تسعى هذه الدراسة المتقصية وهي تطرح أسئلتها على كتاب الباحث المغربي الكبير إلى تلمس دليل نظري ثقافي تموضع بموجبه الثقافة العربية في حالتها الراهنة على المستويين المعرفي والسياسي، وتطرح عبره على الكتاب أسئلة المنهج والزمن والتاريخ والأخلاق والدين وغيرها.

حدود المنهج والرؤية

في كتاب «العقل الأخلاقي العربي» لمحمد عابد الجابري

عبد الرحيم جيران

"إن الفلسفة نشأة وعملا هي محاولة للكشف عن الحقيقة بالبرهان والدليل. فإذا كانت الأداة في ذلك هي العقل فإن الفلسفة ليست كالعلم تستعمل الأداة بدون تفكير في قيمتها وحدودها، لهذا كان التساؤل الفلسفي الموجه نحو الحقيقة هو نفسه التساؤل الموجه نحو العقل"
فتحي التريكي

لم يكن يراودني على الإطلاق أبدا تناول كتاب الجابري القيم بالدرس والتحليل، فقد كان طموحي لا يكاد يتجاوز مجرد إشباع فضول الإطلاع من دون التفكير في المعضلات التي تلازم عادة كل كتابة مهما ادعت الدقة والصرامة في صياغة أسسها. وما كان لي أن أروم صنيعا آخر غير ذلك لسبب بسيط مبعثه كوني لست من أهل الاختصاص في القول الفلسفي، وما يلزم صاحبه من عدة نظرية وحمولة مرجعية تيسران له مشقة الطريق وقهر مجاهله والخروج بأقل خسارة ممكنة. بيد أن إحساسا بالتوتر تولد لدي من خلال صحبة الكتاب دفعني إلى إعادة القراءة مستنفرا الانتباه ما أمكنني الجهد والطاقة أملا في الظفر بدواعي ذلك الإحساس. وحملني هذا الأمر على تحويل فضول القراءة إلى مداعبة السؤال الساعي إلى مزيد من الفهم مستعينا على إدراك الموضوع بإعادة بناء القراءة في ضوء التحقق من شروط السلامة التي يجب أن تتوفر للأدوات التي استعملت في صياغة الفروض التي يقوم عليها صرح المشروع في الكتاب، والتوسطات النظرية التي تخللتها، الخفية منها والظاهرة.

أكيد أن كتاب الجابري الهام يعيد النظر في العديد من المسلمات حول المعضلة الأخلاقية في التراث العربي، ويعطي لموضوعه طراوة بالغة موفرا زادا قيما للقارئ، ومراعيا درجات التلقي واختلافها من دون التفريط في حقوق الفكرة. كما أنه يعيد ترتيب أمور عديدة تتعلق بتصنيف النتاج الفكري العربي في مجال الأخلاق معتمدا في ذلك على مغايرة في القراءة تقطع مع الكسل الفكري والركون إلى العادة. لكن بأي ثمن تم ذلك؟ وبأية وسائل؟ وما الأفق الذي كان يتجه صوبه استخدام كل ذلك؟ تنبني المساءلة التي نسعى إلى بسطها بصدد كتاب العقل الأخلاقي العربي على ثلاثة محاور:

(أ) ـ الفروض التي أطرت صياغة مفهوم الأخلاق بوصفها موضوعا للعقل العملي، والأسس التي قامت عليها هذه الفروض استنادا إلى مدى التحكم في التقاطعات بين مجالات مختلفة لها منطقها، وخصوصيتها المميزة، ومن ضمنها الدين والسياسة والثقافة.

(ب) ـ والمفاهيم المتوسل بها في دراسة الموضوع، وحجم وقعها على التصور العام والاستخلاصات التي انتهى إليها التحليل.

(ج) ـ وعلاقة مقاربة الأخلاق في التراث العربي بمأزق اللحظة الراهنة، وأسئلتها المدوخة.

هذه المحاور الثلاثة متداخلة لا يمكن الفصل بينها، وبعضها يفضي إلى بعض ذهابا وإيابا. ولذلك سيتخذ الحوار الذي سنقيمه مع كتاب العقل الأخلاقي العربي صبغة تتبع متدرج يراعي من جهة الترتيب التي بسطت وفقه القضايا، ومن جهة أخرى فتح استطرادات بغية التأكد من النسق المعرفي الذي يتحرك داخله مشروع الكتاب. ولا بأس أن نعرض، قبل الشروع في بناء هذا الحوار، إلى بعض الأمور التي تتعلق بمجال الدراسات الذي يمكن إدراج الجابري في صلبه، وهو يؤسس هذا المشروع. بمعنى أي تقليد معرفي يتبع آثاره، ويحرص على احترام جدول أعماله. ومهمة من هذا القبيل لا تعد استدراجا للعمل إلى ساحة غريبة، أو نوعا من التمحل، وإنما ضرورة منهجية تسعفنا في التقاط دبيب التوجهات الكبرى التي تؤطر حاليا حركة التفكير في الثقافة، وتصنيف المشتغلين في هذا الحقل وفقها. ولا سبيل إلى إبعاد الكتاب عن تيار واسع في الفكر المعاصر يأخذ على عاتقه بناء فرع معرفي مستقل بالمقاربة الثقافية، ولا إبعاده عن مشكلات الفكر الفلسفي المعاصر.

ولن نجانب الصواب إذا ما جازفنا بالقول إن الجابري يستسيغ التيار الذي يجعل من نقد الثقافة السبيل الأنجع لبنائها. والهدف الاستراتيجي لهذا النقد يمثل في النفاذ إلى "مفهوم روحاني للثقافة يسمو إلى مرتبة الحقيقة السامية للأمة"(1). وقد يستخدم هذا الروح على هيئة أصل مبحوث عنه في التراث. لكن التراث هنا لا يتسع لكل ما أنتجته الأمة، وإنما لما يزخر به تراكم المنتج الخاص بالنخب. ولا يهم الطابع الرومانسي لهذا التيار، بقدر ما يهم انشغاله بما هو قابل للاستمرار. وتتمثل استساغة الجابري لهذا التوجه في عنصرين: أولهما أصالة التفكير الأخلاقي التي تمثل روح الأمة، والتي تتخذ كمعيار، على نحو واع أو لا واع، للحكم على طبيعة الموروثات وتمثيليتها للأمة العربية والإسلامية في خلوصها. وثانيهما استمرار أصل غير خالص يؤثر على نقاء الأصل المعيار.

يبتعد الجابري، وهو يتعين داخل هذا التيار، عن إغراء التيار الآخر المخالف الذي تمثله الدراسات الثقافية بوصفها توجها ينحو إلى ربط الثقافة بالأسفل والهوامش والحياة اليومية، مع ما يقتضيه ذلك من ارتباط بالجانب السياسي. ويتمثل ابتعاد الجابري عن تيار الدراسات الثقافية في اهتمامه بالثقافة العالمة، وتغاضيه عن غير العالمة التي تعتبر شديدة الصلة بما يمثل الهامشي والأسفل. ونحن لا نطالب، هنا، الجابري أن يفعل ما لا يدخل في حيز اهتمامه. ولكن سيكون من غير الجائز الإشارة إلى الخانة التي يتعين داخلها الجابري من دون ذكر الخانة المقابلة لها. يترتب على التقليد المذكور آنفا مصاعب: أولها ارتفاع الثقافة إلى درجة تصير معها متضمنة لمبدأ داخلي يستدل به على روح الأمة، وعلى ما يجعل هذه الأخيرة قابلة لتحقيق شرط وجودها الأصيل أم لا. وثانيها حصر مجال المنتج الثقافي في نخبة طبقات الكتاب والفلاسفة والفقهاء بوصفها ممثلة لتلك الروح. وقد يعترض على هذا الأمر بحجة أن الجابري يقرر بأن "سلم القيم (أو نظام القيم) ليس من صنع الفرد بل ينشأ في المجتمع ومن المجتمع ككل"(2).

بيد أن ذلك يصير غير ذي جدوى. ولن نتساءل: أي مجتمع؟ وما إذا كان المجتمع منسجما غير منقسم على نفسه؟ ونكتفي بالإشارة إلى اختزال حركة المجتمع في تعبير النخبة عنه. وهذا التعبير هو الأساس، وليس شيئا آخر. وحتى هذا التعبير يخضع لنوع من الاصطفاء يتم الوقوف بموجبه عند نمط مخصوص، وليس كل الأنماط. فـ "المنظم المكتوب" يحتمل شساعة قد تمتد إلى نصوص ممثلة لحركة المجتمع الحيوية، مثل ألف ليلة وليلة. ويتعلق ثالث هذه المصاعب بالنزعة الثقافوية التي تسعى إلى تفسير الثقافة من داخلها من دون الانشغال بما يثوي خلفها من شروط ومحددات أساسية، بل بإكساب هذه الشروط والمحددات صبغة ثقافية صرف. هذا اختيار في الرؤية مكفول، ولا يمكن محاسبة الناس عليه. بيد أن ما لا يمكن التغاضي عنه الأسس الإيديولوجية الكامنة خلفه، والتبعات المنهجية التي تترتب عليه على صعيد القول الفلسفي ذاته. فالجابري يقول في حوار له بصحيفة الاتحاد الاشتراكي ما مفاده أنه لم يكن واردا البتة الحديث عن الأخلاق في سياق الفكر الماركسي الذي هيمن في السبعينيات. وكأن المعضلة تكمن في هذا الفكر، وليس في حامله، ومن ينتج من داخل صيرورته. وكأن المفكرين في العالم جميعهم لم يتمكنوا من الإنتاج في هذا الحقل إلا بعد تحررهم من هذا الفكر، بينما هناك العديد من الباحثين الذين يشهد لهم بالرصانة أنتجوا منظورات جيدة، وفي مجال القيم المختلفة، من دون أن يلزمهم أحد بالتخلي عن هذا الفكر أو التنكر له. وحين نقول ذلك لا نتوخى الدفاع عن اختيار دون آخر، وإنما الإشارة إلى تحول في الرؤية له أيضا أسسه الإيديولوجية، ولو ادعى الإخلاص للشرط المعرفي، على أساس أن الإيديولوجيا ليست وعيا زائفا ولا قناعة ولا اعتقادا، وإنما هيمنة رمزية. وآخر المصاعب التي تنشأ من جراء هذه النزعة الثقافوية، على صعيد القول الفلسفي، ضمور البعد الإشكالي الذي يؤسس قوته وطرافته، حيث تحل محله الموضوعات المستقلة التي تفرض على الرؤية الفلسفية بعدا ذريا لا يناسبها(3).

1 ـ الموضوع وأسس مقاربته:
يصدر محمد الجابري كتابه الهام والضخم العقل الأخلاقي العربي بمقدمة ومدخل متبعا في ذلك التقاليد المتعارف عليها في البحث. فيتناول في الأولى الدراسات المنجزة في الموضوع، ويظهر في الثاني الأسلحة التي سيستخدمها في التحليل والدراسة. يقرر الجابري في المقدمة خلو المكتبة العربية من مؤلفات حول نظم القيم، وتاريخ الفكر الأخلاقي العربي. ويعتبر هذا الاستكشاف تعلة لإقدامه على إنجاز مشروعه، ثم ينتقل بعد ذلك إلى تصنيف الدراسات التي تناولت الأخلاق حديثا في الفكر العربي وفق زاويتين: إثبات وجود الفكر الأخلاقي عند العرب أو نفي ذلك. ووفق ما إذا كانت تلك الدراسات تحاكم هذا الفكر بمعايير النظام القيمي الغربي، أو كانت تسعى إلى إيجاد سند للأخروية الأخلاقية في القرآن والسنة والتراث الديني الإسلامي، أو كانت تتجاوز ذلك إلى التأصيل للأخلاق العربية باستنباطها من القرآن والحديث.
لا تثير المقدمة معضلة ما. فالمقصود منها واضح تماما، ويتجه إلى تأطير الموضوع بالعودة إلى الدراسات السابقة عليه، كما أن أسلوبها الوصفي السلس يساعد على استقرار الأشياء، وخلق الألفة اللازمة اتجاه الموضوع. لكن المدخل سيضر بهذه الألفة بفعل التوتر الذي ينشأ من جراء بناء الفروض، وبسط وسائل الاشتغال. وسنعمل على تجلية ذلك من خلال محاورة عناصره الأساسية:

1 ـ 1. الموضوع:
لابد من الإقرار بداية أن الجابري من أنصار عدم الفصل بين السياسة والأخلاق، ولا يخفي تبنيه للرؤية الأرسطية في هذا الشأن. كما أنه يذكر بانتمائهما معا إلى "مجال الإرادة، وليس مجال العقل"(4)، لكنه يحرص في الآن نفسه على ضبط الاختلاف بينهما على مستوى الجهاز المفاهيمي الذي يميز أحدهما عن الآخر. وهو اختلاف منظور إليه انطلاقا من حيز التقاطع بينهما، أي من خلال منطقة اشتراكهما، أو على الأقل من الزاوية التي يستوعب منها مجال مجالا آخر. ومثل هذا الإجراء وجيه، لو تم استغلاله في أفق منظوري مغاير للتصور الذي يتحكم في مشروع الكتاب، بما يجعل البحث قادرا على التحكم في التقاطع بين المجالين. وليس بالضرورة أن يكون هذا الأفق المنظوري نيتشوي الصبغة. فالسياسة تصير عند الجابري نوعان: السياسة كما مارسها الحاكم، والسياسة بوصفها فرعا من الأخلاق أو تتويجا لها. وهكذا يصير الاختلاف بين مجال الأخلاق والسياسة منظورا إليه من زاوية النظر إلى السياسة ذاتها، وليس انطلاقا من زاوية نظر مجال إلى آخر. والفرق بين الوجهتين شاسع، ويقوم على اختيارين منهجيين مختلفين يؤديان إلى خلاصات متباينة. الالتباسات غير موجودة إذن، والقضايا منسجمة، والمفاهيم قارة ومسيجة بما يكفي من المناعة. يرجع الجابري الاختلاف المذكور آنفا إلى كون السياسة تتمايز من حيث توظيفها حسب توجهين: أولا كما تتجلى وفق ما يسميه بـ "عقل الواقع"، أي كما "وقعت وتقع بالفعل"، وثانيا كما ينبغي أن تكون وفق العلم المدني(5). ففي الحالة الأولى ينظر إلى السياسة باعتبارها ممارسة في الواقع بغض النظر عن الإرادة والنوايا، الشيء الذي يسمح بالحكم الموضوعي، وفي الحالة الثانية ينظر إليها بوصفها فرعا من علم الأخلاق، مما يجعل حكم القيمة مهيمنا. ولا شك أن تمييزا من هذا الصنف، بالرغم من الصعوبات التي يثيرها على صعيد التحديد، لا يبعث على الاطمئنان، وبخاصة حين يعتمد في تأسيس ذاته على معياري الواقع والتطلع. والمشكلة لا تكمن في اعتماد هذين المعيارين، ولكن في مدى انسجام تشغيل معيار الواقع. ولست أدري مدى الحيرة التي تنتصب أمام القارئ وهو يربط بين التمايز بين نوعي السياسة حسب معيار الواقع ومفهوم المحصلة الاعتبارية كما وضعه الجابري لتخصيص بنية العقل، والذي سنعرض له بعد حين. فإذا كان اتخاذ التطلع (ما ينبغي أن يكون) معيارا لتحديد الحالة الأخلاقية، بما يعنيه ذلك من نفي لورود معيار الواقع، فإن ما يقوم مقام هذا المعيار المستبعد، أي "الواقع المعيش"، قد اتخذ معيارا في تحديد بنية العقل الأخلاقي، وفي ضمان وحدة المتعدد الثقافي.

إن التعيين بالسلب الذي يشتغل خلف التحديد ظل يعاني من موضعة مفهوم البنية، واصطناع مخرج لهذا المفهوم يصير بموجبه قادرا على استيعاب تقاطع الحقل السياسي والأخلاقي، والتحكم في الكثرة والتحولات بإرجاعها إلى وحدة توفر التنظيم اللازم لما هو متعدد. فالجابري يتحدث من جهة عن اشتراك الحقلين معا في الموضوع، ومن جهة أخرى عن انفصالهما على مستوى التوظيف. وقد يكون ذلك مستساغا باعتباره وجهة نظر ضمن وجهات نظر أخرى ممكنة. لكن الطريقة التي بسطت بها وجهة النظر هذه تصحب معها بالضرورة عدة أسئلة. فهناك فرق بين النظر من ممكن السياسة إلى ممكن الأخلاق، وبين النظر من ممكن الأخلاق إلى ممكن السياسة. ومما لا ريب فيه أن هناك فرقا بين عبد الحميد الكاتب وهو يخضع الأخلاق لوجهة نظر السياسي، وبين غيره من الفلاسفة الذين تأملوا السياسة من وجهة نظر أخلاقية. ومن شأن هذا البعد المنظوري أن يوفر للموضوع فسحة من الرحابة والدقة. وبالتالي يصير من الوجيه جدا التساؤل عما إذا لم يكن من الممكن التمييز بين الأخلاق بوصفها فرعا من السياسة وبين السياسة باعتبارها فرعا من الأخلاق، وبين نظر الأخلاق إلى السياسة وإخضاع هذه الأخيرة لحكم القيمة، وبين نظر السياسة للأخلاق وإخضاعها لتطلباتها.

ينتقل الجابري بعد هذا التمييز، وقبل أن يحدد موضوعه في نظم القيم على نحو نهائي، إلى تبرير اختلاف تصنيفه للعقل الأخلاقي العربي ونمذجته عما اعتمده من تصنيف في كل من العقل العربي والعقل السياسي، وذلك بالتشديد على خصوصية الموضوع الناتجة عن تعدد القيم في الثقافة العربية وعوالمها. فوحدة هذه الثقافة بالنسبة إليه لم تكن وحدة الواحد، وإنما وحدة المتعدد، أي أن التعدد آيل لها من جهة الموروثات المكونة لها، والوحدة آيلة لها من جهة البنية الاعتبارية Virtuelle. ونعت الاعتبارية مستعمل بمعنى يصعب التحكم في إجرائيته، لأن متضمنه غير الظاهر زمني، بيد أن ربطه بالواقع المعيش، باعتباره دالا على حالة الصراع والتنافس التي كانت تطبع الموروثات، لا يسمح على الإطلاق بتوفير الوحدة، وإنما بضمان فهم الانتظام البنيوي في علاقته بمبدأ التحولات. وهنا لا نستخدم المفهوم الأجنبي لكلمة Virtuelle، لأنها تعني شيئا آخر سنأتي على توضيحه لاحقا، وإنما حالة الصراع والتنافس كما عرض لها الجابري. ولذلك كان من الأفيد التفكير في الوحدة والتعدد من داخل الاختيار المنهجي الذي ارتضاه الجابري منحى سالكا لدراسته، وليس من خارج تطلباته. ولن نخوض في هذه الأمور الآن. ونكتفي بالقول إن مفهوم البنية، كما تم التفكير فيه في الكتاب، ملتبس، ولا يقل عنه التباسا استعمال اللفظة الأجنبية Virtuelle التي فضل الجابري ترجمتها بـ "اعتبارية". فهذه اللفظة لا يستقيم فهمها إلا إذا حصل الإدراك بكونها قابلة للاستعمال في اتجاهين: أولا في اتجاه النظر إليها باعتبارها صيغة من الصيغ الدالة على الصيرورة المنتجة لتمام الفعل، وليس كماله: الإمكان ـ التحيين ـ التحقق. فهي، إذن، صيغة تشير إلى تولد إحدى لحظات الفعل إمكانا على مستوى القصد. وما كان لنا لنوطن هذه اللفظة داخل هذا الإطار لولا العلاقة بين الأخلاق والفعل من جهة، وبين توظيف اللفظة في علاقتها بمفهوم البنية. وثانيا في اتجاه النظر إليها بوصفها ذات علاقة بالبعد الانطولوجي، إما باعتبار موضعة الموضوع أو الظاهرة في عالم ممكن ومفترض بما يجعلهما مكتسبين لصفة الواقعية الذهنية، وإما باعتبار الشروط والأوضاع التي تعين إمكان وجودهما.

يحدد الجابري موضوعه، بعد ذلك، في نظم القيم في الثقافة العربية الإسلامية، وبالتالي تصير المفاهيم الثلاثة، النظام والقيمة والثقافة، أساسية في تبين التوجهات العامة التي تؤطر المشروع برمته. ولذلك يعد تعقب استخدام هذه المفاهيم ضرورة لا غنى عنها.

يقيم الجابري تمييزا بين مفهومي "النظام" و "المنظومة" وفق مفاضلة تتأسس على مسبقات نظرية نابعة من الحاجة إلى تبرير خلاصات يبدو وكأنها وضعت قبل التفكير في الأدوات، وكأن النتائج تبرر المفاهيم وتكسبها حمولتها، وليس العكس. فمفهوم "النظام" Ordre يكتسي جدارته، حسب الجابري من تضمنه لآلية الترتيب بما تفيده من تدرج سلمي تكون وجهته من الأساسي نحو ما يترتب عليه من مراتب دنيا(6). بيد أن مفهوم المنظومة Systeme لا ينال بدوره نفس الحظ من التحديد، وإنما يطرح جانبا بدعوى أنه لا يتضمن آلية الترتيب. وهذا حكم يحتاج إلى الحذر، لأنه يقود مباشرة إلى التفكير في قضايا عدة ومتداخلة، وفي مقدمتها علاقة البنية بالترتيب والزمن والتمثيلية. نظر إلى النظام إذن انطلاقا من آلية الترتيب. غير أن مفهوم الترتيب يتعلق بخاصية مميزة للبنية ولا يستغرقها بالتمام، كما أن مفهوم النسقSysteme يعد أحد مستوياتها. ولذلك لا يمكن الحديث عن بنية تكفل الوحدة لموضوع يعاني من الكثرة من دون استحضار هذا التدقيق في استعمال مفهومي الترتيب والنسق. هذا علاوة على أن مفهوم النسق بنيوي محض بينما مفهوم الترتيب تحققي يحمل معه الزمن إلى رحاب البنية بما يتضمنه من تتال. وعدم التنبه إلى هذا الفرق أثر على صياغة مفهوم الترتيب، وهو مفهوم مركزي في بناء الموضوع، وبالتالي لا بد أن يتأثر هذا الأخير من جراء ذلك. ولا أعتقد أن مفهوم الترتيب يمكن أن يقوم بمهام هي من صميم عمل التراتب. فالأول يفيد التتالي الذي يتضمن الزمن (الأول فالثاني أو ثم الثاني، والسابق فاللاحق أو ثم اللاحق، والبداية فالوسط فالنهاية الخ...)، والثاني يفيد الموقعية بما تشير إليه من تحيز فضائي (المركزي/ الهامشي، والأساسي/ الثانوي، والأعلى/ الأسفل الخ. ). والترتيب لا يتوسل به، تبعا لذلك، من أجل القبض على المركزي، وإنما من أجل ضبط متتالية ما، كانت تركيبا أو غير ذلك. هذا علاوة على وضع التمثيلية بالقياس إلى مفهومي الترتيب والتراتب. فأيهما أجدر باستيعابها؟ فما يمثل مجتمعا ما في حقبة محددة، بما هو أنموذجي مهيمن، قد يتخذ صبغة أولويات، وقد يكون مركزيا. ففي الحالة الأولى يتم ترتيب القيم وفق درجة الأهمية من دون التفريط في ما لا يكون أوليا، بينما في الحالة الثانية يتجه الأمر نحو تعضيد بعض القيم وإقصاء أخرى. والحقيقة أن استعمالا مفاهيميا من هذا القبيل لا يحدث نتيجة تقاعس في تبصر مسارات الأشياء، أو نتيجة إعفاء الذات من مهام ترى أنها وحدها تملك الحق في القيام بها أو تركها، وإنما يحدث ذلك من جراء عاملين اثنين أشرنا إلى أحدهما سابقا وحددناه في كون استعمال المفاهيم يخضع لمسبقات نتائج، وثانيهما يتعلق باحتراس حذر ناتج عن الرغبة في استخدام معرفي للقضايا مع أخذ النتائج الإيديولوجية التي تترتب على هذه القضايا بعين الاعتبار. وهو استخدام يتوسط الذات المعرفية وموضوعها، ويؤمن الطريق نحو جهة الفائدة المطلوبة(7)، وسيتضح هذا الأمر حين نأتي إلى الحديث عن المنهج.

ننتقل إلى مفهوم القيمة، وهو مفهوم سيحدد في موضع آخر غير المدخل. وهذا المفهوم لا يثير مشكلة على مستوى تحديده، كما أن التغاضي عن الثراء الفلسفي الذي يكمن خلفه لا يشكل تقصيرا ما. بيد أن المشكلة تمثل في استعماله بإطلاق من دون تقييد مجالي، ويكفي إمعان النظر في عنوان الكتاب للوقوف على ذلك. وهذه الأمور ليست جزئيات يجب غض الطرف عنها، بل هي من صلب الموضوع، ذلك أن أية تضحية بالصبغة الإطلاقية لمفهوم القيم قد يفسد العديد من الاستخلاصات التي ينتهي إليها المشروع الأخلاقي كما يراه الجابري. والباحثون الممارسون غالبا ما يواجهون في عملهم مثل هذا الأمر، ويعرفون جيدا فائدته مثلما يعرفون مزالقه. والحل الأنسب دائما محاولة التغلب على استعصاء انسجام الطروح بدرجة محددة من التعميم. كيف ذلك إذن؟ إن عنوانا من هذا القبيل "دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية" يتضمن استعمالا لمفهوم القيمة من دون ربطه بمجال محدد. ولا يكفي أبدا القول بأن القيم الأخلاقية تعد أهم القيم للالتفاف على الأمر. فالقيم متعددة، منها الأخلاقي والجمالي والاجتماعي وغير ذلك، وكلها قيم أساسية وضرورية، قد تتفاعل في ما بينها، لكنها لا تختزل بعضها البعض. ولا فائدة من الاعتراض على هذا المطلب المنهجي بدعوى أن العنوان الأساسي محدد في العقل الأخلاقي العربي، وبالتالي فالمقصود بالقيم في العنوان الفرعي القيم الأخلاقية. لو كان الأمر كذلك لوضع العنوان الأساسي أسفل العنوان الفرعي بما يفيد تبعية الخاص للعام، لا العام للخاص. ومما لا سبيل إلى تصميته أن احتراسا احتياطيا كان يعمل خلف تلك التهيئة الغرافية. فالتعميم الذي يطال استعمال مفهوم القيمة استخدم من أجل تلافي الخوض في ما يتخلل المتن المعتمد من قيم اجتماعية ودينية وذوقية (طعام، لباس الخ...) لها مجالاتها الخاصة، وتتطلب عزلا وتصنيفا يتناسبان مع تعيناتها النوعية التي تميزها عن الأخلاق. صحيح أن هذه القيم تتداخل وتتفاعل في ما بينها، بيد أن ذلك لا يحول دون الانصراف إلى بذل الجهد في التقاطعات الممكنة بينها بالنظر إلى جهة الدينامية التي تصدر عنها، كأن تكون القيم الأخلاقية منتجة من خلال جهة الدينامية المنبثقة عن القيم الجمالية. فقد لا نعدم وجود ربط ما بين خاصيات تكوينية للجسد وقيم أخلاقية معينة.

إن الحرص على تمايز القيم وتعدد مجالاتها، وعلى البعد المنظوري الذي يتحكم في التقاطعات الممكنة بينها يجعل العديد من القيم التي يزخر بها المتن المعتمد في حاجة إلى إعادة تصنيف بما يؤدي إلى إدراجها في مجالاتها الخاصة. وهو شيء يؤثر لا محالة على المنظور العام للكتاب، وعلى طبيعة المادة، وعملية التأريخ لها.هذا فضلا عن التداخل الذي يحصل بين القيم من حيث هي تطلبات ذات مردودية على صعيد إنتاج الفعل وتوجهه داخل مجتمع ما وبين التمثلات التي تتعلق بإدراك الذات والعالم. وعدم ضبط هذا التداخل والتحكم فيه من شأنه أن يؤثر على الرؤية للمتن المعتمد، ومن ثمة على بنية القيم المراد استخلاصها.

هناك ملاحظة أخيرة بصدد مفهوم القيمة. فمما لا يدعو إلى الشك أن هذا المفهوم يتضمن في ثناياه، على نحو من الأنحاء، قدرا من التنسيب. ولا نريد الارتقاء بالنسبية هنا إلى مستوى الشكية العدمية التي تجعل كل شيء مقبولا، ويتمتع بنفس المساواة، وإنما اعتبار الموضعة التي تصير بموجبها هذه الأشياء لصيقة بمنظور يبررها. فمحتوى الطاعة في حدود موضعة ما قد ينقلب إلى محتوى عصيان إذا ما نقلناه إلى موضعة مناقضة ومختلفة. والأكيد أن الجابري يستحضر هذه الخاصية المميزة لمفهوم القيمة. وسيكون من العبث اعتقاد غير ذلك، لأن الأمر يدخل في عداد البديه. بيد أن البعد النسبي لمفهوم القيمة ظل مثار قلق خلال عملية تحديد الصفة الأخلاقية للقيم، إذ كيف يمكن الحكم على قيمة ما بأنها أخلاقية من دون أن تتضمن ما يجعلها قابلة للتنسيب. وبخاصة حين يكون المتن المعتمد مؤسسا على تعال يمتد خارج مشروطية الزمان والمكان، وليس على النسبية المعيارية الصرف. ينتصب إذن، أمام اعتماد متن موصوف بميزة التعالي، تطلب منهجي ملح لا سبيل إلى الالتفاف عليه: إما أن تكون القيم الدينية دينية فقط تقبل التقاطع مع الأخلاق، أو تقبل التوسط بين الفرد والموضوع الأخلاقي، وإما أن القيم الأخلاقية لا تقبل الاندراج في حكم القيمة النسبي. هذه معضلة لا تقبل التوفيق. بيد أنها معضلة ليست كامنة في الموضوع، وإنما في رؤيته.

إن نسبية القيم لا تعني أن الحرية ووجهة النظر في علاقتهما بحكم القيمة غير مشروطتين بموضعة الفرد أو الزمرة الاجتماعية بالقياس إلى المجتمع ككل. فالوجود داخل الحياة الأخلاقية مصوغ وفق نزوعات معقدة تتكفل الهيمنة الرمزية، بما هي بنية من النواظم، بتوفير التوسطات اللازمة للتحكم في صيرورتها. لكن يجب فهم هذه المشروطية في صبغتها الجدلية. فما يجعل الموضوع الأخلاقي قابلا للحياة هو فعالية الخرق الذي يطاله. وبالرغم من كون الاعتراف بالذات وإكسابها الاعتبار اللائق قد شكلا أرضية أساسية لمناقشة الموضوع الأخلاقي في ضوء علاقة الفرد بالمجتمع، ابتداء من جان جاك روسو وانتهاء بأكسيل هونيت، فإن النزوع نحو المغايرة يعد في حالات كثيرة أحد الوسائل المهمة في نيل الاعتراف بالذات. كما أن استبطان حكم الجماعة (أو المجتمع) من لدن الفرد حول ذاته وفعله، أو السعي إلى نيل الاعتراف بالذات من الآخر يتم بأحد الأسلوبين: التطابق مع المعايير أو التميز اتجاهها(8). وهنا فقط يمكن استخدام مفهوم الاعتبار في صيغته المتعلقة بالبعد الأنطولوجي، مادام الأمر يتعلق بإثبات وجود. فالأصلح والأنسب وما يجلب الرضى أمور محفورة في الزمرة الاجتماعية، ويستبطنها الفرد خلال عملية إثبات وجوده، بيد أن ذلك لا يلغي أبدا النزوع نحو المغايرة التي تعد محتوى أساسيا لكل خرق للمعايير. لا يهم إذن ما إذا كان الجابري قد اهتم بتحديد القيم الأخلاقية أم لا بقدر ما يهم تعويمه لمفهوم القيمة، واعتماده لمفهوم البنية من دون أن يطرح إلى جانبها مسألة الفاعل أو الوظيفة. فالأخلاق تفترض بنيويا التطابق مع معياريتها أو التميز خرقا أو ابتعادا على المستوى الوظيفي. وأخذ مسألة التميز بعين الاعتبار يجعل من القيم المتعالية قيما تاريخية. وهذا أمر يضر بصبغتها المجالية الصرف. ونتيجة لهذا الإشكال المنهجي كان تعويم القيم حلا مرضيا يجنب الذات المعرفية الوقوع في المحظور.

نأتي إلى مفهوم الثقافة. فلا شيء نغنمه البتة في الكتاب بصدد تحديده، أو بصدد المناهج الثقافية التي اعتمدت في تشغيله، أو بصدد المعضلات النظرية والعملية التي تواجه الخائض في شؤون الثقافة. وقد كان من الممكن غض الطرف عن ذلك لو أن هذا المفهوم لم يكن مركزيا في بناء موضوع الكتاب. وهو أمر مستغرب من رجل عرف بعنايته البالغة بالمفاهيم، وبحرصه على ألا يترك أدواته عرضة للمصادفة. وكل ما يمكن الظفر به لا يتعدى التقسيم المألوف الذي يصنف الثقافة إلى عالمة وغير عالمة، أو التمييز بين "الكلام المنظم المكتوب" والممارسة. ومثل هذا التقسيم قد يكون مقبولا على صعيد الوصف، لكنه لا يعد كافيا على مستوى التفسير. وفي أحسن الأحوال كان من المفروض تبين العلاقة القائمة بين النوعين المذكورين. فغياب نظرية محددة حول الثقافة، أو على الأقل غياب تصور حول فعالية الثقافة في الانتماء الاجتماعي من شأنهما التأثير في بناء الموضوع الأخلاقي، وتبين مستوياته. وبخاصة بالنسبة للثقافة في مجتمعات متعددة الأعراق والقوميات. والخلافة العربية الإسلامية كانت كذلك.

فالقول بالتعدد الثقافي بالنسبة لخلافة ضمت تحت حكمها قوميات مختلفة شيء وارد. لكن النظر إليه من خلال الموروث من دون الكشف عن الآليات التي كانت تتحكم في قابلية تمظهره في مستوى دون آخر، وفي التسويات التي كانت تعمل خلف هذا التمظهر، لا يسمح بتاتا بالاطمئنان إلى الخلاصات النظرية التي ينتهي إليها الكتاب. فالصراع الثقافي بين الأقليات داخل الثقافة العربية الإسلامية لم يكن صراعا سائبا غير متحكم فيه، ومن دون عتبات أو حدود. فالموروث إما أن يكون برانيا أو أصليا من صميم الكيان. والقول بكونه مكونا يصب في نهر الثقافة العربية(9)، يمنح صورة استعارية تختزل رؤية تاريخية تكوينية، غير أنه لا يحل عدة مشاكل تظل عالقة مع ذلك. ولا بد من التأكيد، هنا، على أن الثقافة، مهما اختلفنا حول مفهومها، لا يمكن تصورها كلية أنموذجية فارغة. فهي تتضمن داخلها نواة صلبة توفر لها اتساق حركتي الجذب والنبذ اللتين تعمل بموجبهما على ملء الفراغات التي توجد داخل حيزها، وعلى استبدال العناصر التي استنفدت طاقتها، أو على تجديدها. وهذه النواة الصلبة أساس الهوية الثقافية، والمعيار الحاسم في تحديد فعالية كل ممارسة ثقافية. ومن ثمة يعد الموروث البراني عنصرا مستقطَبا يملأ فراغا معينا في الكليات الثقافية، وبخاصة الناشئة منها. ولكن حركة الملء هذه مزدوجة، إذ من المحتم أن يستجيب الموروث لتطلبات النواة الصلبة في الثقافة التي ينتقل إليها، وأن ينفصل عن تطلبات النواة الصلبة في الثقافة التي كانت تحتضنه. ولا يمكنه أبدا الاشتغال كنواة صلبة في الثقافة الجديدة التي يفد عليها. وإلا فقدت هذه الأخيرة هويتها وتحولت إلى نمطية غيرية. والخشية كل الخشية أن يؤدي اعتماد مفهوم الموروث من وجهة نظر صراعية غير منظمة إلى إلصاق آفة التدهور السياسي والأخلاقي بالآخر الفارسي (آردشير) وتنزيه الأنا.

يمكن إذن اعتبار الثقافة بموجب مبدإ النواة الصلبة إنتاجا نوعيا لا يقتصر على الفكر، وإنما يتجاوزه إلى كل ما يقاوم الزمن، ويركز ذاته رمزيا، ويروم صون تجارب الجماعة وطرق عيشها ونقلهما إلى الأجيال اللاحقة، بما يؤسس ذاكرة تتوسل بالرموز التي بفضلها تتعرف الجماعة على هويتها، وتحاول رد الاعتبار إلى نفسها كلما هددتها عوامل الزوال. والثقافة العالمة تعد جزءا من الإنتاج المذكور آنفا، لكنها تقبل الانفصال عنه بحكم قدرتها على تحويله إلى موضوع لها تخضعه لتأملها، وتعيد صياغته وفق علاقتها النوعية بمواقع الهيمنة الرمزية داخل المجتمع. بيد أنها، وبالرغم من قدرتها هذه، لا تعتبر مرجعا وحيدا للدلالة على طبيعة الإنتاج الثقافي العام. وبالتالي لا يمكن اعتبار هذه الثقافة ممثلة لما شهدته رقعة الخلافة من ثقافات متعددة لجماعات عرقية مختلفة، الشيء الذي يترتب عليه وجود أنماط مختلفة من الحياة الأخلاقية. والجماعات العرقية في الثقافة العربية كانت تقوم الطبيعة الأخلاقية لبعضها البعض انطلاقا من الانتماء العرقي(10).

ينتصب أمام التحديد أعلاه سؤال هام يتعلق بتخيل المشهد الذي كانت عليه الثقافات المحلية المميزة للقوميات المنضوية تحت حكم الخلافة الإسلامية العربية في علاقتها بالثقافة العربية المهيمنة. فإما أنها حافظت على نواتها الصلبة وظلت بالتالي حية، وإما أنها اضمحلت بفعل ضمور نواتها الصلبة وانحلالها. والأكيد أن الواقع المعيش الذي احتفظ به التاريخ، والذي لا يزال مستمرا إلى يومنا هذا، يفيد بعدم انمحاء اللغات المحلية المتنوعة والثقافات المرتبطة بها بما تتضمنه من ذاكرة ناقلة للتجارب. ووضع ثقافي بهذه المواصفات لا بد أن يكون له صدى ما في بناء الموضوع الأخلاقي. فالثقافات قد تتفاعل في ما بينها، لكنها لا تسلم أبدا أسلحتها. ولعل الأمر لا يتعلق، هنا، بالتمييز بين الفكر والممارسة، ولا بين الدراسة النقدية التحليلية وبين الأنتربولوجيا، ولكن بزاوية الرؤية التي ننظر منها إلى الثقافة: أهي ثقافة واحدة أم ثقافات؟ ثم بفهم آليات التفاعل الثقافي داخل فضاء سياسي متعدد القوميات. تتولد إذن عما سبق بسطه أسئلة ثلاثة: كيف تعاملت الثقافة العربية الإسلامية المهيمِنة مع ثقافات محلية مهيمَن عليها؟ وكيف تفاعلت هذه الأخيرة مع ثقافة مهيمِنة؟ وما دور الثقافة العالمة داخل هذا التفاعل؟ لا بد من التذكير، قبل الدخول في مناقشة الأسئلة المذكورة، بمسألة في غاية الأهمية وتتعلق بتضمن كل ثقافة لتمثلات حول الآخر وثقافته. وهي تمثلات شديدة الصلة بلحظات قوة هذه الثقافة أو لحظات ضعفها واندحارها. والثقافة المهيمِنة لا غنى لها عن تمثل ثقافة الآخر المهيمَن عليه والعكس وارد. ولكن طبيعة تمثل كل منهما للآخر تختلف حسب تعينهما داخل موقع القوة أو داخل موقع الضعف.

حينما تجد ثقافة مهيمِنة ذاتها في مواجهة ثقافات تخضع لها سياسيا، فإنها لا تكتفي فقط بخلق التوسطات الرمزية التي بموجبها تدمج الأفراد والجماعات داخل وحدة مفترضة للهوية والكمال، وإنما تعمل أيضا على محاولة جعل هذه التوسطات مجالا لتقويم الثقافات المحلية المهيمَن عليها، ورسم الحدود التي يجب أن تتحرك داخلها. ومعنى ذلك أنها تعيد ترتيب الحياة الثقافية المتنوعة وفق مستويات معينة تسمح بموضعة التسامح والحرية والكبت والتعبير الصريح عن الذات والتعبير الملتوي والملتف الخ. وهذا وارد في الحالة التي لا تتعرض فيها الثقافة المحلية إلى المحو أو التدمير النهائي. كما أن الثقافة المحلية التي تظل حية في حالة مقاومة ينظر إلى طبيعة مراقبتها وحجمها من خلال نوعية تاريخها ومصادر قوتها الممكنة. فكلما كانت تمتلك زمنا ضاربا في القدم وعناصر المناعة والفعالية الشديدتين تعرضت لحظ وافر من الاحتياط والاحتراس، بالقياس إلى أنواع الثقافات المحلية التي لا تضاهيها على صعيد التاريخ والقوة. ومن ثمة تسعى الثقافة المهيمِنة في علاقتها بالثقافات المهيمَن عليها إلى نشر نفوذها وصلاحيتها عبر عمليات ثلاث: التوحيد والمراقبة والتبني. وهذه العمليات لا تنشط على نحو قوي على مستوى المعيش والأخلاق المرتبطة به، ولا على مستوى اللغة، وقصارى ما تفعله اتجاه هذين المستويين حصرهما في المجال الجغرافي للأقلية، وفي نشاطات الحياة اليومية، ولا تطالهما إلا في الحالة التي تحاولان الاقتراب من المجالات التي تنشط فيها النواة الصلبة للثقافة المهيمِنة: الدين والسياسة والمعرفة. فهذه مستويات يخف فيها التسامح ويقوى التشدد. كما أن أحد هذه المستويات قد يكون مركزيا بالقياس إلى المستويين الآخرين، ويتحكم فيهما.

تتجه إذن الثقافة المهيمِنة، على مستوى النواة الصلبة في علاقتها بالثقافات المحلية إلى مراقبة عناصر الانفلات في الحياة الثقافية، وتقويم حركتها، واستعداء الصهير الثقافي ضدها بإكسابها صورة الهمجية. كما تعمل في الآن ذاته على تنشيط آلية التوحيد الثقافي على المستوى السياسي والديني. وقد توجد تنويعات على صعيد هذين المستويين، وبخاصة المستوى السياسي، وفي هذه الحالة يتم تنشيط آلية التبني مع الحفاظ على صفة الأقلية لنعت هذه التنويعات. وتنتج آلية التبني حسب حاجتين: الحاجة إلى ملء فراغ موجود في الكلية الثقافية المهيمِنة كما هو الحال بالنسبة للثقافة الإسلامية العربية الناشئة في أول عهدها، والتي لم تكن تختزن في ذاكرتها أو تاريخها تجربة الحكم المركزي. والحاجة إلى إلحاق الآخر بالثقافة المهيمِنة باستدخال عناصر من ثقافته وتحويلها عبر عملية إخصاب تذيب التملك الذاتي وتحل محله تملكا موسعا.

ما الجدوى من كل هذا؟ تمثل الجدوى في تلمس دليل نظري ثقافي نموضع بموجبه حالة الثقافة العربية، بما فيها العالمة، بالقياس إلى الثقافة الفارسية باعتبارها كانت ثقافة محلية مهيمَن عليها تتضمن عناصر قوة وقدرة فائقة على المقاومة. ولقد تم التعامل مع هذه الثقافة من خلال المستويات المذكورة آنفا، وبواسطة آليات التوحيد والمراقبة والتبني. وبخاصة من خلال آلية التبني، وعبر المستوى المعرفي (التعبير خاصة) والمستوى السياسي. ففي المستوى الأول تم إدماج العديد من النصوص السردية، وغير السردية في صهير اللغة العربية بوصفها لغة مهيمِنة تفرض تطلباتها على ما هو مدمج، وذلك عن طريق عملية إخصاب لا يمكن إخطاؤه، فبنية المدمج ظلت شمولية ومتعالية، والمادة والتمظهر اكتسبا بعدا إسلاميا. أما على المستوى السياسي فقد وفرت الذاكرة الفارسية رصيدا مهما على صعيد تدبير الحكم لملء الفراغ الذي كانت تعاني منه الثقافة العربية الإسلامية على هذا الصعيد. فالاتساع الجغرافي كان يفرض ذاته ويتجاوز إمكان التجربة الناشئة مع الخلفاء الراشدين، ذلك أن ممارسة الحكم لم تكن تتضمن فقط العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بل أيضا تدبير الامتداد السياسي للخلافة بما يتضمنه من مواجهة مستمرة مع حواف وهوامش دينية وسياسية، وإن كانت في حالة ضعف، فإن أمرها لا يمكن الاستهانة به. والفرس كانوا يمتلكون رصيدا على صعيد الحكم داخل حدود دولتهم الجغرافية، وعلى صعيد تدبير الصراع مع القوى المؤثرة التي كانت تجاورهم. فالحاجة كانت مضاعفة إذن، والتبني كان محققا على مستوى الأدوات مع عملية إخصاب لا يمكن إنكارها. فالأداة كانت فارسية، ولكن المحتوى كان إسلاميا يتعلق بالشرعية التي كانت تتأسس على الأحقية بوصفها إشكالا لم يتولد مع الدولة الأموية، وإنما كان ملازما لنشوء الخلافة في المهد(11).

لا شك أن الجابري يشير إلى أهمية الموروث الفارسي، لكن وجه الاختلاف كامن في الطريقة والمفاهيم المستعملة وطبيعة عملية الاستدخال. فاستدخال الأخلاق الفارسية على نحو مطلق لن يكون واردا إلا في الحالة التي تكون فيها الثقافة المستدخلة في حالة احتضار. والثقافة العربية لم تكن كذلك. فالأمر لا يتعلق بتبن أخلاقي على الإطلاق، وإنما بتبن سياسي صرف خضع لإخصاب تحويلي. ومفهوم الطاعة بوصفه الخيط الموجه في دراسة الجابري للأخلاق تتقاسمه السياسة والأخلاق. وهذا التقاسم يفرض على الباحث التساؤل متى يكون هذا المفهوم سياسيا ومتى يكون أخلاقيا، ومتى يستعصي على التميز. كما أن مفهوم الطاعة لم يكن حكرا على الثقافة الفارسية، لا على مستوى علاقة الحاكم بالمحكوم، ولا على مستوى الواجب بصفة عامة. فقد كان هذا المفهوم واردا قبل عملية التبني السياسي وقولة الإمام علي المشهورة "لا رأي لمن لا يطاع" صريحة في هذا الباب. وهي قولة تنزل منزلة توصيف حال، وتقرير حقيقة، أي ربط فعالية الرأي بالطاعة. والرأي هنا بمعنى التوجيه والأمر وليس بمعنى وجهة النظر. هذا علاوة على أن مفهوم الطاعة قد طرح على الفكر الفلسفي عامة بما في ذلك الفكر الغربي الحديث، وتمييز كانط بين مجال الطاعة ومجال الحرية مشهور، وغاية التسوية بين السياسي والعقل واضحة فيه كل الوضوح.

لننتقل إلى مستوى آخر من تهيئة دليل العمل الذي يمكن من فهم التفاعل الثقافي. فإذا كنا عالجنا في النقطة السابقة تعامل الثقافة المهيمِنة مع الثقافات المهيمن عليها، فإننا نسعى في هذا الجزء إلى معالجة العكس، أي مسألة تعامل الثقافة المهيمَن عليها مع الثقافة المهيمِنة. ولن نعالج الأمر إلا داخل المسافة التي تستشعرها الأقلية الثقافية اتجاه القوة التي تتمتع بها الأغلبية المتحكمة، بما يقوم عليه ذلك الاستشعار من رغبة جامحة في البقاء ومحاولة الانفلات واستعادة المجد الضائع. وتتجه الثقافة المهيمَن عليها داخل هذا الوضع إلى حماية نفسها عبر عمليات محددة: التستر والتسلل والإسناد الانتحالي والمضاهاة. فالتستر يتمثل في التعبير عن الذات الملتوي على نحو غير مباشر، وذلك بمخاتلة يقظة الرقابة عن طريق الترميز، أو اللعب فوق أرضية محايدة أو بعيدة عن الإحالة المباشرة على الذات. والتسلل يتبدى في اختراق الثقافة المهيمِنة أدواتها ومحتوياتها عبر عمليتي تحوير أو تطعيم خفيين لا يتركان أثرا ظاهرا. والإسناد الانتحالي يتمثل في إرجاع عناصر القوة والتقدم في الثقافة المهيمِنة إلى أصالة الذات وربطها من حيث النشأة بوجودها. والمضاهاة تتعين في الاتجاه إلى المفاضلة بين عناصر من الثقافتين، سواء كانت هذه العناصر متقاربة أو في حالة تضاد قصوى(12).

كيف اشتغلت إذن العمليات الأربع المذكورة آنفا في الثقافة العربية؟ لا تكون عمليتا التسلل والتستر واردتين إلا في الحالة التي تنتصب فيها النواة الصلبة للثقافة المهيمِنة محددة الخطوط الحمراء، وتكون فيها عناصر كلية هذه الثقافة مشبعة وغير فارغة(13). فالدين بوصفه مستوى من مستويات النواة الصلبة في الثقافة العربية المهيمِنة كان مشبعا غير مهدد بالفراغ (الشمولية)، وبالتالي لم يكن أمام الثقافات المهيمَن عليها في علاقتها بالشأن الديني سوى العمل بموجب عمليتي التستر والتسلل. أما على المستوى السياسي الذي كان يعاني من الافتقار إلى التشبع التاريخي على صعيد الحكم المركزي(14)، فلم تكن العمليات الأربع واردة على الإطلاق، لأن الحاجة كانت نابعة من داخل الثقافة العربية الإسلامية المهيمِنة، وليس من داخل الثقافات المهيمَن عليها. وما كان على فواعل الثقافة المهيمَن عليها في هذا المستوى إلا عرض خدمتها بما يتطلبه ذلك من قدرة وخبرة. وإذا ما انتقلنا إلى مستوى المعيش والحياة اليومية والتخييل والأخلاق بما هي متنوعة بتنوع الثقافات، فإن عمليتي الإسناد الانتحالي والمضاهاة كانتا قويتين. والفائدة من هاتين العملتين تسمح من جهة برد الاعتبار للذات المنتمية إلى الثقافة المهيمَن عليها، وتولد الإحساس بالاستعاضة عن الخسارة التاريخية بربح سجالي ـ ثقافي، ومن جهة أخرى بإنهاك متبادل للقوى المحلية بدفعها إلى صرف طاقتها خارج الأمور الحاسمة، وبخاصة المستوى السياسي.

نأتي أخيرا إلى دور الثقافة العالمة في هذا التفاعل. وهنا لا بأس من التذكير بأن الثقافة العالمة تنتمي إلى كلية الثقافة المميزة لمجتمع ما، وتنفصل عنها في الآن نفس. ولا تشكل انفصالا إلا لأنها تحول كلية الثقافة إلى موضوع لها. ولذلك تعتبر الثقافة العالمة زمنيا لاحقة على المعيش والإنتاج الحي المباشر. وهذه الملاحظة ليس من باب تحصيل الحاصل، وإنما لها أثرها البالغ على الرؤية والتصور. ويتمثل هذا الأثر في التنبه إلى المسافة الفاصلة بين الوعي النظري (أو التأملي) وموضوعه. وهي مسافة معقدة المعابر، لأنها مؤثثة من جهة بتطلبات الحقل النوعي الذي ينتج من خلاله الوعي النظري وأدواته، ولأن الموضوع يفرض، في سلوك الطريق نحوه من جهة أخرى، الالتقاء بالأصداء التي تلازمه والأصوات التي صارت جزءا من محتواه(15).

نستخلص إذن حسب المسافة المذكورة آنفا، وانفصال الثقافة العالمة عن الكلية الثقافية حين تحولها إلى موضوع لها، ضرورة التمييز بين الوعي النظري والموضوع الأخلاقي بما هو شديد الصلة بالتقويم الانعكاسي أو المتعدي لفعل الذات والآخر، والتمييز بين بنية موضوع يراد استنباطها وفعالية تتوخى ذلك مصدرها حقل نوعي أداته المميزة العقل. هذا علاوة على ضرورة التنبه إلى ما يتوسط هذه الفعالية المستنبِطة وموضوعها من نزعات مختلفة: عقلانية وإنسانية ومحافظة وجذرية، ومن رؤيات متباينة: شمولية أو حصرية أو مقارنة. فالقول بأن الأخلاق ينتجها المجتمع صحيح ولا يمكن الاعتراض عليه لولا العمومية التي تحيط به. ولا نريد الاستفاضة في هذا الجانب، لأنه يتعلق بالرؤية، وسنؤجل الحديث عنه إلى أن نأتي إلى مسألة المنهج. ونكتفي هنا بالإشارة إلى أن الوعي النظري الذي ينصب على موضوع الأخلاق يعود على أفراد ينتمون إلى المجتمع النصي بوصفه المرتع الخصب لنشوء المواقع الرمزية المنتجة للهيمنة الرمزية. وهو مجتمع منقسم على نفسه، والصراع يشتد فيه حول تملك الحقيقة وشرعيتها، وحول تمثيل الأنموذجية الثقافية للمجتمع وتدعيم نواتها الصلبة. ومادام مجال المعرفة، بوصفها مكونا من مكونات النواة الصلبة، متسما بالفراغ في حقبة نشوء الدولة العربية الإسلامية الناشئة، فإن الثقافة العالمة ستسعى إلى تنشيط عملية التبني وفق الحاجة التي تستدعيها المواقع الرمزية التي تتعين فيها الذوات المنتجة للمعرفة. وهنا يمكن فهم الوعي النظري في حركته الخاصة التي تتوزع بين الأصوات والأصداء المصاحبة لعملية تبني أدوات صيغت في ثقافات برانية وبين موضوع الأخلاق الذي يتمظهر من خلال حياة يومية ومعيش مختلفين. وكل ذلك لا ينفصل عن تحيز الذوات المعرفية داخل حقول نوعية مختلفة، وعن التقاطعات الممكنة بينها، وعن اللغة بوصفها ذاكرة وحياة في آن واحد. وبالتالي لا يكون النظر إلى الأخلاق مستحقا وجاهته إلا إذا صدر عن ممكنها، واتخذ من هذا الممكن جهة انطلاق صوب الحقول الأخرى. ومعنى ذلك النظر إلى الأخلاق على أنها مشكلة، وليس باعتبارها مصفوفة من التوجيهات والإرشادات، أي توسيع أفق سؤالها الخاص بطرح مبعث نشوئها، ومستويات تمظهرها، ومعرفة متى يكون الموضوع أخلاقيا ومتى يكف عن أن يكون كذلك، وكيف يلحقه الزمن، وعلاقة كل ذلك بالوسائل والغايات التي تسود في حقبة ما وتتحكم في إنتاج الفعل، ومعيار الكمال وتحققه.

تعد القضايا المعالجة أعلاه ضرورية لموضعة العقل بالقياس إلى موضوعه الأخلاقي، والذي لا يمكن اختزاله إلى تسميات لقيم مجزأة مفصولة، ذلك أن مهمة الثقافة العالمة لم تكن استيراد الأخلاق، فقد كانت الحياة اليومية والمعيش يتكفلان بإنتاج الأخلاق الملائمة، وإنما كانت مهمتها ملء الفراغ على صعيد المعرفة عن طريق تبني الأدوات المناسبة للتفكير في الموضوع الأخلاقي. بيد أنها وهي تتصرف بهذا الشكل كان من اللازم أن تصادف في طريقها الأصداء التي صاحبت بناء الموضوع الأخلاقي في الثقافة العالمة البرانية، وتجري عليه مبدأ التلاؤم بما بتناسب مع النواة الصلبة، ويكفي النظر إلى الرسالة التي وجهها الجاحظ إلى محمد بن أحمد بن أبي داؤد قاضي بغداد لإدراك ذلك. فهو يستحضر في هذه الرسالة الأدوات التي توفرها العقلانية اليونانية (أرسطو)، ولكن حسب مبدأ التلاؤم بما يتناسب مع عنصر الدين من خلال الرؤية المعتزلية، حيث ثنائية الترهيب والترغيب مصوغة انطلاقا من أصل الوعيد والوعد، وانطلاقا من تماثل حكم الدين وحكم الدنيا(16). ننتهي في فحص الموضوع إلى نقطتين هما: أولا ضرورة التمييز بين العقل الأخلاقي والموضوع الأخلاقي، وأيضا بين اتخاذ العقل الأخلاقي لذاته موضوعا. ففي الحالة الأولى تكون القيم موضوعا لأدوات يتوسل بها العقل من أجل الكشف عن حقيقة هذا الموضوع أو نظامه، وبالتالي تعد هذه الحقيقة أو يعد هذا النظام هدفا للعقل، وليس هو هما. وإنما هو ماثل في الطرق والكيفيات والوسائل التي اتخذها عونا له على ذلك. فكما أن الحقيقة الاجتماعية أو البنية الاجتماعية ليستا أبدا بعلم الاجتماع، فكذلك الحقيقة الأخلاقية أو البنية الأخلاقية ليستا بالعقل الأخلاقي. والقول بغير ذلك يفضي إلى التباس الموضوع بدراسته. وفي الحالة الثانية يتحول العقل الأخلاقي إلى موضوع قيمة بدوره، حيث تطرح مسألة نجاعته وملاءمته.

وثانيا ضرورة التمييز بين المرجعيات والأدوات من جهة، وبين المرجعيات والموروث من جهة أخرى. ففي ما يخص التمييز الأول لابد من التنبه إلى أن المرجعيات تتعلق بمعضلات أو قضايا أو أفكار مأخوذة من الغير بغية استخدامها نقطا للاستناد يبنى عليها مقول ما جديد، بينما تعد الأدوات وسائل عقلية تستخدم من أجل ضمان اتساق الصيرورة الفكرية، وتظل كما هي بالرغم من اختلاف المرجعيات داخل نفس المقول. ووفق هذا التمييز نتساءل إلى أي حد تعتبر الطاعة أو السعادة أو الفناء مثلا أدوات أم هي مجرد مرجعيات؟ هذا في الحالة التي نعتبر فيها بعض هذه العناصر مأخوذة بالفعل عن الغير. وفي ما يخص التمييز الثاني فالمرجعية كما قلنا لها وظيفة استنادية بما تعنيه من حجية، بينما الموروث له وظيفة ضمان الاستمرارية بما يعنيه ذلك من رفع لدرجة التلاحم بين أفراد الهوية الثقافية الواحدة، وذلك لأن الموروث تركة منقولة عبر الأجيال هدفها تحقيق استمرارية الذات وتراكم وجودها. ولنا أن نتساءل في ضوء هذا التمييز عما إذا كان الموروث الفارسي موروثا داخل الثقافة العربية أم استعارة مرجعية. وهنا علينا ألا ننسى أننا نتحدث عن الثقافة العالمة والعقل ضمنها، وهذه الثقافة لم تكن بمنأى عن سطوة ما هو رسمي مهيمِن، لأنها كانت منتجة من خلال اللغة العربية في صبغتها القدسية الموحدة بما هي مجال حماية الهوية والذاكرة. ونبهنا على ذلك حتى لا ينصرف الذهن إلى تنوع الثقافات المحلية على صعيد الحياة اليومية بما يحفل به من تفاعل بين هويات متعددة، وعلى صعيد اللغة اليومية التي كانت فضاء لمنازلة وصراع لا يفتران، واحتفاء بتناقض القيم.

1 ـ 2 المنهج والرؤية:
(أ) ـ
يحرص الجابري في العقل الأخلاقي العربي على الوفاء المطلق للمنهج الذي ارتضاه وسيلة في وضع لبنات كتبه السابقة والمندرجة في مساءلة العقل العربي في مستوياته المختلفة. ويتأسس هذا المنهج على التوفيق بين اختيارات ثلاثة: التحليل التاريخي والمعالجة البنيوية والطرح الإيديولوجي. لكنه يشغل هذه الاختيارات على نحو تختلف فيه عنها في الكتب السابقة، وذلك نتيجة خصوصية الموضوع الأخلاقي، ويتمثل هذا الاختلاف في عدم الفصل بين التكوين (التحليل التاريخي) والبنية (المعالجة البنيوية). كل ذلك يتم من دون المساس بطبيعة الاختيارات ذاتها. بيد أن التركيب بين هذين الاختيارين لا يتعداهما إلى الطرح الإيديولوجي، ولا نجد خلال حديث الجابري عن المنهج ما يفيد ذلك. فكيف يُؤسَّس هذا التركيب؟ وإلى أي حد هناك عملية تأسيس منهجي يوفر لهذا التركيب أسباب القوة؟

حتى لا نتهم في سلامة القصد، وتكون مسألتنا حقا أريد به باطل، لا ضير من استعادة فقرة بتمامها من الكتاب تفصح عن معدن المنهج المتوسل به: "الواقع أن التحليل التكويني والتحليل البنيوي ستتم ممارستهما هنا في آن واحد. ذلك لأننا سنتناول كل نظام من خلال ما ندعوه هنا بـ "القيمة المركزية". والنظر إلى النظام من خلال ما يشكل فيه "القيمة المركزية" يعني التعامل مع هذا النظام كبنية. وإذن فالمنظور الذي ننطلق منه سيكون بنيويا. أما جانب التكوين فستتم معالجته من خلال النظر في "أصول وفصول" هذا النظام أو ذلك. "ثم في علاقة التأثير والتداخل بين النظم نفسها"(17).

ولن يكابد القارئ عناء يذكر في تبين العناصر الحاسمة في الوسيلة المنهجية: القيمة المركزية والبنية والتكوين. ومن ثمة الاهتداء الهين إلى المرجعية النظرية التي انبثقت منها، والتيارات المعرفية التي هيأت سبلها الإجرائية وقيدت استعمالها. والمقصود بذلك البنيوية عامة والبنيوية التكوينية خاصة. وكان من باب الحرص أن يشير الجابري إلى ذلك، لكنه لم يفعل. ولا يهمنا الخوض في الأسباب والمبررات، بقدر ما يهم استخدام فضائل المفاهيم المذكورة آنفا، ومدى تأثير هذا الاستخدام على النتائج التي يتوصل إليها الجابري. وهذا ما سنحاوله في عجالة من دون الانشغال بالنقد الذي وُجِّه للبنيوية في تياراتها المختلفة. وسيتجه عملنا هنا إلى فحص مسألتين: أولا اقتضاء كل تركيب الإلمام بالعناصر التي يسعى إلى تركيبها، ومعنى ذلك إحاطة هذه العناصر بالفهم المناسب وبالدقة في الاستعمال. وثانيا تقدير درجة المقبولية التي تتوفر لهذه العناصر كي تقبل التركيب، وكيفية تحقق هذه المقبولية. وقد يصير الأمر مثيرا إذا ما تحصل الإدراك بأن التيارات المعرفية المذكورة آنفا قد وفرت الأسس المنهجية والمعرفية اللازمة لهذا التركيب. وتترتب على هذه المسألة الثانية معضلة لا يمكن حلها بالاختيار بين سبيلين يفضي كل منهما إلى نفس المطلوب: فإما أن المفاهيم والأدوات المستعملة تنتمي إلى تربة نظرية لها ما لها من شروط خاصة مقيدة، وإما أنها ليست كذلك أو قد تم الابتعاد عنها. ففي الحالة الأولى يصير من تحصيل الحاصل الرجوع إليها والاستئناس بها عونا على تبين المسالك وتجنبا لعوامل التيه. وفي الحالة الثانية تصير المهمة أكثر مشقة، لأنها تتطلب استحضار ما نبتعد عنه والإشارة إلى ثغراته وتعليل ما نتجاوزه وذكر مسوغات كل ذلك. لا شيء إذن من كل هذا. وما على القارئ إلا أن يعول على طينة ظنه(18).

ولكي نتبين هذه الأمور سنعرض إلى العناصر الثلاثة المذكورة من دون فصل بينها، مع أخذ مسألة التركيب بعين الاعتبار خلال النقاش، وسنبدأ بمفهوم "القيمة المركزية". ولست أدري ما إذا كان هذا الاصطلاح واردا على النحو الذي ذكره به الجابري في الدراسات البنيوية؟ قد يكون واردا في خطاب نظري آخر، وفي هذه الحالة يكون من المقبول استعماله وفق مقتضيات هذا الخطاب. أما أن يعتبر هذا الاصطلاح معيارا حاسما في توصيف البنية، فإن ذلك يفرض الرجوع به إلى أصله الاصطلاحي رفعا لكل التباس أثناء الاستعمال. وحسب علمي المتواضع ـ وأتمنى أن أكون مخطئا ـ فإن ما درج عليه الاستعمال في هذا المنحى جد رائج ومعلوم لكثرة ما استهلك، ألا وهو القيمة المهيمنة. ولا يمكن الاستهانة بالفرق بين الاستعمالين أو التقليل من شأنه. وهنا لا يجب أيضا أن نغفل عن علاقة المعرفي المؤسس للتيارات داخل الحقول المعرفية المختلفة. فقد يكون من المقبول استعمال مفهوم "المركزي" من دون وضعه في علاقة ما مع القيمة المهيمنة، كما هو الأمر مثلا في الجغرافية السياسية (المحيط ـ الأطراف ـ شبه الأطراف) وفي النقد الثقافي (النخبة/ الجماهير). فما هو مركزي يفيد بالضرورة استحضار ضده "الهامشي". وهذه المعكوسة أساسية في العلوم الصلبة كما في العلوم الإنسانية. ويمكن إجمال بعض دلالاتها في العلوم الإنسانية على النحو الآتي: الإخفاء والتحييد والإزاحة والإقصاء والغياب الخ. وعلاقة المركزي بالهامشي مؤسسة على تضاد منتج. ولا توجد منازعة في هذا الأمر، لكن لابد من موضعة ذلك بطريقة ملائمة بالقياس إلى مستويات النسق. فاشتغال هذا التضاد المنتج حادث على المستوى العمودي بما يفيده من تراتب موقعي قائم على تراتب طرفي يتم بموجبه إبراز طرف ونفي آخر.

وإذا نحن أمعنا النظر في استعمال مفهوم القيمة المهيمنة، فإن تمييزا دقيقا يلوح لنا على مستوى تخصيص البنية، ذلك أن القيمة المهيمنة تفيد التبعية والتعلق داخل كلٍّ لا تكون فيه العناصر غير المهيمنة في حالة عطالة أو مشمولة بالخفاء، وإنما تضطلع بدور تدعيم ضروري من دونه تفقد القيمة المهيمنة أسباب وجودها. ومسألة التبعية والتعلق تقبل المعالجة وفق ثنائية: (الأساسي/ الثانوي). وهذا التمييز ليس مبعثه إسراف في حذلقة نظرية، وإنما ضرورة معرفية لا غنى عنها تكمن في توجيه استعمال الأدوات نحو قضايا محددة. فثنائية (الأساسي/ والثانوي) تقتضي حضورا متزامنا لطرفيها داخل البنية بما يشير إلى تراتب قيمي على مستوى الحضور، وليس إلى تراتب قيمي على مستوى الغياب كما هو الشأن بالنسبة لثنائية (المركزي/ الهامشي). فهذه الثنائية الأخيرة منتجة على صعيد الهوية (النفي/ الإثبات والأنا/ الآخر)، بينما الثنائية الأولى منتجة على صعيد الدلالة، أي ما يمنح البنية سماتها النوعية. لكن لا يعني ذلك على الإطلاق عدم التعالق بين الثنائيتين، بل العكس هو الوارد.

تعتبر القيمة المهيمنة إذن عنصرا بؤريا يتحكم في بقية العناصر الأخرى التي تشترك معه في الحضور، أو يستدعيها على مستوى الغياب، ويعمل على تحويل هذه العناصر أيضا. كما أنه يضمن انسجام البنية وتلاحمها في حقبة معينة من الزمن. بيد أن ذلك يحتم فهمه في متاح نسق يتمتع بتراتبه الخالص الذي يقيمه بين قيم عليا وقيم دنيا، ومن ضمن ذلك القيمة المهيمنة التي يدرك بموجبها موضوع ما ويخصص(19). فما هو هامشي يتصف بكونه غريبا يتموضع في مكان قصي أو مجاور، لكنه موصوف بفعل تهديده للقيمة المهيمنة. وتهديده هذا هو ما يرفع وتيرة مقاومة القيمة المهيمنة ويزيد من فعاليتها. وفائدة هذا التوضيح تمثل في كون القيمة المهيمنة تحصن البنية، بما في ذلك العناصر الثانوية، من الانحلال والتفكك. وهذا الأمر وثيق الصلة بمبادئ البنية الثلاثة: الكلية والضبط الذاتي والتحولات. كما تتجلى الفائدة أيضا في فهم العلاقات بين أنماط البنيات المختلفة، سواء على مستوى الحقبة الواحدة، أو على مستوى التاريخ، كما هو الحال بالنسبة للعلاقة بين ما هو رسمي وما ليس برسمي ويعود على العامة: الحضر والبدو، والخاصة والعامة، والثقافة العربية والثقافات غير العربية.

تتألف البنية إذن من مبادئ ثلاثة كما أشرنا إلى ذلك سابقا. فالكلية لها ميزة ضمان الوحدة الداخلية للبنية وانتظامها الذاتي. كما أنها تفيد بأن العناصر التي تشكل وحدتها ليست مهمة في حد ذاتها، وإنما تكتسي أهميتها من العلاقات والقوانين التي تخضع لها(20). ومن ثمة لا تعد الكلية مجموعا كما هو الحال بالنسبة للتصور الجشطلتي، بل نمطا من الانتظام مصدره اطراد علاقات وقوانين نوعية. ومبدأ الكلية منظور إليه من هذه الزاوية يغاير كليا النزعة الذرية التي تعلي من شأن العنصر في علاقته بالكل، ويغاير النزعة الاشتمالية التي تعطي الأسبقية للكل على حساب العنصر. ووفق هذا الاعتبار يمكن فهم إعادة تأطير مفهوم "المركزي" في ما سبق من النقاش. فقد كانت الغاية ماثلة في تجاوز النزعة الذرية التي أحاطت باستعمال مفهوم "القيمة المركزية"، والتي تتعارض مع مبدأ الكلية، حيث تم التغاضي عن العلاقات البنيوية التي تتحكم في الطاعة مثلا في علاقتها ببقية العناصر الأخرى التي تشاركها الحضور على مستوى البنية الأخلاقية، أو تلك التي تقصيها هذه الكلية. ومعنى ذلك أن عناصر أخرى كانت تصاحب الطاعة على مستوى الحضور، وتؤسس كلية معينة كجهات الطاعة (المطيع والمطاع)، وما يرتبط بها من أفعال كالأمر والاختيار والإيمان، والعلاقات بين هذه الجهات وما يتوسطها من متعال، والوظيفة الخاصة بالطاعة، أهي تنفيذ أم استجابة، أم رضى الخ؟ ثم ما هي القوانين المتحكمة في العلاقات بين هذه العناصر، أهي التعدي أم التطابق، أوهي الاستغراق أم البعضية؟

ويعتبر مبدأ التحولات أساسيا في المنهج البنيوي، لأنه يمكن من حل مشكلة الزمن بما هو تغير وانتقال، وضمنيا مسألة التاريخ. فلا يمكن التركيب بين التاريخ والبنية كما اتفق، أو من خلال منظور مغاير لما تتطلبه البنيوية، وإلا نكون قد تصرفنا بشكل غير ملائم معرفيا. والتحولات لا يمكن عزلها عن الكلية، إذ لا تقبل الإدراك إلا في الارتباط بها. فإذا كان النسق في اطراده داخل حقبة زمنية معينة، فإن الصبغة التزامنية التي تميزه لا تعني ثباتا مطلقا، بقدر ما تعني نوعا من التجديل الخفي بين المقاومة والاستسلام. وبالتالي قد يقبل النسق الانحرافات، أو يعمل على إقصائها وفق الحاجة. ومن ثمة لا محيد عن الوقوف على العناصر التي تطالها التحولات، والكشف عن القوانين التي تضبط هذه الأخيرة(21). كيف يمكن الأخذ بعين الاعتبار الزمن داخل البنية في علاقته بالقيمة المهيمنة؟ أو كيف يمكن التركيب بين البنية والتكوين(التاريخ)؟

أهمية الإجابة عن هذا السؤال تكمن في الإشارة إلى حجم التنازلات غير المبررة اتجاه تطلبات منهجية لمفاهيم لها أصولها النظرية ومساراتها الإجرائية المحددة. فإذا نظر للزمن من خلال وجهة نظر بنيوية، فيجب أن يؤخذ بعين الاعتبار مبدأ التحولات البنيوي. وهنا لن يكون الزمن مجرد "أصول وفصول" للنظام. وإذا نظر إليه من خلال وجهة نظر بنيوية تكوينية، فيجب أن يؤخذ بعين الاعتبار التحولات في أفق علاقات بنيوية بين بنيات تقبل التعليب، بحيث يتسع بعضها لكي يشمل بعضها الآخر. والبعد الاستعاري الذي يقوم على صورتي النهر والجدول لا يسمح إلا برؤية أدبية لا تكاد تبتعد عن فهم للنشأة غير مؤسس جرب في العديد من الكتب التي شغلت نفسها بالتأريخ للفكر العربي. وفي سياق الحديث عن البنيوية والبنيوية التكوينية هناك موقفان متميزان: الموقف الجوهراني الذي يستند إلى الطبيعة اللاواعية للبنية، والذي بموجبه يكون الماضي مستمرا في الحاضر ذاته. وهذا توجه معروف دافع عنه ليفي شتراوس بقوة(22). والموقف الذي يعتبر أن البنيات الإنسانية لا تنتج من فراغ، وإنما من جراء نشأة محددة هي بمثابة مرور من بنية بسيطة إلى بنية أكثر تعقيدا، وذلك داخل سياق لا يكف من التبادل المرجعي بين البنيات(23). وكم هو شاسع الفرق بين النشأة حسب الأصل والفصل وبين النشأة وفق الموقفين اللذين أتينا على الإشارة إليهما. فالمفاهيم كانت تنتسب إلى البنيوية إذن والتصور كان ثقافي المنحى.

هذه قضايا يفترضها الاعتماد المنهجي. وكان من المفروض أن تكون حاضرة ومثرية لقراءة المتن المعتمد والمتن غير المعتمد. لا لأن الاتساق النظري يتطلب ذلك فحسب، ولكن أيضا لأن ضبط الموضوع الأخلاقي في علاقته بالثقافة من جهة، وفي علاقته بالحقول الأخرى من جهة أخرى يستدعي فهما للزمن وفق ما يقتضيه مبدأ التحولات البنيوي. فالتغير لا يكمن في اختفاء عنصر وظهور آخر محله، وإنما هو تحولات تلحق العلاقات المتبادلة بين عناصر النسق، وانسحاب هذه التحولات على القيمة المهيمنة ذاتها وعلى تحولها. وهذا وحده ما يسمح بدخول التاريخ إلى رحاب البنية. فليس كافيا التأشير على ما كان يحتل الواجهة الأمامية في حقبة معينة من الزمن، وتقهقره نحو الواجهة الخلفية في حقبة لاحقة، بل لا مناص من الكشف عن القوانين التي تحكمت في هذا التحول. كما أن الأمر لا يقتصر على إبراز الدقة التي تحدث بموجبه التحولات داخل البنية الواحدة، بل يتعدى ذلك إلى تتبع هذه التحولات على صعيد العلاقات الماثلة بين مختلف البنيات والأنساق والحقول. فقد تكون العلاقة، بوصفها قيمة مهيمنة أيضا(24)، واردة بين الأخلاق والدين في حقبة محددة، وقد تكف عن تكون كذلك في حقبة أخرى، فتصير واردة بين الأخلاق والسياسة، أو بين الأخلاق والبنية الاجتماعية والاقتصادية. فالحديث عن أخلاق الجواري أو الرقيق لا يمكن فصلهما عن هيمنة علاقتها ببنية المهنة (النخاسة) وازدهارها وقوتها. وهذه البنية المهنية أيضا لا يمكن فصلها عما تشكله من هيمنة اقتصادية واجتماعية. هذا فضلا عن أن بعض القيم قد تعتبر غريبة عن حقل نوعي معين في زمن ما، لكنها تصير مندرجة داخله في زمن آخر لتملأ وظائف أساسية(25).

لا شيء من هذا نجد له أثرا ولو خافت الصدى في الكتاب. والزمن مستخدم بطريقة لا تختلف كثيرا عن مواصفات التحقيب، حيث التتالي يتحكم، وفق حركتي الظهور والاختفاء، في ملاحقة الموروثات التي ظلت تشتغل كمرجعيات وأصول، وليس بوصفها بنيات وأنساق. وقد يعترض علينا معترض بأن في قولنا هذا تحاملا بدعوى أن الجابري أخّر الموروث الإسلامي إلى نهاية الكتاب، بينما يفترض التتالي الابتداء به على الأقل، إن لم يفترض الابتداء بالموروث العربي. ونرد على هذا الاعتراض بالقول أن التتالي كان من جهة المتن، وله صفة تعقب كتب وتلخيصها داخل إطار يحمل تسمية اعتبرت نظاما. وخلف ذلك كله كان يتم الاحتكام إلى مفهوم النشأة بصيغته التأصيلية ذات النزوع التصنيفي، حيث رعب الهجين يتقى بالإعلاء من شأن الأصيل الخالي من الشوائب، ولن يكون هذا الأصيل، على مستوى الأخلاق، سوى مغربي، وإن كان العز عبد السلام قد أنتج مصنفه في المشرق، فلا أهمية لأثر السياق الثقافي، فالمهم عدم التفريط في التباهي المغربي أمام المشرق. تماما كما حدث مع ابن رشد، وإن كانت عقلانية ابن رشد تخلي مكانها في العقل الأخلاقي العربي لصالح معيار آخر مخالف يخدم نزعة التباهي. إن هاجس النشأة المبني على نزوع تأصيلي ليس بمقدوره أن يكون بنائيا أو بنيويا تكوينيا، لأنه ظل مشبعا بأثر المجرى الذي يتسم به النهر: تعقب مسارات وضبط وجهاتها، بينما يقتضي مفهوم النشأة بنيويا ألا نعود بالأمور إلى أصل متوهم في اتجاهيه (اتجاه تبرير مآسينا بشائبة برانية، أو اتجاه التنقية)، لأن ذلك يعد عماد الدراسات الفيلولوجية والتاريخية التي ميزت القرن التاسع عشر، وإنما يقتضي سلوك وجهتين: النشأة باعتبارها بناء بالقهقرى يمارسه النظر العقلي على موضوعه تاريخيا بغية تلمس البنية الأولية التي لها خاصية استيعاب تحولات غير محددة زمنيا عبر الزمن ذاته. والنشأة بوصفها مرورا من بنية إلى أخرى بما يتضمنه ذلك من تفسير تبادلي للبنيات، وتفسير عملية المرور نفسها(26).

إن الأنساق والبنيات تفترض، بالرغم من استقلالها، تفاعلا نوعيا في اتجاه ما يتركب فوقها بوصفه بنية عليا. ولا يهم إذا كان التحليل يتوسل في ذلك بفهم جوهراني للبنية أو بفهم تكويني يأخذ بعين الاعتبار دور الفاعل أو عمله. وهذا التفاعل شديد الصلة بالتحولات. بيد أن الملاحظ في كتاب العقل الأخلاقي العربي هو غياب هذا الأمر. فالموروثات يعقب بعضها البعض من دون تحديد طبيعة التفاعل الذي تحكم في صيرورتها، أو التحولات البنيوية التي أسهمت في تطورها. فالقول بالصراع والتنافس بين الموروثات، بالرغم من خفوتهما في التحليل، قد يكون مقبولا في هذا الاتجاه لو حدث أن وُطِّن المفهومان معا داخل حيز وجهة نظرية تسمح بمعرفة الشروط التي تقنن استعمالهما، فيكون ذلك بمثابة دليل عمل بيد القارئ والكاتب معا. فالصراع قد يستعمل على نحو مألوف لا يخرج عما تتيحه اللغة الجارية من معنى، وقد يستعمل نظريا وفق تصور معرفي محدد له قيوده. والمستفاد من الكتاب أن الجابري يستعمل مفهوم الصراع غير مراع لحقوقه النظرية التي بها تكون استقامته. فإذا كان قد تم التنازل عن التفاعل البنيوي لصالح مفهوم الصراع، فإن الأسلم الذي لا تنال منه الشبهة أن يكون هذا المفهوم يمت بصلة قربى إلى التحولات الديالكتيكية. وسيكون مدعاة إلى سوء الطوية الاعتقاد بعدم الحضور الواعي لهذا المبدإ عند الجابري، لكن سبب الازورار عنه يبعث على الحيرة، وبخاصة حين نعلم أنه طبق على القيم قبل زمن السبعينات الذي جعله الجابري زمنا إيديولوجيا كان يحول دون الكتابة في موضوع الأخلاق(27). فإذا كانت التحولات دليلا على التفاعل ومولدة للتوازن الذي تتطلبه البنية حين تصاب بدواعي الاضطراب، فإن التحولات الديالكتيكية تعمل بدورها على حدوث عمليات الانتقال التي بموجبها يتأسس التوازن الذي يبرر نشوء نسق مركب جديد. ويتمثل دور المبدأ الديالكتيكي في إعداد البنيات(28) وتأهيل وظيفتها زمنيا، الشيء الذي يسمح بأن يكون التاريخ منظورا إليه من زاوية مظهره التحولي والذي يبرر انبثاق الجديد من القديم داخل صهير يتأهل فيه القديم ليكتسب وظيفة جديدة بحسب ما يتطلبه توازن البنية المركبة.

لا يستقيم الحديث عن البنية وتوازنها، وعن القيمة المهيمنة ودورها في استقرار البنية، وعن التحولات، من دون استحضار أهمية الحديث عن الضبط الذاتي بوصفه مبدأ ثالثا محددا للمقاربة البنيوية. ويعتبر الضبط الذاتي نوعا من الرقابة الداخلية تضبط بموجبه البنية نفسها، ومآل صيرورتها حتى تحافظ على استمرار وجودها.كما أن هذا المبدأ يعد ضربا من المقاومة التي تبديه البنية اتجاه ما يهددها من عناصر غريبة. وهذه المقاومة لا تكتسي دائما مظهرا سلبيا يقوم على الإقصاء وإقفال الحدود، بل تتصف إلى جانب ذلك، وفي حالات شتى، بصبغة إيجابية قوامها استقطاب عناصر جديدة قادرة على الاستجابة لحاجات البنية النوعية. ومن ثمة تصير التحولات بدورها مراقبة بواسطة الضبط الذاتي (أو الضبط الدينامي)، حيث يمنعها من أن تؤدي فعاليتها إلى خارج البنية، وبالتالي إلى زوال هذه الأخيرة. وهكذا تعمل مراقبة الضبط الذاتي للتحولات على اصطفاء العناصر التي تقبل الانتماء إلى البنية مع الحفاظ على قوانينها الأساسية والمميزة. ويمكن الإقرار داخل هذا النطاق بأن البنية تميل إلى الانكفاء على ذاتها والاكتفاء بنفسها. ولكن هذا لا يعني على أية حال انفصال البنية التام عن غيرها، فقد تقبل التفاعل مع بنيات أخرى، بل لا محيد لها عن ذلك.كما أن البنية قد تقبل التحول إلى بنية فرعية مستوعبة داخل بنية أخرى أوسع وأشمل، وإذ تلحق البنية هذه المواصفات فإن ذلك لا يدل على فقدانها ما يخصصها من قواعد وقوانين، بل على أنها تحافظ عليها، ولا يشكل تفاعلها مع غيرها أو اندراجها داخل بنية أوسع إلا مزيدا من إثرائها(29). يحقق إذن الضبط الذاتي خاصية الانتظام التي تتطلبها كل بنية. وهذا الانتظام نوعان: انتظام يحقق التوازن الداخلي للبنية واستقرارها، وانتظام يميز عملية نشوء البنيات الجديدة بما يتضمنه ذلك من استيعاب للبنيات السابقة.

ينفعنا هذا المبدأ البنيوي الثالث في تبين قضايا أخرى تتعلق بمعالجة العقل الأخلاقي العربي منظورا إليه من خلال التصور البنيوي. وعلى من اختار النظر إلى العقل من زاوية النسق أو البنية أن يتحمل تبعات هذا الاختيار بكل ما يعنيه ذلك من مبادئ وشروط. فالبنية ليست مفهوما معزولا قابلا لأن يستعمل كما اتفق، وإنما مفهوم يرد داخل جهاز نظري يلزم الباحث الذي يتوسل به بمراعاة اتساقه وعدم اتساقه أيضا. ومن ثمة تقتضي الضرورة النظر إلى البنية الأخلاقية العربية في علاقتها بالانبثاق التاريخي من خلال وجهتين لا ثالثة لهما: إما أنها كانت بنية في حالة نشوء (بنية جديدة) بغاية تحقيق التوازن لبنية سابقة لحقها التفكك، أو أنها كانت بنية في حالة استقرار تسعى إلى الحفاظ على توازنها الخاص. وفي كلتا الحالتين معا لامناص من افتراض وجود بنية أساسية ذات وحدة أساسية وتعمل بموجب نمطي الانتظام الذاتي والخارجي بما يكفل استمرارها وتفاعلها مع غيرها من البنيات الأخلاقية الأخرى. ويترتب على هذه القضية أن الموروث الفارسي لا يتأهل لأن يكون بينية تحل محل بنية عربية لها نواتها الصلبة. هذا فضلا عن كون كلية القيم الأخلاقية لم تكن في الثقافة العربية كلية فارغة، الشيء الذي يجعل من وجود بنية قديمة (وحتى ناشئة) مستقطِبة ضرورة لا يمكن غض الطرف عنها. ولذلك كان من اللازم بناء هذه البنية، في انحلالها أو في استقرارها، وتحديد قوة انتظامها أو ضعفه، بما يقتضيه ذلك من تتبع لمسارات تحولاتها التي تحدث استجابة لحاجاتها المتجددة. وبالتالي لا يمكن فهم الموروث الفارسي إلا كبنية متفاعل معها وليس كبديل، بل كبنية تعرضت بعض مقوماتها إلى التلاشي. كما يمكن النظر إلى هذا الموروث كخزان من العناصر الغريبة القابلة للاستقطاب من لدن البنية الأخلاقية العربية. بيد أن هذه العناصر لا تستقطب بوصفها نسقا أو بنية، بل كعناصر مستقلة ومعزولة عن نسقها الأصلي الذي تعرض إلى تصدعات قوية. والقول بغير هذا يناقض حقيقة الأشياء، لأن التفاعل بين الأنساق والبنيات لا ينفلت من تطلبات الهيمنة وشروطها، بما في ذلك الحفاظ على تمايز الثقافة المهيمِنة اتجاه الثقافات المهيمَن عليها، وذلك لضمان استمرار النظام المسيطر باستمرار وجوده الاجتماعي والسياسي والأخلاقي. والتمايز غير التميز. فالأول يتواجه فيه طرفان على أرضية التباهي، والثاني يحيل على طرف يسعى نحو مخالفة المألوف. كما أن الأول يقوم على التطابق والثاني يقوم على الخرق، وكلاهما له علاقة بالهوية والنواة الصلبة الخاصتين بثقافة معينة، مما يؤدي إلى تولد ثنائية الإرث والجدة.

ولا يمكن معالجة هذه الثنائية إلا في ضوء حركتي: التصلب والتكيف، بما تفضيان إليه من استمرار أو اندثار. وهنا ينتصب السؤال الأساسي، ما الذي يجعل بنية مهيمِنة مستقطِبة مضطرة إلى التكيف (الجدة) بالانفتاح على عناصر غريبة وجديدة، والجدة هنا يجب ألا تقرن بالإيجابي أو السلبي، وإنما يجب فهمها على الوجه الذي تكون به الأشياء غير معروفة من قبل. والإجابة لا تخرج عما قلناه سابقا، ذلك أن الأمر لا يتعدى بروز حاجات جديدة، أو كون البنية ذاتها لم تعد قادرة على استيعاب معطيات واقع جديد. وبالتالي يتم نقل فعالية التوازن من مستوى الانتظام الذاتي إلى مستوى الانتظام الخارجي. غير أن هذا التصور يجب ألا يبقى محصورا في بعده المنهجي شبه الوضعي ـ الميكانيكي، إذ لا بد من توسيعه بإيلاء الفواعل عبر ـ الفردانية أهمية قصوى في فهم البنية وتحولاتها وانتظامها. فبنية القيم الأخلاقية لا تنفصل عن الزمرة الاجتماعية وتطلعاتها. ومعنى ذلك ربط هذه البنية بنوعية العلاقة المهيمنة بين الوسائل والغايات، وبمسألة تأمين الذات الجماعية وبقائها وصونها من التدهور. وما يستتبع ذلك من تمثلات تتعلق بالصورة التي تكونها هذه الذات حول علاقتها بأهدافها، وعلاقة تحقيق هذه الأهداف بمصالح غيرها من الذوات الجماعية الأخرى. والاستنتاج الوحيد الذي يمكن الظفر به من هذا الشرط المعرفي يتمثل في كون القيم على اختلافها بنيات تتفاعل مع بنيات أوسع، كما أن العقل الذي يتخذ له موضوعا هذه القيم يتحول بدوره إلى موضوع قيمي حين ينظر إليه من خلال تفاعل بنيته الخاصة مع البنيات الأوسع التي تستوعبه إلى جانب موضوعه.

(ب) ـ إلى أي حد يمكن فصل المنهج عن الرؤية؟ لا يعني طرح هذا السؤال مبالغة في تصيد المبررات تلو الأخرى للنيل من قيمة كتاب لا نخفي أبدا أهميته وريادته في مجاله، بل استفادتنا الجمة من فضائله العديدة، وإنما يعني حرصا على أن تنصرف هذه الاستفادة صوب الجهة الأكثر نفعا للجميع، وذلك من خلال تبين مدى السيطرة على موضوع شديد التعقد انطلاقا من بعد ذري في بناء المعرفة. وربما حصل التنبه إلى أننا لامسنا عناصر متعلقة بالرؤية في أكثر من موضع طيلة حديثنا عن المنهج، ولم نفعل ذلك إلا لرسوخ اليقين لدينا بأن الفصل بينهما ليس ضرورة منهجية، حتى ولو كان الأمر يتعلق بمأمورية تسهيل بسط القضايا وتوضيحها. وإذا كان من معنى يسند إلى الرؤية في كتاب العقل العربي، فإنه لا يخرج عن التصور الذي يحوزه الدارس حول موضوعه. والإشكال لا يمثل في فهم الأخلاق وإنتاجها، ولكن في الشروط التي تحدد هذا الفهم في علاقته بالأدوات المسخرة لبنائه. وهذا يجرنا إلى استحضار الثنائيات المألوفة في بناء العلوم الإنسانية لأجهزتها النظرية، وفي النقد الذي انصب على هذه العلوم في ضوء مقارنتها بالعلوم الصلبة: الذات/ الموضوع، والعقل/ التجربة (الممارسة)، والمنهج/ الموضوع، والوعي/ الواقع، والفرد/ الجماعة الخ..(30). وهذه الثنائيات لا تشكل في حد ذاتها مثار اختلاف، وإنما زاوية النظر التي تشتغل خلفها خلال عملية بنائها وتطبيقها. فالانحياز إلى أحد طرفيها يتأسس على اختيار عقلاني معين له تبعاته: العقلاني الوضعي ـ التجريبي، والعقلاني الحدسي والظاهراتي، والعقلاني القبلي والمنطقي. كما أن هذا الانحياز إلى أحد الطرفين يتأسس على التأرجح بين البنية والفاعل. بينما يصر التصور العقلاني العلائقي، كان جدليا أم براغماتيا، على عدم الفصل بينهما، وبخاصة في العلوم الإنسانية. وضمن هذا التصور يندرج المنهج البنيوي التكويني. فإذا كانت البنيوية الوضعية مبنية على قاعدة رياضية وفيزيائية تتجاهل دور الفاعل الإنساني، فإن البنيوية التكوينية تمنحه قدرا من الأهمية لا يستهان به. ووفق هذا القدر يعاد النظر في علاقة الفرد بالجماعة، وعلاقة العقل بالممارسة، وعلاقة الذات بالموضوع. ومن ثمة تتولد مفاهيم نوعية ملائمة من قبيل: الصيرورة الدينامية، والذات عبر ـ الفردانية، والوعي الممكن(31).

يعتبر الجابري العقل الأخلاقي عقلا جماعيا لا فرديا، وموجها نحو الجماعة، على أساس أن كل جماعة لها نظامها القيمي الخاص الذي تدير به شؤونها الخاصة. ولا يهمنا ما إذا كان العقل النظري (وليس عقل الممارسة) فرديا أم جماعيا، ونترك لفراسة القارئ وذكائه استنتاج الإجابة مما سيلي من نقاش. ولكن ما يهمنا هو تمييز الجابري بين الأخلاق المطبقة و "الكلام المنظم المكتوب" الداعي إلى تطبيق نوع معين من الأخلاق. وسنتغاضى عن نعت "الداعي" وما يثيره من معضلات. ونقف فقط عند حصر الجابري دراسته للعقل الأخلاقي العربي في النوع الثاني وتفضيله ترك النوع الأول لعلماء الاجتماع والإناسة(32). ولا شك أن القارئ العادي (والقارئ المتعجل من أمره والمؤمن باللازمة: كم من أمور قضيناها بتركها) ستبدو له هذه الرؤية مقبولة أو سليمة وهي كذلك لولا ما تنطوي عليه من تعميم. ولا يتسرب هذا التعميم إلى رؤية الجابري نتيجة تحاشي الإسراف في ما هو نظري، أو نتيجة عدم الخوض في أمور معروفة وواضحة لدى القارئ، وإنما نتيجة تشذيب ناتج عن أزمة المعاقلة(33)، والذي يحدث بموجبه الالتفاف على المنهج، وضمان تصميت ما يجب تصميته. لأن التقيد التام بما يفرضه الجمع بين البنية والتكوين منهجيا يعيد الموضوع برمته إلى صلب الرؤية العلائقية الجدلية. ومن شأن هذا التصرف أن يضطر البحث إلى إقامة بنية موسعة تفسر البنية الفرعية، وبالتالي مواجهة تركة منهجية ومعرفية لحقها من الابتذال عندنا ما لم يلحقها عند أهلها، ومن التحريم الطوعي ما لم تستدعه ضرورة أو حجة قطعية.

إذن ما مبرر هذا الاستنتاج الذي يشبه وضع العربة أمام الحصان؟ مبرره الوحيد تشغيل الجابري لمفهومي البنية والتكوين بانتزاعهما من التربة التي استنبتا فيها أصلا، ومن دون مراعاة القيود النظرية التي تصاحب عادة الثنائيات المعرفية المرتبطة بتشغيلهما (الفرد/ الجماعة ) و (العقل/ الممارسة )، كما يتجلى ذلك من خلال اعتمادهما في تحديد موضوع الأخلاق في الكتاب. يقرر الجابري أن العقل الأخلاقي جماعي وليس فرديا. لكنه لا يقول لنا كيف تحصل الصفة بالنسبة للموصوف. مما ينزل الأمر منزلة البديه والمسلمة، مع العلم أنه يحصر العقل الأخلاقي في "الكلام المنظم المكتوب". ومن دون الوقوف عند عبارة "الكلام المنظم المكتوب"، وما تحتمله من من سعة قد تشمل كل إنتاج كلامي يتوفر على قدر معين من الوعي بذاته ومن التنظيم، فإن تحديد الموضوع ينصرف مباشرة إلى مجال التعبير. ونحن نعلم أن التعبير المنظم والواعي يعود على أفراد يتوفرون على مؤهلات لا تتوفر للجماعات. فما هو مصدر الموضوع (الأخلاق ): الجماعة أم الفرد الذي يعبر عنها؟ هل يتعلق الأمر بتناقض؟

إن السبب في التوتر النظري أعلاه يعود في جانب كبير منه إلى اقتلاع الثنائية (الفرد/ الجماعة) من تربتها النظرية وإفراغها من بعدها العلائقي. ومفهوم الفواعل عبر ـ الفردانية المغيب وحده القادر على منح طرفي الثنائية المذكورة مظهرها العلائقي المناسب. فكل ما يصنع في التاريخ وينتج داخله لا يمكن رصده إلا في ارتباطه بذوات جماعية عبر فردانية تتأهل داخل الزمرة الاجتماعية وترتبط بها. ويحصل هذا التأهيل بفعل امتلاكها الوعي الممكن والقدرة على منح هذا الوعي التعبير الأنموذجي الملائم(34). وبحسب هذا المنظور لا يعد "الكلام المنظم المكتوب" تعبيرا انعكاسيا، ولا تعبيرا توجيهيا يقوم على دعوة الآخرين إلى نهج سلوك معين، وإنما يعد تعبيرا عن وعي ممكن يستشرف مصالح الزمر الاجتماعية وتطلعاتها وآفاق تغيير وضعها أو الحفاظ عليه. بيد أن الوعي الممكن لا يستقيم إلا في إطار صيرورة دينامية للبنية. فداخل مجموع الأفراد الذين يعتبرون فواعل عبر ـ فردانية، لها أهمية في فهم الصيرورة التاريخية، يتواجد صنف مخصوص تكون ممارسته موجهة من جهة نحو التنظيم الشمولي للمجتمع ونحو بنينة العلاقات بين الإنسانية من جهة أخرى، بما في ذلك علاقات الناس بغيرهم، انطلاقا من الفعالية والمعرفة. والمعرفة هنا لها صبغة توقعات محتملة.

لا يوجد إذن هناك فصل بين الجماعة والفرد من جهة، ولا يوجد فصل بين التعبير (الكلام المنظم المكتوب) وتطلعات الجماعات وغاياتها. والعلاقة بينهما تمثل في وجود فواعل عبر ـ فردانية تمتلك وعيا ممكنا في مقابل الوعي الواقعي المرتبط بالمصالح الضيقة لبعض الفئات كالأسرة مثلا، كما يؤكد على ذلك غولدمان. فالتطلعات توجد في حضن الجماعة، بينما الوعي الممكن تصوغه الفواعل عبر ـ الفردانية. ويمنح الإنتاج الفردي الخاص هذا الوعي التعبير الأنموذجي النوعي من داخل حقل معين. وهنا لابد من الانتباه إلى أن التعبير من داخل حقل معين وثيق الصلة بنوعية وسائل التعبير التي تكون ملائمة في حقبة معينة للبنية الاجتماعية وبنية الإنتاج العامة كما يحددها إيغلتون. فأحيانا يجد الوعي الممكن التعبير الأمثل عنه في الأداة الشعرية، وأحيانا أخرى في الأداة النثرية، وفي فترات مغايرة يتوسل بالتعبير المأثور، أو بالتعبير بواسطة النظر العقلي. وبالرغم من الاختلاف التاريخي الذي يسم الأنموذجية التعبيرية، فإن هذه الأخيرة لا تكاد تخرج عن اتجاهين: تحويل في اتجاه التجريد العقلي، أو تحويل في اتجاه التشخيص الملموس. ومن ثمة لا يمكن اختزال العقل بما هو وسائل وطرق وكيفيات في بناء الموضوع في النظر الفلسفي أو الكتابة التأملية. فما اعتبر سوقا للأدب ليس سوى تعبير أنموذجي لا يقل عن غيره أهمية في التوسل بالعقل وتنظيم ذاته من خلال المكتوب، لبناء موضوعه وصياغة الوعي الممكن شأنه في ذلك شأن الكتابة النظرية أو ما يقاربها. وهل كان الجابري قادرا على الانفلات مما كان يمجه ويعتبره سوقا للأدب حين أراد التدليل على نظام المروءة، فقصارى ما فعله في هذا الجانب أنه توسل بالمأثور شعرا ونثرا ولم يخالف أبدا ما تميزت به حقبة من تاريخ الكتابة العربية على صعيد التعبير.

نأتي إلى الثنائية الثانية (العقل/ الممارسة) وإسناد الطرف الثاني (الممارسة) إلى علم الاجتماع وعلم الإناسة. ونبدأ من الشق الثاني. وهو شق مصوغ من خلال احترام توزيع المهام، وكأن لسان الحال يقول: أعلم علم اليقين أن (س) تقتضي (ن)، ولكن هذا ليس بمهمة موكولة إليَّ. فكلٌّ لما هيئ له. إنه أمر إذن من اختصاص علم آخر لا نتهمه بالتقصير، ولكن نحيطه بجرعة من التنبيه تتخذ صبغة مؤمل. وأعتقد أن التداخل بين العلوم شيء مؤكد اليوم. فبالرغم من احترامنا المبالغ فيه والمصطنع أحيانا للمناطق المحرمة التي تعود في تشييدها الطويل إلى معضلة الحد، وتعود إلى احتكار الخطاب الأكاديمي لحماية الرأسمال الرمزي والمكتسب الاجتماعي، فإن ذلك لا يعفي من التشديد على أن علم الاجتماع لا يقتصر دوره على دراسة العيني، بل يمتد إلى دراسة العقل ذاته. وإذا كانت ثنائية (المجرد/ الملموس) قد اتخذت معيارا لبناء حكم الإقصاء الذي مورس على الممارسة في كتاب العقل الأخلاقي العربي، فإنها غير محسومة في علم الاجتماع والإناسة معا: استنطاق الواقع الملموس من خلال نزعة اختبارية، أم الانطلاق من بنيات مجردة ذات اتصاف رياضي أو فيزيائي. وحتى إذا تجاوزنا هذا التشديد وقبلنا بما ارتضاه الجابري معيارا في هذا الأمر، فإن الممارسة تقتضي العينية المباشرة التي تقبل الاختبار والقياس والملاحظة. وربما كان هذا بمثابة الدافع الذي جعل الجابري يقوم بتوزيع المهام المذكور آنفا. لكن الأخذ بهذا الدافع ذريعة يطرح معضلة تتمثل في كيفية استرجاع عينية زمن لا يمنح ذاته إلا عبر ما هو مدون ومسجل. فهل من حيلة لاصطناع حياة ماتت منذ أزمان؟ فلا شك أن عالم الاجتماع لن يجد أمامه إلا ما وجده الجابري ذاته، أي "الكلام المكتوب المنظم". وقد يتم تدارك الأمر بالقول إن المقصود بالأخلاق المطبقة ليس العينية، وإنما المنقول حول السلوك اليومي للمجتمع العربي. ومع ذلك لا يرتفع الإشكال، لأن التناقل حدث بواسطة التدوين، ومن خلال شخصيات لها حضورها التاريخي. والتدوين ليس هو المطبق واليومي لأنه يخضع لتنقية معينة تستجيب للهيمنة الرمزية.

إذا كان العقل سيد نفسه في بناء موضوعه وفق وسائله الخاصة، فمن الإجحاف أيضا اعتباره مكتفيا بذاته. إنه يتحمل، بهذا القدر أو ذاك مسؤولية ما اتجاه ما يروم دراسته والسيطرة عليه. ومن ثمة لا يمكن نفي صبغة الممارسة عنه، بيد أنها ممارسة من نوع خاص بكل تأكيد. وتأتي هذه النوعية من كونها ممارسة تفكر في ذاتها في الوقت الذي تفكر فيه في موضوعها. ومعنى ذلك ألا مهرب هناك للعقل من موضعة نفسه اتجاه موضوعه بالقياس إلى الوعي الممكن الذي يشتغل خلفه. فمهما يكن فإن "المطبق" يوجد في مستوى آخر غير الواقعي والعيني، إنه يوجد متضمنا في صيرورة العقل بعينه، ما دام يأخذه بعين الاعتبار كأفق لا يمكن تجاهله، إما بغاية الحفاظ عليه باعتباره ملائما لاستقرار البنية الاجتماعية، وإما بغاية العمل على تغييره بما يتراءى كإمكان لتحقيق التلاؤم والتوازن المطلوبين لها.

إن القيم الأخلاقية قيم عملية غايتها التحكم في الممارسة ومراقبتها. هذا ما هو معروف، لكن سيكون الأمر أكثر جدارة لو اعتبرناها صياغة مستمرة لعلاقة الإرادة باستعمال العالم والموضوعات، حيث يكون الصراع حول المصالح وارد، وكذلك مردودية الأفعال وتقويمها. فهي قيم تختبر الإنسانية من خلالها صلاحية أعمالها بما يجلب الرضى عن الذات كانت جماعية أم فردانية. وهذا الاختبار لا يخلو من خضوعه للتوسط، حيث الآخر بوصفه شبكة من النواظم الرمزية يتدخل على نحو واع أو لا واع في تحديد قيم الموضوع والامتزاج به كصوت لذات متعالية، ومن ثمة يمتزج بالفعل ويحدد قيمته. وداخل هذا المنظور يمكن فهم المطبق (و/ أو الممارسة). والعقل يتدخل في المجال الأخلاقي الممارس، ليس من أجل التوجيه، لأن هذا الأخير قد تتكفل به أدوات أخرى أكثر تأثيرا وقربا، ولكن من أجل إثبات صلاحيته قبل كل شيء. وهذه الصلاحية لا تنفلت بدورها من علاقة الإرادة باستعمال الأخلاق. وبالتالي يكون تدخل العقل تاما وفق إرغامات الموقع الذي يشغله، ووفق تطلعات الزمرة الاجتماعية الذي يجد نفسه مرتبطا بها في حقبة معينة من الزمن. وتدخل العقل لن يكون مباشرا وإنما على نحو غير مباشر من خلال تطلباته ووسائله الخاصة.

نختم حديثنا عن الرؤية بطرح علاقة الأخلاق بالسياسة. ولا نريد هنا استعادة ما قلناه بصدد تعالق الحقول، والنظر إلى حقل من خلال ممكن حقل آخر. وسنقتصر على فحص قضية عدم الفصل بين السياسة والأخلاق التي يأخذ بها الجابري. وأول ما نميل إلى الوقوف عنده رجوعه بعدم الفصل بين المجالين إلى أرسطو. والمشكلة لا تكمن في طبيعة الرؤية المعتمدة، ولا في الاستناد إلى أرسطو. لأن نقاشنا لا يتجه إلى الاختيار ذاته، وإنما إلى طريقة استثماره. وكما ألمحنا ذلك سابقا، فإن رصد العقل لا يحدث إلا باعتبار وسائله الخاصة وما يقبع خلفها من بنية موسعة، وليس من خلال الخلط بينه وموضوعه، ومن ثمة لا يمكن الوقوف ببنية الأخلاق الإغريقية عند حدود استمداد مفصلتها من أرسطو أو غيره، إذ لا محيد عن ربط انتظامها البنيوي عند هذا الأخير بانتظام بنيوي أعم وأوسع يتعلق بالثقافة الإغريقية، والتي تتخذ من الحد مفهوما حاسما في بناء انتظامها. وهو مفهوم لا يقف عند حدود ماهية الإنسان وأفعاله، بل يتعداها إلى الكون والآلهة(35). كما أن الانتظام البنيوي لثقافة الحد لا يقبل الضبط إلا في ضوء بنية أخرى أوسع تتعلق بمفهوم المدينة الإغريقية وانتظامها البنيوي السياسي. فعدم الفصل إذن يعد وفق هذا المنظور تعالقا بين مجالين لهما حدهما الخاص، وليس تماهيا. فالأخلاقي يبقى أخلاقيا والسياسي يبقى سياسيا، غير أن ذلك لا يعني أنهما لا يقبلان التعالق وتبادل التأثير، وإنما عدم قبولهما تبادل الأدوار، أو اضطلاع أحدهما بدورين فيحل محل الآخر، وذلك حسب الزمن (الحدوث = كما وقع ويقع) أو حسب التوجيه المستشرف (كما ينبغي أن يقع). فاعتبار الأخلاق بكونها في خدمة السياسة، وتحويلها إلى وسيلة لها بما يعنيه ذلك من معضلة معرفية تتعلق بتبعية المستقبلي للحادث (الواقع) يناقض طبيعة الاشتراط الذي جعل بموجبه الجابري العقل العربي ينطلق من الأخلاق نحو موضوعه. وإن كان هذا يعني شيئا ما فمعناه أن التعالق يفترض أن تكون السياسة أيضا في خدمة الأخلاق، أو التعاليم بصفة عامة. ولربما كان استعصاء مماثلة ما يحدث بوصفه ميزة كل واقع لتطلبات الأخلاق اتصافا يجب التفكير فيه بصدد فهم التحولات التي اعترت انبثاق تاريخ الدولة في الإسلام، أي عناد المادة للفكرة(36).

إن التعالق بين السياسة والأخلاق لا يمكن الوقوف به عند النزعة الثقافوية الصرف، بل لا بد من فهم مبعثه في مستوى بنيوي أكبر يستوعب حركتهما المتقاطعة. والمقصود بذلك مسار التطلعات الاجتماعية في علاقتها بالانتظامات التي تعممها بنية الإنتاج. فعدم الذهاب بقضية عدم الفصل بين السياسة ولأخلاق في اتجاه تطلبات مبدإ التكوين الأصيل الذي يقوم على التفسير المتبادل للبنيات سيخل لا محالة بالعديد من الاستنتاجات وعلى بناء موضوع الكتاب. فمفهوم السؤدد شاءت له النزعة الثقافوية أن يصير مفهوما أخلاقيا مفرغا من حمولته الاجتماعية بما تقوم عليه من أسس إنتاجية. فهل كان العبد سيكون سيد القبيلة بما يبديه من مروءة وأخلاق عالية؟ وهل كان لنكرة من أيها الناس أن تكون كلمته مسموعة تعلو على من هم صفوة في النسب؟ الإجابة لا تحتاج إلى عناء فهي متضمنة في السؤال ذاته. وبالتالي لا يمكن فهم السؤدد إلا في حضن التربة التاريخية والإنتاجية التي أنتجته. وهي تربة يتداخل فيها التراتب الاجتماعي (القبيلة والعشيرة والأسرة) وبنية الإنتاج المتعلقة بالأرض والماء والتحكم في الرعي. فإذا كانت الخبرة تلعب دورا ما في تأهيل من سيكون سيد الأسرة فالعشيرة فالقبيلة، فإن ذلك سيتغير بحكم التحول، ويحل محله معيار الحمى(37). وهو معيار يحمل في طياته تشكلا جنينيا للسيطرة وأدواتها، واستخداما سياسيا جنينيا لمفهوم العضوية بما هي تماسك وفق انتساب سلالي، وما تفرضه من امتثال رأسي وتراتبي.

كان من المفروض إذن بناء عدم الفصل بين السياسة والأخلاق وفق مبدإ التحولات البنيوي الذي أصاب النية القبلية، ومهد لبنية بديلة، وذلك وفق التفكك والنشوء والاستقرار. وقد كان الدين الإسلامي بوصفه نسقا قيميا يتخذ صورة الفكرة التي تسعى إلى التجسد ضدا على مواصفات واقع قائم مصدرا أساسيا لهذه التحولات. وهنا لا يجب غض الطرف عن جدلية الإمكان الذي يتصف به كل نزوع إنساني حالم وعناد المادة والواقع بما هو شبكة من التطلعات المتناقضة. ولن تكون مرحلة الخلافة في شكلها الأولي إلا مرحلة انتقالية تحمل في طياتها كل عناصر الجدلية المذكورة آنفا، والتي تتضمن داخلها التحولات العنيفة التي ستمهد فيما بعد لتأسيس الانتظام في بنية مركبة يجسدها نشوء الدولة واستقرارها مع الأمويين. ويأتي معنى البنية المركبة من إعادة تأهيل بعض العناصر القديمة إلى جانب العناصر الملائمة من البنية القيمية التي أتى بها الدين الإسلامي. كما يفيد الانتقال إلى البنية المركبة تحولا في أدوات السيطرة التي تعرض انتظامها في البنية الناشئة ـ الانتقالية إلى تدهور ليفسح المجال أمام بديل جنيني لم يتحول إلى مهيمن إلا في حالة الاستقرار النهائي لهذه البنية. وقد كان الشكل القديم للسيطرة، والذي أصابه التحول، ملائما للبنية الاجتماعية القبلية ويتمثل في قوة زعماء القبائل وأشرافها وسطوتهم المعنوية والمادية. وقد عرف هذا الشكل خفوتا، من دون أن ينتفي، حين ظهور رابطة الانتساب الديني ومزاحمته له. وظل ساري المفعول مع الدولة الأموية (زياد بن أبيه) على صعيد الضبط الأفقي للجماعات القبلية. لكن سيتم تحويله في اتجاه عمودي من خلال اختزاله في الموضعة العضوية، وذلك بفعل اشتداد تنوع الانتسابات الدينية (الولاءات للفرق) وظهور موضعات مختلفة للتكتل. وهذا التحول لم يكن ليتم من دون تعويض في أدوات السيطرة على الصعيد الأفقي، فكان استيراد التنظيم الإداري، حيث يتم ضمان السيطرة عن طريق إحلال جهاز الموظفين وعلى رأسهم الولاة محل الأشراف (الحجاج بن يوسف الثقفي).

إن التحولات التي تمت على صعيد التدبير السياسي للمجتمع لم تكن إلا نتاج تحولات جذرية قد حدثت على صعيد بنية الإنتاج، والاستفادة من الثروة وتوزيعها، وبروز قوى اجتماعية جديدة. وتتمثل هذه التحولات في الانتقال من إنتاج رعوي مرتحل، وزراعي شبه مستقر، وتجاري يقوم على تحكم الأسر القوية فيه، إلى إنتاج تتحكم فيه قوى مركزية عديمة الصلة بالحياة المباشرة للجماعات والأفراد، وبالتالي انعكاس تبدل هذه القوى وصراعها على طبيعة الإنتاج والتملك (الأعطيات، الإقطاع، التجارة). كل ما قيل أعلاه له صلة بتدبير المجتمع والتحكم في صيرورته بما يتناسب مع حاجة النظام السياسي. وفهمه يعد ضرورة أولية قبل طرح مسألة التعالق بين السياسي والأخلاقي. ذلك أن التقاطع بين الانتظام الإنتاجي في تحولاته والانتظام السياسي سيؤدي إلى تفاعل على صعيد الأخلاق في مستوييها عبر ـ التاريخي والاجتماعي (39). وسيقام هذا التفاعل على المساواة أو انعدامها، بما يفترضه ذلك من طرح لمسألة المراعاة والجور: مراعاة الحقوق والأوضاع أو انتهاكها، ومن تبرير فكري وديني. هذا فضلا عما يبتعثه ذلك من مفهوم للأحقية على الصعيد السياسي، والذي يختزن، على نحو ملتف، مفهوم الاستحقاق الاجتماعي في صبغته الاجتماعية (ارتباط الحق بالخلافة بالحق في الإقطاع والأعطيات والمواكلة)(40)، وفي صبغته التداولية (من له الحق في الرأي والقرار).

يسمح التحليل أعلاه بتبين التحول الذي تم الانتقال بموجبه الأمر من (السياسة من أجل الأخلاق) مع ظهور الدولة الإسلامية في بنيتها الناشئة إلى (الأخلاق من أجل السياسة) مع استقرار البنية المركبة. هذا فضلا عن تبعية المعادلة في وجهيها لطبيعة البنية الإنتاجية والاجتماعية. بيد أن ذلك لا يعني على الإطلاق انمحاء المعادلة الأولى، وإنما تحولها إلى أفق للقوى المتضررة ومطلب يغذي تطلعاتها نحو السلطة. وهنا لا بد من طرح مسألة الجهات في التعالق بين الأخلاق والسياسة،مستوحين التعالق بين مجموعة الصور والقيم في الرياضيات. فحين يكون التعالق مصدره منبعثا من جهة الأخلاق في اتجاه السياسة فمعنى ذلك أن الاشتراط يتجه صوب الحاكم، وحين يكون مصدر التعالق منبعثا من السياسة نحو الأخلاق فإن الاشتراط يغير وجهته نحو المحكوم. ففي الحالة الأولى يطرح عدل السيرة والعمل بالحق ورفع المنكر وبث المعروف، وفي الحالة الثانية تطرح الهيبة والرهبة والانقياد. والتعالقان يلتقيان معا في تأسيس مسألة الحكم في التجربة السياسية داخل التراث العربي. وهنا لا بد من الانتباه إلى غياب التعاقد القانوني الذي يجعل من الحكم بنية تجريدية لا تعود إلى أحد، أو لا تشخصن، أي أنها تكون مستقلة عن الأفراد. فهذه مرحلة بشرية لاحقة زمنيا على تاريخ سابق له مواصفاته. قد يكون الفقه (لا الشريعة) قد وفر ما يشبه ذلك، لكن تنفيذه ظل رهنا بالأفراد وتصنيعهم وقدرتهم.

تقتضي العناصر سالفة الذكر تأسيس العديد من المفاهيم المتعلقة بالحكم (المُلك)، في علاقته بالأخلاق من داخلها بوصفها جزءا من بنية مركبة. وهذه البنية المركبة كانت تقوم على ملاءمة صلاحيتها بما يتناسب مع الواقع بوصفها شبكة من التطلعات المتناقضة. ولا يمكن اختزال هذه العلاقة في عملية استيراد مطلقة لتجارب الآخرين. فمن غير المنطقي تحويل تجربة معينة إلى عملية نقل استنساخي لتجربة مغايرة. قد يكون هناك نوع من التأثر، لكن لا يعني ذلك انمحاء للذات. ثم إن هذا التأثر لا بد له أن يخضع للنواة الصلبة وحاجياتها. وبالتالي تسمه بميسمها. وهنا لنا أن نتساءل عن الرؤية التي اتبعها الجابري في عدم الفصل بين السياسة والأخلاق وقادته إلى اعتبار أن الموروث الفارسي قد فرض على العقل الأخلاقي العربي نوعا من الاستنساخ: فما مدى صحة ذلك؟ وإلى أي حد كانت الروية حاضرة؟ وهل من المنطقي بناء أحكام على تأويل لا يخضع مادته للنقد؟

أول ما نقف عنده في هذا الجانب المادة التي اعتمدت في التدليل على هيمنة القيم الفارسية على العلاقة بين الحكم (المُلك) والأخلاق في النظر السياسي العربي. فلا يعقل أبدا اعتماد النصوص المفترض فيها أنها فارسية من دون إعمال حاسة النقد. أهي صحيحة أم ليس كذلك؟ ما درجة صحتها؟ وفي حالة ما إذا كانت موضوعة، فما هي الدواعي والأسباب؟ ولا يمكن القطع بصحة شيء لمجرد وروده على لسان أشخاص ينتمون إلى الفرس، أو لأنهم تتلمذوا عليهم. قد يقال لنا بأن الكثير من النصوص العربية المعروفة، وفي مقدمتها نصوص الجاحظ، تتحدث من جهة، عن علو كعب الفرس في أمور التدبير السياسي، وتنسب، من جهة أخرى، لملوكهم أقوالا معروفة في هذا المجال. لكن ما الذي يمنع من وضع هذه الأقوال وضعا لأسباب ما. فإذا كان الشعر الجاهلي الذي تم تناقله عبر الأجيال قد داخله الوضع من نواح عديدة لأسباب سياسية، وقد تنبه إلى ذلك عميد الأدب طه حسين، فما الذي يمنع من صدق نفس الظاهرة على ما تم تناقله بصدد الأقوال والحكايات المنسوبة إلى ملوك الفرس. وإذا كان معيار شيوع الرواية يتخذ في الغالب، حتى عند القدماء، وسيلة للحكم على صحة الأقوال، فإن ذلك لا يحول دون التحقق منها في ضوء السياقات التي تستعمل فيها. فكما ترد من أجل القيام بوظيفة مضاعفة التلفظ وإكسابه المصداقية، ترد أيضا للرفع من رصيد ناقلها بوصفه منتجا للخطاب، ولا بد له في هذه الحالة من إحاطة نفسه بهالة التبحر وسعة المعرفة. وفي كلتا الحالتين يكون القول مضطرا إلى الاستزادة والتفخيم من دون إغفال ما يحتاجه سياق كلامه من تحوط وحذر يضطر معهما إلى التصرف في بنية الاستشهاد. هذه أمور لا يمكن القفز عليها أبدا.

هناك أيضا مسألة تتعلق بنقل النصوص الفارسية، في حالة التسليم بوجودها، عبر الترجمة، والترجمة قراءة بوجه من الوجوه، والقراءة إما أنها تسعى إلى الكشف عن القصد الحقيقي للمؤلف، أو تستعمل النص لصالح مقاصدها الخاصة. والمتمعن للنصوص التي يوردها الجابري نقلا عن مصادر متنوعة يلاحظ أنها متخللة بكلمات وعبارات ذات حمولة إسلامية صرف: الرحمة، جمع الكلمة، إتمام النعمة، السنة المحمودة، والشريعة المقصودة. ومعنى ذلك أن المتكلم باسم أردشير، أو كسرى، في النصوص عربية اللسان كان يخضع ما يقرره من نقل للنواة الصلبة في ثقافته الدينية الخاصة. وأكثر من ذلك كان هذا المتكلم يخضع "منقوله" إلى البنية الجمالية للغة العربية، وبخاصة ما تتطلبه هذه البنية من جرس تتكفل به أصناف السجع. وقد يستغرب المرء قائلا ما علاقة هذا بذاك؟ الجواب متيسر: السجع مثلا يضطر المتكلم إلى الإتيان بتماثل في الحرس، وبالتالي يكون مرغما على الإضافة في الكلام، وعلى استعمال كلمات دون أخرى، حتى يفي بالمطلوب. وصنيع من هذا القبيل لا شك أنه يغير من حقيقة المنقول.

يضاف إلى ما قيل سابقا الاختلافات في نقل نفس العبارة النصية المنسوبة إلى نفس الشخص. ما مبرر هذه الاختلافات إذن غير اختلاف حاجات الاستعمال، أو علاقة الإرادة به. وكان من الأليق الأخذ بعين الاعتبار هذه الاختلافات في عملية التدليل على الأحكام المقررة في كتاب العقل الأخلاقي العربي. وسنعرض إلى مثال واحد لتبيين هذا الأمر. فالجابري ينقل عن ابن عبد ربه نصا منسوبا إلى أردشير، هذه عباراته: "الملك والعدل أخوان، لا غنى لأحدهما عن صاحبه، فالملك أس والعدل حارس"(41)، ويحاول الكشف عن مكرها الخفي، بالكشف عن عملية تحوير أدت إلى إحلال "الملك" محل "الدين"، و "العدل" محل "الملك". بينما يورد أبو حيان التوحيدي نفس القول المنقول، ولكن بترتيب مختلف، وهذا نصه: "ولهذا قال ملكنا الفاضل: الدين والملك أخوان، فالدين أس، والملك حارس، فما لا أس له فهو مهدوم، وما لا حارس له فهو ضائع"(42). ومن دون الدخول في معضلة التلفظ وذات الخطاب، نكتفي بتمعن العبارات الأساسية المماثلة من جانب لقولة أردشير والمخالفة له من جانب آخر، فضلا عما يضيفه النص الذي ينقله أبو حيان التوحيدي من تبيين لعواقب عدم الحرص على المعادلة التي يحملها لب القول. فما الذي يمكن أخذه على محمل الصحة النص الأول أو الثاني. هذا إلى جانب كون النص المنقول على لسان التوحيدي يعتبر النص المعدل للتحوير الذي وقف عنده الجابري واعتمده للتدليل على ما هو مغيب في نص أردشير، وقالب لبنية العدل الحقيقية. واعتماد النص الثاني يفضي إلى استخلاص مضاد للحكم الذي بنى عليه الجابري جزءا هاما من كتابه. ويجعل ما هو محل نقد مقبولا على نحو من الأنحاء. أما إذا أخذ بعين الاعتبار السياق الذي يرد فيه النص المنقول في كتاب الإمتاع والمؤانسة، فإن الحيرة ستزداد لأنه موظف من جهة لمعالجة قضية إمكان الجمع بين التدين والمُلك، أو استحالة ذلك مما يطرح مسألة النيابة عن صاحب الديانة، وموظف من جهة أخرى للمقارنة بين المجوس وبين العرب في التعالق الموجود بين الشريعة والمُلك، وجهة المقارنة لا تنطلق من المجوس نحو الإسلام بل من الإسلام نحو المجوس.

باحث جامعي من المغرب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ ستيفان كوليني، "الحديث عن مصطلح الثقافة"، ترجمة عمر عطاري، مجلة الثقافة العالمية، العدد 144، 2002، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ص. 170.
(2) ـ محمد عابد الجابري، العقل الأخلاقي العربي، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، 2001، ص. 55.
(3) ـ لإلمام بمأزق التناول الموضوعاتي في الفلسفة وإضراره ببعدها الإشكالي، يمكنا الرجوع إلى ميشال ميير:
Michel Meyer, de la promlematologie, Ed. Pierre Mardaga, Liege, 1986.
(4) ـ الجابري، نفسه، ص. 20.
(5) ـ نفسه، ص. 20
(6) ـ نفسه، ص. 21
(7) ـ ربما كانت هناك قضيتان مهمتان تشغلان الجابري وهو يكتب كتابه هذا. أولهما البحث عن الكتابة الأخلاقية الأصيلة في التراث العربي (العز عبد السلام وابن تيمية)، وثانيهما تفسير الراهن السياسي (استمرار أردشير). والتوفيق بين القضيتين كان مطلوبا إذا أخذنا بعين الاعتبار الجهة التي تعد تعلة بارزة من تعلات الكتابة في موضوع الأخلاق. والمقصود بذلك الجهة التي طلبت من الجابري أن يكتب في موضوع القيم كما يصرح بذلك في مقدمة الكتاب.
(8) ـ Tzvetan Todorov: "Sous le regard des autres", In: Sciences Humaines, N: 131, 2002, p. 23
(9) ـ الجابري، العقل الأخلاقي العربي، ص. 25.
(10) ـ يتجلى تقويم الجماعات الثقافية لبعضها البعض أخلاقيا انطلاقا من المستوى العرقي في تصنيف الجواري مثلا إلى فئات وأنواع في ما أورده صاحب كتاب ضحى الإسلام من توصيفات تتعلق بالميول والطبع إلى جانب الصفات المتعلقة بالبنية الجسدية والإنتاج. نقلا عن: عبد الكريم حسن، "إنتاج المعرفة بين الأصالة والحداثة"، مجلة العلوم الإنسانية، كلية الآداب، جامعة البحرين، العدد 5 شتاء 2002.
(11) ـ انظر الرسائل التي تبودلت بين أبي بكر وعلي بن أبي طالب في كتاب المقابسات للوقوف على أهمية مفهوم الأحقية ومركزيته في النظر إلى مسألة الشرعية. قد يقال لنا إن نص أبي حيان مختلق. وهذا شيء لا يمكن الالتفاف عليه. لكن هذا النص رغم اختلاقه فإنه يتضمن وعيا ما بأهمية الأحقية، ويعد قراءة ما لمسألة الشرعية ولو كانت هذه القراءة لها صبغة تخييل.
(12) ـ استوحينا الأفكار المذكورة آنفا من الجو العام لمقالة ويلي فان بيير حول التعددية الثقافية مع الأخذ بعين الاعتبار الفرض النظري الذي يوجه مسارها، ومفاده أن الإذلال الثقافي الذي يلحق بالثقافة المهيمَن عليها يقودها إلى تحريف تاريخ الثقافة المهيمِنة بإسناد الأسس التي تقوم عليها إلى الذات. وبالرغم من صحة هذا الافتراض، فإن ما لا يجب إغفاله البتة أن كل إنتاج ثقافي يراكم التوجهات الحاسمة لعصر ما ليس سوى أرضية للصراع الاجتماعي الذي يعتمل داخل نظام إنتاجي معين للوفرة تتبادل فيه "وسائل التأثير" أسلحة المواجهة من أجل "تشكيل القبول العام"(13). انظر: ويلي فان بيير: "صخب وهمس.. حول التعددية الثقافية: اعتبارات نظرية ومنهجية"، ترجمة معصومة حبيب، مجلة الثقافة العالمية، العدد: 112، 2002.
(13) ـ عزيز العظمة: "الحضارة والثقافة والبربرية الجديدة"، الثقافة العالمية، العدد: 113، 2002.
(14) ـ ربطنا الافتقار إلى التشبع التاريخي بمسألة الحكم المركزي، لأن التاريخ العربي يختزن تجارب في الحكم المحلي سابقة على الخلافة الإسلامية. وهي تجارب تتعلق بالملك، لكنها كانت جنينية ومحكومة بافتقارها إلى المقومات الأساسية لنشوء الدولة. وتعاني من ضعف في أدوات السيطرة وعدم القدرة على مقاومة العوامل المهددة التي تحيط بها.
(15) ـ نستفيد هنا من باختين في تصوره للخطاب: الخطاب الروائي، ترجمة محمد برادة، دار الأمان، الرباط، 1987، ص. 44.
(16) ـ الجاحظ: رسائل الجاحظ، تقديم وتبويب وشرح الدكتور علي أبو ملحم، منشورات دار ومكتبة الهلال، بيروت، ص: 65.
(17) ـ الجابري: العقل الأخلاقي العربي، ص: 23.
(18) ـ ومن غريب الأمور أن يكون الجابري قد أنتج كتابين سابقين يحملان في طيات عنوانهما مفهومي البنية والتكوين، من دون أن يكلف نفسه عناء بسط ما يلزم نظريا ومعرفيا لتبين حدود استعمالهما. بل إن كتاب العقل الأخلاقي العربي يعد متقدما في هذه المسألة مع أنه لاحق على كتابي: بينة العقل العربي، وتكوين العقل العربي.
(19) ـ Roman Jakobson: Questions de poetiques, Ed. Seuil, 1973 , p. 145
(20) ـ جان بياجي: البنيوية، ترجمة: عارف منيمنة وبشير أوبري، منشورات عويدات، بيروت، 1971، ص. 9 ـ 10.
(21) ـ المرجع السابق، ص. 12.
(22) ـ انظر: أديث كيروزيل، عصر البنيوية، ترجمة جابر عصفور، الطبعة الثانية، دار قرطبة، البيضاء
(23) ـ جان بياجي: المرجع السابق، ص. 53.
(24) ـ هنا لا بد من الإشارة إلى أن القيمة المهيمنة، وليس القيمة المركزية، تتجاوز البعد الذري شديد الشغف بالعنصر على حساب الكلية إلى العلاقات بين العناصر والبنيات. فنتحدث عن القيمة العلائقية المهيمنة بين عنصرين أو أكثر، أو بين بنيتين أو أكثر.
(25) ـ جاكبسون: مرجع مذكور سابقا: ص. 150.
(26) ـ جان بياجي: مرجع مذكور سابقا، ص. 103.
(27) ـ انظر مثلا الفصل الذي خصصه لوسيان غولدمان للعلاقة بين السلطة والإنسانية في كتابه الماركسية والعلوم الإنسانية:
Lucien Goldmann: Marxisme et sciences humaines, Ed: Gallimard, 1970.
(28) ـ جان بياجي، مرجع مذكور سابقا، ص. 100.
(29) ـ جان بياجي: نفسه، ص. 14.
(30) ـ انظر الفصل الذي يخصصه نويل مولود في كتابه اللغة والبنيات للتقنيات والمعايير، وكيف يعالج الثنائيات التي أشرنا إليها، في ضوء المقارنة بين العلوم الإنسانية والعلوم الصلبة.
Noel Mouloud: Language et structures, Ed: Payot, 1969.
(31) ـ لوسيان غولدمان، مرجع مذكور سابقا، ص. 329 ـ 330. يمكن الاستفادة في هذا الجانب أيضا من الكتاب الذي تم تخصيصه لدراسة المجهود الذي بذله غولدمان من أجل إرساء دعائم البنيوية التكوينية، وهو كتاب يتضمن مجموعة من الدراسات، منها ما أنجزه غولدمان نفسه، ومنها ما أنجزه باحثون آخرون:
Le structuralisme genetique, Goldmann, Ed: Denoel ـ Gontier, Paris, 1977.
(32) ـ الجابري، العقل الأخلاقي العربي، ص. 24.
(33) ـ نريد باستعمال هذا الاصطلاح التعبير عن مظهر التفاعل بين إرادتين مختلفتين في علاقتهما باستعمال العقل، مع ما يستتبعه ذلك من بعد قيمي قد يكون سلبيا أو إيجابيا.
(34) ـ لوسيان غولدمان، رجع مذكور سابقا، ص: 329.
(35) ـ انظر:
Jean Francois Mattei, "La question dans la pensee grecque", in: La raison et La question de Limites, Ed. Le fennec, 1997.
(36) ـ يمكن الاستئناس بما بلوره المفكر الباكستاني فضل عبد الرحمن بصدد علاقة الأخلاق من حيث أوليتها وثباتها في علاقتها بالمتغير الاجتماعي والسياسي، وكذلك قضية الانطلاق من التعاليم نحو بناء المجتمع والدولة. انظر:
Abdou Filali ـ Ansary: "Le sens de la nuance", In: Prologues, N: 25, 2002.
(37) ـ جواد علي، لمفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، المجلد السابع، مكتبة النهضة، بغداد، 1971، ص. 130. نقلا عن بوعلي ياسين: الثالوث المحرم، دار الطليعة، بيروت 1973، ص.79 ـ 80.
(38) ـ بو علي ياسين، الثالوث المحرم، ص: 99.
(39) ـ لا بد من التمييز في مقاربة الأخلاق بين مستويات نحددها كالآتي: المستوى الشخصي الذي يقوم على الاستجابة الفردية والطواعية حيث يرتفع الإلزام وتحضر الحرية والتميز، وهناك المستوى الاجتماعي الذي يتأسس على الضوابط التي تضعها الجماعة لضمان الحياة المشتركة داخلها بما يحيل عليه ذلك من تمايز اتجاه جماعات أخرى ومن هوية، وهناك المستوى عبر ـ التاريخي الذي يشكل أفقا تشترك فيه البشرية جمعاء، وتصرفه الجماعات المختلفة وفق حاجاتها التي تنبع من تاريخها الخاص. ولقد كان القدماء على وعي بالتمييز بين المستويين الأخيرين على الأقل. فهذا أبو حيان التوحيدي يقول: "اشتركت الأمم في جميع الخيرات والشرور، وفي جميع المعاني والأمور، اشتراكا أتى على أول التفاوت ووسطه وآخره، ثم استبدت كل أمة بقوالب ليست لأختها، واشتراكهم فيها كالأصول واستبدادهم كالفروع، وفيما اشتركوا فيه المحمود والمذموم". أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، تصحيح وضبط وشرح: أحمد أمين وأحمد الزين، المكتبة العصرية، بيروت ـ صيدا، الجزء الأول، ص: 211.
(40) ـ من الأمور التي يجب الاحتراز بصددها، اختزال السياسي في الخليفة أو الملك، إذ أن النظام السياسي يشمل كل من يعملون في دوائره المختلفة. وانطلاقا من هذه النظرة نشير إلى أهمية ما يوصي به الجاحظ محمد بن أحمد بن أبي دؤاد قاضي بغداد: "واعلم أن تثمير المال آلة للمكارم، وعون على الدين، ومتألَّف للإخوان، وأن من قد فقد المال قلت الرغبة إليه، والرهبة منه، ومن لم يكن بموضع رغبة ولا رهبة استهان الناس به". بالرغم من عدم انتماء الجاحظ إلى عصر بني أمية، فهو يشير إلى علاقة المال بالسيطرة السياسية أو التدبير السياسي الذي يقرنه بالرغبة والرهبة "فالرغبة والرهبة أصلا كل تدبير، وعليهما مدار كل سياسة". انظر: رسائل الجاحظ، مرجع مذكور سابقا، ص: 78 ـ 74.
(41) ـ الجابري، لعقل الأخلاقي العربي، ص. 163 ـ 164.
(42) ـ أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، ص: 33.