يتناول الناقد العراقي المرموق هنا مسألة التفاعل بين السرد والاعتراف، باعتبارها مدخلا لتعريف الهوية الملتبسة وإعادة تمحيص مكوناتها، من خلال مجموع من النصوص السردية المتنوعة، بصورة تكشف عن أن هذا النوع من السرد هو سرد الأقليات والشخصيات المهمشة والمقتلعة والتابعة.

السرد والاعتراف وإعادة تعريف الهوية

عبدالله إبراهيم

 

1 ـ الحقيبة والهوية
في خريف عام 2006 ألقى الروائي التركي "أورهان باموك" لمناسبة فوزه بجائزة نوبل كلمة بعنوان "حقيبة أبي"(1)، حاول فيها رسم هويته الكتابية، وبين فيها صلته الرمزية بأبيه من خلال التركيز على محتويات حقيبة تركها لدى الابن "قبل وفاته بعامين أعطاني أبي حقيبة صغيرة مملوءة بكتاباته، مخطوطاته ويومياته، وعلى طريقته المعتادة في المزاح والسخرية أخبرني أنه يريدني أن أقرأها بعد رحيله، وهو يقصد موته... كان أبي يبحث عن مكان يضع فيه الحقيبة، يتردّد جيئة وذهاباً مثل رجل يودّ التخلص من عبء يؤلمه. وفي النهاية وضعها بهدوء في زاوية متوارية. كانت لحظة مخجلة لم ينسها أي منا أبداً". نُسيتْ حقيبة الأب حيث هي، فلا حاجة للابن برؤية ما تحتويه ما دام الأب حياً، فكأن فتح الحقيبة يضمر رغبة في موت الأب، وذلك أمر شائن يصعب قبوله، ويخرّب العلاقة بين الأبوة والبنوّة. لم يفكر الابن بذلك، وربما لم يرغب فيه، فسكت عنه، ولكن "بعد أن توفي والدي، قضيت عدة أيام أمر إلى جانب الحقيبة، أجيء وأذهب دون أن ألمسها". ذكر الابن سببا غير مقنع لترك الحقيبة حيث هي "أول الأسباب التي أبعدتني عن محتويات الحقيبة هو بالطبع خوفي من ألا أعجب بما سأقرأ" لكنه استدرك، وهو على قناعة بأن الآخرين لن يشاركوه في زعمه، فاعترف "كان خوفي الحقيقي، الشيء الحاسم الذي لم أكن أود أن أعرفه أو أكتشفه، هو احتمال أن يكون أبي كاتباً جيداً. لم أستطع فتح حقيبة أبي لأني كنت أخشى ذلك. بل أسوأ من ذلك، لم أستطع أن أعترف بذلك الخوف بيني وبين نفسي. فلو تحقّق خوفي وخرج أدب عظيم من حقيبة أبي، فإنه كان لزاماً عليّ أن أعترف أنه داخل أبي كان يكمن رجل مختلف تماماً. وكان ذلك احتمالاً مرعباً، لأنني حتى مع تقدّمي في العمر كنت أريد لأبي أن يبقى فقط أبي، وليس كاتباً".

لا يريد الابن نظيرا له في الكتابة إنما يريده أبا فحسب. كان الأب رحالة، وشبه مغامر، جعل الأدب في رتبة ثانية بعد الحياة، وهذا سبب كاف لجعله مخيفا بالنسبة للابن الذي يرى "أن بداية الأدب الحقيقي هي رجل يغلق على نفسه الباب في غرفة مع كتبه". يعتقد الابن أنه لكي تكون كاتبا ذا شأن فينبغي أن تقبع طوال عمرك بين جدران أربعة تنسج خيوط أسطورة أدبية، ولأن الأب تخطّى تلك الجدران برحلاته إلى الغرب، فيحتمل أن يكون قد ثلم تلك الصفة المجيدة، وهي العزلة التي يراها الابن السبب الوحيد وراء وجود الكاتب. اعتكف الابن في غرفة مغلقة ليكتب رواياته، فيما كان الأب يسافر من أجل أن يكتب انطباعاته، وملاحظاته، ومذكراته، مودعا إياها في حقيبة مقفلة. لا فرق، في نهاية المطاف، بين الاثنين، فكل منهما يخفي نفسه أو تجاربه في مكان بعيد عن الأنظار، الأول يعيش حياة معلنة، ثم يطمر تفاصيلها في حقيبة يدوية، والثاني يعيش حياة سرية، وينشر تخيلاته على الملأ بكتب مطبوعة. ثمة حامل للتجارب سواء أكان حقيبة أم كتابا، وكما أنه يحتمل ألا تفتح حقيبة الأب، فليس من اللازم أن تُقرأ روايات الابن. لا يريد الابن الاعتراف بخطئه، وهو ينسج رواياته معتكفا، لكنه تجاسر وفضح خطأ الأب "حين أرسلت نظراتي إلى حقيبة أبي، بدا لي أن ذلك هو ما سبب انزعاجي... أحزنني أن أرى أبي يخبّئ أفكاره العميقة في هذه الحقيبة، أن يتصرف كما لو أن العمل كان ينبغي أن ينجز سرّاً، بعيداً عن أعين المجتمع، والدولة، والناس. ربما أن هذا كان السبب الرئيس خلف شعوري بالغضب من أبي لأنه لم ينظر إلى الأدب بالجدية التي نظرت بها".

لا يبدو السبب متماسكا، ولا متّسقا، فالابن نفسه كان منزويا في غرفة يعمل على أن يكون كاتبا. حدث كل ذلك والحقيبة مركونة إلى جواره، ولم يجرؤ على فتحها، ثم فجأة اكتشف الأمر "حالما فتحت الحقيبة استعدت رائحة الرحيل فيها، تعرفت على عدد من اليوميات... كانت معظم اليوميات التي أخذتها بيدي ضمن ما كتبه حين تركنا إلى باريس في شبابه. كنت أتمنى أن أعرف ما كتبه أبي وما فكّر فيه حين كان في عمري حينئذٍ. ولم يمض وقت طويل قبل أن أدرك أنني لن أجد شيئاً من ذلك. ما أزعجني أكثر من غيره كان عثوري هنا وهناك في اليوميات على صوت الكتابة لديه. لم يكن ذلك صوت أبي، قلت لنفسي، لم يكن صوتا حقيقياً، أو على الأقل لم تكن له صلة بالرجل الذي عرفته أباً. تحت مخاوفي ألا يكون أبي هو أبي عند الكتابة، كان ثمة خوف أعمق: الخوف ألا أكون في أعماقي أصيلاً، ألا أجد شيئاً جيداً في ما كتبه أبي، كل ذلك زاد من مخاوفي أن أكتشف أن أبي وقع تحت تأثير هائل لكتّاب آخرين، وأن أهوي نتيجة ذلك في حالة من اليأس التي عانيت منها بشكل سيء حين كنت شاباً، على النحو الذي أثار الأسئلة حول وجودي نفسه، رغبتي في الكتابة وما أنتجته".

ظن الابن أنه من الخطأ أن يكون امتدادا لأب كاتب وقع تحت تأثير كتّاب آخرين، فهذه سلسلة مزعجة من التأثيرات التي تُخفي موهبة الابتكار، وتعيقها، ولهذا رغب في أن يكون أبوه أباً فحسب، كي تبدأ الأمور به، أي بالابن. هذا شعور نفسي خطير عالجه من قبل فرويد بطرحه فكرة "قتل الأب" أي عدم امتلاك الهوية الناجزة بوجود تبعية تربط الابن بأبيه. خالج أورهان هذا الشعور، فظل يحوم حول فكرة الأب، وحول الحقيبة المقفلة، فهو لا يريد أن يعترف بقيمة محتوياتها، ولا بأهمية كاتبها. وبعد تردّد أقرب منه للتكاسل فتح الحقيبة "قرأت المخطوطات واليوميات القليلة، فما الذي كتب عنه أبي؟ أتذكر بعض المشاهد القليلة التي رآها من شبابيك الفنادق الباريسية، بعض القصائد، المفارقات، التحليلات". تحقق ما رغب الابن فيه. هنالك عزوف لا يكافئ حال الترقّب المتصاعدة التي لازمت الابن تجاه الحقيبة، ولأنه خذل بتركة أبيه، وهو ما كان قد رغب فيه، وخان الاتفاق الضمني حول عدم الاطلاع عليها إلا بعد وفاته، فقد وارب في قول الحقيقة، بل كذب "لم أخبره أنني فتحت الحقيبة وحاولت قراءة محتوياتها، بدلاً من ذلك نظرت جانباً، ولكنه فهم. تماماً كما فهمت أنه فهم. ولكن كل هذا الفهم وصل إلى أقصى نقطة في ثوان، لأن أبي كان إنساناً سعيداً ومرحاً وواثقاً من نفسه، ابتسم لي بالطريقة التي يبتسم دائماً. وأثناء مغادرته البيت كرر الأشياء الحلوة والمشجعة التي كان دائماً يقولها بوصفه أباً".

واضح أن الأب كان أكثر ثقة بنفسه من الابن، إذ غفر الخطأ، وتخطّاه، ولم يجعل فكرة جودة الأدب حاكمة على العلاقة بينه وبين ابنه. لم يرد الابن أن يعثر في الحقيبة إلا على ما كان يتخيله، ويريده، وبذلك تأكد بأنه غير موصول بنسب كتابي ذي شأن، فقد كان أبوه مشروع كاتب لم يحالفه الحظ، أما الابن الذي انكبّ على تنقيح موهبته بصرامة كاملة، فقد تحقق له ما أراد. ربما تكون "حقيبة الأب" كناية عن حافز مضمر رُكن في زوايا مكتبة الابن طويلا، وفي وقت متأخر دفعه الفضول لرؤية ما تحتويه، وربما تكون رمزا لعبء الأبوة التي يتجنّب فتحها كثير من الأبناء إلا بتأفف كيلا يعترفوا بالمدينوية لآبائهم. وربما يضمر الأبناء كراهية لفكرة الاستمرارية عبر فكرة الأبوّة، ويريدون اطّرادها عبر البنوّة. لم يشر أورهان إلى أبنائه، إنما أشار إلى كتبه، ففيها انتسابه اللاحق، ومنها ينبغي أن تبدأ الأشياء المهمة، وفي هذه الحال ينبغي قطع دابر الأبوة.

عبر الكتابة يقيم الروائي حوارا متعدد المستويات مع نفسه، ومع مجتمعه، ومع العالم. ليس له طريقة للحوار مع الذات والآخر إلا من خلال رواياته، ففيها تقبع رؤاه، ومواقفه، وتجاربه، وتأملاته، وتخيلاته، ولا يشفع لأورهان باموك اختزال أسباب الكتابة إلى مواقف شخصية عارضة تتصل بالغضب أو الاسترضاء، أو الرغبات العابرة، أو ملء الفراغ، أو الانخراط في كتيبة المؤلفين، أو إنتاج الكتب، فالكاتب المعاصر صار باحثا عن موقعه في العالم، وموقع الثقافة التي يمثلها، وأورهان باموك نفسه ممن شُغل بهذا الموضوع، وانخرطت رواياته في الجدل الخاص بهوية تركيا، وهي تعيد تعريف نفسها بين إرث إمبراطوري ثقيل، من جهة، ودولة علمانية تبحث لها عن موقع في خارطة العالم المعاصر، من جهة ثانية، ناهيك عن الصراعات العميقة في بنية المجتمع التركي حول الأقليات، والمعتقدات، والحريات، والهويات، والانتماءات الثقافية. أرجّح أنه صمت عن السبب الرئيس للكتابة بوصفها حوارا، وبحثا، واعترافا، وإعادة للتعريف بالهوية، فنقّب عن لا شيء في حقيبة فارغة من أجل إبعاد تأثير الأب، واقتراح انتساب بديل. فاقترح هوية كتابية ضمن أفق ثقافي خارج نطاق الأبوّة. هذا مهم جدا على المستوى الأدبي، لكنه شديد الأذى على المستوى الشخصي، فهو الخطوة الأولى في منطقة الاعتراف.

2 ـ مَنْ يجرؤ على الاعتراف؟
جروء أورهان باموك على تقديم اعتراف مزعج كشف فيه معنى الهوية من خلال المكان، أي بالتأكيد على الصلة بين المكان بوصفه فضاء اشتياق مفقود، والسرد باعتباره وسيلة تمثيل لتجربة شخصية، ثم قيّد تجربته بحقيبة أبيه، وبمكتبته، وباسطنبول، إنها هوية تتسع من حقيبة لتنتهي بمدينة، وهذا اعتراف يضمر الانزلاق إلى منطقة وعرة يشيح بوجوههم عنها كثير من الكتاب، فهو عبر الوصف المجازي لحقيبة الأب، أراد أن يطرح قضية أبوة الأدب الغربي، ومركزيته، وموقع الرواية خارج ذلك النطاق، ورسم حدودا لهويته عبر اعتراف كنائي. يرى كثيرون أن أدب الاعتراف محطّ شبهة، والتباس، لأن الجمهور الأدبي لم يتمرّس بعدُ في قبول الحقائق كما هي، وعرض الأخطاء كما وقعت، إنما يرى في جرأة الكاتب على كشف الحقائق سلوكا غير مقبول، وقد أغضب باموك كثيرا من الأتراك حينما تعرّض لهوية بلاده، وقلّب بعض المرويات حول مذابح الأرمن، وأشار للتركة التاريخية الثقيلة التي تلوح في الذاكرة القومية، وتتدخل في تحديد مستقبلها. وهذا النوع من التلقّي الخارجي لأدب الاعتراف يبثّ ذعراً لدى بعض الكتّاب، فيحول دون اقترابهم إلى المنطقة الحساسة التي قد يقع التشهير بهم جرّاء ذلك، ففكرة الاعتراف محاطة بكثير من ضروب الحذر في مجتمعات تقليدية تتخيل أنها بلا أخطاء. وبالإجمال فرغبة الجمهور قد تدفع بعض الكتّاب، أحيانا، إلى اختلاق تاريخ مغاير لبلادهم، ولحياتهم الشخصية، ومصالح بعضهم قد تدفع بهذا السلوك. ويرغب بعضهم الحفاظ على الصورة النمطية في أذهان العموم، وذلك يعمق لديهم حال التكتم على الأخطاء التي اقترفوها، وعدم التعامل معها على أنها أحداث وقعت في سياق مختلف من ناحية زمنية وفكرية.

وهذا التواطؤ بين الطرفين أفضى إلى ظهور أدب يهرب من كشف البطانة الذاتية الحميمية، ويلوذ بالقضايا العامة، فثمة إحجام عن التركيز على البعد الجواني للشخصيات، وذلك البعد هو المادة الأكثر أهمية في أدب الاعتراف، وليس الأحداث الخارجية المشاعة بين الجميع، وقد نهلت الآداب السردية من هذه المنطقة شبه المحرّمة، وبيّنتْ موقع الكاتب في مجتمعه، وهويته، ورؤيته للعالم. ومع ذلك لم يزل أدب الاعتراف يتلقّى إما بوصفه جملة أسرار، أو على أنه مدونة فضائح، فسوء الظن يتربّص بالكتّاب والقرّاء على حدّ سواء، ولا غرابة أن نجد ندرة فيه، لا يقبل البوح بالجوانب الشخصية، ولا بالآراء المخالفة للإجماع العام. والخوف الضمني يعمّق رغبة الصمت لدى الكاتب، فيلجأ إلى تحاشي الوقائع التي يراها غير مقبولة، وهذا يطمر في طياته تزييفا للتاريخ الشخصي، وللتاريخ العام، ويجعل من خداع الذات والآخرين سلوكا مقبولا وشائعا، إذ تتوارى الوقائع المهمة، أو يقع تخطّيها، وكل هذا يتعارض مع وظيفة أدب الاعتراف الذي يستبطن المناطق المخفية من حياة الأشخاص، ثم المجتمعات بعد ذلك.

يضع أدب الاعتراف، ومثاله الأكثر وضوحا السيرة الذاتية، والسيرة الروائية، الكاتب أمام المسؤولية المباشرة لصنّاع الرأي العام، لأن الاعتراف بذاته يقع في المنطقة المتوترة بين رغبة الجمهور في براءة المشاهير، ورغبة هؤلاء في التطهّر مما لحق بهم من أخطاء اقترفوها عن قصد أو غير قصد خلال حياتهم. وهذا التنازع حول الصورة الخارجية والداخلية للكاتب يحول دون الاتفاق على حلٍّ مرضٍ للطرفين، فالجمهور الأدبي يصاب بخيبة أمل حينما يعرض الكاتب اعتراف صريحاً عن حياته، وأفكاره، ومعتقداته، لأن الصورة النمطية للكاتب، وكثير منها من نسج الخيال، تخرّب في بعض أجزائها. وهذا تعبير عن رغبة يبديها متلقّون ينتظرون نقاء مطلقا دون أن يفكروا بنقائهم الخاص، وبمقابل ذلك يحرص بعض الكاتب على عدم التنكّر للأخطاء التي انزلقوا إليها في وقت مضى سواء أكانت شخصية أم أيدلوجية، فهم يريدون تنقية صورتهم الجوانية حتى لو اقتضى ذلك البوح بالأسرار الخاصة، وبالأخطاء. وتتصل هذه القضية بأخرى أكثر أهمية، في سياق البحث في الصلة بين السرد، والاعتراف، والهوية، فالجمهور يضغط التاريخ الشخصي للكاتب في لحظة واحدة، وهي لحظة التعرّف إليه خلال القراءة، فيما الكاتب صيرورة من التحولات التي لا تنتهي، ولا يعاب على المرء الوقوع في الخطأ إنما يعاب عليه نكرانه له، أو عدم تخطّيه، فلا يبنغي الخوف، أو حتى الخجل، من اقتراف الكاتب للخطأ، ولكن يحسب عليه تقبّله، والتعايش معه، فالانزلاق إلى الخطأ أمر تصعب السيطرة عليه بسبب تحول الوعي الخاص بالكاتب من درجة إلى أخرى، وبين مرحلة وأخرى، وصولا إلى ما يصطلح عليه "لوكاش" بـ "الوعي الأصيل" بنفسه وعالمه، وذلك يتأخر كثيراً، وقد لا يأتي أبداً. وبعبارة أخرى يتعامل الجمهور مع شخص جاهز، فيما يتعامل الكاتب مع ذاته بوصفه شخصاً في حالة تحوّل، وحالة الاعتراف بالنسبة إليه جزء من عملية التحوّل، لكنها حالة تخدش الصورة الرمزية له في المخيال العام. ليس من المفيد أن يأتي الاعتراف منقطعا عن السياق الحاضن له، وإلا أصبح فضيحة، فالقارئ يبحث عن ذروة، ويهمه أن يتعلق بحادثة مثيرة، أما الكاتب فمشغول بسياق كامل من التحولات الفكرية والجسدية، وهو ما يشكل صيرورة هويته، وحينما يعيد تركيب تاريخ حياته، فمن الطبيعي أن يدرج الأحداث في سياق منظور خاص لنفسه، ولمجتمعه، وللعالم الذي يعيش فيه. ومن الخطأ انتقاء لحظة عابرة، أو حدثاً خاصاً، وتركيز الاهتمام عليها في منأى عن السياق الذي يحتضنها، فذلك انتهاك مقصود يهدف إلى تخريب فكرة الاعتراف، والترويج لغاية معينة توافق أيدلوجيا القارئ الذي يقوم بذلك.

وفي جميع الأحول لابد من الأخذ في الحسبان كيفية استعادة وصف أحداث الماضي، وما هو الموقف منها؟ وكيف جرى إدراجها في الكتابة السردية؟ وفيما إذا كانت تمثل خطأ أخلاقيا؟ وهل أراد الكاتب وصفها كفعل سقط فيه دون وعي أو رغبة، أم أنه استدرج إليه، أم اختاره بقصد. ثم ـ وهذا هو المهم ـ هل جرى تخطّي كل ذلك؟ وما الأثر الذي تركه في حياة الكاتب وأفكاره؟. كتبت كثير من الكتب لتكون مدونة اعترافات، وأخطاء، وانزلاقات، وقليل منها تمسّكت بالهدف الاعتباري للكتابة، وهي أن ما يُكتب، وما يُرغب في استعادته، ينبغي أن يكشف خارطة التحولات الاجتماعية والفكرية والشخصية، وبيان علاقة الكاتب بكل ذلك تأثراً وتأثيراً، وإلا أصبحت الكتابة خداعاً، ثم أخيراً ينبغي أن يُمنح الكاتب الفرصة والمناسبة والحق في تقديم اعترافه في الوقت الذي يراه مناسبا. إن للاعتراف قيمة تفوق كثيرا قيمة الصمت أو التزوير، ولابد أن يمنح المعترفون فرصتهم لقول ما يريدون قوله. وتجنب الخداع، واصطناع التواريخ المزيفة، فإعادة التعريف بالهوية، كائنا ما كانت، يفوق أمر تعريفها الابتدائي. يتنزّل أدب الاعتراف خارج السياق الرسمي للأدب وللمجتمع، فلم تزل الثقافة العربية تتبرّم منه، ومازالت هذه الفكرة عصية على الفهم العام، وفي كثير من الأحيان يوصم المعترف بأنه الشخص الذي غدر بمجتمعه، وتنكّب له بأن فضّل اختيارا فرديا تاركا الجماعة في وضع خامل خارج منطقة اهتمامه، أو أنه فضح البطانة الخفية المسكوت عنها، فلا يقع استيعاب كامل لاعترافاته. وفي الكتابة الاعترافية يبني الكاتب تاريخا مستعادا لتجربة شخصية، أو مكانا أصبح ذكرى، أو أنه يعيد ترميم عالم في طريقة للزوال، وكل ذلك جريا وراء فكرة المعنى من هذه المغامرة التي اختارها أو دفع إليها. وكما يقول جورج ماي فالباعث وراء ذلك "حاجة المرء إلى العثور على معنى لحياته المنقضية أو على إعطائها شكلاً مخصوصاً"(2).

يقترن الاعتراف بالهوية، سواء أكانت هوية فردية أم جماعية، فلا يمكن انتزاع الكاتب من الحاضنة الاجتماعية والثقافية التي يشتبك بها، ذلك أن أدبه يقوم بمهمة تمثيل تلك الحاضنة، وبيان موقعه فيها، وموضوع الهوية لا يطرح في السرد إلا على خلفية معقدة من الأسئلة الشخصية والجماعية، وتبادل الاستشفافات فيما بينهما. وفي جميع الأحوال، فالكاتب منبثق من سياق ثقافي، وتجد كافة الإشكاليات المثارة في مجتمعه درجة من الحضور في مدونته السردية، ولعل موضوع الهوية، وإعادة تعريفها، يكاد يستأثر باهتمام معظم كتّاب الأقليات أكثر من سواهم، لأنه متصل بعلاقاتهم مع الأغلبية، وموقعهم الهش في النسيج الاجتماعي العام، وكل ذلك يتصل بموضوع الاعتراف بتميّز الهوية الصغرى في إطار الهوية الجماعية الكبرى.

3 ـ السرد، والتشرد، والاقتلاع
حينما يصل القارئ إلى الصفحة الأخيرة من كتاب "عراقي في باريس" لـ "صموئيل شمعون"(3)، سيكتشف عمق الارتياب الذي لفّ مصير المؤلف، وهو يسعى لاقتراح معنى لهويته، فقد ارتحل من العراق إلى أميركا، يروم الوصول إلى هوليوود لصنع فيلم عن أبيه الأبكم والأصم "كيكا"، لأنه حلم بأميركا وسيلةً لصوغ ذكرى الأب، ولكن ثمة قطبا آخر اجتذبه، فهو يريد أن يكون ذلك الفيلم بعنوان "الحنين إلى الزمن الانجليزي"، فعبر الكاميرا الأميركية يتطلع إلى تحويل ذكرى الأب إلى صورة انجليزية. وفي سعيه المحموم لربط الحلم بالذكرى علق صموئيل في منطقة ثالثة هي فرنسا، فانتهى متشرّداً في باريس. وبدل أن يصل إلى أميركا، ويعيد إنتاج حنينه للزمن الإنجليزي في العراق، كتب "عراقي في باريس" وحوّل السيناريو إلى قصة بعنوان "البائع المتجول والسينما". من الطريف أن يحلم المرء بمكان يوفر له استعادة مكان آخر، لكنه يسقط في مكان ثالث لم يكن في الحسبان، فالأمر مربك بكل المعايير، ولكن الأكثر إرباكا هو أن يحمل شخص اسم نبي يهودي، ويحلم في أن يكون مخرجا سينمائيا، لكنه ينتهي مشرداً. ولا تخفى المماثلة بين المؤلف وكتابه، فالنص مشرّد، وقد عثر على هويته عبر الترحّل بين النصوص السردية، كما هو كاتبه الذي ترحّل بين الأمكنة، ففكرة الترحّل تشمل حياة الكتاب ومؤلفه، فكلاهما صاغ هوية مترحّلة. ليس الكتاب وصفا لحياة المؤلف فقط، إنما هو أيضا وصف لكيفية تشكيله، وليس النص وحده خليطا من كتابات متعدّدة تتصل بهويات جزئية، إنما مؤلفه أيضا خليط من شخصيات كثيرة. إننا أمام مزيج من التنوعات: أزمنة وأمكنة كثيرة، لغات كثيرة، بلاد كثيرة، ونص تتزاحم مكوناته، فهو ينقض ضمنا فكرة الأبوة في السرد، وفي التأليف، بطريقة مماثلة لما رأينا في موقف أورهان باموك.

تحكم الكتاب فكرة الاقتلاع، اقتلاع النص عن التراث السردي، واقتلاع المؤلف عن العالم الذي يعيش فيه، وبما أننا في مواجهة نص مقتلع هو ومؤلفه، فينبغي أن نترقب شيئا مختلفا. فكرة الاقتلاع مقترنة بأدب المنفى، وأدب المنفى يقوم بمجمله على فكرة الانشقاق عن نسق أيدلوجي مغلق أو شبه مغلق حيث تتبلور فكرة عدم القدرة على الاندماج، وهي فكرة تدفع بأدب المنفى إلى منطقة مغايرة لمنطقة أدب الولاء والامتثال. لكن أيا من هذا لا وجود في كتاب "عراقي في باريس" فنحن لسنا أمام دعاوى أيدلوجية نقضية، وبراهين رفضية، يتبناها منفيّ، إنما أمام مسار صاعد لحلم فردي، يتشبّث به صاحبه، ليحقّق هدفا، تتآكل من حوله أهمية كل الأشياء الأخرى إلا ذلك الحلم. نعم، تتعرض الشخصية لمضايقات كثيرة، وتتعثر في مسعاها، ويُعتدى عليها، وينحرف مسارها، وتشوّه هويتها، لكنها قابضة على جمرتها، ولا تعرض تفسيرا أيدلوجيا مقصودا حال دون حلمها، ونتيجة لكل ما ينطوي عليه النص من تصريحات حول ذلك، يرسخ دلالته النهائية بأنه ليس من أدب المنفى، فالمنفى ليس مكانا نائيا، إنما هو موقف أيدلوجي وأخلاقي. يشغل المنفيُّ بالحاجة لإعادة التوازن المفقود، فقد اجتثّ من عالم، وحيل بينه وإمكانية العودة إليه ـ كما سنجد أمثلة على ذلك في الرواية اليهودية خلال الفقرات اللاحقة ـ ولهذا يسعى إلى خلق عالمه الخاص الذي يتمكّن فيه من ممارسة الدور والنفوذ الشخصي، ولأنه يصعب عليه ممارسة تلك الحرية في عالم المنفى كونه وافدا وطارئا عليه، فسيقوم بخلق عالمه الذهني الخاص به، ولو عاينا كتاب "عراقي في باريس" في ضوء هذه الفكرة لوجدناه ينقضها، فالشخصية لا تنتسب إلى جماعة متضامنة، وهي ترفض أيدلوجيا الواقع القائم، وغير مشغولة بفكرة إعادة التوازن، إنما هي منجذبة إلى حلم، وساعية خلفه، وغير معنية بغيره، وقد كرّست حياتها من أجله، فتوارت أهمية الأشياء الأخرى.

من الصحيح أن النص تضمن شذرات من التبرّم، وهو يصور الإقصاء الذي تعرضت له الشخصية كونها تنتمي إلى الأقلية الأشورية المسيحية في العراق في وسط إسلامي كثيف، لكنه محكوم بفكرة الحلم، ومشمول بها، وليس بفكرة الرفض والشكوى، وهذا يدخله جزئيا في أدب اليوتوبيا الذي يسعي إلى بلوغ عالم لم يوجد بعد، عالم الصورة الملازم لمخيال المؤلف ـ والشخصية ـ فمن أجل تحقيق هذا الهدف شرع في الترحّل، وقبل بفكرة التشرّد. وفي وقت عمّق الكتاب الفكرة الثانية فإنما ليكشف استحالة التخلّي عن الفكرة الأولى، ولا تني الشخصية تكافح من أجل بلوغ ذلك العالم، ولهذا لا نجد حنينا إلى الماضي، ولا نعثر على شيء من الحسرات والعَبرات، وإنما نلمس دفعا متواصلا صوب المستقبل، ولو حدث وانكفأت الشخصية، وتراجعت، وانكسرت، لأصبحنا في خضم حكاية تراجيدية حيث يصبح الحاضر سيئا، فينبثق الحنين إلى الماضي الشفاف، فيظهر التعارض بين عالمين وفكرتين، وتبدأ المقارنة، والمفاضلة، وينزلق الكتاب إلى منطقة الحزن والذكرى، ويفقد مفهوم الهوية معناه الثقافي.

لا تنتمي الشخصية المقتلعة في هذا الكتاب إلى مكان، إنما تسعى وراء طيف، ولهذا لم يجر الحديث عن هوية ثابتة للشخصية، كما سنجد في الرواية اليهودية، إنما جرى الحديث عن حالات تخصها، إذ تتغير أسماؤها "جويي، شموئيل، صموئيل، سام، سامي، العراقي الضائع، والآشوري الحزين، والمشرّد، والنحس، والصعلوك الأميركي، وبوليرو، والدوماتشيوتي... الخ". ويتغير اسم الأب "كيكا، شمعون، الأخرس، الأطرش، الأبكم، الفرّان، السكير... الخ". وتتغير الأمكنة "العراق، سوريا، لبنان، الأردن، قبرص، مصر، اليمن، فرنسا... الخ". وتتعدد لغات النص "عربية، آشورية، فرنسية، إنجليزية، ألمانية... الخ". وتتعدد علامات التواصل "الحوار، الإيماء، الصورة، الإخبار... الخ". على أن الحلم ظل متماسكا، ولم يتصدّع. وهذا التعدد في التسمية ينتهي بالشخصية إلى شفا المجهولية، فكثرة التسميات والارتحالات وراء صبوة تُسقط الشخصية في هوة العتمة.

في هذا النوع من الكتابة السردية ليس من الحكمة البحث عن مركز، ولا عن حبكة. فلكي تتّسق فكرة الاقتلاع مع فكرة الحلم لابد من تقوية النبض الحالم للشخصية، وعلى هذا فجذوة الحلم لا تنطفئ. ولا حاجة إلى التفكير بقضية الانتماء، لأن الشخصية غير متحّولة، وهي ليست في حال صراع مع ذوات أخرى، إنما هي موشور يمرّ من خلاله الآخرون، فتنعكس ضلالهم المضخّمة والشاحبة على خلفية من عدم اليقين، والعبث، واللاجدوى، وربما السقوط في هوّة العدمية، فالرؤية السردية محايدة، والشخصية لم تعلن عن تذمر فكري من التنكيل الذي لحق بها جراء تشردها، فكأنه وقع لغيرها، والصعاب ترتسم كصورة لا عمق لها، وتمر كمشاهد سينمائية دون أن يراد منها استخلاص موقف سوى تحقيق الحلم. تأسس الحلم في أعماق الشخصية قبل أن تعي شروطه ومستلزماته، فهي تريد الوصول إلى هوليوود لكنها تجهل الوسيلة لتحقيق ذلك، وبمضي السرد تتضاعف الرغبة، وتتضاعف معها الصعاب، والحالم ينتهي إلى عدم التفكير بظفر أيدلوجي لكي يدّعي أنه حقق مبتغاه، لأن فكرة الحالم في أساسها منبثقة من سياق رغبة أكثر مما هي مدفوعة بحاجة. ولهذا فالإمعان في تفصيل حالة التشرد في باريس يراد منها الإبقاء على الجذوة الملتهبة، وليس تبرير الإخفاق. والكتاب يختم دون أن ينتهي سعي الحالم.

لسنا إذن أمام نص مشغول بخبرة مؤلف مجيد لصنعته السردية، فلا ذروات، ولا خواتم، ولا حبكات، ولا نمو في الأحداث، إنما داخل الإطار السردي للكتاب خليط من نصوص متراصفة، بعضها يقدّم بعضا، وبعضها يوضّح بعضا، ومتنه المكرس لتصوير حالة التشرد يقوم على نصوص نُضّدتْ لتبعثر فكرة التماسك التي نجدها عادة في كتب السرد، فهي لا تعكس نموّاً في الأحداث، ولا تطورا في وعي الشخصية، ولا تبلور موقفا، بل تهدم كل تلك المسلّمات المرافقة للسرود التقليدية، وهذه التقنية السينمائية في السرد ـ والمؤلف شغوف بها ـ تضع المتلقّي أمام تقرير يسبب الصدمة، وربما الاقشعرار، والدوار، لجرأته في الاعتراف، ومباشرته، وحيوته، وقدرته على تعميق المفارقة، دون التركيز على تجربة الألم. وهذه المزايا المبتكرة تفكك أهمية العناصر التي يتوقّع القارئ وجودها بأثر من ترسخ معايير التلقّي التقليدي، إنه قد يفاجأ بنص مسطّح لا عمق له، نص وصفي يلهث ليلتقط المسار العابر لشخصية هامشية، لكنه سرعان ما يتقبل ذلك، ويتفاعل معه، لأن النص في خلاصته النهائية يريد قلع أي عمق خادع في الكتابة، والعوم على الممكنات، والاحتمالات، والمرئيات، فهذا النص يسهم في تعميق أهمية أدب الصورة، ويندرج في عالم النصوص البصرية.

يغيب العمق الحكائي الذي يقوم على تضافر عناصر البناء الفني من زمان ومكان وأحداث وشخصيات، لأن عناصر السرد متناثرة، وهذا على وجه التحديد هو الذي يرفع مقام النص إلى مكانة أخرى، فكل تقرير وصفي ينبغي عليه أن يتنكّب لشروط السرد التقليدي، ويقترح سرداً جديداً، ولهذا نجد مزجاً بين الإخبار عن شيء ووصفه. لقد ألغى الكتاب العقد الضمني بين المؤلف والقارئ، وحررهما من قيود التلقّي المعروفة، وبكل ذلك استبدل نصا يتأرجح بين أدب اليوتوبيا، وأدب الاعتراف، وأدب الشتات، لكنه نص إخباري متوهج بالقوة، يدور بالقارئ في المدن، والشوارع، والحانات، بسرعة خاطفة، دون أن يعنى بالتفسير والتأويل، ولا يأبه بأية عِبرة، والجزء الأكثر إثارة فيه تلك النبذ النصية المتناثرة التي تصور الشخصية هائمة في أزقة باريس، وطرقاتها، وحاناتها، وفنادقها، ومقابرها، حيث تنبثق الفكاهة والسخرية من خضم متاهة ليلية، وماراثون لا نهائي.

ولعل التحول هو أحد العلامات الفارقة في أدب الاعتراف، ويعدّ الختان في الثقافات الدينية طقس عبور من حال إلى حال أخرى، وهو نوع من إعادة تعريف الهوية، والانتماء إلى جماعة. وفي اليهودية والإسلام يعد الختان انتقالا من النجاسة إلى الطهارة، فيما يؤدي في المسيحية وظيفة معاكسة، لأنه نوع من التدخل في إرادة الخالق، وانتزاع ما أوجده الله في الإنسان. ويوجد تنازع ثقافي حول موضوع الختان لدى كثير من المجتمعات والشعوب. والنظرة إلى الأقلف هي غير النظرة إلى المختون. وفي العربية فإن الفعل "قَلَفَ" يعني نزع، واقتلع، واجتثّ، فالقلفة إذن علامة بقاء، وثبات، وصاحبها يكاد يكون غفلا وساذجا، وفي الثقافتين الإسلامية واليهودية.

يعدّ الأقلف غير مؤهل للانخراط في الجماعة، وبالقلف يبدأ الانتماء إلى الجماعة الكبرى، فانتزاع القلفة علامة انتماء، وعلى العكس في المسيحية، إذ يقتلع المرء من عقيدته باقتلاع تلك الفضلة. تسمى تلك القطعة "القُلفة" و "الغلفة" وتسمى في العبرية "الغُرلة". وكانت فكرة الختان مرتهنة بوعد، فأول من قام بها النبي إبراهيم، الذي ختن نفسه، كما تقول المرويات اليهودية، وهو في التاسعة والتسعين من عمره. ويختلف المسلمون على ذلك العمر، ويجعلونه بين ثمانين ومئة وعشرين سنة، فطبقا للتوراة "سفر التكوين" فإن الرب وعد إبراهيم ونسله بأرض كنعان، وهي "الأرض الموعودة" إنْ بتر غرلته، وغرلة كل ذكرٍ من نسله(4). اقتلع ابراهيم غرلته بسيف طامعا في وعد الرب كما تؤكد المرويات اليهودية. هذه الفكرة سنجد لها صدى متباعدا في كتاب "عراقي في باريس".

عاشت الشخصية ضمن مجال إسلامي مشبع بقيم الختان بوصفه علامة طهارة، واسم المؤلف يحيل على نبي يهودي، لكنه مسيحي أشوري، وينبغي عليه أن يحافظ على قلفته/ غرلته علامة على هوية خاصة في وسط يموج بصراع القيم. لقد كان متصالحا مع نفسه في نطاق الأسرة الضيق، وبخاصة مع الأب الأبكم والأصم. وكانت القلفة/ الغرلة دليل نقاء وانتماء، ولكن بنموّه اكتشف رفضا له في اسمه وغرلته، وحينما رحل إلى سوريا أصبح الاسم دليل تهمة، ولكن القلفة/ الغرلة تدخلت، فأصبحت دليل براءة. بعد هذه المرحلة مرّ بارتحالات سريعة ومتتالية، وفي تونس، وهو في نحو الثلاثين من عمره، ودون أن يقدم تفسيرا لطقس العبور، قرّر ختان نفسه، وكأنه مدفوع بنزوة أو رغبة طارئة. فقد اقتاد صموئيل حلاقا مسلما متحمسا للقيام بذلك، والوعد الذي ينتظره هو الحلم القديم بالوصول إلى أميركا، أرض الأحلام الموعودة بالنسبة له.

سكت الكتاب عن فكرة الوعد الأميركي، ودفع بها إلى الوراء، ولم يكن الختان من أجل أرض موعودة، ولكن الإيحاء لا ينكر عبر المقارنة، إذ على عكس ما وقع لإبراهيم من تقدير لأنه اقتلع غرلته، أصبح ختان صاموئيل موضوعا للسخرية من الأصدقاء، والنساء، فحاول أن يموّه على ذلك مدة من الزمن إلى أن تُشفى جراحته. ومن المفهوم أن هذا جزء من سياسات جلد الذات، فالشخصية التي تنهار قيمة العالم في منظورها، لا تتردد في أن تشمل نفسها بالسخرية، ولم يصمد خارج مجال الهزء شيء إلا الحلم الأميركي المتواري في منطقة خلفية. تُفهم الجراحة بالمعنى العميق، إنها ليس بتر فضلة عضو أتهم صاحبه بأنه إمبريالي بسبب دينه، إنما هي القبول بالاقتلاع من عالم، والاستعداد للضياع في عالم آخر، فهي اللحظة الفاصلة بين الانتماء وعدم الانتماء، واستبدال هوية بهوية. كانت القلفة/ الغرلة آخر علامة على ارتباط الشخصية بالعالم، وبإزالتها اقتلعت من عالم وجماعة مُعرّفين، ورميت في منطقة المجهولية الجماعية، فلم تعد ترتبط بأية جماعة، إنما لاذت بنفسها وتوغلت في منطقة الحلم الفردي. وكان الصبي صاموئيل قد تلقّى تحذيرا إيمائيا من الأب بأن المختون نجس، ومفتقر لأهلية الانتماء الطبيعي، وبذلك جرى وصم المختونين قاطبة بالنجاسة لأنهم انحرفوا عما قررته الطبيعة من تقليف، لكن الابن لم يلتزم بوصية الأب، فأزال عنه علامة الطهارة الأخلاقية وهو على مشارف الثلاثين، فسقط في المنطقة التي حذّره منها الأب. لقد حاز على النجاسة متعمّداً، وبإزالة تلك "الفضلة" انتهكت عذريته، فلم يعد أعذر، وفارق البراءة، وعاكس قانون الطبيعة، فسقط في المتاهة الكبرى للحياة حيث لا حدود واضحة بين المتناقضات، لأن المتاهة نفسها لا نهاية لها.

تنتمي الشخصية إلى الأقلية الآشورية. وهنالك اعتقاد راسخ أن الآشوريين هم السكان الأصليون للعراق، وكل الأقوام تعتقد أنها تتصل بأصل خالد وعريق، وتؤمن بمرويات خيالية، وهو أمر سنراه واضحا في الرواية التي عالجت موضوع الهوية اليهودية، ولكن المفارقة تلوح حينما تجد شخصية تعتقد أنها عميقة الجذر، نفسها، مقتلعة، ومشردة. لا ينبغي إغفال منطقة العتمة التي تسقط فيها الأقليات وسط ثقافة غالبة لا تتقبلها إلا على مضض، فشأن الأقليات مرتبط بالمتغيرات السياسية والدينية والثقافية. في العهد الملكي العراقي حيث لم تتوهج بعدُ أيدلوجيات الكراهية اعتزّت الأقليات بأصولها، وبتحوّل العراق إلى العهد الجمهوري، وظهور ثقافة الكراهية للغرب الاستعماري، إلا وشملت تلك الثقافة أبناء بعض تلك الأقليات لمشاركتهم المستعمرين في المعتقد الديني، وهو أمر سيظهر بصورة لافتة في حالة اليهود إثر ظهور دولة إسرائيل. يتحوّل الأفراد إلى أنماط، ويصبحون بعامتهم خصوما، وربما أعداء. تختزل ثقافة الكراهية الآخر إلى كتلة صماء، وتعبر عن نفسها كممارسة ضد الأقليات التي تشارك المستعمر بعض معتقداته.

تضيء هذه الخلفية مصير الشخصية، فقد سقط الرصيد الرمزي عنها بسقوط الملكية، وانتهاء حقبة الاستعمار الإنجليزي، وهي معرضة للانتهاك في أية لحظة بعد ذلك، فقد تناثرت الحماية، وأصبحت عارية. كان الأب يخبّئ صورة ملكة بريطانيا في صندوق، ويبالغ في إخفائها إعجابا وحبا، فلكي تعبر عن انتمائك لحقبة انقضت ينبغي أن يكون لك سرّ وعشق، وإلا أصبحت مباحا. تتسمّى الشخصية باسم نبي، لكن ظلال النبوّة في عالم متغير لا توفر لها أية حماية، إنما على العكس تسهم في انتهاكها. في المدرسة نظر إلى صاموئيل بوصفه شخصية غريبة وغير مؤتمنة، وتلك ربما تكون تلك من تحيزات الطفولة، ولكن في سوريا يعتقل بظن أنه جاسوس يعمل لصالح إسرائيل، فالاسم دليل تهمة، أن يكون اسمك "شموئيل شمعون" فلابد أن تكون يهوديا. يلقى القبض عليه بعد أيام من وصوله إلى دمشق، ويتعرض لتعذيب، ثم استجواب، ثم إطلاق سراح، وتبرئة.

تأتي البراءة من منطقة غير متوقعة على الإطلاق، فالضابط المستجوب يطلب منه التعري كاملا، ولما يجد أنه أقلف، يطلق سراحه. يقتنع الضابط بأنه ليس يهوديا عراقيا وفد إلى سوريا متجسسا لصالح إسرائيل، فلا يمكن أن يوجد يهودي بقلفة. ولطالما أكد الأب أن كل مختون نجس، ولكن القلفة في المعتقل السوري أصبحت دليل براءة من تهمة التجسس التي تماثل في الثقافة الدينية المتزمتة تهمة النجاسة. أصبحت الطهارة المسيحية محل تبجيل لأنها دفعت الشبهة عن صاموئيل/ شموئيل، لكن تلك الجلدة المتدلية هي الأخرى دليل تهمة في عالم ختن معظم أفراده. فقد رحل بفضلته اللحمية إلى عالم جُرّد منها، وفي تونس قرر ختان نفسه، ربما لتوفير إمكانية الاندماج في عالم رافض للقلفة، وغير معترف بأصحابها، إذ يدعو حلاقا ممارسا للختان ليقوم بذلك "ثم باشر الرجل العجوز بختاني دون بنج، وقد ساعدته في ذلك، ورغم أن العملية كانت مؤلمة جدا، إلا أنني كنت أنظر للرجل وكأنه يقتطع قطعة من جسد شخص آخر وليس من جسدي"(5). أُفعم الحلاق بالسعادة لأنه تمكن للمرة الثانية من إهداء ضال إلى الإسلام. وكانت الأولى ختن فرنسي في الثلاثين "ها إن الله قد أدخل الإيمان إلى قلبك" وأضاف الحلاق، وهو يشعل سيجارة "أنا سعيد لأنك أصبحت مسلما على يدي" لكن صاموئيل، نطق في سياق التندر، دون أن يدرك العواقب "لِمَ لا أكون يهوديا يا حاج، اليهود يختنون أيضا". سبب ذلك انزعاج الحلاق، فطلب أجره، وغادر مستاء، فهمس صاموئيل لنفسه "لقد قطعت العضو المشبوه والامبريالي في جسدي"(6).

ليس من الغريب أن يحصل صاموئيل على موافقة الدخول إلى الأراضي الفرنسية إثر عملية الختان، فبعد أن يئس من الاندماج في عالم المختونين، استجاب له، وامتثل لثقافته، فإذا به يقتلع، ويجد نفسه في عالم ينظر إلى الختان نظرة مختلفة. لا يورد صاموئيل شيئا عن ذلك في فرنسا إلا مرة واحدة لسبب يتصل بالجراحة لا بالقيم الثقافية السائدة، ولكن من المفهوم أنه وجد نفسه في عالم تحكمه المفارقة. إن عالما يفاضل بين أفراده على أساس وجود قطعة لحمية خاملة أو عدم وجودها ليس جديرا بفكرة الانتماء، أو الرفض، إنما الحلم، والعمل على تحقيق رغبة. ولكل ذلك صلة رمزية باقتلاع الشخصية عن عالمها. كانت الشخصية قلفاء وبريئة، وبتحولها إلى مقلوفة فقد اقتلعت، ورميت في مدار التشرد.

4 ـ نزاع الهويات، وإعادة تعريفها
تندرج كتابة صاموئيل شمعون في نمط من الكتابة التي تفضح التهميش عبر السخرية، والفكاهة، ولكنها كتابة كاشفة لموقع الأقليات الدينية والعرقية، وفاضحة للتحيزات التي تمارسها ثقافة الأغلبية ضد الجماعات الصغيرة، وفي السياق نفسه، وعلى خلفية من التماثل ذاته تقريبا، يقدم رؤوف مسعد كتابة سردية اعترافية هي في عمومها مصممة لنقض تقاليد الكتابة الشائعة في السرد العربي الحديث. أولا، لأنه يجهر بتجاربه الشخصية معترفا بها بجرأة نادرة، ويدرجها في أعماله الكتابية، بلا مواربة، فكتابته مرآة لذاته، ولرؤيته، ولموقعه. وثانيا، لأنه يتقصّد تمزيق البنية التقليدية في السرد الروائي، ويقترح كتابة متشظية لا تحترم أيا قواعد السرد المعروفة. وثالثا، لأنه يتلاعب بالمادة الحكائية، فيجعلها تتأرجح بين حدين غامضين هما التخيل الروائي والتوثيق السيري، وأعماله عبارة عن كولاج يمزج الإعداد المسرحي، بالريبورتاج الصحافي، بالسيرة الذاتية، وبنتف متفرقة من اليوميات الاعترافية، والمذكرات، والتجارب الشخصية، ومعظمها ينهل من حياته الشخصية التي تمرست بالتشرد، والنفي، والترحال. وعلى خلفية هذه الألاعيب السردية المبتكرة والمثيرة للدهشة يتطرق مسعد إلى أوضاع المهمشين، والشاذين، والمضطهدين، ومعظم شخصياته من أصول سودانية تعيش في مصر، ناهيك عن عرض حال الأقليات المضطهدة، ومنها الأقباط في ظل تصاعد التأويلات المغلقة للدين الإسلامي الذي تروج له جماعات دينية تتبنى مواقف متطرفة ضد الأقليات الدينية، وفي كل هذا تتطلع الكتابة عنده إلى إثارة مشكلة الهوية في عالم يموج بنزاع الهويات.

تبدو المادة السردية عند رؤوف مسعد تجميعا وخلطا للغريب والمثير، فهي تقوم على المتناقضات المثيرة، وتستدرج مواقف تخص اليسار المصري على المستوى السياسي، ومصير الأقباط على المستوى الديني، والاستبداد على المستوى الوطني، ثم الفساد والنفاق على المستوى الاجتماعي. ليس الرواية حكاية متخيلة يصمم الروائي حبكتها السردية لإثارة اهتمام القارئ بوصفه متلقيا سلبيا، إنما أصبحت بحثا متعدد المستويات في المشكلات الاجتماعية، والسياسية، والدينية، إلى ذلك لم تعد سلسلة مترابطة من الأحداث المتصاعدة صوب ذروة تحلّ عناصرها الفنية في الخاتمة، إنما مشاهد متداخلة يجري تركيبها بدقة لكشف الجوانب الخفية من الأحداث، وفضح العلاقات السرية بين الشخصيات، ثم زج القارئ ليكون طرفا فاعلا في إنتاج الأحداث نفسها، وتأويلها حسب خبراته ومواقفه ورؤيته للعالم السردي الافتراضي الذي تسبح الشخصيات فيه. جعل رؤوف مسعد من روايته "مزاج التماسيح" مختبرا لكثير من تلك الأفكار، والتجارب، والخبرات، والاعترافات ـ كما فعل في رواية أخرى له هي "بيضة النعامة" ـ وهو لم يكتف بكتابة رواية، إنما وصف كيفية كتابتها، وتابع ملابسات عملية الكتابة، وما تلاها، بما في ذلك تحول النص إلى دليل اتهام ضده. ولهذا قسّم الكتاب إلى قسمين، قسم أول سمّاه "الكتاب الأول" وفيه تخيّل الكاتب، رواية بعنوان "مزاج التماسيح" هي خليط من تجارب شخصية، وخواطر، ومذكرات، واعترافات، وتقارير متهكمة مكتوبة باللهجة العامية المصرية، لكنها تقوم على خلفية العنف الديني بين الإسلاميين والأقباط في مصر في العقد الأول من الألفية الثالثة، وهو عنف تطور إلى مواجهات مسلحة بين ميليشيات تابعة لكل طرف، بما أفضى إلى تفكك بناء الدولة المدنية، وظهور دولة عسكرية "الجمهورية العسكرية الديمقراطية" التي تحاول السيطرة على عنف الجماعات المسلحة. وترد أخبار عن تأسيس الحزب الملكي المنادي بعودة الملكية إلى حكم البلاد، وذكر لجماعة الملثّمين من غلاة الأقباط الساعين للانتقام من الجماعات الإسلامية المتطرفة، ثم ذكر لجماعة فرسان السيدة العذراء، وجماعة فرسان مار جرجس، وجنود المسيح، ومع أن بعض شخصيات هذا القسم حقيقية، وتتصل مباشرة بالكاتب، إلا أن الحبكة العامة لهذا القسم متخيلة وتدور أحداثها في عام 2010، علما أن الطبعة الثانية من الرواية نقّحت في أمستردام عام 1998 وصدرت في القاهرة عام 2000، وعليه فإن هذا المتن المتوقّع يبنى على حدس المؤلف لما سيفضي إليه تطور الأحداث قبل أكثر من عشر سنوات على وقوعها، وسيكون للخلط بين الواقعي والتخيلي أثره في القسم الثاني من الكتاب. ويصور هذا القسم حال المؤلف ومصيره خلال الصراعات المحتدمة بسبب الحرب الأهلية الدينية، إذ تصبح مصر مسرحا لتنافس أجهزة المخابرات العالمية، وكل منها يريد أن يرجّح خيارا يتصل بمصلحته، فضلا عن السلطة التي تراقب حياة الأفراد بدقة متناهية، وتحاول ضبط حركتهم عبر المراقبة الدقيقة، وتتسقّط أية معلومة لمعرفة ما يقع في البلاد، وفي ظل هذه الظروف يختفي مخطوط رواية "مزاج التماسيح".

يُسرق المخطوط من طرف صديق للمؤلف متواطئ مع الأجهزة الأمنية بوصفه عميلا لها، فيسلّمه إليها ظنا منه أنه تقرير سري عن الجماعات الدينية المتحاربة، وبالنظر للوضع المتأزم من ناحية أمنية وسياسية، يقع تفسير الرواية على أنها "تقرير سري" حول الأحداث الجارية، وبخاصة أن للكاتب صلة بكل الأحداث المذكورة في روايته، ناهيك عن خلفيته الماركسية، والقبطية. يقع تأويل كل الأحداث المتخيلة في ضوء ما يناظرها من أحداث الواقع، فيلقى القبض على الكاتب بتهمة كونه ضالعا فيما يحدث من فوضى واضطراب في البلاد، وكونه على صلة مباشرة بطرفي النزاع، وعارف بخفاياه، وعبر سلسلة من المغامرات يحاول المؤلف أن ينجو بنفسه، بما في ذلك التنكر بشخصية امرأة سودانية، لكن السلطات تجدّ في البحث عنه، بل وتلاحق كافة الشخصيات التي أدرجها في سياق روايته المتخيلة. طرحت رواية "مزاج التماسيح" قضيتين مهمتين، فهي من جهة أنذرت بكل ما ستفضي إليه التنازعات الدينية المنفلتة في مصر التي تؤججها جماعات منتفعة سواء أكانت من المسلمين أم الأقباط إلى درجة انتهت فيها مؤسسة الدولة إلى التفكك والاضمحلال، ومن جهة ثانية رسمت الرواية مصير الأقليات في عالم يموج بنزاع الهويات المفتعلة، كما أنها فضحت الفهم السطحي للأدب حينما تقوم مؤسسة السلطة بتأويل نص روائي متخيل على أنه تقرير أمني خطير عن الجماعات المتحاربة، فتلاحق الكاتب بتهمة ذلك.

حاول مؤلف الرواية والشخصية الرئيسة فيها، أن يضع نفسه خارج الاحتمالين المذكورين في كتابه: الاحتمال المتخيل، والاحتمال الواقعي، وله الحق في ذلك، فالتأويل السطحي الذي لا يقوم على خبرة يخلط بين الاثنين، فليس ثمة فرق من طرف السلطات الأمنية بين الشخصيات المتخيلة التي تشكل متن الرواية في قسمها الأول، وبين الشخصيات الحقيقية التي تشكل قوام القسم الثاني، فينتبذ المؤلف مكاناً يحاول فيه أن يبيّن موقعه من كل ذلك "في جلسته الآن في المقهى يقلّب في ذاكرته حياتين... وجسدين. ففي الحياة الأولى ـ حياته ـ يتمعّن ما ينتج عن هذا التقلّب، بحذر وحيادية أيضا. أما في الحياة الثانية، فقد بدأ يعيد تخليقها من حياته. الحياة الثانية ليست حياته بالضبط لكنها حياته أيضا. الفارق الوحيد بين الحياتين، أنه يستطيع في الثانية أن يفعل ما يريد بها وبمن فيها: أن يمسح، ويضيف، أن يجمّل، ويقبّح، أن يغيّر من الأماكن والأزمنة، ومع ذلك أحس أن الحياتين تنزلقان من يده، خاصة الثانية، التي تحاول أن تتماهى مع حياته هو، كأنها تبحث عن شيء مألوف تريد أن تطمئن إليه. هو الآن في منتصف الكتابة، منتصف روايته، روايتان. يعرف المحاذير التي يواجهها كاتب مثله، حينما يخلط بين الخاص بالعام. الحقيقة بالحقيقة الأخرى. الكاتب ـ مثله ـ الذي لم يحترف الكتابة، لكنه يمارسها أيضا بانتظام، خارج مؤسسة المحترفين، الذين لا يحبونه، لأنه يهدّد وجودهم المستقر البليد الساكن، بتهوره ورعونته، وتبوله فوق خطوط التماس المقدسة... فمنذ قرر أن يكتب هذه الرواية، وأن يمزج بين الحياتين معا، وأن يعيد السيطرة متعمدا على حياته هو، أن"يكتبها"من جديد، اكتشف أنه يستطيع، وبمجهود غير بسيط، أن ينسحب من الحياتين، فيخلق لنفسه حياة ثالثة مؤقتة يتفرج بها ومنها على الحياتين الأخريين"(7).

ناقشت رواية "مزاج التماسيح" موضوع الهوية في مصر على كافة المستويات: هوية المؤلف المهمّش سياسيا، وثقافيا، ودينيا، وهوية الأقباط، وهوية المسلمين، وهوية النظام السياسي، وفضحت التهييج الأيدلوجي الذي أسقط المجتمع المصري تحت سطوة من النفوذ أفضى إلى تمزيق النسيج الوطني، وتحويل المجتمع إلى جماعات متنافرة، والأفراد إلى ذوات مرهقة، وفاقدة لحس الانتماء. وصورت الرواية انسداد الأفق أمام المجتمع المصري، وتوقفت على ضروب الكراهية المتبادلة بين أشخاص وجماعات من الأقباط والمسلمين، ففي ظل غياب شراكة وطنية حقيقية ترتمي الجماعات الدينية في هوياتها اللاهوتية الضيفة، وتؤجج تخيلاتها العدائية ضد بعضها. تطلب الجماعات الإسلامية المتشددة استتابة الأقباط، وتحولهم إلى الإسلام حال تأسيس الدولة الإسلامية أو فرض الجزية عليهم إحياء لتقاليد القرون الوسطى في التعامل مع أهل الذمة، وتتسلل الكراهية إلى المسيحيين، فيشكلون جماعات مسلحة تدافع عنهم باسم المسيح والسيدة العذراء والقديس مار جرجس. كشف النص عن ضروب الكراهية منذ أول صفحة فيه حيث افتتح فضاء السرد على شخصيتين، هما القمّص ملاك عبد المسيح وأخته تفيده عبد المسيح، وكلاهما يخدم المؤمنين في كنيسة "سيدة الآلام" في حي شبرا في القاهرة، وأول ما تقوم به الأخت هو إلغاء مأسورة المياه في المرافق الصحية، وسد فتحتها بالعجين، ووضع أوراق من جرائد قديمة للتنظيف بعد قضاء الحاجة "لأن غسل المؤخرة بعد التبرّز طقس إسلامي لن تدخله إلى بيت القمّص خادم الرب"(8). وكل كراهية تدفع بكراهية مقابلة، أو تكون نتيجة لها.

لكن هذه الرواية، شأنها في ذلك شأن كتاب "عراقي في باريس" مضت في درجة عالية من الفكاهة، والتهكم، والرؤية السردية فيها لا تجامل، ولا تدّخر سخرية مهما كانت، فهي حرة، ومتفلّتة، ومنطلقة، لا يردعها معتقد، ولا عُرف، ولا أيدلوجيا، ولا تعرف المحاباة، وتتخطّى التكلّف، والتصنّع، فالمؤلف دمج في السياق السردي الناظم لكتابه التواريخ، والتجارب، والأحداث الكبرى، وفضح الأخطاء، وعرّى التناقضات، وعمّق المفارقات، وكشف التحولات الكبرى في بنية المجتمع المصري، وتحوله من مجتمع مدني إلى مجتمع ديني، فشمل بنقده متعصبي الأقباط بالدرجة نفسها التي انتقد بها غلاة المسلمين. ولاح في العالم السردي للرواية خوف مؤداه أن مصر تفقد بمرور الزمن هويتها المدنية، وتنزلق إلى إعادة إنتاج هويات دينية غالية لأنها سقطت تحت طائلة تخيلات جعلت من المجال الاجتماعي موضوعا لاختبار قوة الأيدلوجيا الدينية، فالدين توارى، وتصدّرت الأيدلوجيا الدينية التي بدأت تستجيب لرهانات الهيمنة والسيطرة، فظهر لاهوت عصري جديد مزّق النسيج الاجتماعي بدواعي الامتثال للقيم الدينية. وعلى خلفية كل ذلك ارتسمت قطيعة بين الجماعات المكونة للمجتمع المصري، وأغلق باب الأمل أمامه. ترددت كلمة "مزاج" كثيرا في صفحات الرواية، وهي تتصل بالرغبة الجسدية، أكثر منها بالحالة النفسية للشخصيات، ففكرة الرواية تقوم على مبدأ "المزاج" وهو مبدأ حسّي مهيمن فيها، إذ تسعى الشخصيات الأساسية لتحقيق المتعة عبر "المزاج" وهو كناية عن "إحليل" التمساح الذي يستخلص منه عنبر يساعد الرجال على استعادة "امتيازهم الذكوري" ومنحهم قدرة جديدة "للحفاظ على مواقعهم في الفراش". ولم تقتصر تجارة "المزاج" على الرجال، إنما "النساء هنّ اللائي كن يقمن بالترويج لهذه التجارة" فيتابعن أخباره المثيولوجية "وينشرن روعة نتائجه، ويتابعن أسواقه الرائجة، التي تتخطى الحواجز المتقاتلة، وأصبحت تجارته لا تعرف أو لا تعترف بحدود جغرافية أو دينية". و "ظهر الإحليليون" في وسائل الإعلام "المرئية والمكتوبة" يتناظرون ويتجادلون، "ونقّبوا الكتب القديمة بحثا عن نصوص تؤيد أقوالهم وتدحض أقوال الجهة المعادية للإحليل التمساحي من أصدقاء البيئة، وحراس الطبيعة". أما "إحليل التمساح" فسمّته وسائل الإعلام "مزاج التمساح" لعدم إثارة الغضب في الوسط العام "باعتبار أن ذكر الأعضاء التناسلية، للبشر، والحيوان، معصية"(9).

حذّرت الرواية من انفراط العقد المجتمعي لو احتكرت السلطة فئة واحدة، وفرضت تفسيرا واحدا للتاريخ، فالحراك الاجتماعي لا يمكن حبسه في إطار مغلق، ولهذا تتمرد الجماعات على الواقع، ولا تعترف به، وتتبنّى أيدلوجيات متطرفة، وتبتكر فرضيات دينية تتحصّن خلفها للدفاع عن هوياتها المتخيلة، وهذا سوف يفضي إلى صدام مؤكد مع هويات مغايرة تحملها جماعات أخرى، فيندلع تيار العنف الذي يهيمن على المشاعر، والمواقف، والرؤى، فتنهار الأنساق الثقافية الكبرى الحاضنة للجماعات، فتلوذ بهويات ضيقة متصلة إما بعقائدها، أو بمذاهبها، أو بأعراقها، ولا يكاد ينجو أحد من تبنّي فكرة إعادة تعريف هويته على وفق الواقع الجديد.

5 ـ الهوية الملوثة: النجوع التوراتي
على أن موضوع الهوية، وإعادة تعريفها، يشكل المحور المركزي في الرواية اليهودية المكتوبة بالعربية، أو التي كتبها روائيون يهود عاشوا في بلدان عربية، وكتبوا عن مجتمعاتها، أقصد بذلك هوية الجماعة اليهودية في بيئة ثقافية عربية ـ إسلامية، ففيها تعوم رغبة هوسية في ذكر التفاصيل على خلفية من الشعور بالاقتلاع، وعدم الاندماج، والبحث عن هوية بديلة، تخطّيا لهوية ملوثة. وهذه ظاهرة ملفتة للنظر، فما هو موقع هذه الأعمال الروائية؟. وهل تدرج في سياق الرواية العربية، أم الإسرائيلية؟ وهل يمكن تصنيفها استنادا إلى اللغات التي كتبت بها أم الموضوعات التي عالجتها؟ وكيف يمكن زحزحة مفهوم الهوية الكتابية لتستوعب نصوصا كتبت عن عالم اليهود قبل أن تظهر إسرائيل في المنطقة العربية؟. وهل يمكن تأويل تلك النصوص على أنها مدونة حنين هوسي لحقبة تاريخية انتهت؟. تأتي الإشارة إلى كل ذلك لأن معظم تلك النصوص السردية عرضت شغفا منقطع النظير بالبيئات الأولى، نجد ذلك واضحا عند سمير نقّاش، ونعيم قطّّان، وسامي ميخائيل، وقد اشتبكت تلك الروايات بالمرجعيات الاجتماعية الحاضنة لها على نحو يتعذّر معه فكّ الاشتباك بينهما، فلا يمكن تعريفها إلا بتلك المرجعيات.

قدّم نعيم قطّان في كتابه "وداعا بابل" سيرة روائية له في مطلع عمره خلال أربعينيات القرن العشرين، على خلفية تكشف أوضاع الطائفة اليهودية العراقية، فالنص سيرة نشوئية لجيل من الكتّاب الشباب عاصروا أحداث الحرب العالمية الثانية، وما ترتب عليها من نتائج داخل بغداد. وقد عبّر قطّان ـ كما عبّر سواه من الكتاب اليهود ـ عن الارتباك الذي أفرزته مفاهيم ثابتة للهويات العرقية والدينية والثقافية، وشخصياته الأساسية تتنازعها رؤى مفارقة للجماعة اليهودية، من طرف، وامتثال لتقاليدها وطقوسها وإحساسها بالاقتلاع، وعجزها عن الاندماج، من طرف آخر، فمكثتْ منحبسة في إطار الطائفة، ولم تتعداها إلى طرح هوية مشتركة، بل لم تجرؤ على تخريب حدود سوء التفاهم بين الجماعة الإسلامية الكبرى، والجماعة اليهودية الصغرى، إنما شُغلت بما يمور داخل الجماعة الأخيرة من تطلعات، وما تعرّضت له من مضايقات، وبخاصة أحداث نهب (= الفرهود) ممتلكات بعض يهود العراق في عام 1941، والتنكيل ببعضهم، وما تركه ذلك من جرح نازف أدى إلى تقويض صلة اليهود التاريخية بالعراق بوصفه وطنا لجميع الطوائف. ولم تلبث الرؤية السردية في النص أن فضحت هشاشة العلاقة بين الجماعات الأساسية للمجتمع البغدادي من مسلمين، ومسيحيين، ويهود، لكنها ركزت الاهتمام على المكوّن اليهودي، واقترحت رؤية مأساوية للعالم، وهي رؤية اكتسب شرعيتها من الجماعة اليهودية نفسها، وتماهت معها، وقد عجزت عن بلوغ حالة الافتراق عنها، ذلك أن المسلمين ظهروا بوصفهم كتلة صماء لا يؤتمن أمرهم في كل ما يخص اليهود. وحرص النص على اختزالهم إلى بدو لا يردعهم رادع، فرغباتهم العدوانية مكبّلة، وهي بانتظار أية فرصة لتنفلت، وتخرب كل شيء له صلة باليهود، والمثال المعياري لذلك هي أحداث الفرهود.

في البدء طُرحت الهوية اليهودية من خلال اللهجة، أي طريقة نطق اليهودي للعربية. يبدو الأمر مفاجئا أن يتم الأمر بنوع من القصدية، والتصميم، ففيما كانت مجموعة الأصدقاء من الكتّاب تتجادل باللغة العربية في إحدى المقاهي البغدادية حول الطريقة التي ينبغي أن يكتبوا بها نصوصهم الأدبية، هل يجب عليهم محاكاة أسلوب سارويان، وهمنغواي، أم استلهام أسلوب ألف ليلة وليلة، حدث أمر لم يكن بالحسبان "لأول مرة أخذ نسيم يتحدّث باللهجة اليهودية". كان الحديث يتم من قبل بالعربية، فتعبّر الجماعة عن أفكارها بتلك اللغة، لكن في ذلك المساء طرأ أمر جديد، فبعد أن وصل نسيم متأخراً، وحيّا أصدقاءه بطريقة مسرحية متكلّفة لم يستطع أن يواصل المناقشة بالعربية، إنما دفع باللهجة اليهودية إلى مجال الحوار. تحدث قطّان عن "اللهجة اليهودية" ولم يشر للعبرية بوصفها لغة اليهود، وبتلك اللهجة قصد العربية المحكية ليهود العراق، وبها يختلفون عن سائر ناطقي العربية في العراق وسواه. قال الراوي "في العراق يكفي حضور مسلم واحد في مجلس ما كي تفرض لهجته نفسها على الجميع. ولكن هل هي لهجة عامية فعلاً؟ لكل طائفة دينية في بغداد طريقتها في الكلام. وسواء كنا يهوداً أم مسيحيين أم عرباً فكلنا نتكلم العربية. نحن جيران منذ قرون إلا أن اللكنة وبعض المفردات ظلت علامات مميزة وفارقة... يكفي أن يفتح أحدنا فمه ليشي بهويته. في كلماتنا محفور شعار أصولنا. نحن يهود أو مسيحيون أو مسلمون من بغداد أو من البصرة أو من الموصل. ولنا لغة مشتركة... معين لا ينضب للالتباس والتهكم الشرس... وعادة ما يعمد أنصاف الأميين من اليهود إلى ترصيع جملهم بكلمة أو كلمتين من كلام المسلمين حتى وهم يتحدثون فيما بينهم، فذلك يؤكد أن لهم بين المسلمين معارف وعلاقات، وأنهم غير مقتصرين على عشرة اليهود البائسة. أما المسلمون فإنهم لا يقترضون إلا من العربية الفصحى. وليس لهم أي موجب لتسليط حكم سلبي على لهجتهم. بل هم لا يلتجئون إلى لهجات اليهود أو المسيحيين إلا للترفيه عن بعض الضيوف. وتتخذ أية كلمة يهودية خالصة في فم المسلم صبغة مرادفة لكل ما هو مثير للسخرية والازدراء. وإذا لم يقع التفكير في السخرية من اللكنة اليهودية في الأوساط المثقفة والمتحررة، فإنه لا يقع التفكير في استعمالها أصلاً"(10).

لوّثتْ لهجة اليهود من طرف لهجة البدو المسلمين، هذا أمر مزعج لليهودي الذي يجد في نفسه عريقا في انتسابه التاريخي للعراق، فيما البدو مجرد جماعة طارئة حديثة العهد فيه. ترد إشارة إلى ذلك أيضا في رواية "فيكتوريا" لسامي ميخائيل لتعزّز هذه الفكرة التي شُغل بها نعيم قطّان، إذ تستعيد فيكتوريا، الشخصية الرئيسة في رواية ميخائيل، تميزها اللغوي، وما يفصلها عن الجماعات العراقية الأخرى، بوصفها يهودية، وهي تتجه إلى النهر للانتحار "كانت اللغة العربية التي جرت على لسانها لغة حضرية قديمة ورقيقة بخلاف اللهجة الإسلامية البدوية التي قدمت منذ عهد ليس ببعيد من الصحراء إلى الأماكن التي أصبحت خراباً وفقدت خصوبتها. وإذن فقد كان هناك جدار من الشك والجهل والنسيان يفصل فيكتوريا عن هذا الخليط من الشيعة والسنة والأكراد والآشوريين والصابئة والفرس والتركمان الذين اجتازوا وإياها دجلة"(11). لن يبعدنا هذا الاستطراد عن نسيم ورغبته المعلنة في طرح هويته اليهودية من خلال لهجته، فهو يريد صون تلك الهوية بجعل لهجتها وسيلة للتداول يعترف بها الجميع، ولن يقبل أن تكون موضوع انتقاص من أحد الأطراف، فحينما يستخدم المسلم اللهجة اليهودية فإنما ليسخر ويزدري، أي ليمارس انتقاصه لليهود، فلهجة المسلمين تستبعد لهجات الآخرين، وتفرض حضورها، فيتوارون خلف كثافة هذه اللهجة، شاعرين بالإقصاء، والتهميش، وقد جرى التواطؤ على قبول هذه الإستراتيجية اللغوية في المحافل العامة، لكن نسيما بتعمّده النطق بلهجته اليهودية في أثناء الحوار عن الأدب الجديد في العراق، إنما قصد أن يعيد النظر بكل ذلك، وزحزحة المسلّمات، فالشراكة تقتضي مشاركة كاملة في وسائل التعبير. حول هذا الأمر الخاص بصراع الهويات اللغوية قدّم الراوي الاستدراك الآتي "في مجموعتنا لم نكن يهوداً ولا مسلمين. كنا عراقيين مهمومين بمستقبل بلدنا، وبالتالي، بمستقبل كل منا. على أن المسلمين كانوا يحسون بأنهم عراقيون أكثر من الآخرين. ومهما قلنا لهم "هذه أرضنا ونحن هنا منذ خمسة وعشرين قرناً، وإننا سبقناهم إلى هذا المكان" فإنهم لا يقتنعون. نحن مختلفون... هويتنا ملوثة. فليكن. قرر نسيم أن يتحمل مسؤولية اختلافه وأن يفرض الاعتراف بهذا الاختلاف. لم يكن راغباً في الإقناع ولا كان يحاول تقديم براهين. كان يعرض أمراً واقعاً: نحن يهود ولا نخجل من ذلك"(12).

تخيّل الراوي أن ذلك سوف يُحدث صدعا في المجموعة، فمن الصحيح أن الأغلبية تتفاجأ حينما تقترح الأقلية موقفا مغايرا، فالتبعية ترسّخت بفعل الغلبة، لكن صدعا كالذي انتظره لم يقع، إذ قُبلت الخصوصية المقترحة، وهُضم الاختلاف الذي طُرح بغتة أمام الجميع، وكسب نسيم رهانه في نهاية الجلسة "لأول مرة أخذ مسلمون ينصتون إلينا باحترام. صرنا لائقين بلهجتنا متألّقين في ملابسنا الخاصة بنا. أفواهنا أخذت تستعيد أشكالها الحقيقية. تلك الأشكال التي ما انفكت تستعيدها منذ أجيال في حميمية البيوت. كنا نتجلّى من خلال صورة في تناغم تام مع وجوهنا ودون أي نشاز مع تفكيرنا. لم نعد مصبوبين عنوة في قالب جماعي غريب عنا وغير واضح المعالم. كنا هناك في فرادتنا الهشة والمتوهجة. ولم تعد تلك الفرادة علامة إهانة ولا رمز ازدراء. وبكلمات يهودية خالصة أخذنا نضع خططاً لمستقبل الثقافة العراقية. لم نعد مضطرين إلى التخفّي وراء ستائر مساواة وهمية. صارت ملامحنا تخرج من الظل وتتشكّل دون أن تشبه أحداً. كنا هناك بوجوهنا السافرة وقد تم التعرّف عليها والاعتراف بها أخيراً"(13).

قُبلت الشراكة على مستوى الجماعة الأدبية، على أنه ينبغي ألا نتوهم بأنها قُبلت في صورتها النهائية على مستوى المجتمع بكامله، فذلك وقع بين جماعة من الكتّاب الشباب الذين كانوا يتطلعون إلى مغادرة انتماءاتهم الأهلية الضيقة، وقبول بعضهم بعضا، لكنهم سينتهون إلى محاكاة الأغلبية، والانخراط في مروياتها الكبرى عن نفسها وعن غيرها. تعبر الأغلبية عن نفسها بصورة مباشرة، فيما تلوذ الأقلية بطرائق ملتوية. ويختلف رهان التعبير عن النفس عند الأغلبية عما هو عليه عند الأقلية. يريد نسيم أن يتطابق مع هويته اليهودية في محيط إسلامي، وذلك حق مكتسب، لكنه يتسبب في خدوش متواصلة للآخرين، فهو يريد أن يقف معهم على قدم المساواة بوصفه مواطنا وبخصوصية يهودية، لكن الآخرين يريدون تكبيله ضمن يهوديته التي وضعت في موقع أدنى. ولهذا يلازمه نوع من الاستفزاز، وما لا يقبله سواك، فليس من العدل أن تقبله. كان نسيم كاتبا مسرحيا شابا، شُغل بكبار الكتاب اليونانيين والفرنسيين والإنجليز إلى درجة أصبح فيها "فريسة لحمّى شبيهة بحمّى نماذجه". وللتعبير عن علاقته بالمسرح كتب مسرحية تراجيدية بملامح معاصرة، وجعل شخصياتها بأسماء هيلينية، فقد أراد أن يوارب بمقاصده، ويدكّ الصعاب بطريقة رمزية، ولكن بسبب عدم وجود مسرح لتحويل النص إلى عرض مسرحي، فقد رغب في نشرها أولا. نوّهتْ إحدى الصحف عن قرب صدور المسرحية في كتاب، وظهر اسم المؤلف "نسيم إبراهيم" بدل "إبراهام". لم يكن التحريف كبيراً على المستوى اللغوي، فالمقصود، كما يقول الراوي، هو "الشيخ نفسه أبو إسحاق وإسماعيل الذي وردت أخباره في التوراة والقرآن"(14). لكن استئثار إبراهيم باسم إبراهام، ودفعه إلى منطقة النسيان، أحدث ردة فعل قوية عند نسيم الذي أُخذ على حين غرة، فقد أريد بالتحريف أسلمة عائلته "كان يهوديا، وكان يريد أن يظهر إلى القراء كيهودي، ولن يسمح لأحد بأن يحجب وجه إبراهام تحت قناع تنكري لإبراهيم"(15).

التمايز اللغوي الذي يحيل على الهوية الثقافية توارى خلف نزاع رمزي حول الهوية الدينية. لم يقع تفهّم للتغيرات الصرفية في اسم العلم، إنما وقعت خصومة دينية، فأن تنطق الاسم "إبراهيم" فهذا يعني أنك تريد به أبا الأحناف، أي الجذر الأعمق للإسلام، وبمجرد إقرارك بأنه "إبراهام" فإنك تؤمن بالرواية التوراتية القائلة بأنه الأب الشرعي لأنبياء اليهود، وفي هذه الحال، يصبح الإسلام بأجمعه في الهامش، أي ملحقا بأصل يهودي. ارتسم سوء تفاهم عميق بين شخصيات مثقفة حول صيغة صرفية لرجل رجّح وجوده قبل نحو أربعة آلاف سنة، وذلك متصل بمعنى الهوية المغلقة على نفسها. لم تصمد علمانية الشخصيات أمام تلك الرواية سواء كانت قرآنية أم توارتية، فكأن الحاضر بكل ادعاءاته يستسلم لمرويات الماضي التي تكرس سرداً متماسكاً لم يزل يغذّي الحاضر بكل ضروب التعصب والغلو. يحيل هذا الاختلاف حول الهوية على نوعين من الاندماج/ النزاع في المجتمع العراقي خلال تلك الحقبة، اندماج بين النخب الثقافية الحديثة التي تريد تخطّي حبسة طوائفها، وانتماءاتها الدينية والعرقية، من أجل بناء مجتمع حديث تنصهر فيه كافة الأطياف، لكنها تفشل بسبب تصاعد الأيدلوجيات القومية والدينية، والإيمان بالمرويات التأسيسية حول الأديان والعقائد، فهو اندماج يضمر نزاعا مبطّنا تدفع به الأفكار القومية العربية، والأفكار القومية اليهودية، وهو ما أدّى إلى انقسام المجتمع حول تلك الأيدلوجيات وغاياتها، ثم نزاع أشمل وأعمق يتصل هذه المرة بالتشكيلات الكبرى للمجتمع، لأنه يستمد فاعليته من التمايز المبني على سرد خيالي يقول بالتفاضل، ويضمر درجة واضحة من التوجس، والخوف، والكراهية، وقد تفجّر بطريقة بشعة في أحداث النهب في عام1941. وقف قطّان على ذلك في "وداعا بابل" لكنه صاغه بطريقة مباشرة ومختصرة في روايته "فريدة" قائلا "مهما تفانى اليهود في التعبير عن وطنيتهم، وفي نفي أي ميل للصهيونية، وفي إنكار أي صلة بالصهيونيين القادمين من الغرب، فإنهم يظلون يهوداً، أي مشكوكاً في ولائهم"(16).

يتغذّى سوء الظن من فرضية لها صلة بالرواية التوراتية للتاريخ، إذ تدّعي الجماعة اليهودية أنها عراقية أصلية، وأن العرب طارئون قدموا من الصحراء. وثمة دمج لا يخفى بين تاريخ الجماعة اليهودية وتاريخ العقيدة اليهودية، فطبقا للرواية التاريخية فإن الجماعة اليهودية سُبيت من مملكة "يهوذا" ودمر هيكلها في عام587 ق.ب، واقتيدت إلى بابل في عهد الملك الكلداني نبوخذ نصّر، حيث دوّن الأحبار من الأسرى كتاب التوراة، ثم كُتبت شروحاته الأصلية المتمثلة بالتلمود. وهذا يقصد به ظهور جماعة دينية منفية بلا وطن. بقيت فكرة المنفى قابعة في المخيلة العامة كجزء من فكرة الشتات، وقُبل المنفى بوصفه مكانا مؤقتا، إذ لا بديل له، ولم تكن قد ظهرت إسرائيل بعد. عُرض هذا الأمر بصورة ملتبسة في "سياق نزاع الهويات" لا صلة للعرب ببابل. حين فتحوها كنّا سكانها الأصليين. جئنا إلى هنا أسرى. عبيدا لنبوخذ نصّر، إلا أننا انتصرنا على الرغم من هزيمتنا. "وعلى هذه الأرض كتبنا التلمود"(17).

عُدّت بابل موطنا يهوديا، فهم سكانها الأصليون، ونظر إلى العرب على أنهم عصبة غازية تدفقت من صحراء شبه الجزيرة، فقد جاءوا حاملين تقاليد الغزو الصحراوي، وعند حدوث أي احتكاك يكشف العربي المسلم عن معدنه البدوي الأصيل: النهب، والسلب، والقتل "مع أول انفراط للقوانين والرقابة يستعيد المسلمون غريزة الذبح"(18). وهذه الصورة المعتمة لها رديف في رواية "فيكتوريا" ففي سياق الحديث عن بغداد يرد الآتي "بغداد راسخة في مكانها لأكثر من ألف عام. وتلك المدينة الكبيرة التي تطورت عن قرية نائية في أطراف الإمبراطورية الساسانية تدين بالكثير لآباء فيكتوريا (= اليهود). لقد ساهم الأطباء والعلماء والمفكرون والسياسيون والأدباء اليهود مساهمة كبيرة في بلورة الحضارة العربية التي نشأت هناك. لكن أجيالاً من الغزاة والفيضانات والأوبئة والملاحقات والمذابح لم تعمل فقط على إضعاف القوى الروحية للطائفة اليهودية بل وجعلتها تفقد ذاكرتها. وقد انزوى اليهود كذلك في حي ضيق جداً، فولد الكثير منهم وكبروا ثم هرموا وماتوا دون أن يغادروه، تلك الطائفة التي ألف أجدادها التلمود البابلي وطفقت طموحاتهم الآفاق، تقلّصت آفاقها إلى حد كبير"(19).

ارتسمت صورة سلبية للمسلمين بوصفهم غزاة بالطبيعة، وينبغي الحذر منهم. ففي عمق المخيلة اليهودية يترسّخ خوف من المسلمين، ولطالما حذرت الجدّة أبناءها وأحفادها من مغبة الذهاب إلى الأحياء الإسلامية كي لا تقع المخالطة، وحتى زيارتها لبعض الأُسر الإسلامية كانت تتم بكثير من الحذر، والبرود، فكل تفكير بعلاقة مع المسلمين قد يتبعه توثيق الروابط والصلات، وذلك يعني دخول المسلمين في المنطقة اليهودية، وكانت الجدة حذرة من أن تقابل زياراتها بزيارات مماثلة، فذلك يفضي إلى اندماج غير مرغوب لا تريده هي. وبالمقابل ينظر المسلمون إلى الجماعة اليهودية بريبة معلنة، لأنها غير حائزة على سمة المواطنة الكاملة، وكونها، حسب تصورهم، تغلّب الانتماء للعقيدة على الانتماء للوطن، وهي موصومة بالدونية من لدن المسلمين، وغير مؤهلة لأن توضع موضع المساواة معهم. حدّد الموروث الديني المواقع، والرُتب، وقرّر الأدوار، وفي ضوء ذلك بدا الاندماج اليهودي داخل الجماعة الإسلامية متعذرا، في الرواية اليهودية، وإن حصل فهو مصطنع يقوم على فكرة الخداع، لأنه من الباطن نزاع مؤجل سيعبر عن نفسه في ظل أية أزمة.

لا تحوز شخصيات النص استقلالية كاملة فهي رهينة التحيزات الدينية، ولهذا يتعرّض الراوي ونسيم لمضايقات بوصفهما يهوديين في مدرسة إسلامية، فلم يقع هضم الأغيار في ثقافة نهضت على مبدأ الفصل بين الأديان، والمذاهب، والأعراق. ولم يرد ذكر لوجود مسلم في تجمّع يهودي سواء أكان مدرسة أم كنسيا أم منزلا، فيما يتمكن اليهود من التجوال في أماكن المسلمين، مع وجود نوع من الرفض المبطن لهم. وحدهما المبغى والمقهى كانا المجالين اللذين تتشارك فيهما الشخصيات جميعها بغض النظر عن خلفياتها الدينية، فالمومسات، والقوادون، والرّواد من طالبي اللذة، وجلاس المقاهي، يتوغلون في تلك الأماكن، عابرين الحدود الوهمية بين طوائفهم، وغير آبهين بخلفياتهم الدينية والعرقية، فما يعنيهم بالدرجة الأولى هو الاستمتاع، والمناقشات الذهنية.

هذا الموضوع سوف يطوره قطّان في راوية "فريدة" فالمغنية اليهودية الشهيرة تصبح عشيقة لأحد أهم رجالات بغداد، فالمتعة الجسدية لا هوية لها. تتراجع التخيلات الفاسدة إلى الخلف حينما تحضر متع الجسد. في تلك الرواية عرض قطّان مصائر ملتبسة لمجموعة من الشخصيات على خلفية أوضاع مزعزعة للطائفة اليهودية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين في العراق، فاختيارات الشخصيات حدّده الوضع الهش لليهود في وسط إسلامي متوجّس، وطائفة منكفئة على نفسها. وقد شكّلت أحداث الفرهود اختبارا فاصلا بين المضي في وهم الانتماء للعراق، أم البحث عن وطن بديل حيث ترتسم إسرائيل في الأفق بوصفها وطنا للخلاص النهائي، ففي الأرض "المقدسة" يكمن الوعد الأخير بالطمأنينة والشعور والانتماء، وكل ما سوى ذلك عارض ولا سبيل لاختبار صلابته.

يناجي سليم عبدالله نفسه في نهاية الرواية، وهو يتأهب للرحيل باتجاه إيران "طهران ليست سوى محطة، بضعة أشهر ويغادرها نحو مكان آخر حيث سيكون عليه أن يخترع لنفسه عالما آخر، وحيث سيكون عليه أن يولد من جديد رجلا جديدا. هناك سيتلاشى ماضيه في ماضي شعب بأسره"(20). ثم أفصح عن حلمه التوراتي، وهو يخاطب عشيقته "فريدة" قبل وقت قصير من مغادرة بغداد "سنلتقي في بلد جديد نبنيه بأيدينا، سنشيّد لنا بيتا ونعيش حياتنا الجديدة. لن يكون لأحد أن يشهر في وجهنا إصبعه. لن يكون لأحد أن يشعر تجاهنا بالغيرة أو الاحتقار. سنكون أشباها ونظراء وسنتكلم لغة واحدة. اللغة التي سنتعلّمها. وسيكون لكل كلمة المعنى الذي نراه"(21). وكان الراوي في "وداعا بابل" قد ناجي نفسه بعد زيارة إلى بابل اكتشف فيها أنها هي موطن اليهود إثر سبيهم، فاستعاد رحلة النفي لشعبة اليهودي، كما صورتها المرويات التوراتية "ونحن في طريق العودة، لم أحس برغبة في الأكل ولا في الغناء. كنت في صف المتناومين إلا أني لم أكن نائما. أغمضت عينيّ وأخذت أرى نفسي حافي القدمين، ماشيا على الرمل الحارق، وعلى الظهر حمل ثقيل، إلى جانب إخوتي الأسرى، ونحن نعبر الصحارى والأنهار والسهول دون أن نحني الظهر أو نخفض الرأس. كنا نغمض الجفون على مشهد ذلّنا، مهيئين أنفسنا لنمنح العالم التلمود، ذلك الكنز من الحكمة الأبدية(22). صورة الإذلال التي تعرض لها اليهود في سبيهم، وجدت لها مكانة في الرواية اليهودية، فمن ذلك ما ورد في رواية "فكتوريا" من خوف كامن في المخيلة اليهودية من سبي جديد، فخلال الحرب العالمية الأولى ذعر اليهود، وخيم عليهم خوف من أن يكونوا ضحايا للحرب، لكن العارفين ببواطن الأمور هدأوا خواطرهم قائلين بأن ميدان الحرب بعيد عن بغداد، فالحرب "تدور رحاها على بعد شاسع أبعد مما يتصور الخيال، ولا خوف من نبوخذ نصر جديد يهدم أسوار بغداد ويسوق يهودها إلى العبودية في المنفى"(23). وقد أصرّ سليم في رواية "فريدة" على أن يظهر بوصفه ضحية دينية، وتجاهل الأخطاء الشخصية التي سقط فيها، ومن الصعب تخريج هجرته من العراق على أنها نتيجة اضطهاد، فهي وضع حل نهائي لشخص هارب من وجه العدالة. قد يقع خلاف في كونه متورطا في جريمة قتل صديقه اليهودي "ساسون قره غولي" ويحتمل أن يكون ثمة توريط سببه المال، أو مجرد اختلاق تهمة، لكن سيرته الشخصية، وعلاقته بالقتيل، من جهة، وصلته بالمغنية "فريدة" من جهة ثانية، ترجّح أن تلفيق سبب ديني لهروبه، لا يمكن الأخذ به، فلطالما كان شخصية دنيوية، عاشر المومسات، وضارب بالأموال، ثم سقط في سلسلة من الأخطاء، أنقذته منها عشيقته، وتمكنت من تهريبه من السجن بعد حكم بالمؤبد، وإيوائه في منزل عشيقها جواد هاشم مدير شرطة بغداد لمدة طويلة، وهيأت له الفرصة ليعيش بعيدا عن الأنظار، وقد تنكّر بأزياء النساء لممارسة حياته في قلب بغداد، وطاف أزقتها متخفيا، وهو ما سهل له أمر الهرب إلى طهران تجنبا لإلقاء القبض عليه. فكيف تلتصق بتأملاته ومناجاته أسباب أخرى للهجرة؟.

قضية إنتاج هوية زائفة لسليم بوصفه يهوديا مضطهدا على خلفية من أوضاع قلقة ليهود العراق أمر لا تدعمه أسباب سردية متينة في النص، فقد كان خروجه أقرب ما يكون إلى عملية تهريب قامت بها عصابة غامضة. وبعبارة أخرى إذا كانت المنظمات الصهيونية الناشطة في الوسط اليهودي قد دفعت كثيرا من اليهود الساخطين نتيجة التميز الديني في العراق بسبب تصاعد الأيدلوجيات القومية والوطنية، للهجرة إلى "أرض الميعاد" وهو ما أشارت إليه روايتا قطان بصورة واضحة، فإن سليم عبدالله لم يكن يندرج ضمن هؤلاء، فهو لم يكن حاملا للرسالة اليهودية التي تقتضي تضحية، إنما هو رجل مغامر سقط في هفوات دنيوية، وليس من العدل أن يبحث عن تخريج يهودي لقضيته. فكل الشخصيات اليهودية المجاورة له في العالم السردي الافتراضي للرواية ـ وبخاصة "فريدة" و "ساسون" ـ تمكنوا من شق طريقهم في الحياة، وسط مصاعب عامة تماثل من يواجهه غيرهم، وإذا كان ساسون قد ذبح في مسلخ اللحم، وأصبحت "فريدة" أشهر مغنية في العراق، فذلك إنما لأن السرد رصد المسار الشخصي لمصائرهم، أما سليم فقد جاءت نهايته ملفقة.

تنجرف شخصيات نعيم قطان في تيار الحياة البغدادية، وتلامس روح النزاع الكامن بين الطوائف والأقليات، ويدّعي بعضها أنه منخرط في المشروع الوطني العابر للانتماءات الدينية والعرقية، لكنها تنتهي منحبسة في هويتها الدينية الضيقة، ويظهر المسلمون بدوا أشرارا اكتسحوا المجال العام، وسيطروا عليه، ففريدة تتوجس من جواد هاشم كونها يهودية، فيما لم يبادلها الخوف نفسه، ومع أنه منحها ثقته، وخصّها بمنزل كبير، وخدم، فإنها استغلت ثقته لتوريط حرسه وأتباعه في تهريب عشيقها سليم من السجن، ونقله إلى البيت الذي خصّصه لها دون أن تفكر بالتبعات المترتبة على ذلك لو كشف أمره. لقد جرى استغفال مدير الشرطة، فأوى في بيته من حيث لا يعلم، متهما هاربا من السجن، وورّط حرسه في أمر تهريب متهم، وأُجبر خدمه على طمس السر، وإخفائه عنه داخل بيته. وهو أمر له ما يناظره في "وداعا بابل" فنسيم، والراوي، ينخرطان في علاقة متوازنة مع الجماعة الإسلامية من أصدقائهما، ولا يظهر أن مسلما ينوي سوءا بهما، ومع ذلك ظل توجسهما قائما. وفي الروايتين تستعاد أحداث النهب على أنها رفض لجماعة غريبة، فتلك حادثة بصمتْ في الأفق خطراً ماحقا، وصار ينبغي على كل يهودي أن يفكر بالهجرة، فالهوية اليهودية غير معرّفة إلا بوصفها مصدرا لعدم الثقة، وفي ضوء هذا التأويل يشعر اليهودي بدونيته، وبأنه غير مقبول.

لم تكن الجماعة الإسلامية بريئة من استشراء ثقافة الكراهية في أوساطها وفي علاقاتها بأصحاب الأديان الأخرى، لكن انكفاء الجماعة اليهودية على نفسها في أحياء خاصة، رسخ في المخيال الجماعي بأنها تشكيل هش في علاقته بالآخرين، وإقرار بعدم الرغبة للانتماء إلى الجماعات الكبرى، بغية الحفاظ على الهوية اليهودية، ففكرة "الغيتو" تقليد ملازم للأخلاقيات اليهودية، لأن الجماعة موعودة بأرض أخرى طبقا لرواية التوراة، ويزداد الأمر تعقيدا، بالنسبة للعرب، حينما يدركون أنها تتطلع إلى إقامة وطن قومي على حساب جماعة عربية من السكان الأصليين، فيقع صدام بين المرويات يغذّي سوء التفاهم بمزيد من الشكوك، وذلك يؤدي إلى توتر دائم في العلاقات. يشعر اليهودي بأنه مقتلع، وقد أجبر على العيش في منفى مؤقت، لكنه موعود من الرب بتصحيح الخطأ في يوم ما، والعودة إلى الوطن، فيما يرى المسلم بأن الأخذ بهذا الوعد سيؤدي إلى اقتلاع جماعة عربية من فلسطين.

6 ـ السرد والذاكرة: هوية التابع
تلازم الراوي فكرة الاقتلاع، وهشاشة الانتماء، فيتزامن بحثه عن الهوية الدينية، مع بحث موازٍ عن الهوية الثقافية، ثم الهوية الجسدية، فهو يتطلع إلى استكمال مكونات هويته كلها، لكنه يتعثر في مساره الصاعد شأن أي شاب يمر بالحقبة الرومانسية، وتكوين الذات، إذ ينزلق إلى مناطق الدهشة الدائمة، والاكتشافات الشخصية المحمومة سواء كان ذلك على المستوى الثقافي أو الجسدي، فما يشغله هو الكتب والنساء. كان قد بدأ يتعلم الفرنسية كجزء من المقرر الدراسي في مدرسة "الإليانس" وهي مدرسة علمانية أسستها الإرسالية اليهودية الفرنسية لتعليم اللغات، والعلوم الدنيوية، فتعرّف إلى هوغو، ولامارتين، والفريد دي موسيه، ثم درس حكايات لافونتين، لكنه تخطّى كل ذلك وقرأ لأراغون، وأندريه جيد، ومالرو، وتخيل ألا أحد سواه في بغداد يعرف الكتّاب الفرنسيين المعاصرين في أربعينيات القرن العشرين. عشق بشغف كبير أراغون، وبسببه "بدت لي فرنسا أرضا مختارة لم أشك لحظة واحدة في أنها المكان الذي تتحقق فيه الرغبات كلها، ويشبع فيها كل ظمأ مهما بلغ من الحدة"(24).

كانت فرنسا، خلال الحرب العالمية الثانية، تعيش نزاعا بين حكومة فيشي التي أقامها الاحتلال الألماني، وحكومة فرنسا الحرة بقيادة ديغول التي تمكنت من السيطرة على لبنان وسوريا، فجاء لاختبار الطلبة اليهود في بغداد معلمون أرسلتهم سلطات فرنسا الحرة. طُلب من التلاميذ في موضوع الإنشاء أن يشرحوا معنى لبيت شعري قاله الفريد دي موسيه تغنّى فيه بالعذاب والألم، لكن الراوي استغل ذلك فعرّج على ذكر جيد، ومالرو، وبما أنه تخوّف من ألا يكون الممتحن قد سمع بهذين الكاتبين، فقد ذكر من باب الحيطة لقبا أمام كل منهما "الكاتب الفرنسي المعاصر المعروف". أما في درس المحفوظات فطُلب تدوين ثلاث قصائد من الشعر الفرنسي، فكتب هو قصيدتين لأراغون، وبودلير، ولسدّ الذريعة خطّ نصا من خرافات لافونتين. أراد بذلك أن يزحزح موقعه، ويلفت النظر إليه، وينخرط في مغامرة غير مضمونة، فربما يكون الممتحن من أنصار القدماء، فيقع هو في المحظور، وربما يكون سمع بأراغون أو مالرو، فيكون قد ربح المغامرة. خيم عليه قلق كامل، وحينما التقى الممتحن، وتأكد بأنه فرنسي حقيقي، وصف حاله كالآتي "ظللت أنظر إلى ممتحني بلهفة شديدة. كان أول فرنسي حقيقي أراه بلحمه وعظمه. هذا الرجل ينتمي إلى جنس موليير وبودلير. كنت أرى له قدرات سحرية هائلة وأكاد أوقن بأنه ليس مثلنا إطلاقا"(25). حينما يشعر المرء بأنه مقتلع، يفقد توازنه، ويجد في رغباته نوعا من الخلاص النهائي لمصيره، بدا له المعلم الفرنسي كائنا جاء عبر الأثير. وفي الامتحان الشفوي طُلب إليه شرح قصيدة بودلير، فتلعثم، ولم تسعفه ذخيرته من استحضار المرجعية التي عبّر بودلير عنها في قصيدته، فتطوّع المعلم وشرح له مقاصد الشاعر، فغمره شعور مفاجئ "اكتشفت من خلال حديثه أن فرنسا تحتوي على آلاف التفاصيل الملموسة، وأن لها حياة يومية وتقاليد دينية كنت أجهل عنها كل شيء، ولم يكن وفي وسع أي كتاب أن يجعلني أعرفها"(26). فضحت شروحات الأستاذ جهل التلميذ "صدمت باتساع معلومات ذلك الشاب الفرنسي البسيطة والحقيقية التي جعلتني أتعرّف على مدى جهلي. في بغداد، وفي مجال الفرنسية الذي لم يكن لي فيه معارضون كثر لقلة المطلعين عليه، كدت أتصوّر أني أصبحت حقا مرجعا لا يعلى عليه. كنت متربعا على عرش معرفةٍ اتضح أنها موهومة. فجأة تداعت ثقتي في نفسي دفعة واحدة. أثبت لي الفرنسي بالدليل المفحم أنه لا يكفي أن نعرف أسماء بعض الكتاب ولا حتى أن نقرأ بعض كتبهم"(27).

لا يخفى التوازي بين هوية متوهمة وهوية حقيقية، فقد الطالب توازنه، إذ تعرض لطعنة من المعلم الذي كشف له كل ما تضمره قصيدة بودلير، وباختصار فقد فضح إدّعاء تبجّح به مع نفسه، ولكن الفتى الذي تراجع تحت ضغط جهله بالمرجعية الشعرية لصاحب "أزهار الشر" تقدم ثانية تحت إحساس خادع بأنه أعرف من المعلم بأراغون "لا شك أنه لم يسمع حتى بوجود مواطن له يحمل هذا الاسم". ولو كان المعلم قد سمع بهذا الشاعر، فلا بد أن يكون قد "أعجب بتكريمي لأحد منشدي فرنسا الحرة التي ينتمي إليها" فقد كان أراغون من أنصار المقاومة الفرنسية ضد النازيين. بدا الممتحن الفرنسي وكأنه لم يهتم بصاحب "عيون إلزا" فلما وضع الطالب القصيدة تحت نظر الأستاذ بزهو، اكتفى الأخير بأن قال إنها "قصيدة جميلة". حاول الطالب دفع أستاذه إلى منطقة حرجة معتقدا أنه بجوابه السريع ربما يكون يجهل الشاعر، فطرح سؤاله بصيغة الإيجاب "تعني أنك سمعت به". وجاء الجواب صاعقا خرّب كل شيء "طبعا إنه أحد أصدقائي".

اضطرب الطالب، وأصيب بالدوار، وهزته المفاجأة، فها هو بجوار شخص يعرف أراغون مباشرة "لم يعد الشخص الواقف أمامي ممتحنا ولا فرنسيا. كان أحد المختارين الذي ينتمون إلى جنس العظماء ويعيشون إلى جانب الآلهة والأنبياء"(28). ومضي مسحورا بتبعيته "نسيت الامتحان والقصائد وأراغون نفسه. كنت في حضرة ممثل حيّ عن تلك المملكة السحرية التي ينتمي إليها أصحاب أروع الأسماء التي تتصدر الكتب الفرنسية. أصبح ذلك الحضور حقيقة ملموسة. لم أعد مجرد منصت إلى تلك الأصوات القادمة من بعيد ناشرة المعرفة والحكمة. ها هي تلك الأصوات الجبارة لرجال حقيقيين تصلني عن طريق هذا الخيط المضيء"(29). ولما طلب إليه الأستاذ مرافقته إلى الفندق "فجأة خيل لي أن بغداد تنفجر بألف بريق جديد. اتخذ هذا القادم من عالم مخفي في بطون الكتب في نظري هيئة كائن هوائي، نوراني، لم أعد قادرا حتى على رؤيته بالعين المجردة. أحاطت به هالة من صنع انفعالي الشديد"(30).

تطلع الشاب للعثور على هويته الشخصية في ثقافة أخرى، ومكان آخر، غزاه السحر الفرنسي، فتخلخلت علاقته بالمكان وباللغة، وخيمت عليه آمال الصبا في أن يجد ذاته في مكان آخر. إن عجزه عن العثور على نفسه في بغداد المضطربة بصراع الهويات دفع به للبحث عن مكان بديل، لكن ذلك لم يكن منقطعا عن جانب آخر كان يتفاعل في أعماقه، إذ ينمو لديه اهتمام بالكتابة القصصية، ويفوز بجائزة، ثم يشرع في إرسال نصوصه إلى الصحف، فلا يجيبه أحد، وقبل أن يستسلم لليأس يصله خطاب من رئيس تحرير إحدى المجلات يطلب إليه زيارته. تلك بارقة أمل أحدثت فيه خضة، تماثل ما ستكون عليه خضة الفرنسي، وكل ما شغل به، وهو على عتبة الاعتراف الأدبي، أنه كان صغيرا، ومجرد مراهق بسروال قصير، فلكي يعترف به فلا أن يكون كبيرا، ولا يسمح ليهودي مراهق من ارتداء بنطال، إلى كل ذلك فإنه يخفي عن أهله الأمر، كي لا يكون مثار سخرية.

وفي الموعد المحدد، يغادر المدرسة، ويتجه إلى مبنى المجلة، وهي دار عتيقة يسكنها رئيس التحرير، وهو كاتب مشهور، وخلال الطريق يمرّ بحي البغاء، ويرى الماخور، فيستثار، ويتلوى جسده بالرغبة المؤجلة. ليس ما يحتاج إليه فقط اعتراف أدبي، بل هو بحاجة أيضا إلى اعتراف جسدي، ولا يمكن له أن يبلغ المكانة الأولى، إن لم يمر بالتجربة الثانية، فيتزاحم في داخله أمران، رغبته في أن يعترف به كاتبا، ورغبة جسده المكبوتة لأن تخوض تجربة جنسية "صرت على مقربة من الحي الذي يوجد فيه الماخور. ودون أن أشعر قللت من سرعتي وقد غلبني الفضول. أمام مكان التيه والضياع ذاك كانت فحولتي الناشئة تنسيني المخاوف والمحاذير. النساء هنا يتمتعن بكل ما يمكن أن يحلم به المرء. ليس عليّ سوى أن أعبر الشارع. إنهن جاهزات للاستعمال، لا ينتمين إلى عالم الأحلام والخيال. ولكن هل أجرؤ على اجتياز العتبة؟"(31). يسقط في منطقة الحيرة، والارتباك، فهو يريد طقسا شخصيا للعبور قبل الاعتراف به أديبا. وضعته الرغبة أمام سؤال جوهري مفاده البحث عن اعتراف جسدي، فذلك يؤهله للاعتراف الثقافي، ولما خانته شجاعته الطرية، راح يبحث عن عذر لفشله، إنه السروال القصير الذي فضح عمره. لقد مرّ بجوار الحقيقة العظمى، لكنه انعطف هاربا من التعرف إليها، فانفلت مسرعا وخائفا من أن يضبط بخواطره المحرمة.

تتوازى في كتاب "وداعا بابل" هويتان ملتبستان، هوية الراوي، وهوية طائفته اليهودية، وكلتاهما مرتهنتان بوعد، ومنجرفتان إلى مصير غامض، لا تعثر الطائفة على أي نوع من الطمأنينة على نفسها في بلد يعاد فيه تعريف الهويات، ولا يجد الراوي أنه قادر على العثور على نفسه لا في المكان، ولا في اللغة، ولا في المجال العام، وباستثناء المبغى والمقهى، فهو بانتظار سبي جديد كما سبي أجداده، سوف يختار فرنسا بوصفه فردا، لكن جماعته سيعاد أمر ترحيلها مرة أخرى، ويحتمل أن يتحقّق الوعد التوراتي في الوصول إلى أرض الميعاد. هذه الدائرة من الارتحال الدائم العابر للأزمنة والأمكنة نجد لها مثالا باهراً في شخصية "شلومو" التي تمثل المركز الجاذب لكل شيء في رواية "شلومو الكردي وأنا والزمن" لسمير نقّاش.

7 ـ محاولة لاسترضاء الله
تثير رواية نقّاش، مثل روايتي قطّان، جملة من الأسئلة المتصلة بهوية اليهودي الذي كلما توهم أنه وجد ملاذا في بلد ما إلا واقتلع من جديد، فكأن ثمة سخطا ربانيا لا يزول إلا بعودته إلى أرض الميعاد، لكنها تختلف عما يقترحه قطّان من حلول، فالشخصية الرئيسة فيها تواجه بالدين والمال شعورا مترسخا بالهشاشة. وتتشكل ملامح اليهودي التقليدي المُساكن للأغلبية الإسلامية الذي يتنازعه انتماءان، انتماء خاص لطائفة دينية، وانتماء عام لثقافة كبرى، فشلومو بن يهوذا كتّاني الكردي، تلازمه الطقوس اليهودية، وأدراج التوراة، وصرر المال، حيثما كان، ولا ينفك يحمل معه كتاب الصلوات، وشال الصلاة (= الطاليت) ثم الحزامين الجلديين اللذين إعتاد المؤمنون من اليهود على لفهما حول رؤوسهم وأذرعهم في أثناء الصلاة (= التفيلين) وهو شديد الحرص على تناول اللحم الحلال (= الكاشير) وكل ذلك من التقاليد التي ترسخت خلال العصور الوسطى، وأصبحت جزءا من الهوية الدينية اليهودية، ويعاد تمثيلها في هذه الرواية بوصفها جزءا من هوية اليهودي.

لا يخفى التماثل بين شلومو، وبين المؤلف، فهما يعرضان رؤية مأساوية حول الاقتلاع، والتشرد، فكما أن سمير نقّاش عاش في العراق، وإيران، والهند، وإسرائيل، ثم بريطانيا، فإن بطل روايته يُدفع إلى خوض تجربة مناظرة في عالم سردي افتراضي يغطي هذه الأمكنة، باستثناء الأخير. فالرواية شهادة سردية ذاتية على ترحّل إجباري بين مدن وبلدان يستعيدها شلومو الذي عاصر نحو قرن من الأحداث، وهو شيخ هرم في مستعمرة "رامات غان Ramat Gan" في اسرائيل، حيث ختم مسار حياته الطويلة في هذه المستوطنة، وهي التي توفي فيها نقّاش في عام 2004 فتطابقت نبوءة الشخصية مع حال المؤلف. وكان شلومو حريصا على رواية سيرة حياته، بوصفها حكاية اعتبارية ليهودي عاصر أحداث القرن العشرين في إيران والعراق "يحلو لي أن أعيد حكايتي، ألف مرة قبل أن يطويها معي، الموت والنسيان"(32). وصف شلومو نفسه بأنه الذي "رأى بعيني عقله ميلاد الأحداث وهي في رحم الغيب وتكهّن بمسارها، فافتدى بماله نفوسا كثيرة"(33). فقد تنبئا بما سيحدث لطائفته اليهودية، مؤمنا بأن ذلك قدر إلهي، فإيمانه الديني أعمى بصره عن التصّرفات الدنيوية للبشر. من الصحيح أنه شغل بتفسير النزوع العدواني الذي استبطن بني الإنسان ولازمه طويلا، لكنه أحال ذلك إلى رغبة إله عازف عن الرحمة، وهو ما يذكّر جزئيا بموقف إله اليهود، فتفسيره للصراعات الإمبراطورية في أذربيجان بين العثمانيين والروس لا يعزوها إلى مصالح دنيوية، إنما إلى أن تلك القوى مساقة لتنفيذ رغبة شريرة غامضة. لم يبد شلومو معارضة معلنة يفصح فيها عن موقف رافض لاحتلال مدينته، وجلّ ما كان يقوم به هو الذهاب إلى الكنيس، وقراءة الصلاة "القديش" على أرواح الموتى. وكنز المال لدرء مجاعة متوقعة.

ولكن بموازاة هذه القدرية الدينية برهن شلومو عن أنه يهودي متسامح، فقد تعالى عن انتمائه الديني الضيق، وشمل بحبه المسلمين والنصارى في صبلاخ (= مهاباد) وأخفى في منزله طوال مدة الاحتلال الروسي الأخيرة للمدينة، أسرة شريكه "مير علي" وهي أسرة مسلمة، وتشارك معها الطعام، والمصير، فيما كانت صبلاخ تهوي تحت ظلال مجاعة مميتة، وموت شامل. وبإزاء درجة عالية من التفاني الأخلاقي كوفيء شلومو بتشرد دائم، فقد هرب إلى العراق، في نهاية الحرب العالمية الأولى، على خلفية تهمة ملفقة مؤدّاها تعاونه مع "الغرباء" فقرر شاه إيران إعدامه، ثم رحّل من العراق إلى إيران، بعد أن استقر به المقام في بغداد لثلاثة عقود، لأنه كان إيرانيا، ولم يحز الوثائق العراقية، وأخيرا توجّه إلى إسرائيل لأنه فشل في أن ينخرط ضمن النسيج المجتمعي العام، وفي محطته الإسرائيلية شرع يروي كل ذلك.

تلوح في أفق العالم السردية للرواية قوى غامضة تكافئ العمل الخيّر لشلومو بانتقام فادح، فعلى المستوى الشخصي بدا مكافحا في بسط فكرة التسامح، والأخوة، والشراكة، بين الجميع، مهما كانت أديانهم، وأعراقهم، ولكنه على المستوى الرمزي كان منقادا لقوة مبهمة دفعت به إلى ترحّل متواصل. والحال فرؤيته للعالم أكدت بأن الإنسان مُساق بقدرية إلى مصير مأساوي، فلم يمت أحد في الرواية موتا سعيدا بين أفراد أسرته، وكافة الشخصيات لاقت حتفها في ظروف صعبة تراوحت بين القتل، أو الموت البطيء جوعا. وخيّمت مشاهد الموت على أجزاء كثيرة من النص، فشلومو عكس شموئيل في كتاب "عراقي في باريس" الذي ظهر خلوا من الهمّ العام، قاطعا رحلة التشرد، والاقتلاع، بمنظور كوميدي للعالم ولنفسه، لأنه مسرور بتلك التجربة الطريفة، ولا يريد استخلاص عبرة أخلاقية منها، أما شلومو فمنقاد لرغبة غامضة، وكل فعل بشري مرجعه إرادة إلهية غاضبة، لا يمكن استرضاؤها، فإلى جواره يتساقط مئات القتلى، جراء نزعات مدعومة برغبة الله، وكأنهم يفتدون بأنفسهم شبحا متعاليا. سعى شلومو، طوال الرواية، على جمع أدلة تؤكد عبثية الوجود البشري على الأرض، وما دامت الحياة سلسلة طويلة من الأحزان، تنتهي بالفناء، فلا حاجة بالإحساس الدنيوي المبهج، لأن الجميع بانتظار موت محتم، أما شاموئيل، فمنظوره المرح، جعل من الحياة مغامرة تستحق أن يعيش المرء من أجلها حتى لو كان مشرّدا.

استندت تجربة شلومو على المبدأ الآتي "في غبش الأشياء وجدت الذريعة، وفي غمرة الإعياء عثرت على الحجة"(34). فهو باحث عن ذريعة لتصرفاته قبل أن تتضح معالم الأسباب، ومتعلّق بحجة حينما يكون عاجزا عن الفعل، فالسلام الداخلي الذي يغمره، وله صله باسمه (شلومو = سلام) يقابل ببحر من دماء، وجوع قاتل، وحروب، ونزوح لا نهائي، وفرضيته عن مصائر البشر معلقة برغبة إلهية غاضبة، لاتني تطلب مزيدا من التضحيات. ولهذا ظل أمينا على طقوسه الدينية، وحمل أدراج التوراة في هجراته. وبقيت روحه معلّقة بخيط رفيع إلى سماء شغوفة بالدم، وحيثما يصل فثمة يهودي يقدم له المساعدة الأولى، قبل أن يشرع هو بكفاحه الشخصي. وهو كفاح لم يتعدّ الحصول على المال الذي وجد فيه دريئة لعوز قادم لا محالة. تقترن لديه الطقوس الدينية بالإيمان، وجمع المال بالكفاية.

تكشف الرواية المسار الفردي لحياة شلومو، وهو ليس فقط الشخصية المركزية فيها، إنما الراوي الرئيس لأحداثها، وسائر الشخصيات الأخرى جاءت لاستكمال النواقص التي يستحيل تقديمها بدون تلك الشخصيات الثانوية، وتظهر عصامية شلومو في عالم مهووس باقتراف الأخطاء، إذ لم يجد نفسه أبدا في سياق تفاعلي مبهج إلا مع زوجته الأولى "أسمر" ودون أن يصرّح أبدا بطبيعة تلك المباهج، فحياته سلسلة متواصلة من الجهود المرهقة لجمع المال بهدف درء غائلة جوع لا يعرف متى تحلّ، وحينما تحلّ فعلا تكون قد تحققت نبوءته الأولى في وقوع الكارثة. فهو يتحرك في محيط معلوم، ولا تنابه إلا مخاوف يومية حول ما سوف يقع، أما على مستوى وعيه العام فكل شيء قد قُرر مسبقا بإرادة عليا لا سبيل لكشف نواياها. يدفع اليهودي ثمنا لعذاب دائم لا يمكن تفسير أسبابه. من الصحيح أنه يتعرض لتمييز ديني وثقافي، ولكن ذلك التمييز نفسه جزء من ثمن ينبغي تسديده لإله لا يعرف الرضا. وهو في الوقت الذي يتشارك فيه مع الآخرين بعض متع الحياة الدنيوية، فإنه ينضم في الآخرة إلى جماعة تفانت من أجل إله غاضب، لكنه ظل عازفا عن إمكانية الاسترضاء.

إبان الحرب العالمية الأولى اقتحمت القوات الروسية شمال غرب إيران، واحتلت مدينة صبلاخ (= مهاباد) وذلك دفع بالإمبراطورية العثمانية المدعومة من طرف ألمانيا لاحتلال المدينة التي تسكنها جماعات إسلامية ومسيحية ويهودية معظمها من الأكراد. كان شلومو تاجراً كردياً ويهوديا، وقد اختير ليكون مسؤولاً عن الطائفة اليهودية، على الرغم من صغر سنّه، فتأمره القوات الروسية إبلاغ طائفته بالتزام الهدوء. خرج شلومو لتبليغ اليهود فردا فردا بالتزام الطاعة للروس، فقد كان الكنيس مغلقا، وبما أن ليلة الشتاء كانت مظلمة ومثلجة، فقد تجمد قدماه، وشعر بتصلب ساقيه، وراح يرتجف، فيعود إلى البيت بصعوبة ويطلب من زوجته "أسمر" دفن الجزء الأسفل من جسده تحت روث البهائم. تزامنت صعابه مع صعاب المدينة، وتفسيره بأن ذلك غضب إلهي، فقد خشي أن تغرق المدينة بالنار والدم. كان شلومو مؤمناً بالمصير اليهودي، وفي حالته المزرية تلك استعاد مروياته الدينية" تذكرت الطوفان، وغربة بني إسرائيل في مصر، وخراب الهيكل الأول، وخراب الهيكل الثاني، وسبي آشور، وسبي نبوخذ نصر"(35). وتحقّقت مخاوفه إذ سرعان ما وقعت المدينة تحت أهوال الحرب من نار ودم. فما حدسه تحقق طبقاً للنبوءة على غرار أحداث التاريخ. لا يفهم طبيعة النزاع بين الروس (الكفار) وبين الأتراك (المسلمين) لأن ذاكرته التوراتية خارج المجالين، ولا يفصح عن الطاعة العمياء للجيش الروسي، لكنه يعلن كثيراً عن آلام قدميه المتجمدتين فهو يدفع ثمن الخطيئة على المستوى الشخصي، ويكون علاجه بروث الأبقار والحمير والجياد والبغال، فيتساءل "أيمكن أن يحقق المعجزةَ، الدنسُ، وقذارةُ الحيوان؟"(36).

وحينما تلوح نهاية محتملة للحرب بين الروس والعثمانيين، يتبادلون مواقعهم أكثر مرة في المدينة المحتلة، وفي كل مرة ينكّلوا بإحدى الجماعات الأساسية في المدينة. يقتل الروس المسلمين، ويقتل العثمانيون اليهود والنصارى، فيدفع الأهالي ثمنا لا معنى له بين قوات إمبراطورية متحاربة في طريقها للفناء. ينتدب شلومو نفسه لوضع حدٍّ لهذه المشكلة، ويسعى لإعادة اللحمة للمدينة المستباحة من إمبراطوريات متنازعة. يذهب إلى الكنيس، ويطرح فكرته في خطبة للجمهور اليهودي "لايخفى على أحد منكم يا أخواني، أن بلدتنا المحروسة صبلاخ، تعاني منذ زمن محنة عصبية لم نسمع من أسلافنا عن محنة تضاهيها ألمّتْ بها من قبل، ولولا إخواننا المسلمين قد جمعوا وأجاروا الكثير منا في صبلاخ، لملأت قبورنا، مقبرتنا، ولتضاعف عدد قراء صلوات الميت "القديش" في كنيسنا هذا. والآن، وكلنا يسمع رعود المدافع المقتربة واللغط الشديد في الشوارع القريبة، ندرك أن الجيش الروسي قد أصبح على أبواب صبلاخ حفظها الله، وهذا يعني، أن محنتنا وأخونا النصارى، ستنتقل، لو دخل الروس البلدة، إلى إخوننا المسلمين، ومحنتهم كما تعرفون أشدّ وأقسى من محنتنا، فللروس معهم، كما يزعمون، ثأر يريدون استيفاءه، ولقد سبق ورأيتم ما حلّ بهم، حين احتل الروس صبلاخ في المرة السابقة، فسارعو يا إخواني كل إلى جاره المسلم وصاحبه وصديقه، فآووهم ببيوتكم قبل فوات الأوان، كان الله في عونهم وعوننا وعون صبلاخ وكل من بها، وليبارك الله كل من يؤوي جاره الساكن في وسطه، آمين"(37).

أظهر شلومو تسامحا مشهودا، فرسم خطة يجنّب بها المسلمين الإبادة: تفتح بيوت اليهود للمسلمين، ويؤوي شريكه "مير" وعائلته، ويخفيه في منزله، ثم يتمكّن من نقل آثاث بيته برشوة الجنود الروس بقناني من النبيذ. وعلى هذه الخلفية يظهر الختان الذي مرّ بنا من قبل في كتاب صاموئيل شمعون، لكنه للتمويه هذه المرة، وليس بوصفه طقس عبور، واعتراف، إذ يفكر باحتمال أن يعثر الروس على عائلة مير المسلمة لاجئة في بيته، فيضع خطة مضللة لهم "إذا بحثوا في بيوتنا، فسنخبئكم بعيوننا يا مير... ثم أن أهل صبلاخ لا يخالفون في السيماء، كما أنك على ما أذكر ختنت... ثلاثة أولادك... لم يبق إذن إلا أن أعلّمك شهادتنا اليهودية، كي يرتبك الروس ونضيع عليهم كل فرص الدنيا في القتل والإجرام داخل بلدتنا"(38). يصبح الطقس اليهودي سببا لنجاة المسلم، فأمام الموت يتم تخطي الهويات الضيقة المميزة للطوائف. وفي الختان يتشارك اليهود والمسلمون، والى ذلك ينبغي تلقين أسرة مير الشهادة اليهودية.

8 ـ ذعر، ومجاعة، وأكلة لحوم البشر
تتحرك الشخصيات في الرواية اليهودية على خلفية شعور جماعي بوقوع كارثة، فمصير الشخصيات الأساسية فيها غامض، وعلاقاتها بالمكان طارئة، وغالبا ما تلوح مظاهر ذعر جماعي يكون مصدره الآخرون، أو الطبيعة، أو التاريخ، ففي رواية "فكتوريا" يفتتح المشهد السردي الأول على فيضان نهر دجلة في بغداد خلال العقد الثاني من القرن العشرين، ونزوح الأُسر اليهودية الساكنة في بيت كبير على ضفته خوفاً من الغرق. يتزايد الفيضان خطورة، وتكتسح المياه الأزقة، فتهرب الأُسر تاركة المنزل العتيق في مسيرة جماعية ليلاً على ضوء الفوانيس، وضمن هذا الإطار الذي يمثله خطر طبيعي ماحق، لا نلمح إلا يهوداً هم الضحايا دون سواهم، فقد تكدسوا جيلاً بعد جيل في بيت قديم من عدة طبقات لم تراع فيه الخصوصيات الفردية، فنشأت أجيال من النساء والرجال معاً في نوع من الحياة المشتركة تقرب إلى المشاعية، تتخللها نزاعات يومية بين الجميع حول الطعام، والعمل، والجنس، والخوف، فتبدو الشخصيات فاقدة لخصوصياتها، إنما يمكن الإحساس بالكتلة البشرية الضخمة التي يهددها خطر الفيضان، وخطر الأتراك، ثم الخروج بقافلة جماعية للنجاة وسط البرد والظلام. يتضح التضامن بين أفراد الجماعة لكنه لا يخفي النزاعات اليومية التي تعوم عليها أحداث الرواية، فالبيت المتهالك قبر كبير حشر فيه الجميع دونما تمييز، بما في ذلك المخبأ السري الذي حفر تحت الأرض وخصص لإخفاء نحو عشرة من الرجال المتوارين عن أعين السلطات التركية كي لا يقع سوقهم للمشاركة في حروبها الإمبراطورية.

وتخيّم فكرة الخوف من مجاعة ماحقة في الفضاء السردي لرواية "شلومو الكردي وأنا والزمن" ولتجنّب ذلك يُكنز المال. لا يُكبح الجوع إلا المال حسب تصور شلومو الذي بذل جهدا كبيرا لترسيخ هذه الفكرة بين أهالي المدينة، ولم يأخذ بنبوءته إلا قلة قليلة منهم، إذ تجاهلت الأغلبية توقعاته المتبصرة "الذين سمعوا تحذيري أو تكهنت عقولهم بما سيحدث، فخزنوا الطعام منذ البداية، نجوا من غائلة الجوع، لكن المعدمين ممن لم يصلهم ذوو القربى والمحسنون، والمؤمنين بسحر الذهب وبقدرته على الإتيان بحليب الطيور، فقد أخذوا يبحثون عن الطعام بكل وسيلة، وحتى بخلاء الأثرياء في صبلاخ شرعوا يبذلون مالهم بسخاء للحصول على اللقمة. كانت تلك أياما سوداء كالفحم نقشت في الذاكرة سطورا داكنة لا تمحى"(39).

تصاحب المجاعة الحرب، فالقتل يحمل معه أسبابه ونتائجه. يتناوب الأعداء على احتلال المدينة "التي تحترق أطرافها وهي مطوقة بالنار، يصليها الرعب والحرمان والجوع". وكان الموت متربصا بالجميع، فالتُهمتْ الحيوانات: الكلاب، والقطط، والفئران "أكل الجياع كل ما يؤكل، وما كانت تعافه النفوس، أصبح يُلتهم بنهم وشراسة كأشهى الولائم، ثم وبسرعة خاطفة لم يبق في صبلاخ سوى الخشب، والحجر، والحديد، فحتى الجلود طبخوها والتهموها، وشرع الجوع ينفّذ وعيده بلا مبالاة. وأثبت أن معظم الناس في صبلاخ لا يختلفون عن غيرهم من البشر في أرجاء العالم، وأن حالهم اليوم مثله مثل حالهم بالأمس البعيد وعلى مرّ العصور، وفي محكّ التجربة يُمحى الحب، وتُمحى القرابة، تُمحى الصداقة، وتُمحى الأمومة والأبوة، وتبقى الأنا في سياق البقاء"(40). مزّق الجوع شمل الجماعة، وأعادها إلى حقبة التوحش الأولى في تاريخ البشرية، لا يستثنى من ذلك إلا قلة أرتقت إلى مصاف "الإنسان الحق" الذي لا يقبل أن يهوي إلى قرار الوحشية، ومن هؤلاء شلومو الذي ارتقى منبر الكنيس داعيا "طائفته إلى التعاون" لكن العقد التضامني الذي يصونه الاكتفاء تمزّق جراء الإملاق الذي نهش الجميع "فجأة بدأت مواكب الجنائز تتدفق في رحاب البلدة المنكوبة قاصدة مقابرها، وفي الطريق إلى المثوى الأخير لضحايا الجوع، كان يتساقط ضحايا من المشيعين... لقد أخذوا يشتهون لحوم موتاهم، وتحت جنح الظلام، حيثما وارى التراب أخا أو زوجا او قريبا، كان الثكلى ينهالون على التراب الرطب، يزيحونه بأظافرهم ثم يستخرجون أمواتهم ويقطعون أوصالهم ثم يلتهمونها وليمة شهية دسمة ستهبهم الحياة بعض الوقت وإلى حين تتسنى للمحظوظين وليمة اللحم البشري الأخرى. إنهم أولى بأحبائهم من الدود، بل هم ينقذونهم من التعفن والتفسّخ ويحمونهم من من سطوة الدودة الحقيرة، فيغيبونهم في أحشائهم حيث يكمن اللحد الجدير بالأحباء، أما الآكلون فقد وهبهم أحباؤهم شهداء الجوع، فرصة يحزنون بها عليهم، بامتزاجهم بهم وبتحولهم إلى جزء منهم. وفوق هذا فهم يقيمون عليهم ما يليق بهم من الحداد. إنهم الآن اللحد والحزن والعرفان"(41).

تمضي غائلة الجوع تكتسح في طريقها كل شعور إنساني بالرأفة، فتتهاوى أمامها الجموع "أخذت حشود الجياع ـ الثكالى تتنازع فيما بينها، وكلّ يدعي ملكية الجثث وأحقيته في التهامها. واكتشفت امرأة أن جارتها تأكل زوجها، وحاولت اختطاف جثته من ترابها، فدارت مشادة بين المرأتين الواهنتين تغلّب فيها الخور والضعف، فسقطت المرأتان ميتتين وجاء الورثة فدار صراع بينهم حول الأحقيات، والأولويات، وثارت مشكلة لمن أوصت المرأتان بجثتيهما". صار نزاع الجوعى حول المعايير الوراثية، وتقدم الموت خطوة أخرى، إذ "نظرت امرأة إلى ابن لها ينازع الجوع، وقبل أن يذرف آخر أنفاسه، نفذ صبرها فاحتزت رقبته واستحالت سحنتها إلى سحنة سعلاة معتوهة، فتلمظت وسال لعابها، ثم انهالت على "فلذة كبدها" بسكين، ومضت تقطع أوصاله وترمي أشلاءه شلوا شلوا في قدر من نحاس كبير، يغلى ماؤه على نار متلظية، وشمّ زوجها المريض هو الآخر جوعا، رائحة اللحم ينضج فوق النار، فنضح الجنون من خلايا جسمه، خلية خلية "فطالبها بحصته دون أن يعرف أنها من لحم ابنه، فتمنعت الزوجة، وأخبرته أنه لم يكن ابنه، إنما حملت به من رجل آخر، واتهمته بالجنون والخرف، ورد متهما إياها بالزنا، وعقوبتها القتل، وبما أنه لم يكن قادرا على ذلك طلب منها أن تفتدي نفسها بقطعة من لحم الابن. مضعت الأم قطعة أخرى" بشراهة الوحوش المتضورة، وبجنون لا مثيل له "وأخبرت زوجها أنه من المحال أن يكون ذلك" هيا ألفظ أنفاسك يا مأفون، لأستمتع أنا بالحياة"(42).

ظل شلومو يكنز المال، ويخزّن الغذاء بالأطنان، فهو مدفوع برغبة جارفة لمقاومة جوع رآه كثيرون متخيلا، لكنه تحقّق أخيرا فيما كانت الجيوش الروسية والعثمانية تتبادل السيطرة على صبلاخ، فلطالما أنذر أهل المدينة بحقبة من الجوع، والعوز، والموت. وقدمت الرواية تفاصيل مروّعة على الكيفية التي تفنى بها الأرواح البشرية، وهي تلهث سعيا للحظات معدودات من الحياة، فالموت الذي قدّرته النبوءة لابد أن يجد له سببا، وهو الجوع الذي به ختمت حقبة شلومو في صبلاخ. ووسط كل ذلك تحوم فكرة الاقتلاع التي تتوازى مع وهم الاعتقاد بوجود استقرار ثابت "كنت، رغم فطنتي، على أكبر قدر من السذاجة، لقد كان يخيل لي أن الإنسان إنما يولد في بيت ليموت فيه، وأن بلد المرء وحيّه وزقاقه وبيته، هي قدره الملتصق فيه مدى الحياة، إلا أن ما جرى لي فيما بعد حطم بي مفاهيم وأوهاما كثيرة وأكد لي على أشياء لم تكن تخطر على بالي"(43).

9 ـ الهوية: تضافر الدين والمال
وجود شلومو في صبلاخ أو بغداد أو بومباي، إنما هو حلقات متعاقبة في مسار طويل من الاقتلاع المتواصل، إنه مربوط بعجلة دوران كبيرة تلف به، وتأخذه حركتها الدائمة، وتطويه معها، وبإزاء عالم لا ينفك يدفع به صوب نهايات كارثية، ينكفئ هو على دينه وماله، فهما الثروة الرمزية والفعلية التي يدرأ بهما غضبا إلهيا ماحقا، وأطماعا دنيوية شرهة. يعود شلومو من موسكو إلى صبلاخ إثر رحلة تجارية مربحة، فيستقبل بحفاوة مع قافلة التجار على أطراف المدينة، وتفرح به زوجته "أسمر" فيخبرها بما أتى به، ومن ذلك شراء بعض الأسلحة، وفي استقباله كانت فتاة مغناج جميلة اسمها "إستير". شغل شلومو بـالصبية الساحرة، فبادرت "أسمر" إلى تزويجها إياه. إنها نزوة فحل، وينبغي أن تكافأ بعقوبة، إذ يأتي الزواج المتعجّل بفأل سيئ، ففي صبيحة اليوم التالي يُطرق الباب، فإذا برسول الشاه قادما من طهران يحمل أمرا بحضوره إلى البلاط الشاهنشاهي. انصاع شلومو للأمر، ووعد الرسول أن يمهله يوما للحاق به إلى طهران، لا تشغله هذه الأحداث عن فكرة جني المال، ولا عن أداء طقوسه الدينية، فأخذ معه حمولة ثلاثة بغال من "العفص" ومصحف صلواته، والتيفيلين (= التفليم) والطاليت (= الصصيد). قرر شلومو أن يمر بـ "تبريز" للمتاجرة قبل التوجه إلى طهران، وطوال الطريق كان يتضرّع إلى الله أن يوفقه في تجارته، وقد نسي أمر الشاه، وبجوار عين ماء، تعرّض لمحاولة سطو من قبل لصّين، لكن الموقف تغيّر حينما عرف اللصان الأخوان "جعفر أكبر" و "حسين أكبر" أنه شلومو بن يهودا كتاني، فقد أنقذهما أبوه من موت محقّق بعد أن ألقت السلطات عليهما القبض، وحكما بالموت. وبدل أن يخسر شلومو بغاله، عرض عليه الأخوان ثمنا مضاعفا لها. رميا له بصرتين مملوءتين بالمال، فغذّ السير إلى طهران، حاملا معه صرتي المال والرموز الدينية.

مثّل المال، والتيفيلين، والطاليت، وكتاب الصلوات، جزءا أساسيا من هوية شلومو، فلا سبيل للفصل بينه وبينها، وحينما وصل قصر الشاه تعرّض لتفتيش دقيق، فجرّد من ملابسه، لكنه أبى أن تنزع عنه أشياؤه "أوقفني حاجب الحضرة وأمرني بنزع ثيابي، ونبش خرجي، رأيت ومازلت أذكر، عينيه تلتمعان ببريق شهوة وحيرة، شهوة المال والحيرة إزاء سيور جلدية سوداء متصلة بمكعبات كصناديق جدلية، إزاء قطعة قماش مخططة بطرفيها المحفوفين بخيوط الإبريسم المعقودة، قلت له" رفقا باسم مولاي ومولاك، وابعد فظاظة يدك عن اسم الله كي لا يعاقبك ربّي وربك بشلّ يديك "وصحيح أن عينيه وجهتا إليّ سهاما نارية إلا أن يده ما لبثت أن ارتدت عن معدّات صلاتي، مرتعدة، وأعاد كل شيء لمكانه في الخرج، وقال "ضع هذا هنا حتى تخرج"فأجاب شلومو بالرفض" لا. لا. المال سيضيع، ومعدات صلاتي استعملها، ثم من قال إني سأخرج من هذا الجحر بأقدامي؟! سيبقى الخرج معي، ويغادر القصر معي، سواء إلى صبلاخ أو القبر. لن أترك الخرج هنا ولو قطعت رقبتي"(44).

انتزع شلومو الخرج من الحاجب، وضمه إليه، وهو يُدفع إلى غرفة الشاه حيث أُمر بالركوع أمامه. وجّه الشاه إليه تهمة تهريب الأسلحة إلى المتمردين في أذربيجان "بلغني أنك تحرّض في كردستان على الثورة والعصيان". في إشارة لمتاجرته بالسلاح حينما عاد من موسكو. اعترف شلومو على مضض بأنه كان تاجرا فحسب، وليس من شأنه إثارة العصيان ضد الشاه، فكان جواب الشاه "لعلك في هذا صادق، فلولا أنك يهودي، وينحصر تفكيرك في المال وحده لأمرت الآن بتعليقك في الشارع العام. لكنني لن أتخلى عن تأديبك، كي لا يعمي المال بصيرتك في المستقبل، اختر إذن بين خمسين جلدة عصا مرنة، وبين مئة جلدة عصا جافة"(45). أحدثت العقوبة تحدّيا في نفسه، فتمادى في حواره مع الشاه الذي أمر بفرض العقوبتين عليه لصلافته. وخلال عملية الجلد، تماهى شلومو مع ربه اليهودي "كان الله أمامي وورائي، كان فوقي ومن حولي، وكنت مبتلعا بغشاء واق من ظله سبحانه، وأمنت بصمودي المستوحى من إيماني به ووقوفي في وجه الظلم، نزعت عني ثيابي العليا، لكني تشبثت بمعدات صلاتي، أمسكت بها وعليها اسم الله، وتركت المال في الخرج بجواري وسط حضرة الشاه وهو يتسلّى الآن بتعذيبي، وسيمزج بخمرته الدم الذي سينزف من ظهري"(46).

ظهرت صورة الشاه كشارب دم، فهو يحتسي دم ضحاياه ممزوجا بالراح كأنه وحش أسطوري، دون أية إشارة إلى الذنب. تتعاقب صور التعذيب التي يبدو أن شلومو يلتذّ به، ففقد وعيه جراء ذلك، وحينما استعاده، فأول ما تذكر كتاب الصلوات، ومعدّاتها، وصرتي المال، فوجدها بجواره، لذلك غمره سرور داخلي "لم يعبث الأوغاد بديني ومالي". وإثر التعذيب عولج شلومو، وقدّم له طعام "الكاشير" طبقا للطقوس اليهودية، فأصيب بالحيرة، فقد استدعي من طرف الشاه الذي وجّه إليه تهمة مهلكة، وعوقب إلى أن فقد وعيه، وحينما استفاق فوجئ بطبيب معالج، وطعاما حلالا، فظن أن ربه أنجده وقت الضيق، ولم يكن مخطئا، فسرعان ما تعرّف إلى الشخص الذي قدم له هذه التسهيلات إنه "جلال رافضي". فتساءل إن كان من الممكن أن تقع معجزتان في رحلة واحدة، معجزة نجاته من الموت على يدي الأخوين أكبر، ومعجزة نجاته من الموت في بلاط الشاه، وتقديم العلاج والطعام من قبل رافضي؟

لا يكتفي رافضي بذلك إنما يقوم بتهريبه من السجن خلال غياب الشاه في رحلة إلى سان بطرسبرغ لقضاء الصيف مع قيصر روسيا نيكولاي رومانوف. لا يأخذ شلومو الأمر على أنه رد لجميل أبيه كما ادعى رافضي، بل طمع بماله "كانت نظراته تتسللان عبر القضبان وكأنه يبحث عن شيء ما. ساورني إحساس بأنه يبحث عن خرجي ـ الدين والدنيا ـ كان الخرج ينحشر في زاوية الزنزانة، ونظرات جلال رافضي ذبابة تحوم هناك، حتى لأكاد أسمع طنينها"، وأخيرا قال، وهو يبتلع ريقه "اسمع! إني أرد جميلا، ولن أبقي لنفسي شيئا "ضقت به ذرعا وهتفت" إن كنت ستخرجني حقا، فلماذا لا تخبرني، كيف ومتى؟ "لكنه لم يعبأ بسؤالي، بل قال: "أعطيت للطبيب حقه، وأعطيت للحاخام اليهودي حقه، ويجب أن أضمن سكوت الحراس، واشتريهم وذوي الشأن ببعض النقود كي ينسوك إلى الأبد"(47).

توهم شلومو بأنه اكتشف سر البلاط، فبوسع المرء افتداء نفسه بماله، لكنه يريد أن يعرف مقدار المال الذي ينبغي عليه أن يدفعه لرافضي. قارن شلومو بين ابني أكبر، وبين رافضي، وظهرت له المفارقة بين لصين محترفين، وموظف في بلاط الشاه، فقد ردّ ابنا أكبر جميل أبيه بصرتين مملوءتين بالمال، فيما أصرّ رافضي على أخذهما مقابل خدمة عامة. في هذه المرحلة طور شلومو مفهوما جديدا للمال، بوصفه وسيلة افتداء، دونما ذكر للدين، ففي داخله اتهم رافضي باللصوصية لأنه حرص على الاستئثار بالصرتين لنفسه "ببلاط الشاه تتربع عصابة الصفوة، يترأسها من ملأ خزائنه بكنوز سرقها من عرق شعوب إيران وكدحها". ثم وجه خطابه الداخلي إلى رافضي "وسواء عرفت أبي أو لم تعرفه، وسواء أسدى لك المعروف الذي تتحدث عنه، أو إن هذا محض حديث خرافة، فإنك بذكائك عرفت كيف تحافظ على مالي وإبقائه عندي لتأخذه مني من بعد، مصرورا لم ينل منه أحد غيرك قراضة فضة واحدة". وأضاف مناجيا نفسه هذه المرة "إني أحب المال، فهذا المال قد رفع من شأني وحباني وأهلي ببحبوحة العيش. وستأتي أيام تحرق الأخضر واليابس وسأستعمله في إنقاذ ناس حين يجف ضرع الدنيا فيموت جوعا من ينجو من جد السيف وقذيفة المدفع"(48).

اعتقد شلومو بأن الله أنجاه من الموت لأنه تسلح بموروث اليهودي المؤمن، فكتاب الصلوات ومعداتها أبعدت عنه الخطر، وماله حرّره من السجن. أي الأحجية والأموال التي حرص على حملها معه، وهو يتجه لمقابلة الشاهة القاجاري، ولكن بعد أربع سنوات، تفاجأ بزيارة غير منتظرة لرافضي في خضم أجواء الحرب، إذ جاء يخبره بأن الشاه قرر التخلص منه نهائيا لتعاونه مع "الغرباء" وعليه الهرب للنجاة بحياته، فاستحضر أمر المال الذي أخذه منه في السجن، لكن رافضي خيّب ظنه، فقد أسرّه بأنه يتحدر من أسرة يهودية، وعلى الرغم من أنه أسلم، فإن "العرق دسّاس" وينبغي عليه أن ينقذ يهوديا من الموت. ظهور رافضي يماثل ظهور "يهودا بحر" في بومباي الذي فتح أمام شلومو سبيل التجارة بين الهند والعراق، وهذا نسق تكراري نجد له نظائر في الرواية اليهودية، فمصدر الخطر يأتي من خارج الجماعة اليهودية، وغالبا من طرف المسلمين، فيما اليهودي هو الوحيد الذي يمد حبل النجاة ليهودي آخر يعيش المحنة.

وعلى غرار ما رأينا في حالة شلومو، نجد في رواية "فيكتوريا" لسامي ميخائيل، بأن يهوديا كرديا هو الذي حال دون مقتل "إلياهو بن ميخال" الذي ساقه ضابط تركي ضمن فرقة من المجندين اليهود للمشاركة في الحرب العالمية الأولى على الجبهة الروسية. فحيثما يمر الجند يستولون على ما يحتاجون إليه من القرى في طريقهم إلى ميدان الحرب، وفي كردستان لا يكتفي الضابط التركي بنهب الطعام، إنما يعتدي على ابنة أحد وجهاء الأكراد، فيقومون بإبادة الفرقة كيلا يبقى شاهد يشي بهم عند الأتراك، ولم ينج إلا الياهو الذي قدّم روايته للنجاة بالصورة الآتية "لما تسلقنا جبال كردستان ارتكب رئيس فرقتنا خطأ فادحا، حيث مدّ يده ليس فقط على طعامهم، بل على ابنة مختار كردي أيضا، فقتلوه على الفور هو وباقي رجال الفرقة كي لا يكونوا شهودا. ورأيت أمامي فوهة بندقية وخلفها سحنة كأنها الحجر، فصرخت "اسمع يا إسرائيل الرّب إلهنا واحد" وتحركت الفوهة إلى الأسفل وظلت مصوبة لمدة طويلة إلى أسفل البطن، وكان في داخلي شخص ما يصرخ "لا تخصيني، اقتلني ولا ترحمني، اسمع يا إسرائيل". واضح أن يهوديا من نفس القرية أمسك بيد الكردي وأقنعه بعدم قتلي. ركعت على ركبتي أبكي وأصبت بالإسهال... وخبأوني في مغارة، وبعد أيام أخذني اليهودي إلى عين ماء وطلب مني أن أنزل للماء حتى يصادفني جدول، فأطلب الطعام من القرى التي على طول الجدول حتى أصل إلى دجلة"(49).

نجا إلياهو من الموت، ومن المشاركة في جهاد المسلمين، فهو غير معني بكل ذلك، وعاد متخفيا إلى بغداد. وإذا كان شلومو قد حمل تعويذة النجاة الدينية معه، فإن إلياهو قد نطق بشهادة الموت اليهودية، فخاطب إسرائيل بأن ينجيه مرة، وبألا يفقده ذكورته مرة ثانية، واستجيب دعاؤه بظهور اليهودي المجهول الذي لم نجد له أثرا بعد ذلك في عالم السرد، كما لم نجد أثرا لرافضي ويهودا بحر، فالوظيفية السردية لهذه الشخصيات هي تقديم المساعدة، وعرض النجاة، فالشخصية اليهودية تمخر عالما مملوءا بالأشرار، ومع أنها حذرة، ومتأنية، فإنها تتخطّى الهلاك بمساعدة يهودي آخر لا دور له غير ذلك. اصطحب شلومو معه إلى بلاط الشاه كل ما جنّبه الموت، حمل التيفيلين، والطالوت، وكتاب الصلاة، وصرتين من الليرات الذهبية، وكان حريصا على تناول اللحم الحلال "الكاشير" وهو في السجن، وهذه عناصر متلازمة عند اليهودي المؤمن. ولكي تأخذ النجاة دلالتها ينبغي الوقوف على كل ذلك. يعد التيفيلين، أو التفليم، من مستلزمات الإيمان في الشريعة اليهودية، وهو عبارة عن صندوقين صغيرين من الجلد الأسود يثبتهما اليهودى البالغ بشرائط من الجلد على ذراعه الأيسر مقابل القلب وعلى جبهته مقابل المخ، وذلك في أثناء الصلوات الصباحية كل يوم، فيما عدا أيام السبت والأعياد. ويحتوى الصندوقان على فقرات من التوراة من بينها شهادة التوحيد، ويكون ارتداء التيفيلين بعد ارتداء "الطاليت" فتوضع تفيلاه الذراع أولا ثم تفيلاه الرأس، وتتلى الصلوات في أثناء وضعهما. وأعتمد الفقه اليهودي في فرضه لهذين التيفيلين على فهم حرفي ظاهري لآية جاءت في سفر التثنية "وأربطهما علامة على يدك ولتكن عصائب بين عينيك". ويعطى اليهود أهمية كبرى للتيفيلين فيعتبرونه عاصما من الخطأ ومحصنا ضد الخطايا، وله قيمة رمزية عالية عندهم، ففي رواية "فيكتوريا" يجري القسم به(50).

أما "الطاليت" فهو شال الصلاة. وتُستخدَم الكلمة في التلمود والمدراش بمعنى "ملاءة" أو أي رداء يشبه الملاءة. وهذا الشال يكون مستطيل الشكل، والضلعان الأصغران منه محلَّيان بالأهداب، وعادة ما يختار المصلّون شالاً يصل إلى تحت الركبة. ويكون الشال عادةً من الصوف أو الكتان، ولكن الحرير كثيراً ما يُستخدَم، وخصوصاً بين الأثرياء. كما كان شال الكهنة يُوشَّى بخيوط من الذهب. وقبل أن يرتدي اليهودي الطاليت، يتلو الدعاء التالي "مبارك أنت يا إلهنا، ملك الدنيا، يا من قدستنا بوصاياك العشر، وأمرتنا أن نلف أنفسنا بالرداء ذي الأهداب". وعلى المصلّي أن يرتدي شال الصلاة قبل أن يضع تمائم التيفيلين. وكان من عادة اليهود المغالين في تدينهم أن يرتدوا الشال والتمائم قبل الذهاب إلى المعبد ويسيروا بها في الطريق. أما "كاشير" فكلمة تشير إلى مجموعة الأعراف الخاصة بالأطعمة، وطريقة إعدادها، وطريقة الذبح الشرعي عند اليهود، وهي قوانين مصدرها التوراة، ولحوم الكاشير هي لحوم من ذبح اليهود بموجب الشريعة اليهودية وأكلها حلال بعكس لحوم الطاريف التي هي من ذبح غير اليهود وأكلُها حرام يهودياً(51). ذهب شلومو مسلحا بهوية قوامها الدين، والمال. ولقد نجا، فلا يمكن أن يخذل مؤمن بمورث الأجداد.

10 ـ الهوية والعُجْمة
إثر وصوله إلى بغداد هاربا صبلاخ، وعمله المذل في نزح مراحيض الجيش الإنجليزي في العراق، توجه شلومو في عام 1924 إلى بومباي على ظهر سفينة مملوءة بخليط عجيب من الناس. لا يقدم وصفا للرحلة التي يفترض أن تكون طويلة ومرهقة في باخرة بدائية، لكنه شغل بالعجز عن التواصل مع الآخرين. عجز ارتقي إلى رتبة نزوع سلوكي، وموقف أخلاقي. كان شلومو يجهل مزيج اللغات على الباخرة المتجهة إلى الهند، وبوصفه يهوديا وكرديا فيجهل الآخرون لغته سواء تحدث بالعبرية أو الكردية، فبدا عليه القلق، والتوتر، وسلسلة طويلة من تذمرات لانهاية لها "أنا أنطق العربية بصعوبة. وعلي أن أقوقيء أحياناً لأقول كلمة ذات مغزى، من هذا الكلام المبربق من حولي كتفقّؤ فقاعات قليلة السمن الحر على النار. كلام غليظ حام كأنه متبّل بالكاري والبهارات. بهارات! أتراني فيك سأعود وأعثر على كرامتي الضائعة؟! بهارات! والغربة من هنا بدأت... مع هؤلاء الهنود أنقطع لساني، ولكن حتى متى؟! قالوا إن الدرب إلى بومباي، لو حالفنا الحظ أسبوعان، فسأصوم أسبوعين عن الكلام... الصمت في الصمت، في الحزن، في الإفحام، والضجة من حولك والأمل كفرخ حمامة داخل بيضة يجب أن تفقس، وأنت لست مريداً "هندياً" معتزلاً في صومعته عن الدنيا. معرضاً عن الأشياء "ابحث يا شلومو! ابحث! فتش عمن يفهمك" الكلام هنا أهم من الماء والزاد. الكلام صلة والصلة معرفة والمعرفة هداية وإذا اهتديت بلغت الضالة وحققت المرام، فقم وتجول بين الناس... أفسمعت بكردي يركب البحر من البصرة قاصداً بومباي؟! إلا أنا. جبيلي على هذا المركب. كأني أبحث عن هندي يعتمر كوفية وعقالا؟! وهؤلاء أعاريب الخليج، يرمقونني بعداء وريبة وأحدقهم بتحفظ. ولو فتحت فمي فإن الأمور قد تتعقد. ألكن ومخنون وهجين وكردي يهودي وفارسي أذربيجاني وبغدادي ومسافر إلى الهند. أنا! كل هذا أنا. ومهاجر وأفاق ومتاجر ومغامر. أنا وحدي السندباد في مطلع القرن العشرين. أ فحقاً أنقطع لساني وأصبح كل ما أعرف من لغات مجرد لعلعات قرد عجماء على ظهر هذا المركب؟!"(52).

وبعد هذه السلسلة من الحوارات الداخلية التي تصور حاله في المركب، مضي شلومو في تعميق حالة العجز عن التواصل حينما وصل إلى سوق بومباي "تتخيل إمارات غموض واستفهام على وجهك، أطرش في زفة الصخب الأعجم. الكلمات من حولك تتلاطم وتتصادم كأمواج المحيط والناس تأخذ وتدفع النقود، الناس تتناهب ما في البالة، وإذا بالبالة ينفد ما فيها في طرفة عين. ما هذا؟ تستوقف ذاك وهذا. بأصابع يديك تسأل. وإذا بمقاطع من حديث مبهم ينصب في أذنيك. ييه... كيه... هيه! أهكذا يتفوهون أم أنك واهم؟ لا. لا. فما من فائدة. ها قد عرفت المكان فأسرع إلى اللسان الذي وهبه الله لك، حين انقطع لسانك وكفت أذناك عن التمييز بين الأصوات"(53). وفي المدينة حيث ينتهي باحثا عن العمل يقول "وخرجت أبحث عن عمل، ولساني مقطوع، أحاول أن أعيد زرعه داخل فمي بصمغ من كلمات عربية أتعلمها. صعب! صعب! والعمل أصعب بدون لسان ولا أذنين! لا بد أن أفهم وأن أفهم! والوقت كفيل بمداواة خرسي الوقتي وصممي القابل للشفاء! والحاجة خير حافز...والضرورة تدفعك بقفزات قد تبدو مستحيلة في بعض الأحيان. وسرعان ما جعلتني الحاجة أرطن، وبها فهمت أن العمل متوفر بمعسكرات الجيش البريطاني"(54).

صمت مكتوم، وقلق مضمر، وتنويع متعدد المستويات على موضوعة العجمة حيث يتعثر التواصل، وتتفجر المناجاة الداخلية في ظل غياب للحوار المعلن، أو المناقشة الجماعية الصريحة. يفصّل "المعجم" العربي مشتقات الفعل "عَجُمَ" فيخصّ ذلك بلكنة في اللسان، وافتقار الفصاحة، والإبهام في القول، و "التعاجم" هو عدم الإفصاح بالمراد إلا على سبيل الكناية والتورية، أما "الاستعجام" فهو السكوت، ومن استعجم الكلام عليه فقد خفي واستبهم، ومن هذا الجذر الدال على الإبهام والغموض والعجز عن الإفصاح بالمراد، ظهرت مفردة "الأعجمي" وهو الأخرس، ثم هو غير العربي، ومن ذلك "العجماء" أي البهيمة، فمن هو أعجمي فإنما هو بمثابة البهيمة المبعدة التي لا سبيل للكشف عما تضمر. وكل هذه الاشتقات ترسم في أفق الانتظار عجزا عن التعبير عن النفس، وانكفاء على الذات بسبب عدم القدرة على التواصل، ولكن الفعل "عَجَمَ" في العربية يدفع بمعنى آخر فهو يحيل على إزالة الإبهام والغموض، واختبار الصلابة، وامتحان القوة، والتمعن. وبهذا، فإنه بمجرد تغيير بسيط في البنية الصرفية للكلمة تتضارب الدلالات.

أحدث الفقر والعوز عجمة لدى شلومو، فاعتوره عجز كامل عن التواصل، وغمره إحساس بالضياع، كان ذلك في طريقه إلى بومباي، في أول مبتدأ عمله في تجارة الملابس العتيقة وتوريدها من بومباي إلى بغداد، وبعد ست سنوات أصبح ثريا، فتجاوز هامشيته العرقية والدينية. أصلحت الثروة شعورا بالاعوجاج، وأنطقت اللسان المعقود، وأصبح النقص مجرد ذكرى تحيله على مرحلة الكفاح الأولى "وتوالت الرحلات إلى بومباي، ولم أعد بذاك الأفاق المنزوي مع الأجلاف وذوي الجلابيب. ولا الأخرس المتحدث بإشارات قرود وقوقأة دجاج، بل بالبذلة الأوربية والقبعة الإفرنجية أدخل قمرتي الفخمة مصطحباً معي الذبّاح والطاهي وصندوقاً يحوي كل أدوات المطبخ، كي لا أتناول البيض المسلوق على مدى أسبوعي الرحلة. ودرج لساني، فضلاً عن الآرامية والكردية والفارسية والروسية، على اللغات المنطوقة بين بغداد وبومباي، ما بين عربية وهندية وانكليزية"(55). يستعيد شلومو لغته بماله، ويصبح تاجرا معروفا في بغداد، ولا تعود الحبسة تُذكر في أي سياق، فتزدهر تجارته، ويغمره شعور بأنه تخطّى حقبة النزوح والارتحال، لكن تلك كانت مجرد فاصلة زمنية للخداع، فسرعان ما يُجبر على ارتحال آخر إلى إيران، ومنها إلى الأرض الوعد التي يتخيل أنها ستكون الملاذ الأخير لتطواف لا ينتهي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ أورهان باموك، حقيبة أبي، ترجمة سعد البازعي، جريدة الرياض، 20 و 27/ 3/ 2008
(2) ـ جورج ماي، السيرة الذاتية، تعريب محمد القاضي وعبدالله صولة، بيت الحكمة، قرطاج 1992، ص 106
(3) ـ صموئيل شمعون، عراقي في باريس، كولونيا، دار الجمل، 2005
(4) ـ سامي الذيب، ختان الذكور والإناث، دمشق، دار الأوائل، 2003 ص 36.
(5) ـ عراقي في باريس، ص 32
(6) ـ م. ن. ص 32.
(7) ـ رؤوف مسعد، مزاج التماسيح، القاهرة، ومكتبة مدبولي،2000، ص 17 ـ 18
(8) ـ م. ن، ص 11
(9) ـ م. ن. ص ص 27
(10) ـ نعيم قطان، وداعاً بابل، ترجمة آدم فتحي، منشورات الجمل، كولونيا،ألمانيا،2000، ص 7 ـ 9
(11) ـ سامي ميخائيل، فيكتوريا، ترجمة سمير نقاش، دار الجمل، كولونيا، ألمانيا، ص 73
(12) ـ وداعا بابل ص 10
(13) ـ م. ن. ص 10 ـ 11
(14) ـ م. ن. ص 13
(15) ـ م. ن. ص 13
(16) ـ نعيم قطّان، فريدة، ترجمة آدم فتحي، منشورات الجمل، كولونيا، ألمانيا، 2006، ص 130
(17) ـ وداعا بابل، ص 66
(18) ـ م. ن. ص 24
(19) ـ فيكتوريا، ص ص 74
(20) ـ فريدة، ص 236
(21) ـ م. ن. ص 243
(22) ـ وداعا بابل 66 ـ 67
(23) ـ فيكتوريا، ص 94
(24) ـ وداعا بابل، ص ص 116
(25) ـ م. ن. ص 117
(26) ـ م. ن. ص 117
(27) ـ م. ن. ص 117 ـ 118
(28) ـ م. ن. ص 118
(29) ـ م. ن. ص 118
(30) ـ م. ن. ص 119
(31) ـ م. ن. ص 62
(32) ـ سمير نقاش، شلومو الكردي وأنا والزمن، كولونيا، منشورات الجمل، 2004، ص 25
(33) ـ م. ن. ص 309
(34) ـ م. ن. 352
(35) ـ م. ن. ص 161
(36) ـ م. ن. ص 153
(37) ـ م. ن. ص 275
(38) ـ م. ن. ص 260
(39) ـ م. ن. ص 275
(40) ـ م. ن. ص 315
(41) ـ م. ن. ص 317
(42) ـ م. ن. ص 317 ـ 319
(43) ـ م. ن. ص 194
(44) ـ م. ن. ص 111 ـ 112
(45) ـ م. ن. ص 114.
(46) ـ م. ن. ص 115
(47) ـ م. ن. ص 119
(48) ـ م. ن. ص 120
(49) ـ فيكتوريا، ص 99
(50) ـ م. ن. ص 80
(51) ـ للتفصيل ينظر، عبد الوهاب المسيري، موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية، مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، القاهرة 1975
(52) ـ شلومو الكردي وأنا والزمن، ص 17 ـ 18
(53) ـ م. ن. ص ص 30 ـ 31
(54) ـ م. ن. ص 37
(55) ـ م. ن. ص 42 ـ 43