يكشف هذا المقال عن المنهج الشكي التمحيصي الذي استخدمه ابن الهيثم في نقده لكتاب بطليموس الشهير. وهو منهج ينطوي على الكثير من الأسس المنهجية في تمحيص المعارف والبناء علي ما تقررت صحته منها، والتي لازلنا نستخدمها في الدراسات العلمية والمنهجية حتى اليوم.

الشكوك على بطلميوس

ابن الهيثم ناقدا لآثار بطلميوس

عـمر التاور

 

تنزع مقالة "الشكوك على بطلميوس" للحسن بن الهيثم منزعا نقديا، فقد رام من خلالها رصد بعض الهفوات والهنات التي وقع فيها بطلميوس في ما يخص علمي الفلك والبصريات. وإذا لم يكن ابن الهيثم الوحيد الذي اشتهر بشكوكه على بطلميوس، إذ وافقه في ذلك البطروجي الذي انتقد نظرية بطلميوس في انحراف الكواكب ودورانها الدائري، وجابر بن أفلح في كتابه "إصلاح المجسطي"، فإنه يمكن القول إن هذه الشكوك شكلت منعطفا مهما في تاريخ العلم عند المسلمين، لكنه منعطف حسير لم يزحزح الاعتقاد في أن الفلك البطليمي يمكن تجديده من الداخل بما يتوافق والإنجازات التي حققها المسلمون في علمي الهيئة والبصريات.

دواعي الشكوك على بطلميوس:
يباشر ابن الهيثم مقالة "الشكوك على بطلميوس" بإيراد الدواعي التي دعته إلى هذه الشكوك، وهي ابتغاء الحق، إذ الحق مطلوب لذاته، ووجوده صعب والطريق إليه وعرة، وعلة ذلك أن الحقائق منغمسة في الشبهات، وحسن الظن بالعلماء لا يذلل الصعاب للوصول إليها؛ وعليه، فإنه يتوجب على الناظر في كتب العلماء ألا يحسن الظن بهم، إذ ليسوا بأي حال من الأحوال معصومين من الخطأ، بل عليه أن يسيء الظن بهم متى كان له مسعى طلب الحق، فيجادلهم ويقارعهم بالحجة والبرهان، متخذا من النقد وسيلة لتمحيص أرائهم وكشف مواطن زللهم، إذ النقد وسيلة من وسائل تحرير الأفكار، فهو والتسليم على طرفي نقيض، فإذا كان التسليم مدعاة للركون إلى الفكرة، فإن النقد عامل من عوامل التحري والدقة.

الشكوك على بطلميوس:
يبادر ابن الهيثم - قبل مباشرة شكوكه على بطلميوس – بإبراز مكانته العلمية، فهو (عنده) العالم المتسم بالفضيلة، المتضلع في المعاني الرياضية والعلوم الحقيقية، وكتبه فيها علوم كثيرة، ومعاني غزيرة عظيمة الفائدة، لكن إنعام النظر فيها يكشف عن مكامن ضعفها ومواضعها المشبهة ومعانيها المتضاربة والمتناقضة؛ فما هي إذا هذه المواضع المشبهة والمعاني المتناقضة التي اكتشفها ابن الهيثم في كتب بطلميوس؟

  1. المواضع المتناقضة في كتاب المجسطي:
    يشير ابن الهيثم بداية إلى أنه لن يذكر في هذه المقالة جميع الشكوك التي في كتب بطلميوس، بل سيعمل فقط على ذكر المواضع المتناقضة والأغلاط التي لا تأول فيها، لما فيها من مناقضة للأصول التي قررها والمعاني التي حصلها. ومن بين المواضع المتناقضة التي اكتشفها ابن الهيثم في كتاب "المجسطي" ما قرره بطلميوس في الفصل الثالث من المقالة الأولى – وعنوانها: "في أن الشمس كرية" – من أن الشمس في الآفاق أعظم مما إذا كانت في وسط السماء، ودليله على ذلك أن بخارا رطبا يحيط بالأرض يقع بينها وبين البصر فترى كذلك، وهذا البخار الرطب هو في الآفاق وليس في وسط السماء، ولذلك نرى الشمس في الآفاق أعظم.

Résultat de recherche d'images pour "‫كتاب الشكوك على بطليموس‬‎"

ويشير ابن الهيثم إلى أن بطلميوس قرر في المقالة الخامسة من كتاب "المناظر" أن البصر إذا كان في جسم أغلظ، وكان المبصر في جسم ألطف، فإن المبصر يرى أصغر مما يرى  على استقامة. واتضح من كلامه كذلك في هذه المقالة أن الجسم الذي يلي البصر كلما ازداد غلظا ازداد الشعاع انعطافا عن العمود الذي في الجسم الألطف؛ وهو ما يلزم عنه أن يكون الشعاع الذي ينعطف إلى المبصر الذي في الجسم الألطف أشد اجتماعا وأضيق زاوية، أي أن الهواء كلما ازداد غلظا ازداد المبصر الذي في السماء صغرا في الرؤية.

     وعليه، فإن هذان المعنيان اللذان أوردهما بطلميوس في "المجسطي" و"المناظر" متناقضان، بدليل أنه "إذا كان البخار الرطب في الآفاق وليس في وسط السماء، وكان البخار أغلظ من بقية الهواء، والسماء ألطف من الهواء، فيجب أن ترى الشمس في الآفاق اصغر مما ترى في وسط السماء، لأن البخار الذي في الأفاق أغلظ من الهواء الذي في وسط السماء" (المقالة: ص 02).

ويشير ابن الهيثم بهذا الصدد إلى أن هذه المواضع التي وجدها في كتاب "المجسطي" لا تنزل منزلة واحدة، إذ فيها مواضع جرت مجرى السهو، وبطلميوس معذور فيها، وفيها مواضع ارتكبها عن قصد، وهذه ليس فيها من عذر؛ فأما المواضع التي ارتكبها عن قصد فهي تلك المتعلقة بالهيئات التي قررها للكواكب الخمسة، ودليل ابن الهيثم على أن بطلميوس ارتكبها عن قصد هو ما ذكره في الفصل الثاني من المقالة التاسعة بقوله: "علما منا بأن استعمال سيء مما هذه سبيله ما لم يلزم من قبله فضل يعتد به أصلا، فليس يدخل ضررا في الأمر المقصود له" (المقالة: ص 02)، وكذلك قوله: "إن ما يوضع وضعا من غير برهان، فبعد أن يوجد موافقا للأمور الظاهرة، فليس يمكن أن يكون وجد من غير سلوك سبيل من العلم، وإن كانت الجهة التي بها أدرك يعسر ضعتها" (المقالة: ص 02).

     ويشير ابن الهيثم إلى أن هذا القول الثاني قول صحيح، لأن بطلميوس سلك فيه سبيلا من سبل العلم، بيد ان هذه السبيل أدت به إلى فرض ما سبق أن اعترف في القول الأول بأنه خارج عن القياس. وإذا كان قد علم أنه خارج عن القياس فإنه لا عذر له في ارتكابه. وعليه، فإن الهيئات التي قررها في كتاب "المجسطي" ليست بالهيئات الحقيقية. أما الشمس فقد فرض لها بطلميوس فلكا (دائرة الإسناد) خارج المركز (أو بعيدة شيئا ما عن المركز) يحركها حركة مستوية حول مركزه، فينتج عن ذلك أن تكون حركتها – بالقياس إلى الدائرة التي يسميها فلك البروج – حركة مختلفة (لولبية).

  1. المواضع المتناقضة في كتاب المناظر
    من المواضع المتناقضة التي اكتشفها ابن الهيثم في كتاب "المناظر"، والتي يرتد تناقضها إلى تعارضها مع المعاني التي ذكرها بطلميوس في هذا الكتاب، ما تقرر في المقالة الثانية منه (= الكتاب). ففي هذه المقالة يعدد بطلميوس المعاني التي يدركها البصر في سبعة قائلا: "إن البصر يعرف الجسم والعظم واللون والشكل والوضع والحركة والسكون".

ويشير ابن الهيثم إلى أنه بين في المقالة الثانية من كتابه في المناظر، أن المعاني التي يدركها البصر هي اثنان وعشرون نوعا، وليس سبعة كما توهم بطلميوس، منها أجناس تدخل تحتها أنواع؛ وعليه، فإن اقتصار بطلميوس على ذكر سبعة معان دليل على قصوره وتقصيره في استقراء المبصرات. ومن بين الهفوات الأخرى التي لاحت لابن الهيثم في كتاب "المناظر" ما ذكره بطلميوس في كلامه عن أغلاط البصر، وقد لمس ابن الهيثم في هذا الكلام أخطاء ظاهرة يشهد بها القياس العقلي والوجود الطبيعي معا. أما دليل ابن الهيثم على هذه الأخطاء فمفاده أن المعنى الذي أثبته بطلميوس لا يصح إلا إذا كان الشخصان المفروضان قريبين من الشخص المتوسط، أما إذا كانا قريبين من البصرين فليس يصيران شخصا واحدا، لكن يصيران متقاربين، ومع ذلك مفترقين. وليس القياس العقلي من يشهد بخطأ بطلميوس فقط بل الوجود الطبيعي كذلك، وبيان ذلك ان الوجود يشهد على أن ما ذكره بطلميوس من اجتماع سهمي البصرين على السهم المشترك باطل ومحال.

وإلى جانب هذه الأغلاط التي وقع فيها بطلميوس في ما يتعلق بالبصر، اكتشف ابن الهيثم في كتاب "المناظر" أشكالا بينها بطلميوس ببراهين غير صحيحة، وإن كانت المعاني التي خلص إليها صحيحة، يمكن التدليل عليها ببراهين غير تلك التي بينها بها بطلميوس.

خاتمة

تلكم إذن بعض المواضع المتناقضة التي اكتشفها ابن الهيثم في كتابي "المجسطي" و"المناظر" في ما يتعلق بعلمي الفلك والبصريات؛ وهي ناتجة، في نظر ابن الهيثم، عن اقتناع بطلميوس بما قرر لأنه لا يقدر على الإتيان بما هو أجود منه، والصحيح الذي لا شبهة فيه، يقول ابن الهيثم، هو أن هيئات حركات الكواكب هيئات صحيحة مطردة لا يلزم فيها شيء من المناقضات، وهي غير الهيئات التي قررها بطلميوس، وما وقف عليها بطلميوس ولا وصل فهمه إلى تخيل حقيقتها، مما يدل على عجزه عن تقرير هيئات حركات الكواكب التي قررها في كتاب "المجسطي".