أخبرني صديق قبل أسابيع أنّه جمع كل تصريحات نتنياهو منذ 7 أكتوبر 2023 حتى بداية العام الجاري، وحلّل التي توعّد وهدّد فيها حركات المقاومة وقادتها، ثم ذهب ليقيّم مدى جدّيته، فاكتشف أنّ كل ما توعّد به على صعيد ضرب حركات المقاومة نفّذه. هكذا نتيجة، مضافة إلى التهديدات التي كان قد أطلقها رئيس وزراء العدو ضد إيران، من المفترَض أن تدفع المراقبين إلى التوقّف عند كل تصريح كان نتنياهو قد تحدّث فيه عن «إعادة صياغة الشرق الأوسط». هل يمكن الاستدلال بما فعله كيان العدو بقيادة اليمين الديني الصهيوني حتى الآن، لرسم ملامح مشروع كبير للمنطقة ككل؟ كيف سيكون حال الكيان الصهيوني في هكذا منطقة؟ وما ستكون عليه طروحات الكتلة الأيديولوجية المحرّكة لمشروع نتنياهو في حال تمكّنه من تحييد القوة الإيرانية، الحصن الأخير الذي لا يزال يواجهه؟ وكيف سيكون حال المتحمّسين من العرب لإسقاط نظام الثورة الإسلامية في إيران، إذا نجح نتنياهو والمسيحانيون التلموديون بتحقيق تطلّعاتهم إلى شرق أوسط يحكمونه بالعصا الملكية؟
بما أنّ العرب المنتشين بالضربات العدوانية الصهيونية في إيران لم يعودوا مهتمّين بتراثهم الأدبي، المعبّر عن جانب أصيل من الهوية العربية، لن أعيد تكرار قصة المثل الشهير: «أُكِلتُ يوم أُكِل الثورُ الأبيض». هناك مثل عبري مشابه لدى الصهاينة: «اليوم أنت، غداً أنا». ربما سيكون أكثر وضوحاً لدى صانع قرار الانبطاح العربي، كونه بلغة من يتوق إلى مسالمتهم، لكن هل فعلاً يعرف هذا المتشوّق للتخلّص من آخر قلعة لا تزال تقف في وجه الوحش الصهيوني، من سيسالم؟
لم يعد خافياً على كل ذي عقل حضور الرواية الدينية اليهودية في تصريحات وقرارات نتنياهو وائتلافه. من المسمّيات التوراتية لحملات حرب إبادته المستمرّة على 2.3 مليون فلسطيني في غزة («السيوف الحديدية» و«عربات جدعون»)، وعلى لبنان (رياح الشمال)، والقدرات السورية والجغرافيا في الجنوب السوري (سيف باشان)، وصولاً إلى عمليته العدوانية الأخيرة على إيران (الأسد الصاعد). على العربي الموهوم بـ«السلام» مع كيان الصهاينة أن يفهم أنّ من يحكم الكيان اليوم مختلف في قوالب تفكيره وشخصيته وتوجّهاته عن من طبّع سابقاً مع مصر والأردن والسلطة الفلسطينية.
إذا اعتبرنا أنّ الشخصية الصهيونية الأولى ظهرت في مؤتمر بازل 1897، ونصّب الاستعمار دولتها على أرض فلسطين عام 1948 بقيادة حزب العمل، فإنّ ولادة الشخصية الصهيونية الثانية ظهرت بعد «حرب الغفران» عام 1973 مع اليمين الذي توحّد لاحقاً مقدّماً حزب الليكود. ومنذ سنوات، رعى نتنياهو صعود كتلة اليمين الديني، التي يمكن الاعتبار بأنّها تمثّل الشخصية الصهيونية الثالثة، التي ومنذ 7 أكتوبر 2023 نجحت في تحطيم قوالب السياسة التقليدية الصهيونية، أو بعبارة أحد منظّريها، هاغاي بن أرتزي، شقيق سارة نتنياهو: «اكتشفنا بعد 7 أكتوبر أنّ الحاخامات كانوا محقّين وليس الجنرالات.» اليوم، من المهم أن يعرف اللاهثون وراء التطبيع مع هذه الكتلة، التي لا يبدو بأنّها ستغادر السلطة قريباً في كيان العدو، مِمَّن تتألّف وما هي أفكارها وما هو مشروعها وهدفها النهائي.
ظهرت ملامح الصهيونية الدينية في القرن التاسع عشر مع الحاخام الأرثوذكسي الألماني تسفي هيرش كاليشر، الذي رأى أنّ «الخلاص اليهودي لن يتحقّق إلا بالمبادرة الذاتية، لا بالانتظار السلبي للمشيح المخلّص». في بدايات القرن العشرين، برز الحاخام أبراهام إسحاق كوك بوصفه المنظّر الأهم لهذا التيار، إذ اعتبر المشروع الصهيوني «جزءاً من مخطط إلهي يستهدف عودة اليهود إلى أرضهم، وإعداد الأرض للخلاص النهائي».
دعا كوك إلى التوفيق بين الأرثوذكسية الدينية والصهيونية العملية، وشجّع المتديّنين على المشاركة في الاستيطان، معتبراً أن «الخلاص سيأتي على مراحل غير جليّة». مع الوقت، تبلورت الصهيونية الدينية في أطر سياسية وتنظيمية، فأنشئ حزب «هبوعيل همزراحي» عام 1921 تحت شعار «التوراة والعمل»، وتوحّد لاحقاً مع قوى دينية أخرى في «الحزب الوطني الديني» عام 1956. هذا الحزب ظلّ فاعلاً حتى بدايات الألفية الجديدة، بالتوازي مع ظهور حركات مشابهة في التوجّهات والأفكار، مثل حركة «غوش إيمونيم» وحركة «كاخ». ومن المهم أن يعرف اللاهثون وراء التطبيع مع هذه الكتلة، التي لا يبدو بأنّها ستغادر السلطة قريباً في كيان العدو، مِمَّن تتألّف وما هي أفكارها وما هو مشروعها وهدفها النهائي
حركة كاخ، التي أسّسها الحاخام مائير كاهانا، دعت إلى «تهويد الدولة بالكامل وطرد العرب». ورغم حظر حزبه رسمياً بحجة العنصرية، فإن أفكاره وجدت امتداداً لها في تيارات يمينية متطرّفة أبرزها حزبا «عوتسما يهوديت» بقيادة إيتمار بن غفير، و«الصهيونية الدينية» بقيادة بتسلئيل سموتريتش، اللذان يمثّلان اليوم الامتداد الطبيعي للتيار الكاهاني داخل السلطة في كيان العدو. إنّ هذين الحزبَين، وكذلك الليكود، يعتمدون على دعم قاعدة جماهيرية في أغلبها تسكن في مستوطنات الضفة الغربية، التي لا يزال ولي العهد السعودي يطالب باعتراف نتنياهو بدولة فلسطينية على أراضيها، لكنّ طموحاتهم تتجاوز الضفة الغربية وغزة، إلى لبنان وسوريا والعراق والأردن والسعودية ومصر!
«لا نريد متراً واحداً وراء نهر الفرات. نحن متواضعون. ما وُعدنا به، يجب أن نغزوه»، عبارة قالها هاغاي بن أرتزي، شقيق سارة نتنياهو، العضو المؤسّس لـ«أوري تصافون»، الجماعة الطامحة للاستيطان في جنوب لبنان، خلال المؤتمر الأول للجماعة الذي نُظّم في 17 حزيران 2024 في معرض حديثه عن «الدولة الإبراهيمية الموعودة». خلال المؤتمر المذكور، قال زميل بن أرتزي في الجماعة عاموس عازاريا: «طالبنا الحكومة بالسيطرة على أكبر قدر ممكن من الأراضي السورية».
في يوم سقوط النظام في دمشق في 8 كانون الأول 2024، كتبت دانيلا فايس زعيمة جماعة «ناحالا» الاستيطانية المتحمّسة للاستيطان في غزة: «من لا يزال يعتقد بأن مصيرنا يمكن أن يُترك في أيدي قوة أجنبية فهو يتخلّى عن أمن إسرائيل! الاستيطان اليهودي هو الشيء الوحيد الذي سيحقّق الاستقرار الإقليمي وأمن دولة إسرائيل. أرض إسرائيل هي ميراث أجدادنا، ويجب ألّا تُترك للأجانب».
ختاماً، إذا كان النظام الرسمي العربي بقيادة السعودية يعتقد بأنّ التعايش و«السلام» مع هكذا نوعيّة من الصهاينة يمكن أن يضمنا بقاء العروش، فعليه أن يعلم أنّ هذا البقاء سيكون بإرادة الصهاينة. المعادلة بسيطة، هؤلاء يريدون أرضكم ومعها عبوديتكم لهم، إلّا إذا كان الحقد المذهبي تارة، والخوف على كراسيكم تارة أخرى أغلى من كراماتكم وأراضيكم! هنا يتوقّف الكلام وتسقط كل الحسابات الجيوسياسية والمصلحية، التي من شأنها أن تدفعكم للموازنة والبحث، لكي لا تُؤكَلوا كما أُكِل الثور الأبيض بعد حين.
عن (الأخبار اللبنانية)