التعتيم على هذا الكتاب يُعدّ أبلغ مظاهر المكارثية في فرنسا منذ مطلع السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. أتحدث عن كتاب "التطهير العرقي في فلسطين" لإيلان بابيه الذي أصدرته دار "لافابريك" مؤخرًا، شأنه شأن إبادة غزة المأساة التي حوّلها الإعلام الغربي إلى "لا حدث"! الكتاب صدر قبل ذلك عام 2006 عن دار "فايار" قبل أن يسحب من السوق في نهاية العام الماضي، وتعيد دار "لافابريك" نشره متحدية رقابة غير معلنة في بلد الحريات المقاربة بازدواجية أيديولوجية عمياء. في صفحة "شكر"، يلفت بابيه انتباه القراء بكتابته: "كتابي ليس هدية لأحد، لكن كتبته لكل الفلسطينيين ضحايا التطهير العرقي عام 1948. الكثيرون منهم أصدقائي ورفقاء، ولا أعرف الكثير منهم. منذ معرفتي بسياق نكبتهم، لم أتوقف عن مشاركتهم محنتهم وخسارتهم وآمالهم، ولن أرتاح، ولن تنتهي معاناتي إلا بعد عودتهم. إثرها، يمكننا أن نعيش كلنا في كنف السلام في فلسطين".
أبرز المؤرخين الجدد
يعد إيلان بابيه من أبرز المؤرخين الإسرائيليين الجدد الذين فندوا أطروحات اليمين الإسرائيلي الديني المتطرف، وذلك بتأكيده بالأدلة والأرقام الدامغة في كتابه "التطهير العرقي في فلسطين"، التطهير العرقي الذي تعرض له الشعب الفلسطيني في أرضه التاريخية انطلاقًا من عام 1947 بزعامة بن غوريون. عكس برنار هنري ليفي الفيلسوف التلفزيوني الشهير بقميصه الأبيض، وبكتبه التي لا تباع كما قال لي يومًا في منتصف التسعينيات: العالم السياسي والاجتماعي الكبير برتران بادي. يناهض بابيه في كتابه أصحاب الطرح الصهيوني والتوراتي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ويتجرأ على وصف عمليات التطهير الذي تعرض له الشعب الفلسطيني قبل 75 عامًا بالإرهاب على أيدي عساكر "الهاغانا" الذين استباحوا كرامة وشرف ودماء أطفال ونساء ورجال في عشرات القرى التي سويت بالأرض انتقامًا من مقاومة وطنية باسلة، كما يحدث اليوم حتى لحظة كتابة هذه السطور. مستندًا على عدد كبير من الوثائق التي لا يمكن التشكيك في صحتها إسرائيليًا، راح بابيه في كتابه الصادر في 395 صفحة من القطع المتوسط بحلة إخراجية في غاية البساطة، يثبت كيف تشكلت دولة إسرائيل بين عامي 1947 و1949 على حساب قرابة مليون فلسطيني تم طردهم بقوة الحديد والنار - ولم يرحلوا بإرادتهم كما تقول الدعاية الصهيونية. نقرأ هذه الحقيقة في الغلاف الخلفي للكتاب "أكثر من 400 قرية فلسطينية تم تدميرها وتطهيرها من سكانها في صمت دولي، وهو الصمت المستمر حتى اليوم، والذي يصعب التحدث عنه إعلاميًا تجنبًا لتهمة معاداة السامية الجاهزة في كل الأوقات وفي كل الأماكن".
في كتابه الذي تضمن 12 فصلًا، عالج بابيه بدقة علمية ملفتة أصل وتطورات ومراحل التطهير العرقي مستعينًا بتصريحات وحقائق وشهادات أكبر الزعماء، وعلى رأسهم بن غوريون، يعد إيلان بابيه من أبرز المؤرخين الإسرائيليين الجدد الذين فندوا أطروحات اليمين الإسرائيلي الديني المتطرف متوقفًا عند الإنكار التاريخي لنكبة عام 1948 التي تصاغ اليوم مجددًا باسم الانتقام من حماس، كما تم الانتقام من فلسطينيي التطهير العرقي الأول ردًا على ولعهم "بامتصاص دماء الشعب اليهودي" كما كتب بابيه مذكرًا بادعاءات صهيونية تنطبق عليهم تاريخيًا أولًا.
البيت الأحمر أو بيت التطهير العرقي
اللافت للانتباه في كتاب بابيه في البداية، ربطه الجدلي للتطهير العرقي الصهيوني لفلسطين بمباركة دولية تأكدت صحتها قبل وبعد الانتداب البريطاني من خلال ما سمي بالأسرة الدولية. هذه المباركة التي تجددت – عقب إنكار الإبادة الجديدة التي تقوم بها إسرائيل في ظل نفس المنطلقات والتبريرات الغربية – هي المباركة التي تضرب بصلبها في عمق الانتقائية الأيديولوجية المتعلقة بذاكرة الصراع الذي ينفي وجود شعب فلسطيني قائم بتاريخه وحضارة وأراضي شعبه. بابيه الذي أعاد قراءة تاريخ هذا الصراع، وطعن في قراءات غربية طاغية، انطلق من وهم وخرافة جيش الهاغانا الذي استطاع قهر الهمجيين العرب - تمامًا كما يقال عن "تساهل" الجيش الإسرائيلي وعن المقاومين الفلسطينيين اليوم-. كتب بابيه "أن قرابة مليوني فلسطيني كانوا موجودين عام 1947 (ثلثان من الفلسطينيين وثلث من اليهود)، وتوصية الأمم المتحدة رقم 181، هي التي أحدثت التقسيم الذي سمح لاحقًا إلى إسرائيل بالتحول إلى دولة في 55 في المئة من الأراضي الفلسطينية التاريخية الأمر الذي مكنها لاحقًا من أغلبية نسبية مقارنة بالفلسطينيين". و"بعد عام 1948، لم تعد هناك إلا دولة إسرائيل التي استولت بسرعة على 78 في المئة من فلسطين التاريخية. لقد تم ذلك بعد تدمير ونسف 500 قرية، وتحويل 800 ألف فلسطيني إلى لاجئين، وحسب الرواية الإسرائيلية فإن رحيلهم كان نتيجة تلبيتهم دعوة الدول العربية إلى ترك أراضيهم التاريخية بسبب الحرب".
في تمهيد حمل عنوان "البيت الأحمر" استهله بمقولة دافيد بن غوريون "أنا مع الترحيل القسري، ولا أعتبره مخالفًا للأخلاق"، يأسر بابيه القراء من البداية بقوله "البيت الأحمر الذي كان مزينًا بملصقات ماركسية، باعتباره مقر الاتحاد المحلي لنقابة العمال حتى عام 1947، تحول إلى مقر للهاغانا قائدة التطهير العرقي في فلسطين". لا وجود اليوم للبيت الأحمر، وأخذت مكانه وكالة للترقية العقارية قبل أن يتحول إلى حظيرة لركن السيارات قرب فندق الشيراتون. في هذا البيت البديع، وضع يوم العاشر من مارس/ آذار عام 1948، قادة صهاينة خطة التطهير العرقي".
الأيديولوجية الصهيونية وراء التطهير العرقي
في الفصلين الأول والثاني، بيّن بابيه كيف كان التطهير العرقي "ثمرة خطة أصحاب الأيديولوجية الصهيونية التي راحت تفرغ فلسطين من سكانها التاريخيين لتفرض شعبًا يهوديًا خالصًا مباشرة بعد انتهاء الانتداب البريطاني الذي ساعدها على تحقيق ذلك ردًا على هجمات الميليشيات الفلسطينية". خلافًا للهولوكوست، عمل الغرب – رغم اعتبار القانون الدولي التطهير العرقي جريمة ضد الإنسانية – على طمسه عالميًا، ومن بين المؤرخين الفلسطينيين الذين أكدوا ذلك عام 1970 أشهرهم وأكبرهم وليد الخالدي. بدل الحقائق التاريخية التي تثبت صحة التطهير العرقي، راح الصهاينة يروجون لفكرة الرحيل الطوعي المؤقت للفلسطينيين، ومن بينهم إسحاق رابين أحد قادة التطهير الذي كتب مقدمة كتاب "جنيسيس 1948" لدان كورزمان الذي أعيد نشره عام 1992 بعد صدوره في المرة الأولى عام 1970.
بابيه استنطق الأرشيف العسكري الإسرائيلي، وأثبت في كل فصول الكتاب بتدقيق مذهل وأرقام ناطقة بالتطهير والنية الأيديولوجية المبيتة كذبة الرحيل الفلسطيني الطوعي. وفي تقديره، فإن الترحيل بدأ بعد ربيع عام 1948 خلافًا لما جاء في كتاب المؤرخ الكبير وليد الخالدي الذي أكد أنه بدأ قبل هذا التاريخ.
النظام المعرفي للتطهير العرقي
انطلاقًا من الفصل الثالث، راح بابيه يشرح تاريخ، وآلية التطهير العرقي معرفيًا بشكل سمح "للعالم أن ينسى الجريمة التي ارتكبها الصهاينة ضد الشعب الفلسطيني لإقامة الدولة الصهيونية بعد أن عجزت الجيوش العربية الضعيفة عن مواجهتهم" على حد تعبيره. اتهم بابيه على طريقة إيميل زولا الشهيرة، الجيش الصهيوني بارتكاب جريمة التطهير العرقي بخلفية عقائدية تنضح بأيديولوجية عنصرية أثبتت صحتها إبادة غزة التي تناولها في مقدمة الطبعة الجديدة لكتابه بغرض تأكيد استمرارية النهج الاستعماري للدولة الصهيونية. مفهوم التطهير العرقي الذي خصص له بابيه في البداية فصلًا كاملًا لشرح ماهيته بالشكل الذي ينطبق على ما حدث للفلسطينيين، تعزز لاحقًا بفصول كشفت عن علاقته الجدلية بمشروع بناء دولة يهودية خالصة على أنقاض آلاف القرى الفلسطينية بعد زهق أرواح أطفال ونساء وشيوخ بدم بارد بتوجيه من بن غوريون وجنرالات وقادة من اليمين واليسار على حد سواء.
انطلاقًا من توصية 181 للأمم المتحدة وإضفاء الشرعية الدولية على تقسيم مجحف وتواطؤ الإنكليز، عالج بابيه خطة التطهير "دالت" بعمق مثير ولافت، كاشفًا عن خبايا الأرشيف العسكري الصهيوني قبل وبعد انتهاء فصول التطهير العرقي (أكتوبر/ تشرين الأول حتى يناير/ كانون الثاني من عام 1948)، والذي لم يتم كحرب تقليدية عادية، وكان صورة طبق الأصل للهولوكوست الذي تعرض له اليهود أنفسهم.
النكبة (التطهير) المستمرة حتى اليوم كما جاء في إضافته التي فرضتها الإبادة الجديدة المبررة بنفس روح الخطاب الصهيوني القديم، أضحت بادية للقاصي والداني عبر فصول الاحتلال الاستيطاني المباشر بمختلف أوجهه القبيحة، وفرض سلام مزيف في ظل تمييز عنصري يجعل من الفلسطينيين المتخلفين مواطنين من الدرجة الثانية مقارنة بالصهاينة المتحضرين.
الكتاب المحرر بلغة سهلة تسمح لكل الفئات الاجتماعية بقراءته بسهولة "هو واجب أخلاقي يعيد الاعتبار إلى الفلسطينيين الذين ما زالوا يعانون من إنكار تاريخي فظيع يجب التنديد به على أكبر نطاق، حتى لا ينساه العالم"؛ و"إنها الخطوة الأولى، إذا أردنا أن تتم مصالحة في الأرض الممزقة في فلسطين وإسرائيل" - كما ختم بابيه في نهاية كتابه.
عن (ضفة ثالثة)