في مقدور الثورة الأمريكية أن تتأسس على وهم «مساواة» كانت موجودة سلفا في الحالة الاجتماعية، وهو الوهم الذي سيبني عليه توكفيل دراساته التحليلية بعد خمسين سنة، فإن الثورة الفرنسية ألفت نفسها أمام الواقع الشامل والكلي لمجتمع يفتقر إطلاقا إلى المساواة، ومتخيل ملكي يتأسس على مفهوم الحق المقدس وكنيسة متمركزة حول أدوار ووظائف اجتماعية حاضرة بشكل محايث. واختلافات جغرافية لا يمكن لأي كان أن يقوم بتفسيرها إلخ..

*توافقون إذن على الأقل على جزء من التحليل الذي صاغه بورك والذي يتمثل في صعوبة تأسيس الحرية على العقل.
**ـ ثمة نقاط عدة. أولا لا يتعلق الأمر بتأسيس الحرية على العقل؛ لأن العقل ذاته يفترض الحرية، أي الاستقلال. لا يشكل العقل جهازا ميكانيكيا، أو نسق حقائق منجزة بشكل كلي، وإنما حركة تفكير لا يعترف بأي سلطة عدا فاعليته الخاصة. ولكي تستشرف العقل، فإنه يلزمك أولا التفكير بحرية. ثانيا، ليس ثمة من انفصال أو انقطاع خالص. وعندما أقول إن التاريخ إبداع خارج العدم، فإن ذلك لا يعني إطلاقا كونه إبداعا داخل العدم، أو على أساس من العدم. ينبعث الشكل الجديد ويشعل نارا انطلاقا من الخشب الموجود. وتتحدد القطيعة داخل المعنى الجديد الذي تسبغه على ما ترثه أو تستعمله. وفي الحد الثالث، فإن بورك نفسه غير منسجم، وهو ينساق طوعا في الحقل الخاص بالثوريين ويقبل ضمنيا بالأساس الجيد الذي يحكم مقترحاتهم، أو افتراضاتهم؛ بحكم محاولته إطراح خلاصاتهم بطريقة عقلانية. وهو يحس نفسه مرغما على أن يؤسس بواسطة العقل قيمة التقليد أو التراث. والحال إن ذلك يمثل خيانة للتراث. ذلك أن تراثا حقيقا لا يمكنه أن يشكل موضع نقاش. وبتعبير آخر، فإن بورك لا يسعه الإفلات من مبدأ الانعكاس الذي يقوم بفضح آثاره داخل الثورة.

*كيف تقيمون أو تثمنون الدور الذي يضطلع به تشكل الدولة الحديثة في نشأة وسيرورة فكرة الثورة؟ ألا يحفز النموذج الفرنسي على التفكير في أنه ـ أي هذا الدور- جدير بالاعتبار؟
**ـ أعتقد أنه ينبغي علينا الركون إلى التمييز في هذا السياق. تتمثل الفكرة المحورية التي تنتجها الثورة والتي أتمثل فيها أهميتها القصوى بالنسبة لنا في البناء الذاتي والجلي للمجتمع بواسطة الفاعلية الجمعية الشفافة والديمقراطية. لكن في السياق ذاته، فإن الثورة لا يسعها الانفلات أبدا من إسار هذا الفخ المركزي في المتخيل السياسي الحديث والمتمثل في «الدولة». أشدد في هذا المقام على الدولة بوصفها جهازا للهيمنة وليس سلطة. وبالنسبة للأثينيين على سبيل المثال فليس ثمة من وجود للدولة، بل إن الكلمة لا وجود لها أيضا. السلطة في هذه الحالة هي «نحن» المشكل للفاعلية الجمعية السياسية. وفي المتخيل السياسي الحديث، فإن الدولة تحضر بوصفها غير قابلة للإقصاء. وسوف يبقى هذا الحضور على فاعليته في ما يخص الثورة، وكذلك بالنسبة للفلسفة السياسية الحديثة التي توجد والحالة هذه في وضعية تتسم بتناقضها الشديد: ينبغي عليها أن تبرر حضور الدولة في الوقت الذي تبذل فيه من الجهد قصاراه كي تفكر في الحرية. يتعلق الأمر إذن بتأسيس الحرية على نفي وإلغاء الحرية. أو أن تسند مهمة حماية الحرية إلى عدوها الرئيس.

 

كاتب ومترجم مغربي

 

عن (القدس العربي)