تنبني هذه المسرحبة للكاتب الأردني على إبراز المفارقة بين حوارات الآباء المهمومة بالواقع وإشكالياته، وكيف يتلقاها الأبناء بينما يلعبون الشطرنج الفعلي والاستعاري معا، وكيف تعكس تلك اللعبة الحالات المتناقضة لحوار الكبار، وتكشفها عبر مراياها الشطرنجية.

كش مات..!

مسرحية من فصل واحد

عمار الجنيدي

الشخوص:
الأب/ الأم/ الولد/ البنت

(تفتح الستارة عن غرفة كبيرة تحتوي على مكتبة ضخمة أنيقة، تأخذ الواجهة كلها، وعلى الجدار المحاذي للمكتبة، تبرز صورة (بورتريه) لطفل أشعث الشعر، تتساقط دمعتان على خده الأيسر وفي عينية تبدو جلية نظرة حائرة)..

(الرجل يحادث زوجته. بينما الولد والبنت يلعبان الشطرنج، حيث يبدو ترتيب القطع على رقعة الشطرنج أنها قد بدأت منذ وقت لا بأس به، وهي على الترتيب التالي:

القطع البيضاء: البيادق a2 /b2 /c4 /d2 /e4 /f2g3 /h2 الحصان: f3 /e4 الفيل f1 /c1 الوزير b3 القلعة h1 /a1 الملك e1

القطع السوداء: البيادق a7 /b7 /c7 /d6 /e5 /f7 /g7 /h7 الحصان c6 /g4 الفيل f8 /d7 القلعة h8 /a8 الوزير f6 الملك e8)..

(الرجل يمسك بيد زوجته. يقومان ثم يجلسان على أريكة أمام المكتبة. الولد يحرك البيدق إلىd4)

(الرجل يقوم من على الأريكة شاردا، ويدور حول الأريكة بلا هدف): لن يأتي زمان كنا نتوهم أننا سنكون فيه شيئا ذا قيمة..

(المرأة تتنهد وتهز رأسها): سوف يأتي زمان تصير فيه أحلامنا مجرد أوهام كنا نتمنى..

(يمسك بكرسي خشبي ويجره بتمهل حتى يصير قبالة زوجته تماما ثم يجلس عليه)

(المرأة): أحس أن العبث يلهو بمدارج قناعتي.. أحس أنني بلا غاية سامية تشفع لمبررات وجودي، وأن العدم يحشد جيوش الفشل أينما تطلعت.. (تتنهد) أحس أنني ضائعة وسط هذا التيه.. (ترفع رأسها عالياَ) الوهم يلف مدارات ظنوني.. يستبد بي وهم قاتل بأن هنالك من يسلبني صفائي ونقاء سريري..

أحس بأنني مسؤولة عن كل خطايا العالم. عن كل تفاهاته وذنوبه (تضع يديها على وجهها تشرع بالبكاء. يمسك بيديها ويحاول تهدأتها)

(الرجل): لم تعد الحياة ترضيني..

(المرأة): لم يعد الوجود يقنعني..

(الولد يهمس في أذن أخته): أبي يخون أمي..

(البنت): وكيف ذلك؟..

(الولد): أبي يخون أمي مع امرأة أخرى تدعى الحياة..

(البنت): وأمي أيضا، تخون أبي مع رجل اسمه الوجود..

(الولد يهز رأسه ويزمّ شفتيه)

(الولد يعلق باستياء): الآباء يخونون بعضهم، والأبناء يلعبون الشطرنج.

(البنت ترفع رأسها وتزم شفتيها بسخرية): آآآه.. (تحرك البيدق إلى a5)

(الرجل يقوم ويتلفت حواليه بحيرة. ثم يجلس على حافة المقعد): أنني الآن على حافة الهاوية (يتابع بأسى): ليتني أتجاوز هذه المحنة..

(البنت تميل باتجاه أخيها وتهمس في أذنه): ظهرت امرأة أخرى في حياة أبي..

(الولد يحرك الفيل الأبيض إلى e2)

(البنت تحرك الحصان إلى b4)

(الولد يهدد الحصان بحركة البيدق a3)

(البنت تحرك البيدق إلى d5)

(الولد يحرك الحصان إلى c5)

(المرأة): أفكر في الوجود، حتى في نومي..

(الولد محتدا): لا.. أمي زادتها ..

(البنت تحرك البيدق e5*d4 )

(الرجل): نحن نعاني من نفس المشكلة..

(الولد والبنت بدهشة واستغراب وبصوت واحد): أنهما يعرفان!!!

(الرجل): لابد من بحث المشكلة بجدية أكثر..

(المرأة): أخشى أن تكمن مشكلتنا في عدم وجود مشكلة...

(الرجل): كلا يا عزيزتي... أنتِ في مأزق...

(المرأة تلوح بإصبع يدها الشاهد والوسطى معا): نحن في مأزق...

(الرجل): سأجد مخرجا... (يؤكد) لابد أن أجد مخرجا...

(المرأة): كيف!!! والغد لا يشدني نحوه أي أمل.. أراه باهتا. مشوّه الروح.. وكل هذا الضياع والعدم ينعكس بفجائعية على روحي...

(الرجل): انكِ تفقدين الثقة بنفسك... (يتقدم نحوها ويمسك يديها) أنتِ تحتاجين مناخا آخر غير الذي تعيشنه حتى تجدي نفسك وتحددي موضع خطواتك...

(المرأة تشيح بوجهها عنه... تسحب يديها بعنف وغضب وتصيح بصوت عالٍ وحاد): ماذا تقصد!!!

(الولد): ولّعت...

(الرجل يمسك بذقنها ويحاول تهدئتها): الإنسان الذي يعيش حالة هدوء وتصالح مع واقعه، والذي لا يوجد لديه أي حافز لإبراز مواهبه وإطلاق إمكاناته الإبداعية: هو عادة يعيش حالة القلق الإنساني هذه...

(المرأة باستهجان): كل هذا الانحطاط الفكري والاجتماعي الذي يحيط بواقعنا، وهذا العهر السياسي الذي يمارس علينا.(تتقدم إلى الأمام خطوتين): كل هذا التآمر على أمتنا ومصيرنا وتقول لي أنه لا يوجد حافز لتفجير طاقاتنا الإبداعية؟؟؟

(الرجل يهز رأسه ويلحق بزوجته): لا أقصد هذا النوع من القهر الإنساني..

(المرأة تدور حول زوجها وهي تهز يديها بحيرة): إذا ماذا تقصد؟..

(الرجل مرتبكا): أقصد أن حالة الاستقرار الأسرى التي تعيشينها: هي حياة راكدة ورتيبة، وأنتِ بحاجة لمن يحرك هذا الركود..

(المرأة باستغراب): مثل ماذا..

(الولد): امرأة أخرى مثلا..

(البنت): ولماذا لا يكون رجلا أخر. أكثر حزما وصلابة.

(الولد): ما دامت الأسرة تعيش حالة ضياع وتشتت وملل. فمن المؤكد أن الإحباط والضياع هو ما يلوث هواءها الفاسد، ولا يهم عندها من يأتي لإنقاذها.

(الرجل): نحن بحاجة إلى ثورة..

(البنت باستهجان): أوف..

(المرأة): أن التفكير بقضيتنا لا يمكن فصلها عن قضية المجتمع بأسرها.. (برهة) ولن أغالي إذا قلت أن مشكلتنا هي صورة صغيرة مطابقة لواقع الأمة بأكملها..

(الرجل): صحيح أن صراع الإنسان مع ذاته، يذوب وينصهر أمام حلقات التآمر على أمته. لأن الهم الصغير يذوب في الهم الكبير. لذا نحن ملزمون بإيجاد طريقة مختلفة لنخرج من حيّز فرديتنا ومن أجل الخروج نحو الهم الإنساني الأكبر.

(البنت): أبي دائما يشد الحوار إلى مناخاتة هو..

(الولد): ذلك أن أبي مشغول بالهاجس الإنساني الأكبر..

(البنت مبتهجة):لكن ذلك لا يخدم أمي..

(المرأة بيأس): مصير الأفراد محكوم بمصير أممهم..

(الرجل مستفـِّزاً): ماذا قدمتِ لأمتك؟.. ماذا قدمتِ للإنسانية؟..

(المرأة بحده): هذه ليس قضيتي..(برهة) الأمة التي لا تحترم أبنائها. ولا تحميهم من متاهات الضياع جدير بها أن تفسح المجال لمن يهتم بهم ولمن لا يطالبهم بالمعجزات.. (تتجه نحوه. تشير بإصبعها نحو وجهه بإصرار) الأمة الضعيفة تجلب العار لأبنائها.. الأمة الضعيفة حجر عثرة في طريق تفوّق أبنائها. (تدور حول): إنها أشبه ما تكون ببقرة هزيلة. مثار اشمئزاز الجميع..

(تشبك يديها على رأسها وتشده إلى الخلف): آآآآآآآآآآآآآآآآآه. أما من خلاص؟؟!!..

(الولد): أمي تنهار..

(البنت): ألا يستطيع أبي أن يقدم لها المساعدة؟.

(الولد): حال أبي لا يختلف كثيرا عن حال أمي، ولكنه يتصنع الصمود..

(الرجل): يا عزيزتي الصوت مهزوز والصورة غير واضحة..

(المرأة): أنتَ صدى صورتي.

(الرجل): وأنتِ مرآة تعكس صوتي.

(الولد): يا عيني!!!.

(يحرك البيدق c4*d5)

(الولد): هل يمكن للصورة أن تعكس صدى الصوت؟.

(البنت): أعتقد أن ذلك ممكن، حين يوضح الصوت شكل الصورة.

(الرجل): صورة الوجود ليس بأكثر من صوت شكوانا.

(المرأة): والحب..

(الرجل): الحب، ضمير متحرك في كينونة الفعل الإنساني.

(المرأة): إذن، نحن نستطيع أن نعبر عن وجودنا بالحب.

(الرجل): أعتقد أن الحب ليس بأكثر من تابع للحنان.

(المرأة): المادة تصنع الحب.

(الرجل): لا... إنها تقتله.

(الولد): نظرة أمي مادية.

(البنت): أبي يحاول أن يكون مثاليا.

(تحرك البيدق إلى c6)

(المرأة): لا تغالي في حكمك، لا صورة للحب بدون المادة.

(الرجل): من يختار المادة، عليه أن يترك الحب جانبا.

(المرأة): المادة تُملي علينا شروط الحب.

الرجل إذن المادة تستطيع أن تلغي الحب.

(المرأة تفكر وكأنها تشعر بالإحراج)

(الولد تبييت قصير)

(المرأة): لا وجود للحب بلا مادة.

(الولد يتأفف): رجعنا.

(المرأة): تبا لهذه الحياة.. كم هي عصية على الفهم.

(الرجل): نحتاج لأكثر من حياة حتى نفهم الحياة.

(المرأة): نعم. نحتاج لأكثر من حياة حتى نفهم الحياة.

(البنت تحرك الحصان إلى d4)

(الرجل): إذا كانت الحياة لا تقدم لنا إجابات شافية لكل هواجسنا وقناعاتنا بالوجود، فلعل الموت يقدم لنا ما نرغب بمعرفته.

(يتجهم الولد والبنت. يهز الولد رأسه بأسف والبنت تغطي وجهها بيديها)

(المرأة): الموت نفي للحياة. الموت ثورة على الوجود. (تنهض وتتقدم نحو الأمام): الموت أسوا خطوة يمكن أن نتخذها عندما لا تقنعنا الحياة بعدالة وجودها.

(البنت تبييت طويل)

(الرجل): نحن لم نختر حياتنا، فلم لا نختار طريقة موتنا؟. لم لا يكون موقفنا منها حادا؟!.

(المرأة): اشعر بالعار حين تتحدث عن الموت.

(الرجل يحك ذقنه ويمسّد شعره)

الولد يحرك البيدق a3*b4)

(المرأة): نحن مسئولون عما نفعله، فلم لا نفعل شيئا يستحق الحياة.

(الرجل): إذن هناك ما يستق الحياة!.

(البنت تحرك البيدق a5*b4)

(الولد يحرك الوزير إلى b4)

(المرأة ترتبك وتشعر بالحرج): دعنا نبحت سويا عما يستحق الحياة.

(الرجل): أخشى يا عزيزتي أننا لا نستحق الحياة.

(تضع رأسها على كتفيه وتشرع بالبكاء والنحيب. يضمها بعنف فتكف عن البكاء).

(البنت تحرك الوزير باتبك وخوف إلى d6)

(المرأة بصوت متحشرج): حنانك يعزيني.

(الرجل بصوت هادئ وهو ما يزال يضمها): وأنا من يعزيني؟!!!!.

(المرأة): أنت تشبع نهمي من هذه الحياة. حين تضمني بين أحضانك اشعر برغبة في المزيد من الحياة.

(الرجل يتنهد): كل نساء الأرض لا تعزيني ولا تروي عطشي.

(المرأة): تزول كل هواجسي عندما تشعرني أنني مرغوبة.

(الرجل بصوت هادئ): امرأة واحدة لا تكفي.

(المرأة): تضمحل همومي ويتلاشى قلقي عندما تلفني بين ذراعيك. (برهة) حنانك يكفيني.. يكفيني..

(تشرع بالبكاء. تشدّه بقوة. يحضنها ويضيع رأسها بين يديه)

(الولد يحرك الوزير إلى b6): كش مات. 

ستار
***