يستعيد القاص المغربي نداء الطفولة والموروث الخفي بين ثنايا الذاكرة كي يحوله إلى موضوعة وتيمة محورية لنصه القصصي الذي تتشكل عبره رؤاه عن العالم الذي فقد صوت الملائكة والبياض داخله.

صوت الحروب الجميلة

عبدالهادي نعيم

إلى كل طفل حرم من طفولته
فقرا... أو قهرا

صوت الملائكة

في المساحات الخضراء. فوق التلال. عند المنحدرات. في المقابر. بين الأشجار. وسط الأشواك والأزهار. خلال حديث المساء، وحكايا الليل، ورؤى المنام... نتلقى الأسماء، ثم تتسع دائرة رؤيتنا، فنعيد ترتيب أشياء الطبيعة:

نهيق الحمار نسميه:      لعنة الله،

وصياح الديك:        حب الحياة،

نسمي الفراشة الجميلة:  حبيبة،

والمنافس في اللعب:       عدوا،

وتفاح العشق:         سلاحا فتاكا،

وعسل الزهرة:      نخبا للنصر... 

***

عن السماء والأرض والكواكب والنجوم، تزهو الجدة بمعرفتها. خلال حديث المساء لهذا اليوم أقرت في إصرار عنيف: "النجوم إذ تسقط أرواح تموت". وما زالت تصر على قاعدتها الفلكية تلك، حتى استسلمت لإصرار نومها الثقيل.

فوق التل المشرف على المقبرة، راح الطفل يتكوم كل مساء في جلبابه الصوفي الذي يكبره عمرا، يرصد بإمعان شديد النجوم الساقطة والأرواح الميتة:

سقطت نجمة،

سقطت نجمتان، ثلاثة.. عشرة.

توالى الموت.. تهاوت كل النجوم.

رأى الطفل أنه الحشر "ويوم ينفخ في الصور..." صوت الفقيه مازال يتردد قويا رخيما في أذنيه، ثقيلا خافتا على لسانه "النفخة التي تصعق كل الأحياء"... صاح الديك. تعالى صياح الديكة. هب الطفل النائم فزعا مرتعبا يتصبب عرقا، ولما أدرك أنه الحلم الرهيب، وأن الديك تداركه قبل أن يسقط نجمه، استيشر فرحا وتطلع إليه في شكر وامتنان، وراح يردد صوته كلما صاح.

للجد معرفة بمنازل القمر ومواقع النجوم وأحوالها. تحصلت له هذه المعرفة من ارتباطه بالأرض وملازمته لفقيه القرية. مساء يوم آخر توجه لحفيده الأعز، الذي تكشفت ملامحه عن شبه كبير بأبيه، وقال له مصححا:

ـ "النجوم تسقط رجما للشياطين المتجسسة على ما في غيب الله من أخبار".

عند حائط المسجد، راح الطفل الجميل/ الرجل الصغير يتسلى، مساء كل يوم، بمنظر السقوط، يفعمه شعور بالنصر كلما سقط نجم واحترق شيطان:

سقطت نجمة،

سقطت نجمتان، ثلاثة... عشرة...

توالى الرجم... تهاوت كل النجوم.

رأى الطفل أن العالم تطهر من الشياطين، وما عاد يخشى قرب الشجرة وأكل التفاحة.

"الشيطان هو الذي أخرج أبانا وأمنا من الجنة"... مازال صوت جده يتردد في أذنيه قويا ـ على لسانه خافتا ثقيلا ـ منذ أن قص عليه ليلة ذلك المساء حكاية الإغواء الأولى. نهق الحمار.

توالى صوت الحمير مزعجا. هب الطفل النائم فزعا، وأصابه الحزن عندما لم يجد غير الوهم. تملكه الغيظ والحقد على هذا الحيوان الذي أخرجه من نعيم الحلم الذي كان فيه فرحا خفيفا كالملائكة. كره الطفل الحمار، واستقبح صوته، وتمنى لو أن النجوم تسقط رجما للحمير أيضا. 

***

وسط النباتات الشوكية، في المنحدر بين التل والمقبرة، يلعب الأطفال الثلاثة.

الطفل الجميل غاضه ميل الطفلة للعب مع رفيقه، فأعلن الحرب ضده. في الطريق إلى البيت ابتنى شارة من الحجارة واضعا بين طبقاتها حبيبات الشعير، وانتظر أن تمطر فينضج الحب في عيني رفيقه.. بعد يومين أصيبت الطفلة الجميلة بمرض العيون. فوضع أسلحته وأعلن الهدنة.

وسط المساحة الخضراء. بين الأشجار العالية. يمتد الطريق إلى المدرسة. على طول امتداده يعمل الطفل على تحصين نفسه بما يلزم لدفع غضب المعلم وأليم عقابه: يعتقل ملكة النحل في علبة الكبريت. يعقد نبتة خضراء. ويضع حبيبة التراب تحت لسانه، ثم يعاهدهم جميعا إن هونجا من العقاب: أطلق سراح الملكة. وفك عقال النبتة. وأعاد الحبيبة إلى الأرض.

أمام أعين رفيقيه في اللعب، أصابت عصا المعلم من قدميه ويديه ما أصابت. وعندما غادر المدرسة: قتل ملكة النحل. واقتلع النبتة. ولم يدر ما يفعل بالحبيبة، فبصقها.

لم يقلع الطفل عن اللعب. ولم يحد عن الطريقة تلك في دفع عقاب المعلم، لكنه أجرى تعديلا طفيفا، فأقصى حبيبات التراب من طقوس التحصين.

عند حاجز نبات الصبار المحيط بالمقبرة. أنهى الطفل الهدنة والتجأ للمناورة. دل رفيقه عن نبتة "تفاح العشق" وأسر في أذنه، إن هو أكل من هذه النبتة عرف الفرح واللعب الجميل. الرجل الصغير انفرد بالمرأة الصغيرة. وصار يفتش في زهرة ثمر الصبار عن الحلاوة العسلية، ويقدمها لها نخبا للنصر. رفرفت عليهما فراشة، فطارا خلفها على أجنحة المرح.

الطفلة الجميلة تردد ما قال جدها: إنها السعادة.

الطفل الجميل يعلو صوته بنشيد النصر: "تعالي فراشتي الجميلة".

الرفيق الجميل أصيب بمغص حاد أقعده عن الحرب شهورا طويلة. 

*** 

صوت الملائكة
في الأماكن التي خضنا فيها حروبنا.. في أماكن غيرها نخوض بعض حروب أخرى. حروبنا لا تنتهي، قد نهادن فتتوقف. لكنها أبدا لا تنتهي. حروبنا ليست كالحروب، ليس فيها قتلى، جرحى أو أسرى. ليس فيها هازم ومهزوم. حروبنا فتوحات جميلة توسع جغرافية الإدراك والرؤية، وتغني سيرة الرائي.

اللغة أعظم فتوحاتنا وأجملها.. لغتنا تنحو نحو الرحابة والاتساع، وكما رؤية من خلف باب موارب يتدرج في الانفتاح، تتسع رؤيتنا للعالم.