الشمس
وُلدتُ فاقد البصر، لكن سعيدا، ولم تفارقني السعادة حتى ذلك الصباح.
اعتراني شعور غريب فور استيقاظي. ظننته صداعا، لكنه أكثر من ذلك. إنه البصر! ذلك السحر الذي اعتدتموه فنسيتم قداسته.
وتحت وطأة السحر رحت أستكشف العالم؛ البيت، الشوارع عبر النافذة، وجهي في المرآة، ووجه أمي. اكتشفت الألوان؛ عجيبة، وساحرة، حتى الآن لا أعرف ما هي!
هبطت إلى الطريق. السماء فوقي شاسعة تتوسطها كرة متوهجة. وقفتُ أتأملها مفتونا حتى كادت السيارات تصدمني.
- لا تنظر إلى الشمس. ستذهب ببصرك!
لم أسمع صراخ أمي، وظللت محدقا في الشمس حتى تلاشيت فيها، وما زلت أراها حتى الآن متوهجة وسط الظلام، ولم أعد أبصر شيئا سواها.
*
تشبَّثْ بيدي
لم أكن أحب اصطحاب جدتي إلى السوق. كانت تمسك بيدي وتسير بخطوات بطيئة ومملة، وكلما حاولت التملص منها نهرتني قائلة:
- تشبث بيدي جيدا لكي لا تصدمك السيارات.
تصيبني تلك العبارة بالحنق، فقد بدأت أشب عن الطوق وبات مسموحا لي الخروج وحدي، فلماذا تصر على معاملتي كطفل صغير؟
في هذا اليوم قررت أن أثبت لها أنني لم أعد طفلا، وبينما أسير بجوارها سحبت يدي من يدها بغتة وعدوت بعيدا. ظللت طوال النهار أتجول في الشوارع بحرية، وعندما عدت إلى البيت آخر اليوم لم أجد أحدا. قالوا إنهم جميعا ذهبوا ليدفنوا جدتي، فقد صدمتها سيارة هذا الصباح.
*
التماثيل
لم يعد يغادر الفراش؛ ينام عليه، ويصحو، ويأكل، ويقضي حاجته. كل صباح يبدلون حفاضته، ومهما امتلأت في المساء لا تُبدل إلا في الصباح.
بدافع الملل يفعل المرء أي شيء، ولذا مد أصابعه ذات يوم داخل الحفاضة الممتلئة. اشمأز من فعلته، ومع ذلك كررها بعد قليل رغم إرادته.
بعد فترة اعترته لذة من ملمس الفضلات الساخنة اللزج، وأثناء ذلك اكتشف موهبة ظلت مدفونة طوال حياته؛ إنه نحّات ماهر!
بعد وقت طويل، عندما يتخلصون من أشيائه، سيعثرون داخل الصندوق المغلق الملاصق للفراش على مجسمات متقنة لوجوههم من الخراء اليابس.
*
النعش الطائر
رأيته آخر مرة قبل عشر سنوات؛ كنا بين الجموع في الميدان، هربنا، وأخذوه، ولم يعد ثانية.
يقولون إن النعش يطير بصاحبه ويوجّه المشيعين حيث يشاء. يومها فقط صدقت ذلك. كان نعشه يطير فوق أكتافنا، يجري كأنه يهرب منا، فنلحقه لاهثين، وعند المقابر توقف فجأة، وفشلنا في تحريكه.
التفت ومضى بنا بعيدا، وظل يعدو حتى أنهكنا، فتطوع آخرون لحمله. عرفنا أنه طاف المدينة حتى غادرها، وراح يتجول بين البلاد مبدلا تحته أكتاف المشيعين.
ما زالت أخباره تأتينا بعد أن تخطى الحدود وراح يتجول بين القارات. تتابعه وكالات الأنباء، وتتسابق الجماهير لالتقاط الصور معه.
وما زلنا ننتظره ونتساءل: متى يعود ليُدفن معنا؟