في البدء كان الواقع، والواقع كان المقاومة، وكل جدل حول طبيعة المقاومة وأنها فعل أو هي تتجاوز ذلك لتكون ثقافة وفعل التزام، هو إبعاد لزوايا الحقيقة عن مركزيتها. خاصة أننا اليوم في عصر من التفاهة، يطيح بأقدس ما يحتضنه الإنسان في حياته، وبهوية التموضعات الأخلاقية والدينية والقيم التي يتبناها. وأول ما تقوم به فلسفة عصر التفاهة هو زحزحة المفهوم أو القيمة عن معناهما السائد، وجرّهما إلى خيارات بديلة من المعنى، ثم تفعيل كل عناصر الاختلاف الأهوج والمعصوف على نحو من العبثية الظاهرة التي تضمر في واقع الأمر هدف إصابة القيم والمفاهيم مقتلاً عبر شيطنتهما، أو إلصاق الصفات السوداء عليهما والضبابية أحياناً، لتنزع عنهما كل أثر فاعل وتأثير في دورهما التغييري في المجتمع.
ألم يتم تحريم مفهوم الصراع الطبقي ضد قوى الهيمنة وتحويله إلى إدانة عنصرية، وقد تبلور المفهوم أساسا لمواجهة العنصرية؟ ألم يتم التندّر على لفظ بروليتاريا حتى صارت سلعة للفكهنة في الفن والإعلام؟ وقبل هذا وذاك ألم يمارس أقسى العنف الإقصائي على كلمة مجاهد وجهاد ليحوِّلوها إلى تعبير رمزي مكثف عن الإرهاب المفتوح على الجهل، والطمع والجريمة؟ لقد أخرجوه من دائرته القرآنية الزاخرة ببناء الذات والحياة ليكون في ما وضعوه هادماً لهما معاً. والأمر عينه يتجه نحو مفهوم المقاومة اليوم.
فالمقاومة، في مدلولها العملي في منطقتنا، تقوم على مركزية القضية الفلسطينية، وتحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي والهيمنة الأميركية، وهي مسؤوليةٌ وواجبٌ ملقيان على عاتق جميع شعوب المنطقة وحكّامها وبلدانها. وهذا المدلول العملي أصّل المقاومة لتكون فضلاً عن كونها عنوان المواجهة مع العدو، هي صيغة مقترحة لشبكة علاقات بين شعوب المنطقة وقواها الحية، ورافعة من روافع بناء الدولة الوطنية الحديثة القادرة والسيادية، بما ينسجم مع بعدها القومي والإسلامي. وهي بذلك، وفي إطار منطلقاتها الإسلامية، قدّمت نفسها كمشروع نهضوي للأمة، ونموذج تحريري عالمي. والإشكال الذي وقع فيه خصوم النهضة الداخلية للأمة ركّز على إمكانية أن تقوم مقاومة واسعة تستوعب الأطياف والجماعات والانتماءات المتكثرة في منطقة تعددية، بدورها الريادي والفاعل انطلاقاً من هويتها الدينية الإسلامية.
والهويات الدينية وفق المنظور الثقافي المهيمن هي هويات منغلقة وانحصارية لا يمكن لها أن تجد الخير والتحرر والخلاص خارج ذاتها، وهذا ما يمنعها عن دورها في واقع تعددي. وقبل الخوض في هذه الإشكالية، علينا أن نستعرض أشكال تعريف دلالة المقاومة عند ثقافة عالم التفاهة المهيمن، والذي يستخدم فيه كل الإجراءات الغرائزية في المواجهة بين الخصوم، من شخص طائفي ومذهبي، وتشاتم أيديولوجي، وسخافات في التغريدات والفيديوهات والاتهامات، بل والشماتة لتطال المقاومة وأهلها، بل حتى مقدّساتها. من الصور النمطية التي استجلبوها في تزخيم المعنى أنها نزعة عصبية، تعود إلى العصبية القبلية والعصبية الدينية؛ والعصبية الدينية من طبيعتها، وفقاً لقولهم، إنها ولّادة للحروب بسبب نزعتها الغيبية، والنزعة الغيبية لا عقلانية لها، وبالتالي فهي تدميرية بلا حساب.
أمّا القبيلة، فهي بنية أي جماعة إسلامية أو دينية تقوم على الحقد والثأر، وفي أفضل أحوالها تستطيع هدم البناء السياسي والمجتمعي، ولكنها غير مؤهلة لبناء حياة سياسية أو أفق حضاري، لذا فمآلها التمزق الداخلي، وأن تقوم العقلانية السياسية بإقصائها خلف التاريخ، وقد مورس غزو فكري وسيل إعلامي وطوفان من الشيطنة على كل ما هو إسلامي: الثقافة والفعل المقاوم. لإيقاع فصائله باستدراج التاريخ من المشكلات المذهبية للقول هذا هو المجتمع الإسلامي. واستُحضرت أبشع صور المجازر والقتل العشوائي، وقطع الرؤوس وأكل الأكباد مقرونة عند من يقوم بها (من مستخدمي الهيمنة التافهة المعاصرة) برايات سوداء، وشعار «الله أكبر»، وشعارات التكفير وبالذبح جئناكم، لتتنمط صور الإسلام الجهادي بهذه الصورة دون غيرها، وأنها رحم ولادة أي دولة إسلامية.
أمّا بخصوص المقاومة، ففضلاً عن كل ما مرّ، ربطوها بمشروع مركّب من عمق تاريخي غير عربي هو الفارسية، وبعداوة مذهبية احترابية بين دولة اعتبروها شيعية؛ هي الدولة الصفوية، في مواجهة الدولة السنية العثمانية. وصار كل فصيل مقاوم سنيّاً كان أم شيعيّاً هو ذراع المشروع الفارسي الصفوي. ولزيادة في الاستغراق بهذه الإسقاطات صار الشيعي العربي مرتزقاً، وغير الشيعي المتفاعل مع مشروع المقاومة ذمّياً، أمّا المشروع بأكمله، فهو احتلال للمنطقة عبر أذرع إيران. وصار لفظ عميل في أدبيات بعضهم يصدق على المقاوم، أمّا المتصهين، فهو بريء من قذارة العمالة، بل مشروع سلام (تطبيع).
ومن المعلوم سلفاً أن المقاومة، وبتلاوينها الإسلامية والقومية والوطنية، كانت منذ بداية الاحتلال لفلسطين، وهي قبل قيام إيران الثورة، ورغم أن أشد الناقدين للدولة الصفوية نفسها هو الإمام الخميني (قده) الذي اعتبرها دولة ظالمة وملوكها ظلمة، ورغم أنه لم يعد من إيران القديمة في إيران ما بعد الإسلام شيء، إذ حتى اللغة السائدة هي غير تلك اللغة الفارسية القديمة... رغم ذلك كله، فإن تبني المرجعية الدينية للقضية الفلسطينية ونصرتها واعتبارها واجباً وتكليفاً، كان قبل انطلاق الثورة الخمينية، فضلاً عن قيام الدولة الإسلامية الإيرانية. وقد ظهرت إرهاصات العون العسكري والمعنوي والمادي للقضية في أيام الحرب المفروضة على إيران التي كانت تحتاج فيه الانكفاء على نفسها لرد العدوان، ورغم ذلك، وبفعل التكليف الشرعي، شبّكت علاقات نصرة مع المنظمات الفلسطينية.
أخيراً، وفي هذه النقطة بالذات، أريد تسليط الضوء على نقطة اعتبرتها الثورة الإسلامية الإيرانية أساساً في حركتها وقواعدها السياسية؛ وهي أنها تنطلق مع كل بلد وشعب ومقاومة من موقع النصير، تراكم معه المصالح والسياسات، وهذا طبيعي، لكن أي شعب يريد التحرر ما لم تكن إرادته منطلقة من جذرية خصوصيته الوطنية، فإنه سيظل عرضة للاقتلاع، فهي القاعدة التي تعاملت معها، وهي مبنية على حيثية طبيعية وواقعية الأمور والأحداث، كما وعلى مبنى فقهي يحترم فكرة الخصوصية، ومنها الخصوصية الوطنية، ويقر لقانونيتها في إدارة شؤون مؤسساتها وإداراتها وإجراءاتها اللازمة للسير العادل لمواطنيها.
وهنا، وإن كنا لن نستنفد النقاش مع ألاعيب ثقافة التفاهة المهيمنة، وسنترك بيان القراءة التي تقدّمها المقاومة الإسلامية كمشروع استنهاضي لمناسبات أخرى، إلا أن المنطلق لكل بيان وحوار يقوم على الاجتهاد الفكري الذي قدّمه مشروع المقاومة من تكامل بين التجذر الوطني والإيمان الديني ببعده السياسي: الأمة.
هوية المقاومة بين الإسلام والوطن:
صحيح أن المقاومة الإسلامية أسّست رؤيتها على بعد رؤيوي ديني، إلا أن الكلام هو كيف يعرِّف هذا الدين نفسه؟ وكيف يتعامل مع مجريات الحياة والصراع؟
من الضروري هنا القول: إن ثقافة التفاهة المهيمنة ترفض الحكم على الأديان والفلسفات والأفكار من داخلها، فهي تأخذ منها الظاهرة والسردية عبر تاريخ من التجارب، وتجعل كل مفصل وكل معتقد أو سلوك رمزاً يشير إلى بعد من أبعاد المضمون. ولا يقوم الدين هنا بفعل بيان المضمون، بل تأويلات ثقافة التفاهة المهيمنة هي التي تستنطقه، وعبر تفكيكها لرموزه تعيد حياكة مضمونه ومعناه بما ينسجم مع رؤيتها الناظرة إليه كظاهرة تستطلعها من خارجها، ويصبح الغيب اللاعقلانية، وتصبح الشهادة فعل انتحار، وبالتالي كل صادر عن غير ثقافة المهيمن هو جهل وفوضى ينبغي اقتلاعهما.
أمّا المنهج الذي نقترح، فهو أن تتحدّث الأيديولوجيا والفلسفة والدين عن أنفسها، وأن نأخذ منطوقها على محمل الجد، ثم نقارنه بفعلها السلوكي. والمقاومة هنا تتحدّث عن إسلام لا يختص في فعله السياسي والجهادي المسلم وحده، وإن كانت خصوصية المسلم فيه هي أداءه العبادة والمعتقد الديني بخصوصيته، ولكن الخطاب والغاية الاجتماعية والسياسية يتكيفان مع خصوصيات الواقع كما هو، وبمنطق بناء الواقع المعمول به عند المجتمع. فعندما تمارس فعلاً جهاديّاً أو ديبلوماسيّاً، الدين هنا يوجه إلى ضرورة التقيد والمرونة مع مقتضيات الإجراءات اللازمة لأي واقع، فلا يصح مثلاً أن تسهم في بناء وطنك بمنطق هذا في الجنة وذاك في النار، بل البناء واجب على قاعدة الشراكة الوطنية والانتماء.
يبقى أن هناك غايات يحترمها الإسلام، كأن تكون الدولة عادلة، وأن تحفظ كرامة شعبها، واستقلال سلطتها وأرضها ومؤسساتها. وهذه الجدلية البنّاءة من خصوصية الواقع والموقع، وعمومية القيم والغايات تتكامل بشكل يثري نطاق كل منهما. عليه، لا يمكن لأي مقاومة إسلامية أن تعبث في وطنيتها بحجة ضرورات الأمّة، والعكس صحيح.
خلاصة الكلام، أن البعد الثقافي، بل الرؤيوي، هو الذي يبني أفق وطنية المقاومة وتجذرها بالأرض. أمّا فعلها الذي لا يعرف يأساً أو إحباطاً، فبفعل إيمانها المرتبط بأصل الوجود الذي هو الله، وأن الثقة به سبيل خير ونجاة، وأن من رفعه الله لا يمكن لأحد في هذا العالم أن يذله، وأن الإنسان المجاهد يجب أن يعمل دوماً لتحقيق واقع هذا المعنى مهما اشتد البلاء.
* مدير «معهد المعارف الحكميّة»
عن (الأخبار اللبنانية)