يرى الناقد المصري أن محمود درويش يعود في هذه القصيدة إلى الدفاع عن حق بلده المهضوم. لكن الدفاع ينطق، هذه المرة، لا بلسانه ولا بلسان أي فلسطيني، إنما بلسان الأرض التي تنحاز لهؤلاء الذين حرثوها وزرعوها منذ الأزل، الكنعانيين أجداد الفلسطينيين، وأصحابها الأصليين. فالأرض بطبعها وطبيعتها خيَّرة تُعطي أضعاف ما تأخذ.

عندما تستشهد الأرضُ من أجل أصحابها

سمير مندي

              مُهدى إلى شهداء غزة

 

محمود درويش شاعر مُجدد، أخذ نفسه بالصعب في كتابة القصيدة. ورفض منذ بداية عهده بالشعر أن يبني مجده على حساب قضية بلده. فَطَالب نُقاده أن يقرأوا شعره بعيدًا عن شبهة التعاطف مع القضية الفلسطينية. فالشعر، حتى لو كان في سبيل غايات وطنية نبيلة، يجب أن يُقرأ بحسابات الشعر والشعر وحده، وإلا تحول إلى مجرد خُطَب وشعارات سياسية. وقد دلَّل درويش على أن مفهوم الشعر ليس مفهومًا ثابتًا أو جامدًا. إنما يَتَعدد مفهوم الشعر، ويتغير بتغير سبل ممارسته، وتعدد أوجه تصريفه فيما يراه الشاعر ضرورة لازمة لقصيدته. لذلك اختلف شعر درويش من مرحلة إلى أخرى، وتَعَدد بتعدد تجاربه ومعاناته. فلم يعد درويش الشاب هو نفسه درويش الناضج. ولم يعد الصوت الصارخ تحت وطأة صدمة ضياع الأرض والبيت في ديوان «أوراق الزيتون» 1964م، هو نفسه الصوت الذي يتأمل مأساته في هدوءٍ مُفعم بالآسى في ديوان «لا تعتذر عما فعلت» 2004م. على الرغم من أننا لا نفتقد في هذا الصوت، أو ذاك صوت درويش المنافح والمدافع عن بيته وأرضه اللذين سُرقا فسُرقت معهما طفولته وطمأنينته.

في قصيدة «نَزَف الحبيبُ شقائق النعمان»(1) يعود درويش إلى الدفاع عن حق بلده المهضوم. لكن الدفاع ينطق، هذه المرة، لا بلسانه ولا بلسان أي فلسطيني، إنما بلسان الأرض التي تنحاز لهؤلاء الذين حرثوها وزرعوها منذ الأزل، الكنعانيين أجداد الفلسطينيين، وأصحابها الأصليين. فالأرض بطبعها وطبيعتها خيَّرة تُعطي أضعاف ما تأخذ. فتُعلم فلَّاحيها الكرم والمسالمة بتآخيها مع كل ما حولها من طيرٍ وحيوانٍ ونبات. ليس غريبًا، إذن، أن يكون شعب كنعان المُزَارع مُسالمًا بطبعه، منحازًا للتعمير والتَكثير. فإن كان كذلك، فلابد وأنْ تجافي طبيعته العنف، وأن ينأى بنفسه عن حمل السلاح دون أن يكون بوسعنا أن نَعُد ذلك تقصيرًا منه أو ضعفًا. مالم نقل إنه، في عين العقل والعدل، هو القوة بتمامها وكمالها. بخلاف عدوه الوافد الجديد على أرضٍ لم تكن يومًا أرضه، فتدفعه نوازع العدوان التي تُحرك كل مُغتصب إلى التدمير والقتل والإفناء. يقول درويش في مُفتَتح القصيدة منافحًا بالأرض عن أصحابها:

نَزَف الحبيبُ شقائقَ النعمانِ،

أرضُ الأرجوان تلألأتْ بجروحهِ،

أولى أغانيها: دمُ الحُب الذي سفكته آلهةُ،

وآخرُها دمُ...

يحدثنا الشاعر عن أرضٍ، لا تُنبتُ، وإنما تنزف. فيتَنَازع كلمة «الحبيب»، من ثمَّ، أكثر من معنى استعاري. فهي من ناحية دلالة على حبيب هو شهيد أو جريح في سبيل أرضه، وهي، من ناحية أخرى، دلالة على أرضٍ تنزف بنزيف هذا الحبيب. ولئن تحدث الشاعر عن «نزيفٍ» ثم عن «جروحٍ» في السطر الذي يليه، لا عن شهيد، فلأن النزيف أكثر دلالة على جرحٍ لا يندمل، وأشد تعبيرًا عن ألمٍ مستمر لم يتوقف بموت صاحبه. ثم إنَّ الشاعر وسَّع من دلالة النزيف فَحَملها على معنى «الأرض»، مثلما حملها على معنى «شهيد». فاصطنع بين الكلمتين، بذلك، نوعًا من الترادف الذي لا نفرق فيه بين أرضٍ وصاحبها. وتَرَك لخيالنا، من ثمَّ، أن يتعرف في لون زهور «شقائق النُعمان» حُمرة دم الشهيد.

هذي الدلالة المضاعفة في كلمة «الحبيبُ» التي تتأرجح بين أرضٍ وصاحبها، تُقر في نفوسنا حقيقة أن الفلسطيني وأرضه جسدان في جسدٍ واحد. فمن دمه المُراق على أديمها ترتوي وتُزهر زهورًا تصطبغ باللون الأحمر القاني. وقَرابة الدم هذه هي التي سوَّغت للشاعر أنْ ينتقل من دلالة الخصوص القارة في عبارة «شقائق النُعمان» إلى دلالة العموم في عبارة «أرض الأرجوان». حيث اللون الأحمر القاني لم يعد لونَ زهورها وحسب. إنما أصبح لون أرضها ككل يُخالط ترابها، و«يتلألأ» في أزهار نباتاتها. وقد حافظت الصورة التي يعبر عنها الجمع «جروح» على جروح مفتوحة تنزف بعدد نباتات أرضه، أو بعدد نجوم السماء بالمعنى الذي خايلنا به الشاعر في قوله «تلألأت».

يصبح هذا المعنى أكثر جلاءً من خلال التقابل الذي يقيمه الشاعر بين دم الحب الذي «سفكته آلهة» كما في مفتتح القصيدة أعلاه، والدم الذي تسفكه «آلهة الحديد» في ختامها على النحو التالي:

أولى أغانينا دمُ الحُب الذي

سفكته آلهةُ،

وآخرُها دمُ سفكتهُ آلهة الحديد...

حيث يصبح ختام القصيدة بمثابة نهاية مُنتظرة لزمنٍ تسلط فيه آلهة جدد، يُكني عنهم الشاعر ﺒ «آلهة الحديد»، على أرض كنعان فبدلوا سلامها حربًا، ورووا أرضها بدماء أهلها. مثلما يصبح المُفْتَتح دالاً على زمن آلهة أُوَل فتحوا رحم الطبيعة فأزهرت وأثمرت. وكناية الشاعر عن أرض فلسطين بأرض «الأرجوان» يشي باعتداده بناموس الطبيعة في اعتداده بما تنبته، طالما أن ناموس الطبيعة ينحاز لمن يُعمرها ويُكثرها. وطالما أن الشاعر قد دعا الأرض بأرض الأرجوان، فعرّفها به، وكشف عن كينونتها من خلاله باعتبارها أرضًا تنبت، وتُنبت أرجوانًا على وجه الخصوص. غير أن مفتتح القصيدة، من منظورٍ أعم، هو بمثابة معادل موضوعي لمفتتح كوني إلهي خلق الله فيه الكون وقَدَر فيه سُنة البناء والتعمير، لا القتل ولا التدمير. ولنلاحظ الالتفات في مفتتح القصيدة من ضمير الغائب في «أولى أغانيها» إلى ضمير المتكلم الجمعي في ختامها في قوله «أولى أغانينا». بما يعطف «أرض الأرجوان» ومهد الحُب على الفلسطينيين، أحفاد الكنعانيين وورثتهم. فيجعل منهما كلاً ليس بالإمكان فصل أجزائه. تأسيسًا على ذلك يصبح ختام القصيدة، الذي هو حاضر زمن «آلهة الحديد»، لا دلالة على عِبرة بنهاية انتصروا فيها وتمكنوا في الأرض، إنما دلالة على ذروة بلغ التسلط فيها منتهاه فما تبقى له إلا أن ينحدر نحو نهايته بحكم ناموس الطبيعة الذي لا مكان فيه لمناوئيه.

ولنلاحظ أن الشاعر قد اصطنع «التدوير» بتقسيم تفعيلة بحر «الكامل» الذي نُظمت القصيدة على إيقاعه، بين نهاية السطر «أولى أغانيها: دم الحُب الذي سفكته آلهة»، وبداية السطر الذي يليه «وآخرها دم...» بحيث تأرجحت التفعيلة، «متفاعلن»، بين الحروف الموضوعة بين قوسين في الكلمتين «آ(لهة وآ)خرها» فأصبح التدوير، من ثمَّ، بمثابة إغراء موسيقي لأذن القارئ ولخياله معًا لأن يسترسلا خلف نغمة بحر الكامل الصاخبة المُجلجة، دون أن يتأخر الشاعر، في الوقت نفسه، عن كبح جماح هذا الاسترسال بالسكوت عن بقية السطر «وآخرها دم...»، وتأجيله حتى ختام القصيدة. وبهذا، وذاك اصطنع الشاعر ما يشبه فَرْمَلة لغوية فَرْمل خلالها فضول القارئ لمعرفة ما يصبو إلى معرفته. على نحو ما أغراه، على التوازي، بالانقياد وراء نغمة بحر الكامل الصاخبة. هذه الفرملة، وذلك الاسترسال وتَّرا القارئ وأرهفا وعيه بخصوص ما سوف يُلقى على مسامعه. فهو، من الآن فصاعدًا، موضوع على عدّاد التوقع المُرْهف لجِماع آلتَي السمع والتدبر.      

بَاعد الشاعر، من منظورٍ ثانٍ، بين مفتتح القصيدة وختامها من خلال السكوت عن اتمام السطر الشعري «وآخرها دم...» وإتمامه في نهاية القصيدة على هذا النحو: «وآخرها دم سفكته آلهة الحديد». فَبَاعد، من ثمَّ، بين «أولى الأغاني» التي هي مفتتح القصيدة، ومفتتح عهد أرض فلسطين بشعبها الكنعاني في الوقت نفسه. وبين «آخر الأغاني» التي هي ختام القصيدة، وحاضر «آلهة الحديد». بحيث صارت المسافة بين مفتتح القصيدة ونهايتها مجاز يُعمق، في الخيال، بُعد الشُّقة بين زمن «آلهة الحُب» وزمن «آلهة الحديد» بُعد السماء عن الأرض. كما أصبحت المسافة، على هذا النحو، كناية عن مسافة تاريخية طويلة تعكس بُعد عهد الكنعانيين بأرض فلسطين، فهم المتقدمون، وحداثة عهد غيرهم بها، «آلهة الحديد»، فهم المتأخرون. فتؤكد، من ثمَّ، على الحق التاريخي للفلسطينيين في أرضهم التي ورثوها أبًا عن جد.

وبقدر قِصر عُمر الوافد الجديد على أرض فلسطين، أرض كنعان، وبقدر قلة وجوده على هذه الأرض بقدر ما يقل حضوره في القصيدة، وبقدر ما تضيق الرقعة اللغوية التي يُفسحها الشاعر لهذا الوافد. فلا تكاد تقع أعيننا على مدلولات حضورهم إلا قرب نهاية القصيدة، ولا نكاد نعرفهم إلا عبر التلميح دون التصريح، حيث يُكني الشاعر عنهم ﺒ«آلهة الحديد» و«السيف الذي يكتب سيرة الصلصال». على حين تتسع الرقعة اللغوية لنقضائهم «آلهة الحُب» حتى تملأ فضاء القصيدة ككل. فتتسع سبل التعبير عنهم، وتتعدد بين التصريح والكناية والاستعارة فهم الكنعانيون الذين امتهنوا الزراعة منذ قديم الأزل، وهم الذين تسبب قربهم من الأماكن المقدسة في مأساتهم، وهم المسالمون الذين لا جيش لهم إلا حقول القمح وكلاب الصيد. بحيث أصبحت القصيدة ككل «كرنفالاً» تصطخب فيه الحركة وتكثر الألوان، ويسيل فيه الماء سيلان دم الفلسطيني فوق تراب أرضه. دون أن يكون هناك فارق، في الحقيقة، بين الماء والدم فكلاهما مبذول بُحبٍ لأرضٍ لم تعرف إلا لغة الزرع والحصاد. الاختزال اللغوي والبلاغي، من منظور أعم، يصبح كناية عن طرد المحتل من القصيدة، في موازاة التطلع إلى طرده من «أرض الأرجوان».  يقول الشاعر:

نَزف الحبيبُ شقائق النعمان،

فاصفرَّت صخور السفح من

وجع المخاض الصعب

 واحمرَّت،

وسال الماء أحمر

 في عروق ربيعنا...

لاتزال الأرض، ها هنا، مجازًا لثورة الفلسطيني، ولاتزال، بقوة الحياة الكامنة في زهورها وصخورها ومائها، كناية عن كفاحه من أجل الحرية. هذه المعاناة قارة في استخدام الشاعر لعبارات تصور صعوبة هذه الولادة وتعسرها مثل «نَزف»، «اصفرَّت»، «احمرَّت». لكن الصورة، في مجملها، التي تصور أرضًا تنزف زهورًا، فيصفرَّ ويحمرَّ السفح لوجعها، ويسيل الماء أحمرَ ليُنبت، في نهاية المطاف، زهورًا حمراء (شقائق النُعمان) يمنحنا خيالاً مضاعفًا عن الصيرورة التي يروي فيها الفلسطيني الأرض بدمه، فيُولد من جديد زهورًا «تتلألأ بجروحه» وتتحول، في مدى البصر، إلى قماشة أرجوانية مفروشة أو راية حمراء مرفوعة في وجه الناظر كعلامة احتجاج. دون أن تفوتنا الجَلَبة التي اصطعنها الشاعر، بموازاة جَلَبة موسيقى بحر الكامل، في القصيدة بحديثه عن مخاضٍ صعب يتخللهُ نزيف واصفرار واحمرار ينتهي بماء أحمر يسيل. وكلها دفقات انفعالية وعَروضية تُعمق شعورنا بمعاناة تشتد وتتزايد وتيرتها حتى تصل إلى ذروتها في انبثاق الدم. مما يضع القارئ تحت رحمة انفعالات تتباين بتباين هذه المعاناة بين الترقب والتوقع والانتظار المشوب بالرجاء والأمل.

لكن الشاعر لم يتأخر، قبل ذلك، وفي بداية القصيدة عن دعوة شعبه إلى الثورة على غرار ثورة أرضه بزهورها وصخورها ضِيقًا بالمعتدي. يقول الشاعر:

يا شعب كنعان احتفلْ

بربيع أرضك، واشتعلْ

كزهورها، يا شعب كنعان المجرد من

 سلاحك، واكتملْ!

من حُسن حظك أنكَ اخترت الزراعة مِهنةً

من سوء حظك أنكَ اخترت البساتين

القريبة من حدود الله،

حيث السيف يكتب سيرة الصلصال...

يشير الشاعر لا إلى الفلسطينيين، وإنما إلى أجدادهم الكنعانيين أصحاب الأرض الأصليين. وفي الإشارة، كما هو واضح، حِجاج تاريخي يتوسل بالحقيقة التاريخية التي تقول إن الكنعانيين -أجداد الفلسطينيين - قد سكنوا هذه الأرض وعمَّروها منذ قديم الأزل. فوجود الفلسطينيين على هذه الأرض ماهو إلا استمرار لمشروعية وجود أجدادهم عليها. وذلك في نقض لرواية مضادة تزعم أحقية إسرائيل التاريخية في أرض فلسطين. وبعد أن يحاجج الشاعر بتاريخية وجود شعب فلسطين على أرضه، يدعوهم إلى الثورة على الظلم. وبعد أن رد الشاعر لون زهور«شقائق النعمان» الأحمر إلى ارتوائها بدم الفلسطيني في قوله «نَزف الحبيبُ شقائق النُعمان»، يعود فيغريه بالثورة على عدوه وبذل دمه في سبيل دحره أسوة بزهور أرضه التي تحاكي بحمرة زهورها نارًا لا ينطفئ أوارها. تدين الزهور، من هذا المنظور، بحُمرتها لدم الفلسطيني السائل على أديمها، وتغدو الزهور بحُمرتها، من منظور آخر، محرضًا على الثورة ورمزًا لغضب الفلسطيني ونقمته على ظالميه. ولنلاحظ كيف قابل الشاعر بين شعبٍ أعزل مسالم امتهن الزراعة منذ قديم الأزل فلا يعرف إلا لغة البذر والحصد، وآخر يحمل السلاح ويرفعه في وجه أصحاب الأرض المسالمين. مقرنًا الكتابة، أي كتابة التاريخ، بالسيف. أو بالأحرى جاعلاً الكتابة كالسيف الذي لا يكون إلا في يد القوي يكتب من خلاله التاريخ على نحو ما يشاء وتشاء قوته. فالأقوياء هم الذين يكتبون التاريخ، ويوقعون بأسمائهم على السهل والجبل.

لكن الشاعر يعترض وعينا وخيالنا، على نحو مفاجئ، بقوله: «يا شعب كنعان المجرد من سلاحك». في نقلة أشبه ﺒ«يوتيرنْ» مفاجئ، إن جاز هذا التعبير. بحيث خرج بنا عن القافية التي اصطنعها في السطرين السابقين عليه، والتي اتصلت بتكرار اللام الساكنة في كلمتي «احتفلْ» و«اشتعلْ»، فَعَدل، بذلك، عن نغمة صاخبة إلى نغمة أقل صخبًا. ربما خوفًا من انصراف ذهن القارئ عن الصورة التي أراد أن يرسمها ويصورها أمام عين خياله إلى الموسيقى بسرعة تأثيرها في النفس. وربما انسجامًا مع ما تحمله العبارة من خيبة أمل وفجيعة ينشرها النداء غير المقصود لذاته في قوله «يا شعب كنعان المجرد من/ سلاحك». طالما أن الشاعر هنا لا ينادي شعب كنعان بقدر ما يرثي ضعفه وتجرده من سلاحه. وعلى الرغم من أننا نعلم علم اليقين، كما يعلم الشاعر، العدو الذي جرده من السلاح، إلا أنَّ الشاعر آثر ألا يُسميه ببناء الفعل «جرَّد» للمجهول، ربما انصرافًا عن ذكر ماهو معلوم بحكم الحالة والحال، وربما تحقيرًا من شأن عدوه، ونفورًا من الإتيان على ذكره. وربما ملامسةً لجذر الظلم في الكون بتجريد كل مسالم من حق الدفاع عن النفس. فيمنح الشاعر بذلك صوته بُعدًا كونيًا يتكلم فيه بلسان كل مظلوم، لا بلسان بني وطنه وحسب. ويدين، بذلك، الظلم وينتصر للمظلومين أينما كانوا.

ثم عاد الشاعر واصطنع التدوير بتقسيم تفعيلة عَروض بحر الكامل «متفاعلن» بين الحروف الأخيرة من كلمتي «المجر(رَدِ منْ) والحروف الأولى من كلمة (سلا)حك) مُتعجلاً إبلاغ القارئ، من خلال اتصال الإيقاع وتواليه، بالحقيقة المؤلمة التي قادت شعبه إلى ماهو فيه بتجريده من سلاحه، ومستمهلاً إياه، في الوقت نفسه، من أجل تدبر حقيقة الفخ الذي نُصب لهذا الشعب المسالم فابتلعه، أو كاد بتجريده من سلاحه. ووضع السطر، على هذا النحو الاعتراضي، لا يخلو من وضع مأساة فلسطين كلل بين شرطتين اعتراضيتين في مسار التاريخ الذي لطالما شهد محتلين زال احتلالهم ودالت دولهم.

وعلى الرغم من أنَّ الشاعر يرثي تجريد شعبه من السلاح إلا أنه يعود في سطور لاحقة إلى الحديث عن سلاح آخر، ليس من جنس ما نعرفه من سلاح. يقول:

فلتَكُن السنابلُ جَيشكَ الأَبديَّ،

وليكن الخلودُ كلابَ صيدٍ

في حقول القمح،

ولتكن الأيائل حُرَّةً

كقصيدةٍ رعويةٍ...

وهو حديث يسوقه الشاعر من باب أضعف الإيمان. على نحو ما يشير فعل الأمر غير المقصود لذاته في كلمة «فلتكن» الذي يتحول، في هذا السياق، إلى رجاء بدوام سلام الزراعة والحصيد. وربما لأجل ذلك خرج بنا الشاعر من سردية التفجع على شعب مسالم جُرد من سلاحه، إلى شعرية شعب جيوشه «السنابل». وخرج بنا، على التوازي، من لغة ذات مرجعية تاريخية، إلى لغة ذات مرجعية أدبية تنعكس فيها اللغة على نفسها. وتُعلق، بفعل هذا الانعكاس، الإشارة إلى واقعٍ مرير ومؤسٍ. وبذلك وثب الشاعر وثبة كبيرة من التاريخ، ببؤسه، إلى اليوتوبيا بوعودها الفردوسية التي تفتح بابًا على زمنٍ منتظر تعود فيه الأرض إلى أصحابها وتمارس فيه سلامها وإخاءها مع كل ما حولها. فالسنابل كـ «جيش»، والخلود كـ «كلاب صيدٍ» والأيائل الحرة «كقصيدة رعوية» جميعها استعارات تستبدل سلام الأرض بالواقع المؤسي، وجيوش السنابل بجيوش المدافع، وآلهة الحُب بآلهة الحديد. 

 

ناقد مصري

 

(1) من ديوان «لا تعتذر عما فعلت».