إنّ المراقب للوضع السياسي العربي الحالي وخطابه، يصل بسرعة إلى استيعاب أننا في مرحلة هي، في جلّ سماتها، عودة إلى اللحظة الاجتماعية والسياسية لحقبة أفول الدولة العثمانية قبل مئة عام. والحديث عن عودة هنا يراد منه الإشارة إلى أنه كانت هنالك مغادرة – أو أقلّ محاولة لها – ثم رجوع منها، وكأنّما تكون محصّلة حركة تاريخ مجتمعاتنا صفراً، ومراوحة في المكان ذاته. المسار التاريخي، باختصار، أنه ومع أفول الدولة العثمانية، دخل العرب مبكراً في سؤال الما بعد، وتحديداً في بدايات القرن العشرين، وفي ظل غياب شبه تام لأيّ من مؤسسات حديثة، سواء على مستوى التنظيم الاجتماعي، أو الهوية السياسية، أو البنية الاقتصادية، أو القدرات التكنولوجية والعسكرية. حتى إنّ محاولات التحديث العثماني المتأخرة لم تنعكس فعلياً على المجال العربي، حيث ظلّت المؤسسات التقليدية مهيمنة على المجال العام.
هذا التأخّر سرعان ما استدعى وأفرز ورشة تنظيرية أيديولوجية عربية، ومحاولة لحاق فكري وتنظيمي، تجلّى ذلك في مشاريع الدولة العربية بنسخه القومية والوطنية، وفي البنى الحزبية الصاعدة بمختلف أطيافها السياسية الحديثة: من الليبرالية إلى الاشتراكية وصولاً إلى التنظيمات ذات المرجعية الإصلاحية الإسلامية. كما ظهر ذلك في المشاريع الاقتصادية والصناعية، وفي مساعي تحديث المؤسسات البيروقراطية ونظم التعليم وغيرها.
أسهمت هذه المشاريع في إحداث قطيعة تاريخية مع مرحلة الانحلال العثماني، ودفعت بالمجال العربي نحو بناء تصورات حديثة للدولة والمجتمع. غير أنّ المسار التنموي الذي شهدته المنطقة منذ منتصف القرن العشرين بدأ بالتراجع والتدهور في الربع الأخير منه، إذ دخلت مؤسسات الدولة في مسار من الترهّل والتفكّك، ولا سيما على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما تُوّج باحتلال بغداد في مطلع القرن الحادي والعشرين، والانفجار الكبير للدولة والمجتمع، الذي تطوّر بشكل عنقودي مع الانتفاضات، التي اندلعت في العقد الثاني من القرن، والحروب الأهلية. كل ذلك أدّى إلى انهيار البنى المؤسسية التي تشكّلت بعد سقوط الدولة العثمانية، وقد أدّى ذلك إلى تحلّل ذلك البناء التاريخي وتفكّكه، حتى غدا أدقّ توصيف للعقد ونصف العقد الماضييْن هو: حروب التدمير الذاتي.
يكفي هنا أن نشير إلى المفارقة اللافتة، وهي أنه في الوقت الذي خاضت فيه أمم مجاورة، كتركيا وإيران، فضلاً عن عدد من دول الجنوب العالمي من شرق آسيا إلى أميركا اللاتينية، تجارب تحديث متفاوتة بعد الاستقلال ونهاية الحكم الاستعماري القديم، ونجحت بدرجات مختلفة في بناء نموذج اقتصادي أو سياسي حديث، فإنّ الوطن العربي يبدو استثناءً صارخاً في هذا المسار. فعلى امتداد الخريطة العربية، لم يُنتَج نموذج اقتصادي حديث واحد يمكن الحفاظ عليه أو البناء عليه، كما لم تتشكّل بنية اجتماعية تنظيمية متماسكة تُعيد تعريف الهوية السياسية بعيداً عن إرث التشكيل العثماني للطوائف والملل. وعليه، عادت الأرض العربية ومجتمعاتها إلى وضع «الملعب» لا «اللاعب»، في غياب شبه تام لفواعل سياسية ذات حضور فاعل ومبادر.
ومع ذلك، ومن داخل هذا المسار العام، تبلور مسار موازٍ منذ الثمانينيات، تمثّل في نشوء مؤسسات تنظيمية ذات منطق مقاوم، كان محوره الأساسي مواجهة المشروع الصهيوني. وقد نجحت هذه المؤسسات في التمركز داخل مجتمعاتها وتوليد بنى عسكرية واجتماعية صلبة، بلغت ذروتها أخيراً مع عملية «طوفان الأقصى»، التي مثّلت لحظة استعادة لدور «الفاعل» في سياق عربي يتّسم بالعجز والتراجع. غير أن هذه المؤسسات لم تكن بمنأى عن التدهور العام؛ إذ تزامن انفجار المشرق العربي مع موجة تراجع فكري وتنظيمي داخل هذه الحركات، ما أثّر على قدرتها على التطور الذاتي. كان الأمل النظري أن يشكّل هذا المسار المقاوم امتداداً لتجربة الفاعلية العربية التي سادت خلال القرن العشرين، وأن ينطلق من خارج البنى الرسمية للدول العربية ليُراكم منجزاً جديداً يُعيد وصل الحاضر بإرث النضال والتنظيم. وقد تجلّى هذا التصور في لحظة «الطوفان»، التي تعمل فيها المقاومة الفلسطينية اليوم، برغم الظروف القاسية، على صون هذا الخط التراكمي الأخير المتبقّي من قرن عربي حافل بالتحوّلات وجدلية مريرة للهدم والبناء.
وهنا تحديداً يكمن الاختلاف الموضوعي الذي يميّز الحالة العربية عن غيرها من العالم الثالث، وهي في كون أن عملية التراكم التاريخي تخوض صراعاً دائماً بين الهدم والبناء. ويعود ذلك إلى عاملين: الأوّل، لوجود المشروع الصهيوني بوصفه مؤسسة تستهدف الهدم المنهجي للمجال العربي، إنساناً وبنية. لقد أدّى فشل نموذج التنمية العربي خلال القرن العشرين وحتى اليوم إلى تشكّل وعي زائف لدى قطاعات عربية واسعة، يقوم على تصوّر مضلّل مفاده أن المساهمة في تفكيك الدولة الوطنية وتدمير بناها هي شكل من أشكال «التحرير».
أمّا العامل الثاني، فيرتبط بظرف طبيعي جغرافي يتعلّق في توزيع واحتكار الموارد الطبيعية ووفرتها، ففي الوقت الذي تبدأ فيه القوى الاجتماعية في بقية دول الجنوب بربط مصالحها بقوى الاستعمار الغربي انطلاقاً من وضعية تقارب نسبي في الموارد والإمكانات، فإنه وفي حالتنا العربية بدأت من خلال تمكين مباشر للموارد الطبيعية عبر دول/ مدن في الخليج العربي، ما جعلها تتمتّع بثروة فائضة مكّنتها من المناورة دون الحاجة إلى الدخول في تنافس على التحديث، أو الانخراط في مشاريع تنموية صناعية حقيقية، تُفضي إلى تحوّل اجتماعي جذري. فقد مكّنها هذا الفائض من التهرّب من ضغوط بناء اقتصاد منتج يفضي إلى انبثاق طبقة عاملة فعّالة، فبقيت هذه الأنظمة على حالها منذ قرن تقريباً، دون تغيّر جوهري في بنيتها. وما يُرفع اليوم من شعارات حول التحديث الاقتصادي وتنويع الموارد لا يعدو كونه اعترافاً ضمنياً بالفشل في بناء اقتصاد حديث خلال العقود الماضية، واللجوء إلى خيارات بديلة لا تتأسّس على الصناعة، بل على اقتصاد الفقاعة الاستثمارية الذي يستند في جوهره إلى رأس مال ريوع الموارد الطبيعية.
والمفارقة المؤسفة أن هذا النموذج الهشّ، الذي لا يقوم إلا بشرط استمرار تدفّق الموارد الطبيعية وعلاقته المرتهنة بالاقتصاد العالمي، بات نموذجاً يُحتذى أو يُراد استنساخه في مجتمعات عربية أخرى، وكأن بالإمكان، بطريقة سحرية، تحويل مجتمعاتهم إلى نسخ مستهلكة على غرار أنماط الاستهلاك الخليجي، دون بنية إنتاجية واقتصادية ضمن الظرف الجغرافي والسياسي لتلك الأقطار. لقد أدّى فشل نموذج التنمية العربي خلال القرن العشرين وحتى اليوم إلى تشكّل وعي زائف لدى قطاعات عربية واسعة، يقوم على تصوّر مضلّل مفاده أن المساهمة في تفكيك الدولة الوطنية، وتدمير بناها هي شكل من أشكال «التحرير» ... تحريرٌ قائم، في جوهره، على الكسل المعرفي والسياسي، حتى في التفكير في أسس بناء مشروع تنموي حقيقي.
في ظل هذا الوعي المشوَّه، تُختزل التنمية في الانفتاح غير المشروط على الاستثمارات الخارجية، والتشبيك السياسي مع الخليج، ضمن علاقة أبوية تُروّج لوهم نمط عيش متخيّل سيحلّ تلقائياً عبر هذه العلاقة. وفي هذا السياق بالذات، يبرز التطبيع مع الكيان الصهيوني لا كخيار سياسي، بل كبوابة اقتصادية يُروّج لها بوصفها مدخلاً لجلب الاستثمارات وتحقيق «الاستقرار». وما يُغفل هنا، عن عمد أو جهل، هو أن أيّ محاولة جادّة لتأسيس مشروع تنموي حقيقي ومستقلّ على المستوى الصناعي أو التكنولوجي تصطدم بسقف الهيمنة الصهيونية؛ فسماء المنطقة ليست مفتوحة، بل تهيمن عليها طائرات العدو التي لا تتوانى عن قصف وهدم كل عملية بناء تتجاوز هذا السقف، سواء بناء مصنع صناعات ثقيلة، أو بناء أيديلوجي لفكرة تحرّرية تنسل من القيم العربية.
في المقابل، وعلى الطرف النقيض، أنتج فشل المشروع التنموي شريحة من القوى الاجتماعية والسياسية التي تموضعت، بحكم السياق، في موقع الخصومة مع تيار التحرير الزائف، لكنها وقعت بدورها في فخ الجمود والكسل المعرفي. وإن عارضت خطابات الانفتاح الاقتصادي والتطبيع، فإنها غالباً ما تبرّر بقاء البنى الاجتماعية المتداعية، من طوائف ومذاهب وبنى أهلية، بوصفها كيانات حتمية وراسخة تمثّل البنية «الطبيعية» للمجتمع العربي، حتى باتت تمارس السياسة من خلالها لا من خارجها. وهنا تتجلّى المفارقة، بل المأساة، حين تتحوّل مفاهيم معاداة الإمبريالية والدور الخليجي إلى غطاء أيديولوجي لتكريس البنى الاجتماعية التقليدية، والدفاع الأعمى والغرائزي عن الأنظمة المندثرة والفاسدة التي تحلّلت بناها وتفسّخت حيث تحوّلت مؤسسات الدولة بعناوينها الحداثية إلى أدوات لتمثيل عصبيات مرحلة الأفول العثماني، من علاقات مصلحية قائمة على الروابط القبلية، وشبكات اقتصادية أقرب منها إلى الإقطاع من الاقتصاد الحديث.
إنّ سمة هذا الدفاع أنه دونما الحد الأدنى من التفكير النقدي والمعيار الأخلاقي، فيغدو مريدوه أيتاماً لتلك الحالة، بدل أن تكون الثورة، كما يُفترض، مشروعاً لخلق بنى اجتماعية وسياسية واقتصادية جديدة تتجاوز ما سبقها. الأدهى من ذلك استعارة أدبيات التيارات اليسارية، لا لتطوير أدوات فهم الواقع وتغييره، بل لتبرير التمسّك بالبنى القديمة وكأنها قدر لا فكاك منه، في انحراف بيّن عن جوهر الفكر الثوري نفسه. ولذلك يقع في الأخير كلا التيارين، من تيار التحرير الزائف وأيتام حقبة الفشل، في تموضع الجمود التاريخي نفسه. صحيح أن تجربة المئة عام العربية لم تفض إلى تحوّلنا إلى فاعل سياسي حصري على أرضنا، وبمؤسسات وبنى متماسكة، كغيرنا من أمم الجنوب، إلا أن ذلك لم يخرجنا من التاريخ تماماً.
ورغم العراء الذي نعيش فيه إلا أن لوضعنا الخاص ميزة فريدة، وهي وإن لم نكن نمارس السياسة على المسرح العالمي كأمّة حديثة، إلا أننا نستطيع بالحد الأدنى من التنظيم تسديد ضربات كبرى على المسرح الدولي والعالمي، وذلك عبر استهداف عاملَي الهدم الخاصيْن بتجربتنا، الصهيونية وموارد الخليج، كما شهدنا الانفجار الكوني عبر السابع من أكتوبر المجيد. وأيضاً عبر أداة ترويض الهدم الخليجي ودوره؛ النموذج الثوري اليمني، كعملية بقيق ومصفاة جدة وأبو ظبي - أداة تجاوزت حدّ العتبة خلال «الطوفان». من هنا يأتي النجاح في صنع اختراق المئة عام في جدلية الهدم والبناء العربية، عبر بناء كتلة تاريخية جديدة، من خلال المراكمة في التجارب والعبر التي من دونها لا تعدو ممارستنا السياسية سوى عملية هدم. إنّ تتبّع ذلك الخيط الرفيع من المراكمة التاريخية، يوصلنا إلى مشروع «طوفان الأقصى»، ولعل هذه النتيجة تذكّرنا من جديد بأهمّية التمترس والعمل الجادّ على كل صعيد لأجل هذه المعركة.
* كاتب عربي
عن (الأخبار اللبنانية)