هذه هي الدراسة الثاني التي تنشرها (الكلمة) في هذه العدد عن الراحل الذي لمع في مساء الشعر كالشهاب، أبو القاسم الشابي، بمناسبة الاحتفال بمئوية ميلاده. والافتتان بعبارة الشابي هو الذي راد هذه الدراسة التي تتأمل العبارة وتحللها بشكل تفصيلي يكشف الجدل بين الصياغة والرؤية فيها.

شعريّة العبارة في «أغاني الحياة»

مصطفى القلعي

سيتناول هذا البحث دراسة عبارات أربع من ديوان الشابي حدسا بأنّ العبارة تختزن الكثير من أسرار شعريّة الشعر. وتمتلك مفاتيح الدلالة الشعريّة المغلّقة قدّام المتلقّي. والنقد العربيّ المتابع لتجربة الشعر العربيّ المعاصر استهلك طاقاته في تكرار المداخل نفسها، منذ منجزات الروّاد، نازك الملائكة وعز الدين إسماعيل وإحسان عبّاس وأدونيس. نعني مداخل الصورة الشعريّة والإيقاع والبنية وزمن الشعر والدراما... إلخ. ولم يلتفت الخطاب النقديّ العربيّ إلى دراسة اللفظ أو العبارة في الشعر الحديث بدعوى الحفاظ على ما يسمّى وحدة القصيدة. والعبارة من شأنها أن تحرّر البحث من إسار البحث في شعريّة النصّ أو شعريّة القصيدة أو شعريّة الشعر. وهي جميعا مسالك مشرّعة نتائجها على التعميم والإجمال الموهمين برصد ما يسمّيه الخطاب النقديّ القوانين الشعريّة.

«نهر الحياة المتوهِّج»
عبارة «نهر الحياة المتوهِّج»، مثلا، تخرج المعنى من الوضوح إلى الغموض، من المباشرة إلى التخييل، متى تمكّنت القراءة من تفكيك علاماتها، وفكّ شفرة رموزها وصياغة دلالاتها الأصيلة. فهي تتكوّن من موصوف مركّب وصفة مفردة. وقانون الإضافة النحويّ هو ما يشدّ لفظي الموصوف بعضهما إلى بعض. وقانون النعت النحويّ هو ما يربط الصفة بلفظي الموصوف. واللفظان اللذان يشكّلان الموصوف هما: «نهر» و«الحياة». «نهر: النَّهْر والنَّهَر: واحد الأنهار، وفي المحكم: النّهْر والنَّهَر من مجاري المياه (...)، ونَهَرَ الماءُ إذا جرى في الأرض وجعل لنفسه نَهَرا. ونَهَرتُ النَّهْرَ حفرتُه. ونَهَرَ النّهْرَ يَنْهَرُهُ نَهْرًا: أجراه. واستنهر النَّهْرَ إذا أخذَ لمجراه موضعا مكينا». و«الحياة: نقيض الموت (...) وأحياه: جعله حيّا (...) وأَحْيا بفتح الهمزة وسكون الحاء وياءٍ تحتها نقطتان: ماء بالحجاز». والإشارة الأخيرة تسعفنا بعلاقة بين «الحياة» و«النهر». وقد كتب ابن منظور فصلا مشوّقا مداره البحث في حبال العلاقات السريّة بين «الحياة» ومشتقّاتها: الحياء والحيّة والتحيّة والحيّ والمحيّى... إلخ ولم أجد أيّة إشارة إلى علاقة دلاليّة أو اشتقاقيّة بين«الحياة» وبين النار أو «التوهّج».

و«المتوهِّج» هي صفة الموصوف. والتوهّج صفة من صفات النار. إذ أنّ «وهج: يوم وهِجٌ ووهْجان: شديد الحرّ. وليلة وهِجَة ووهجانة كذلك (...) والوهَج والوهْج والوهَجان والتوهّج: حرارة الشمس والنار من بعيد. ووهَجان الجمر: اضطرام توهّجه (...) والوهْج بالتسكين: مصدر وَهَجَت النار تهِج وهْجا ووَهَجَانا إذا اتّقدت (...) والوهَج والوهيج: تلؤلؤ الشيء وتوقّده». يحتفظ النهر في الذهن البشريّ بدلالة على الخصب والرواء والبرودة والانتعاش. وهو يوصف عادة بالجريان أو بالسيلان أو بالضيق أو بالاتّساع أو بالعمق أو بكثرة الأسماك أو بالجفاف... إلخ ولكنّه لا يوصف بالتوهّج. وليس في لسان العرب، كما لاحظت أعلاه، ما يشير إلى أيّة صلة دلاليّة بين الموصوف والصفة. وسأجمل أوصاف الألفاظ الثلاثة داخل النظام اللغويّ العربيّ في الجدول التالي لغاية توضيحيّة:

الاِشتقاق والإعراب وإنتاج الإسم:
قد تمرّ عبارة الشابي «نهر الحياة المتوهِّج» دون أن يسمع وقعها سامع. وقد لا تتفطّن القراءة النقديّة إلى كثافتها وشعريّتها التي أنتجتها شعريّة المجال اللسانيّ الحيويّ. لكنّ هذه العبارة تمنحنا فرصة تاريخيّة لمتابعة عمليّة إخراج شريط إنتاج الشعر (une mise en scène)، يؤدّي الأدوار فيه لاعبون (Acteurs). ويشرف عليه مخرج محنّك في فضاء ديكور حاضن معدّ بعناية فائقة ومهيّإ بامتياز (par excellence) لذلك. أمّا اللاعبون فهم مكوّنات الخطاب اللغويّ وأنظمته، المعجم والاشتقاق والإعراب. وأمّا المُخرج فهو الشاعر. وأمّا الفضاء الحاضن فهو شعريّة المجال اللسانيّ الحيويّ. ذلك أنّ الشعر يشتغل داخل النظام اللغويّ المعروف المتداول. وهو، هنا، يتحرّك في إطار أنظمة العربيّة الاشتقاقيّة والإعرابيّة والتركيبيّة. وهو يعمل بنفس الرصيد المعجميّ الذي يتوفّر لمستعملي نفس اللغة. ولكنّه الشعر.

يكفي أن نقرأ الخانات 4، 7، 8 المتّصلة بالصيغة الصرفيّة والوظيفة النحويّة في الجدول لنتمكّن من رصد جانب من الجهد الإبداعيّ الذي صرفته اللغة الشعريّة في القصيدة، وهي تؤدّي دورها في إثراء طاقات اللغة الدلاليّة وفي تجديد القاموس التعبيريّ. فصيغة لفظيْ «نهر» و«الحياة» هي صيغة المصدر بوزنين مختلفين. والمصدر يسمّي الحدث مطلقا دون نسبة إلى فاعل بعينه أو إطار ما. فهو صيغة جامدة لا حياة فيها بذاتها. وهي المفارقة!! فالنهر من أهمّ صفاته السيلان والتجدّد. وكذا الحياة لا تعرف الأناة ولا التوقّف ولا العجلة. إنّما هي متقدّمة، دائما، بنسق تختاره وتتحكّم فيه. ولا تراعي في نسقها ذاك شيئا. ولذلك قلت إنّ الصيغة التي احتضنت لفظي «نهر» و«الحياة» لا تعبّر عن دلالتيهما. بل إنّها تناقضهما تماما. فهي دالّة على الجمود والثبات. وهما الحركة والتجدّد. أمّا لفظ «المتوهِّج» فصيغته الصرفيّة اسم فاعل. وهي صيغة أوسع من صيغة المصدر إذ تشترك معها في الدلالة على الحدث مطلقا. وتزيد عليها في الدلالة على الذات التي أنجزت الحدث. فهي صيغة حيّة متحرّكة فاعلة في غيرها، تفترض دائما فاعلا يؤدّي فعلا ما، وفعلا يحدث في زمان ما ومكان ما، ومفعولا يتلقّى الفعل أو يستفيد منه. إنّها صيغة احتفاليّة تحبّ الجماعة.

المصالحة بين صيغة اللفظ ودلالته:
هذه الملاحظات التي خرجت بها القراءة الاشتقاقيّة تفيد الباحث في إمكانيّة إضاءة جانب من شعريّة عبارة الشابي النموذج «نهر الحياة المتوهِّج». فلكأنّ صيغة اسم الفاعل «المتوهِّج» بحيويّتها وفاعليّتها في غيرها منحت صيغة المصدر ما به تتوحّد مع دلالتي لفظي «نهر» و«الحياة» الأصليّتين، فتُفارق المفارقةَ. وتستعيد طفولتها الطبيعيّة، طفولة انسجام الأسماء مع مسمّياتها. إنّ الشعر، هنا، أدّى دورا عظيما: فلقد وفّر لصيغة اللفظ ودلالته فرصة للمصالحة. فأعاد للغة انسجامها البدئيّ المفقود الذي قد يكون فقدانه هو المسبّب الرئيسيّ للفوضى الحاصلة في الكون، اليوم. وقد أدّى قانون الإضافة النحويّ دوره في إضافة لفظ «نهر» إلى لفظ «الحياة». فخلق من تضايفهما معنى وليدا مبتكرا. وابتكاره ناتج أساسا عن كون أبويه ليسا من نفس الجنس. فلفظ «نهر» اسم يعود على مسمّى ماديّ مدرك معلوم له صورة وشكل مجسَّمان في الكون. وهو مسمّى ثابتة صورته في الذاكرة البشريّة. أمّا لفظ «الحياة» فهو لفظ مائع لا يحيل على مسمّى مجسّم في الكون. إنّه مفهوم (concept) ذهنيّ وتصوّر تجريديّ يسعى من خلاله الإنسان إلى تعيين وجوده قصد تمثّله. وتجريده ناتج عن إكراهات اللغة التي لا تمنح الإنسان دائما أسماء واضحة مدركة معلومة، من جهة، وناتج عن إكراهات الوجود المتسربل بالغموض، من جهة ثانية. إنّ عمليّة إضافة الصورة المدركة بالحال إلى المفهوم الذهنيّ المتصوَّر هي التي شرعت في استدراج اللفظين من واقعهما اللغويّ المألوف المستهلك نحو أفق دلاليّ مبتكَر لم يتشكّل بعدُ واقعا لسانيّا. ولم يعرفه اللفظان منفردين. بل، فقط، من تضايفهما فتح عينيه.. ووُجِدَ. كذا تعمل اللغة في شعريّة المجال اللسانيّ الحيويّ. ولعلّ ذلك العمل هو الذي عناه أدونيس بقوله: «قيمة العمل الشعريّ لا تكمن في مدى كونه واقعيّا أو حقيقيّا أي في مدى كونه «يمثّل» أو «يعكس» وإنّما تكمن في مدى قدرته على جعل اللغة تقول أكثر ممّا تقوله عادة، أي على خلق علاقات جديدة بين اللغة والعالم، وبين الإنسان والعالم».

أنظمة اللغة تحتفل:
لقد جعلتنا عبارة الشابي المدروسة نشهد أمرا عظيما، أنظمة اللغة وهي تشتغل في النصّ متضافرة خلال إنتاج العبارة الشعريّة. فتربط بين ما تقرّر في الذهن معزولا عن سواه غير مترابط. وتدرجه في سياقات وعلاقات جديدة لم تكن له. وهي في كلّ ذلك تعمل داخل أنظمة العربيّة وقوانينها. «فإنّ اللغة تسمح لنا بأن نربط بين مفهومات تقرّرت فعلا في الذهن، إنّها تعمل من خلال استخدام القواعد التي تعرف جملة باسم «النحو» (...) النحو لا يشير إلى القواعد المفروضة فرضا التي صارعها بعضنا في المدرسة، بل إلى مجموعة من القواعد التي لا نعيها إلى حدّ بعيد. ولكنّها تحكم كلّ الأشكال الطبيعيّة من الكلام البشريّ». والأكيد أنّ كورباليس يقصد ب «النحو» اللغة، ولا يقصد علم الإعراب فقط. وهذا الاستعمال وذاك القصد مألوفان عند العلماء العرب القدامى. خليّة نحل كانت اللغة وهي تعمل، لا تهدأ ولا يصيبها الكلل. فهي لا تكون إلاّ حين تكون شروطها. وشرط كينونتها الرئيسيّ هو الشعر. وفيه تشرع اللغة في تحويل الشعريّة بالقوّة إلى شعريّة بالفعل، كما قال كوهين. «والذي ينبغي قوله هو أنّ الأشياء ليست شعريّة إلاّ بالقوّة، ولا تصبح شعريّة بالفعل إلاّ بفضل اللغة، فبمجرّد ما يتحوّل الواقع إلى كلام يضع مصيره الجماليّ بين يدي اللغة، فيكون شعريّا». فهذه اللغة.. وهذا الشعر. وحين يكون الكلام شعرا لا شيء آخر سواه، يكون الاحتفال، احتفال أنظمة اللغة النابضة بالحياة لأنّها مُنحت فرصة نفض غبار العطالة عنها والإقبال على العمل من أجل تحقيق الوظيفة الشعريّة في الشعر، والشعر يعي جيّدا المشاكل العامّة للغة التي نبّه إليها ياكبسون، ويراعيها مراعاة كاملة. فـ «لا يمكن أن تُدرس الوظيفة الشعريّة بنجاعة إذا نحن تغافلنا عن المشاكل العامة للّغة، ومن جهة أخرى فإنّ تحليلا دقيقا للغة يفترض أن نأخذ الوظيفة الشعريّة بعين الاعتبار وبجديّة. فكلّ نيّة هدفها اختزال دائرة الوظيفة الشعريّة في الشعر أو حصر الشعر في الوظيفة الشعريّة لن يؤدّي إلاّ إلى تبسيط مبالغ فيه وخادع».

لقد خلِق مولود جديد. وهو ثمرة تضايف لفظي «نهر» و«الحياة». خلق ممتنّا إلى قانون الإضافة النحويّ يدين له بالحياة. لكنّ قانون الإضافة يتوقّف دوره عند هذه العتبة ليسلّم مهمّة تنشئة المولود الجديد إلى قانون نحويّ آخر: النعت. فتسلّم النعت المهمّة وأنجزها. وقام بتخصيص عبارة «نهر الحياة» عن غيرها من الأسماء بأن نعتها بصفة مميّزة لها هي صفة «المتوهِّج». فشهدنا حدثا عظيما: خلق عبارة جديدة في المعجم شابّة غضّة نديّة مستجيبة لأنظمة العربيّة كلّها استجابة تامّة هي عبارة «نهر الحياة المتوهِّج ». فهذا الشعر.. وهذا حدث ميلاده أشهدتنا عبارة الشابي عليه.

العبارة الشعريّة أثناء العمل:
إنّ ما فعله الشعر هو أنّه التفت إلى مجاله اللسانيّ الحيويّ الذي فيه نشأ وولد. وهو مجال مشهديّ بانوراميّ متنوّع متعدّد مشكّل من حياة وموت وبشر وكائنات حيّة وأخرى جامدة وأنظمة وعدل وظلم وجمال وقبح ومراتب ومشاعر وأرض وطبيعة ومدينة ولغة... إلخ. واستعار من هذا المجال اللسانيّ الحيويّ ثلاثة ألفاظ مستعملة فيه. بل لعلّ لفظي «نهر» و«الحياة» لفظان مستهلكان وفاقدان لكلّ طاقة شعريّة. ثمّ تولّى الوصف إدراج الألفاظ الثلاثة في علاقة نسبة وتعريف غير مألوفة في الخطاب اللغويّ عبر التركيبين النحويّين، الإضافة والنعت. فأنتج عبارة معلومة مجهولة، واضحة غامضة، بسيطة معقّدة. هي معلومة واضحة بسيطة لأنّها تتكوّن من ألفاظ أليفة في المعجم العربيّ بفعل التداول. وهي مجهولة غامضة معقّدة لأنّ دلالة التأليف المبتكرة في القصيدة بين الألفاظ الثلاثة تحتاج إلى عمليّة تفكيك وتأويل وإلى خبرة معجميّة وإلى دراية بأنظمة التركيب والتعبير وإلى صبر وأناة حتى تَبِين أو تبرق قليلا على الأقلّ.

إنّ الشعر قد أدّى دوره. فالشاعر "أمير كلمات"، كما عبّر الخليل (ت 170 ه). فيها يفعل. وبها يصنع مجده إن تمكّن من صنع مجدها. ولن يتحقّق له ذلك إلاّ إذا وجّه أدواته نحوها ليستلّها من رطوبة القواميس. ويكنس عنها غبار إبريل. ويمنحها إمكانيّات دلاليّة جديدة تضمن لها حياة أطول. وهذا ما فعلته عبارة الشابي «نهر الحياة المتوهِّج»، بل أكثر، إذ نجح الشعر، من خلالها، في أن يجعل أنظمة اللغة تتصالح فتتعاضد في القصيدة لترفد بها شعريّتها المتفرّدة.

كرَم الكلمات:
إنّ العبارة الشعريّة المبتكرة المكثّفة عبارة كريمة تمتلك حيويّة (vivacite) تفيض عليها لتغمر القصيدة كلّها فتملأها شعرا بعد أن تدخل في علاقات تركيبيّة ودلاليّة متشابكة مع بقيّة مكوّنات القصيدة. ولعلّ ما بلغه التحليل المتّصل بعبارة الشابي هذه قريب ممّا كان الفيلسوف الفرنسيّ جيل دولوز (Gilles Deleuze) قد التقطه عند قراءته فوكو من أنّ العبارة المنتجة في الكلام ثمينة جدّا لأنّها نادرة. وحدث إنتاج العبارات لا يتكرّر كثيرا. وليس المهمّ في العبارة أصالتها أو تقليدها أو جدّتها. وإنّما المهمّ هو ما تؤدّيه من دلالات في الفضاء الذي ينتجها. يقول دولوز: «لم يتوان فوكو عن طمأنتنا بالإشارة إلى أنّه إذا كان من الصحيح أنّ العبارات طفيفة ونادرة في أساسها، فلا حاجة تدعونا أصلا إلى توليدها وإكثارها. إنّ العبارة لا ترسل دوما سوى خصوصيّات، ونقط فريدة، تتوزّع داخل فضاء يوافقها. يطرح تكوين هذه الفضاءات، كما يطرح تحوّلها، مثلما سنرى، قضايا لها علاقة بموقع العبارة بين العبارات الأخرى. وتمنعنا من النظر إليها من زاوية الإبداع والخلق والأصل والأساس. أي أنّنا فيما يتعلّق بالفضاء، في غنى عن البحث في ما إذا كانت العبارة تدشّن، لأوّل مرّة، مرحلة جديدة من تاريخ الخطاب، أو أنّها مجرّد تقليد واقتفاء لعبارة أخرى أو استنساخ لها لأنّ ما يهمّنا هو انتظام العبارة (...) وعليه «يغدو التعارض بين الأصالة والابتذال تعارضا في غير محلّه»». فما التأصيل سوى إعادة إنتاج للمبتذل المستهلك المألوف وإكسائه زيّا فنيّا يجعله قادرا على الإيفاء بحاجات المتلقّي الجماليّة، من جهة، ويضمن للنصّ المنتج الحامل للشعريّة حياة أطول. لقد كانت عبارة «نهر الحياة المتوهِّج نموذجا أخذتُه اتّفاقا من قصيدة من قصائد عام الشابي الأخير 1934 لدراسة اللغة وهي تضع عباراتها الوليدة. لقد نجح الشعر، من خلال هذه العبارة، في تحقيق إنجازين الأوّل له والثاني للوصف، له: اكتشف موارد شعريّة جديدة لقصيدة مطاردة من قديمها مطالبة بالمعاصرة، وللوصف: فطّنه على إمكانيّات شعريّة كامنة فيه مهملة تسمح له بالحياة في أرض أخرى غير أرض السرد القصصيّ. كذا كانت العبارة الشعريّة تعمل في خفايا ديوان الشابي وفي أعماقها.

«العالم مازال يولد»:
إنّ عبارة الشابي هذه «العالم مازال يولد» عبارة فاتنة على عاديّتها، في الظاهر. فهي تدلّ على أنّ الرؤيا الشعريّة هي، الآن، بصدد الإطلالة على مشهد عظيم ذي جلال، مشهد الوضع. إنّها ترى السديم والأمواه لحظة وضع العالم في الزمن السرمد. وحين نتقدّم قليلا في الإصغاء إلى دلالات العبارة، نسمع الرؤيا الشعريّة وهي تبدّد مسلّمة من مسلّمات الإنسان حين تكشف عن أنّ الحياة لم تهرم بعد، بل على العكس من ذلك تماما، هي مازالت تتدرّب على تثبيت الخطوة الأولى في مرحلة الطفولة الكونيّة. وعوّلت الرؤيا الشعريّة على ثلاث أدوات رئيسيّة شكّلت مجتمعة العبارة المعبّرة عن معنى طفولة الكون والحياة: وهي معجم الولادة الدال على خلق شيء لم يكن، وصيغة المضارع التي تدلّ على أنّ الحدث المرصود لم يتمّ لحظة الإخبار عنه ولم ينته، والناسخ الفعليّ «مازال» الدالّ على الاستمرار. واستمرار فعل الخلق منذ الزمن السرمد إلى لحظة الرؤيا تمّ إسناده إلى العالم، فهو المولود. وعبارة الشابي «العالم مازال يولد» لا تحمل ضمن معانيها الحافّة إشارة إلى معنى عسر الولادة، مثلا. وإنّما تدلّ العبارة على أنّها تصف حدثا جللا عظيما لا يحدث مرّتين ولا يتكرّر. ولم يحدّث عنه إلاّ خطابان عظيمان، أيضا، الخطاب الأسطوريّ والخطاب الدينيّ. لكنّ العبارة الشعريّة لم تكرّر ما قالاه عنه. وإنّما تمثّلته واستلهمته في صياغة رؤية الشعر الخاصّة حوله.

فالخطاب الدينيّ، مثلا، كان قد أثبت أنّ فعل الخلق استمرّ ستّة أيّام. وفي اليوم السابع كان الكون مولودا سويّا. أمّا العبارة الشعريّة فقد كشفت عن أنّ هذا الفعل لم ينته، بعد. بل مازال يحدث. ولعلّه لن ينتهي. وقد لا يكون ما يخشاه الإنسان معتقدا أنّه فعل النهاية سوى نهاية للبداية، أعني لفعل الخلق. وبعدها يكون البهاء. تبعا لذلك، فما حضارة المدينة إلاّ الخطوة الأولى على درب الوجود الإنسانيّ في الكون الوليد. وبما أنّ هذه الخطوة لم تسعف الإنسان الطفل في سعيه المعذّب نحو استعادة إنسانيّته المفقودة، فمازالت أمامه الفرصة لاستبدالها بتغيير الاتّجاه نحو سبيل أخرى قد تحقّق له ما أراد. ولعلّها تكون تجربة أخرى غير تجربة الحضارة!! فماذا يمكن أن تكون؟ البهاء؟ تتأكّد، من خلال هذه العبارة، كفاءة العبارة الشعريّة في استلهام الأساطير والأديان. وهذا الاستلهام لا قرينة واضحة تدلّ عليه في السطح. وإنّما هو حدث يتمّ في أعماق الخطاب الشعريّ وهو يكون ويتراءى في البنية العميقة لدلالة العبارة. ولا ينكشف للقراءة العجلى أو لقراءة النصّ من خارجه أو بغير أدواته، أدوات قراءته التي يجب أن تستلّ من النصوص نفسها لا من خارجها.

«يا ابن أمّي»
إنّ هذه العبارة نداء. وقوام النّداء المباشرة. وهي من خصائص الخطاب السياسيّ. والنّداء هو عند سيبويه (ت 180 ه) تنبيه يوقعه المتكلّم ليعطف به المخاطَب عليه، فأوّل الكلام أبدا النّداء، وهو إمّا أن يفيد تخصيص المخاطَب بالكلام الذي يأتي بعد التّنبيه لجعله معنيّا به دون غيره، وإمّا يفيد توكيد المخاطَب في حال كون المخاطَب يعلم أنّه المعنيّ بالكلام ولكنّ في ندائه زيادة تنبيه وتوكيد وإثارة، وربّما كان ذلك رغبة من المتكلّم في إقناع المخاطَب بمضمون ما سيُعلمه به من كلام. النداء تنبيه، تخصيص، توكيد، إثارة. والمباشرة فيه إحدى أهمّ خاصيّات الخطاب السياسيّ، التقطتها القصيدة من مجالها الثقافيّ الحيويّ. ودفعت بها في أتون مَحرَقها الملتهب حيث تتصارع مكوّنات آتية من ضروب متنوّعة من الخطابات، وتتجادل. فتلقّت المباشرة تحويلا صارت بموجبه أداة لتكثيف المعنى من خلال العلاقة الفريدة التي نشأت في النّداء بين منتج الخطاب وبين كلماته وبين متلقّيه، علاقة فيها يبدو المتكلّم حريصا على كلماته، عليها يمارس وجده وهدهدته. ولذا، فإنّه يعمد إلى تنبيه المخاطب حتّى يتهيّأ لاستقبال الرّسالة.

إنّ في النداء إكراما للمخاطب/ المتلقّي، فالشاعر خصّصه بكلماته، كلماته التي هي مزيج من عواطفه وأفكاره وأحلامه ومخاوفه وأحزانه وحتى من طفولته، طفولة الّلغةِ والكونُ يهرم. في الكلمات شيء من صاحبها أو أشياء. وفي هذا النداء تأكيد على وعي الشاعر بتسامي الكلمات وتعاليها.. التسامي والتعالي اللذين يدعوان المخاطب إلى أن يتخلّص ممّا يكدّر صفاء استقبال القصيدة، مضمون الرّسالة التي يوجّهها الشاعر المنادي للمنادَى. الإكرام، إذن، هو ما توصف به العلاقة بين الشاعر والقصيدة والمتلقّي. هذا ما يقوله النداء في عنوان قصيدة الشابي "يا ابن أمّي". إنّ عمليّة تكثيف المباشَرة يمكن رصدها في المنادَى أيضا. فالقصيدة تُعرِض عن الواضح المألوف الممجوج العاري من الشعر بفعل الاستعمال المتكرّر. وتستبدله بما يدلّ عليه. إنّها تُعرض عن الجاهز إلى المبتكر الذي لا يمنح نفسه بسهولة. والقصيدة، كما لاحظنا، لا تبتكر أسماءها من خارج مجالها اللغويّ والثقافيّ الحيويّين، إذ أنّ عبارة "ابن أمّي" عبارة كثيرا ما تساق في اللسان العربيّ، وفي اللسان العربيّ وحده دون سواه.

على مستوى التركيب النحويّ، الإضافة هي ما يشدّ أجزاء هذه العبارة بعضها إلى بعض. والإضافة إضافتان: ابن + أمّ (+) أمّ + أنا : تؤولان إلى هذا التركيب: ابن + أمّ + أنا. إنّ كلمة "أمّ" هي الواسطة الواصلة بين طرفي العبارة: "ابن" و "أنا". فـ "ابن" احتمى بـ "أمّ"، وانضاف إليها، فاستضافته. و "أنا" اتّحد معها، واتّصل بها، فوصلته. أنت ابنها، وهي أمّي، وهي أمّك. أمّك هي أمّي. أنت وأنا هي أمّنا. أنت وأنا، إذن، شقيقان: احتماء، ضيافة، اتّحاد، اتّصال، أخوّة ووصال، هذه وجوه العلاقة بين المتضايفِين، في عنوان القصيدة. لقد تمكّنت القصيدة من أن تقع على بعض أسرار قوّة قانون الإضافة النحويّ، وأن تحرّك طاقاته الشعريّة. والقصيدة، بذلك، أدّت وظيفتها الأساسيّة: تجديد طاقات اللغة التعبيريّة بإخراجها من سطوة المعنى القاموسيّ الذي أنهكها، واستثارة الأبعاد الشعريّة الكامنة في القانون النحويّ. "إنّ الأدوات الشعريّة الخفيّة في البنية الصرفيّة والتركيبيّة للّغة، وباختصار إنّ شعر النّحو، ونتاجه الأدبيّ، أي نحو الشعر، نادرا ما اعترف بها النقاد. وقد أهملها اللسانيّون تقريبا إهمالا كاملا. وعلى النّقيض من ذلك، فإنّ الكتّاب المبدعين غالبا ما عرفوا كيف يستثمرونها"، كما تثبت قصيدة الشابي هذه.

معنى الأمومة وما يدلّ عليه من دفء، ومعنى الأخوّة ودلالته على الاحتماء والإحساس بالأمان هو ما تمكّنت هذه العبارة من إنشائه. إنّ عبارة "يا ابن أمّي" مكثّفة حتى فاضت عنها الدلالة. فممّا هو واضح أنّ الأمّ المقصودة هي أمّ الوجود، الأرض رغم الحدود التي أقامتها السياسة. وليست أمّ الرّضاع، والاثنتان تنجبان الحياة. و "ابن أمّي" هو الاسم الذي أطلقته القصيدة على الإنسان. فلو ذهبنا إلى أنّ رابطة الأخوّة الدمويّة هي المقصودة بعبارة "ابن أمّي" لجرّدناها من كثافتها لأنّها تصبح علامة على الشقشقة اللفظيّة وعلى توشية الكلام وتحليته. إنّ الشاعر على وعي تامّ باللغة وبطاقاتها وبحياة الكلمات فيها. لقد كشف الشعر عن أنّ الكلمات لا تموت. وإنّما تخفت طاقاتها التعبيريّة وتذبل متى فقدت مجالها الحيويّ، أرض القصيدة حيث تكون وتنمو. وقد تمكّنت القصيدة، من خلال هذه العبارة، من أن تتجاوز أسوار المحليّة الضيّقة لتطال رحاب الإنسانيّة. فابن أمّي هو الإنسان متى وُجد وحيثما وجد.

الأمومة والطاقة الدلاليّة الانتشاريّة:
لعبارة "ابن أمّي" طاقة دلاليّة انتشاريّة تحقّقت لها بفعل تفاعلها مع بقيّة المكوّنات في القصيدة. فبفضلها تنشدّ المعاني بعضها إلى بعض منذ العنوان إلى آخر القصيدة. ذلك أنّ الخطاب موجّه كلَّه إلى ضمير المخاطب المفرد المذكّر، أنت: خُلقتَ، تغرّد، تمرح، تقطف، ما لك ترضى، تُسكِت، تقنع، انهض، سِر، لا تخش... وهو موجّه إلى المتكلّم بنفس الدرجة، يعني ما هو موجّه لـ "أنت" موجّه، في الّلحظة نفسها، لـ "أنا". وبما أنّ العلاقة بين المتكلّم والمخاطب/ بين المنادي والمنادى/ بين أنا وأنت، قد حسمت منذ العنوان بوصفهما إنسانين أخوين ابنين لنفس الأمّ، فإنّ الخطاب الذي يوجّهه المتكلّم إلى المخاطب عليه يعود، وبه يتعلّق أيضا. فالمتكلّم لا يشتم المخاطب أو يحقّره أو يهجوه. وإنّما يستنكر فيه ما حلّ بالمنزلة الإنسانيّة من مهانة على الأرض. ويستنهض الإنسانيّة جمعاء لاستعادة رمزها الوجوديّ الأعظم: الحريّة التي أبادتها السياسة. إنّ عبارة "ابن أمّي" عبارة مكثّفة جدّا حتى إنّها تختزل علاقة الشعر بالوجود: أنت + أنا = الإنسانيّة، الأمّ = الأرض. فالبنية الدلاليّة الانتشاريّة تعني أنّ كلّ ما في القصيدة من معان وتراكيب وصور متّصل بعبارة "يا ابن أمّي". إنّها المآل والمضخّة الدلاليّان، عندها تلتقي الدّلالات جميعها، تنتشر في أثناء القصيدة، ثمّ تعود إليها من جديد. وهو ما يمنحها طاقة دلاليّة انتشاريّة تعزّزت بفضل مصدر آخر من مصادر تكثيف شعريّة الشعر في القصيدة، مصدر وليد للأوّل هو معنى الأمومة نفسه. فجملة من المعاني عنه تتناسل. وشبكة من العلاقات به ترتبط. منها المعنى الكامن في رمز الأرض باعتبارها أمّ الوجود وأمّ "ابن الوجود"، ومعنى الأخوّة باعتبار أنّ رابطة الأمومة هي الأصل لها. فالمعاني في القصيدة ملتفتة جميعُها إلى عبارة العنوان، هي وليدته، عنه صدرت، وإليه تنشدّ، وبتأثيره تتعانق وتتضافر.إنّ عبارة العنوان تمارس أمومتها على معاني القصيدة الأخر. فتنجح في تأسيس شبكة فريدة من العلاقات بين المعاني هي أصلها. وهي معادها، أيضا.

«خلقت طليقا كطيف النسيم»:
إنّ النّظر في هذا التشبيه الأوّل من البيت الأوّل من قصيدة الشابي «يا ابن أمّي»، التي كنّا بصدد دراسة عنوانها، كاف لرصد هذا الجهد الإبداعيّ الذي صرفته القصيدة، مستندة على قدراتها الذاتيّة، لانتشال البلاغة العربيّة من التحجّر والتكلّس اللذين أصاباها، ولتسمية الوجود. تلحّ كتب البلاغة العربيّة على أنّ المشبّه، المراد التمثيل له، والمشبّه به، المراد التمثّل به، ركنان أسّان لا يقوم التشبيه إذا غابا أو غاب أحدهما. والعلاقة بينهما تتمثّل في الاشتراك في صفة أو أكثر تجمع بينهما، وتكون أشدّ وأظهر في المشبّه به. ولأنّ وظيفة التشبيه تقريب المعنى من المتلقّي فمن شروطه، ضمنيّا على الأقلّ، أن يتمّ تشبيه المعلوم بالأشدّ علما والمعروف بالأكثر معرفة كتشبيه المرأة بالبدر أو البطل بالأسد... إلخ فعلاقة المشابهة بين المشبّه والمشبّه به هي حاملة المعنى المراد تقريبه من ذهن المتلقّي. إنّ المقام الذي عنه تخبر العبارة هو مقام لحظة الخلق. وهو مقام متخيّل إطاره زمن الماضي البعيد دلّ عليه المعنى المعجميّ للفعل: خلق. وقد قامت المشابهة في عبارة الشابي بين ضمير المخاطب (أنتَ) وبين "طيف النسيم". والضمير المشبّه (أنتَ) يعود على مسمّى معلوم هو الإنسان ابن أمّي. غير أنّ المشبّه به لا يعيّن مسمّى مدركا معروفا. وإنّما هي عبارة ليّنة منسابة ليس لها مرجع في ذاكرة المتلقّي لأنّها من إنتاج القصيدة. ههنا، بالضبط، شرعت القصيدة في التغاير مع قديمها من حيث أثبتت انتماءها إليه، بعد أن تملّكته. فعبارة "طيف النسيم" عبارة مركّبة من كلمتين: كلمة طيف وكلمة النسيم. "والطّيف: الخيال نفسه. والطّيف: المسّ من الشيطان... وأصل الطّيف الجنون ثمّ استعمل في الغضب ومسِّ الشيطان". و "النّسم والنّسمة: نفَس الروح. وما بها نسَمة أي نفَس. يقال: ما بها ذو نسَم أي ذو رُوح... والنّسيم: ابتداء كلّ ريح قبل أن تقوى... والنَّسمة: الإنسان... وتنسّم أي تنفّس... والتنسّم: طلب النّسيم واستنشاقه".

إنّ الكلمتين منفردتين تختزنان معان ودلالات لا حدود تحدّها. فكلمة طيف تجمع بين مسمّيات تقيم كلُّها خارج إطار العالم الفيزيقيّ المرئيّ المدرك. أمّا كلمة النسيم فضفافها أوسع حدّ الدهشة ممّا يعني أنّ هذه العبارة المراد لها أن تقرّب المعنى من المتلقّي وتقلب سمعه بصرا قد أدّت دورا عكسيّا إذ رمت به في غابة كثيفة من الدلالات. فيكفي تجريب تركيب بعض مشتقّات الكلمتين المعجميّة أزواجا لتبيُّن حجم التكثيف الذي تتّصف به عبارة الشابي. يمكن أن نحصل على عبارات مثل: طيف النّفَس/ طيف الرّوح/ خيال الرّوح/ خيال الرّيح/ طيف الرّيح/ طيف الإنسان/ خيال الإنسان/ جنون الرّوح/ جنون النّفَس/ جنون الإنسان/ غضب الرّوح/ غضب الرّيح/ شيطان الرّوح/ شيطان الرّيح/ شيطان الإنسان/ جنون النّفَس/ شيطان النّفَس... إلخ. والمتأمّل في العبارات الحاصلة من تركيب هذه الكلمات المشتقّة من معجم كلمتي "طيف" و "نسيم"، يلاحظ أنّها عبارات متاهات. إنّها تشهد على أنّ الشعر، حين يتحقّق ويكون، لا تحدّ معانيه ضفاف. فالكلمة، حين تتعالق مع غيرها من الكلمات في القصيدة، تبني معنى كفيلا بالاستجابة لأفق انتظار أيّ قراءة في أيّ زمن كانت، وفي أيّ مكان. إضافة إلى ذلك، فإنّ بين هذه العبارات قاسما مشتركا يتراءى ولا يكاد يرى، هو أنّها تحيل على دلالات كثيرا ما تتردّد في النصوص التي حدّثت عن لحظة البدء. وهي عبارات فيها تتكثّف الدلالة على الشفّاف والخارق والغرائبيّ والمرعب أيضا.

غير أنّ تفكيك عبارة "خلقت طليقا كطيف النسيم" وتأويل بنيتها النحويّة والمعجميّة والبلاغيّة يكشفان فيها أبعادا دلاليّة غزيرة. وهي أبعاد غير مسقطة. وإنّما هي كامنة فيها تنتظر الكشف. فالشعر كشف. وقراءة الشعر كشف، أيضا، باعتبارها كشفا عن الكشف. ولكنّ هذه الغابة من الدلالات التي تتّصف بها عبارة الشابي لا تحجب عنّا الدلالة الرئيسيّة أو المعنى الأوّل فيها. وهي الدلالة التي أدّاها وجه الشبه في التشبيه: الطلاقة. فالنسيم لا يمكن لمسه ولا التحكّم في حركته. وكذا الطيف. والإنسان كائن حرّ لا يمكن حبسه. وخلقته الطبيعيّة لا تنسجم مع القيود والأغلال. فالحريّة فيه خلقة وطبع وثقافة، أيضا. "خلقت طليقا كطيف النسيم" عبارة توهم بأنّها عبارة واضحة. ولكنّ وضوحها هو وضوح السّراب. فهي عبارة مركّبة من كلمات معلومة، تحتفظ في ذهن المتلقّي، بدلالات واضحة. غير أنّ الكيفيّة التي بها صرّف الشعر الكلام أخرجت الكلمات من الوضوح إلى الغموض. فالغموض ليس صنعة ولا تكلّفا، وإنّما هو من شروط الشعر حدثَ بفعل تأثير مقام القول الشعريّ. وهو ليس اختيارا، وإنّما هو من متعلّقات الشعر الذي تكابد القصيدة لتأسيسه وتجاهد.

إنّ للغموض، في عبارة الشابي هذه، دلالة على أنّ الشعر لا يصف معلوما، وإنّما يكشف عن مجهول هو لحظة الخلق. والمجهول غامض بطبعه. فكيف يخبر الشعر عن الغامض بخطاب واضح؟ بل إنّه لا يخبر أصلا، وإنّما يحدس بما يتخيّل أنّه وقع لحظة البدء أو بما يحلم أنّه حدث. إنّ الغموض هو رؤيا الشاعر تتراءى في أثناء الكلام والشعر ينهض ويكون. إنّها لا تكشف وتبِين وتعلم بقدرما توحي وتشير وتلمّح. وهي لا تمنح نفسها للقراءة المتعجّلة. بل إنّها مخاتلة ترد متّشحة بوهم الوضوح. لهذا التشبيه قيمة كبرى يمكن أن نقرأها من زاوية التلقّي. فهو يتصدّر قصيدة الشابي. إذ به انفتحت. وهو أوّل ما يطال سمع السّامع وعين القارئ وذهنيهما. لقد عوّلت عليه القصيدة ليكون فاتحة الكلام الموجّه للإنسان المخاطب والمتلقّي على السّواء. والاختيار ليس اعتباطيّا. وإنّما يمكن إخضاعه للقراءة التحليليّة التفكيكيّة التأويليّة، أيضا.

التشبيه وطفولة التلقّي:
إنّ في هذا التشبيه الذي يحتلّ من القصيدة مرتبة التصدير استدراجا. وآليّة الاستدراج هي أسلوب التشبيه نفسُه باعتباره يطمئن المتلقّي إلى أنّ فيه وعدا ضمنيّا بتقريب المعنى وتبسيطه. وفي اللحظة التي يطمئنّ فيها المتلقّي إلى الشعر، يكون قد تورّط في الشعر. فالشعر ليس خطابا بريئا. وإنّما هو خطاب مسائل. وقدرته على التّسآل لم يضعفها انفتاحه على السياسيّ، كما تؤكّد هذه القصيدة. غير أنّ ورطة المتلقّي مع الشعر ورطة سَمحة لأنّها شبيهة بالورطة التي توقع الأمّ ابنها الغضّ فيها حين تعمل على إبعاده عنها حبّا فيه لا كرها. ذلك أنّ أسلوب التشبيه يمارس، أيضا، نوعا من الأمومة، أمومة التلقّي. فهو يشدّ المتلقّي ويطمئنه إلى أنّه في رحاب قداسة القديم العربيّ يتحرّك. ثمّ يستدرجه إلى الاقتناع بلزوم مفارقة هذا القديم. فالنصّ يعلن انتماءه إلى تراثه من خلال التزامه بقوانين البلاغة العربيّة في تصريف الكلام الشعريّ وبناء المعنى. غير أنّ الالتزام بالتراث وإعلان الانتماء إليه لا يعنيان نسخه وتقليده و "إحياءه". وإنّما هما عمليّتان واعيتان ضروريّتان لفعل التأصيل الذي أنجزته قصيدة الشابي هذه. وهو فعل يعني تحقيق التنامي في التغاير بعبارة محمد لطفي اليوسفي. والتنامي يعني مواصلة ما بدأه القدامى في رحلة بحثهم عن المعنى بما سنّوه من أدوات فنيّة وما أسّسوه من قيم. والتغاير يتحقّق بالاختلاف عنهم عند إنجاز فعل التنامي مع منجزاتهم. فالاطمئنان الذي يعد به التشبيه المتلقّي سرعان ما يتلاشى في التشبيه نفسه لأنّه لا يقرّب المعنى ولا يبسّطه. وإنّما يكثّفه. بل يدفعه إلى تخوم الغموض. بعبارة أوضح، إنّ التنامي مع القديم العربيّ تحقّق، في القصيدة، عبر الكتابة في قيمة ممجّدة عند العرب هي الحريّة والكتابة بأسلوب مُعلًى عندهم هو التشبيه ضمن فنّ عظيم عندهم هو الشعر. والتشبيه الذي كان محلّ فعل التنامي مع القديم هو نفسه الذي ضمن للقصيدة اختلافها معه حين خرج من البساطة والوضوح إلى التكثيف والغموض.

إنّ التذكير بلحظة البدء، في مطلع القصيدة، الغاية منه بناء معنى أصالة الحريّة في الوجود الإنسانيّ. وهو المعنى المركزيّ في القصيدة. ولم تعمل القصيدة على بناء هذا المعنى وتكثيفه إلاّ لأنّه جزء من بنية جدليّة تؤسّسها معان/ عناصر رئيسيّة ثلاثة هي: التذكير بأصالة قيمة الحريّة في الإنسان/ استنكار رضوخ الإنسان للذلّ والمسكنة/ استنهاضه لطلب ما سلب منه. ولذلك فإنّ هذا المعنى الأوّل الذي يؤصّل قيمة الحريّة في الإنسان يتنافذ دلاليّا مع المعنى/ العنصر الموالي فيها، وهو معنى الاستنكار، استنكار رضوخ الإنسان للذلّ والمهانة والقيود في الزمن الحاضر المدرك المعلوم. ويؤول هذا المعنى إلى معنى استنهاض الإنسان للتمرّد على الحاضر وطلب الآتي الذي هو الماضي نفسه معجما وصورا. فالآتي ليس إلاّ الضحى في صباه/ وإلاّ ربيع الوجود الغريرُ، يطرّز بالورد ضافي رداه/ وإلاّ أريج الزهور الصِّباح ورقص الأشعّة بين المياه/ وإلاّ حمام المروج الأنيق يغرّد منطلقا في غناه. هكذا تنجح العبارة الشعريّة في نشر رداء شعريّتها على أطراف القصيدة كلّها. فيكون الشعر من العبارة. ولا شيء يضمن أن تكون كلّ عبارة في الشعر شعريّة.

باحث من تونس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبارة مذكورة في البيت الثاني من قصيدة الشابي «الاعتراف» ومطلعها:

ما كنتُ أحسبُ بعد موتكَ يا أبي   ومشاعري عمياء بالأحزانِ
أنّي سأضمأ للحياة، وأحتسي   من نهرها المتوهّج النشوانِ


أبو القاسم الشابي: «أغاني الحياة»، تقديم وتعليق: عبد الحميد الشابي، وزارة الثقافة، تونس، د. ت، ص 154. وهي الطبعة التي سأعتمدها في هذا البحث.

لسان العرب المحيط للعلاّمة ابن منظور، أعاد بناءه على الحرف الأوّل من الكلمة: يوسف خيّاط، دار الجيل/ دار لسان العرب، بيروت، 1988، المجلّد السادس، باب النون، ص 728.

لسان العرب، نفسه، المجلّد الأوّل، باب الحاء، ص 773 ـ 778. وقد كتب ابن منظور فصلا مشوّقا مداره حبال العلاقات السريّة بين «الحياة» ومشتقّاتها: الحياء والحيّة والتحيّة والحيّ والمحيّى... إلخ. ولم أجد أيّة إشارة إلى علاقة دلاليّة أو اشتقاقيّة بين«الحياة» وبين النار أو «التوهّج».

لسان العرب، نفسه، المجلّد السادس، باب الواو، ص 990.
أدونيس: سياسة الشعر، دار الآداب، ط 2، 1996، ص 20.

مايكل كورباليس: في نشأة اللغة: من إشارة اليد إلى نطق الفم، ترجمة: محمود ماجد عمر، سلسلة عالم المعرفة، العدد 325، مارس 2006، الكويت، ص 17.

جان كوهن: بنية الّلغة الشعريّة، ترجمة محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال للنشر، المغرب، ط 1، 1986، ص 37.

JAKOBSON.Roman: Essais de linguistique generale, Paris, Minuit, p 218.

نَسَبه إليه حازم القرطاجنّي، منهاج البلغاء وسراج الأدباء تقديم وتحقيق: محمد الحبيب ابن الخوجة، دار الكتب الشرقيّة، تونس، 1966، ص 143.

جيل دولوز: المعرفة والسلطة، مدخل إلى قراءة فوكو، ترجمة: سالم يفوت، المركز الثقافيّ العربيّ، بيروت/ الدار البيضاء، ط1، 1987، ص 10.

العبارة من قصيدة الشابي «الغاب» التي مطلعها:

بيتٌ، بنته ليَ الحياةُ من الشذى   والظلِّ، والأضواء، والأنغامِ
بيت، من السّحر الجميل، مشيّدٌ   للحبّ، والأحلام، والإلهامِ


  انظر: «أغاني الحياة»، نفسه، ص 159.

يحدّث فراس السوّاح عن أسطورة الخلق فيقول: «تنتمي أساطير التكوين في المنطقة إلى زمرة أساطير الميلاد المائيّ. فالحالة السابقة لبدء الكون في أساطيرنا التكوينيّة هي حالة من العماء المائيّ، ساكن، لا متمايز، لا متشكّل، في زمن سرمديّ متماثل، لا ينتابه تغيير ولا تبديل كأنّه عدم. وفي لحظة معيّنة، هي هزّة ودمار، يليها بناء جديد، ينبثق الكون من لجّة العماء، ويبدأ النظام في قلب الفوضى، ويتّحد الشكل من صميم الهيولى، لحظة يقرّر فيها الآلهة خلق العالم ووضع أسس الكون والحياة. فيبدأ الزمن الذي نعرفه الآن. وتتّخذ الأشياء شكلها الذي نراه اليوم».

انظر: فراس السوّاح: مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة (سوريا، بلاد الرافدين)، دار علاء الدين، دمشق، د.ت، ص 27.

نقرأ في العهد القديم الحديثَ التالي عن فعل الخلق: «في البدء خلق الله السماوات والأرض، وإذ كانت الأرض مشوّشة ومقفرة وتكتنف الظلمة وجه المياه، وإذ كان روح الله يرفرف على سطح المياه، أمر الله «ليكن نور». فكان نور (...) وهكذا كان. ورأى الله ما خلقه فاستحسنه جدّا. ثمّ جاء مساء أعقبه صباح فكان اليوم السّادس. وهكذا اكتملت السماوات والأرض بكلّ ما فيها. وفي اليوم السّابع أتمّ الله عمله الذي قام به، فاستراح من جميع ما عمله. وبارك الله اليوم السّابع وقدّسه، لأنّه استراح فيه من جميع أعمال الخلق». انظر:

Arabic/ Englich Bible, International Bible Society, 1999, Genesis, The beginning, 1,2.

ونقرأ في القرآن الكريم ما يلي: الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستّة أيّام ثمّ استوى على العرش ما لكم من دونه من وليّ ولا شفيع أفلا تتذكّرون سورة السجدة 32/ الآية 4.

وفي سورة المعراج أنّ مقدار اليوم من تلك الأيّام خمسين ألف سنة. نقرأ: تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة سورة المعارج 69/ الآية 4. وهذا التقدير جعل القصّة القرآنيّة أشدّ كثافة وإلغازا وأدعى للتفكير والتأويل من القصّة التوراتيّة التي تركن إلى التبسيط.

صيغة هذا النّداء ببنيتها تكرّرت في ديوان الشابي مع تبديل في صيغة المنادى من المفرد إلى الجمع، فتستبدل عبارة "يا ابن أمّي" بعبارة "يا بني أمّي" ممّا يعني وعي الشاعر بما يطلب من العبارة أن تؤدّيه. انظر، مثلا، قصيدته: أغاني التائه، ص 78 ـ 79، من طبعة الديوان المذكورة، حيث يقول:

يا بني أمّي! ترى أين الصّباح؟   قد تقضّى العمر، والفجر بعيد

..........................................................

يا بني أمّي! ترى أين الصّباح؟
أ وراء البحر؟ أم خلف الوجود؟
يا بني أمّي! ترى أين الصّباح؟

استفاد هذا البحث، في صياغة هذه الأفكار، استفادة إجماليّة من عمل د. خالد ميلاد: الإنشاء في العربيّة بين التركيب والدلالة: دراسة نحويّة تداوليّة، كليّة الآداب، منوبة، 2001.

«أغاني الحياة»، نفسه ص 77. والقصيدة قصيرة هذا مطلعها:
خُلقتَ طليقا كطيف النسيم، وحرّا كنور الضحى في سماه
تغرّد كالطير أين اندفعتَ، وتشدو بما شاء وحي الإله

للقارئ أن يجرّب نقل هذه العبارة حرفيّا وبالدّلالة نفسها التي أرادها لها الشابي إلى الفرنسيّة، مثلا، أو الانجليزيّة وسيلاحظ غرابتها ونفور النّظام الّلسانيّ للّغتين منها ونشازها عنهما. لكنّها، في المقابل، وجدت طريقها إلى الخطاب الشعبيّ شأنها شأن عبارة «الدنيا الميّتة» («أغاني الحياة»، نفسه ص 158). فنسمع الناس في العاميّة التونسيّة يقولون: «يا وِلْد أمّي» و«الدِّنيا ميّتة». فهذا الشعر.

رومان ياكبسون: قضايا الشعريّة، ترجمة: محمد الولي ومبارك حنون، دار توبقال للنشر، المغرب، ط 1، 1988، ص 57.

العبارة من قاموس الشابي الخاص، اُنظر ديوانه: أغاني الحياة، الطبعة المذكورة.

لسان العرب، نفسه، المجلّد الرابع، باب الطاء، ص 638.
لسان العرب، نفسه، المجلّد السادس، باب النون، ص 629.