في مدينة الحلة، تلك التي تكتنز في جدرانها عطر التاريخ وهديل الحنين، وُلِد صادق الطريحي عام 1964، وكأن الأرض هناك كانت تُهيّئ له مقامًا شعريًا منذ خطوته الأولى. تربّى في محلة المهدية، حيث تتعانق الأزقة على دفء القلوب وتتشابك الحكايات مع الدمع والفرح. من هناك، ابتدأ الشاعر رحلته لا بكتاب واحد، بل بقلق المعنى وبحث الحروف عن شهوة الاندهاش.
لم يكن الطريحي شاعرًا فقط، بل كان كائنًا لغويًا يلوذ بالكلمة كما يلوذ الطفل بحضن أمّه، يكتب وكأن اللغة تُملِى عليه، لا يختارها بل تتسلل إليه من منافذ الروح. درس في مدارس الحلة، ثم أخذته الحياة نحو المعهد الفني، فكان فنّانًا في "المساحة"، لا يرسم الخرائط فقط، بل يقيس الأرض بعيون القصيدة، ويزن الأنهار بما يفيض في داخله من موسيقى داخلية. عاد إلى اللغة العربية – كما يعود التائه إلى يقينه – فتخرّج من كلية التربية، وراح يعمّق النظر في طرائق تدريسها حتى نال الماجستير. وهكذا، صار الشاعر مُعلّمًا، ينثر الحروف في قلوب الطلبة، ويعلّم اللغة لا بوصفها قواعد، بل بوصفها حياة.
كثيرون كتبوا الشعر، لكن قليلين من جعلوا النص بيتًا، والقصيدة امرأة، والمجاز دربًا لمساءٍ لا ينتهي. الطريحي، في دواوينه، لا يكتب القصيدة فحسب، بل يمنحها نبضًا وسيرة. في "للوقت نصٌّ يحميه"، نجد الشاعر يترصّد اللحظة الهاربة، يلبس الزمن ما يليق به من جنون لغوي. وفي "بيت القارئات"، يُؤنسن النص ويجعله أنثى تتزين للقراءة، لا لتُقرأ فقط، بل لتُحبّ وتُصغى إليها. ولم يكتفِ الطريحي بشِعره، بل صار ناقدًا ومفكرًا في النص، يتابع أثر الكلمة في الرواية، ويستنطق السرد، ويضيء على تداخل اللغة بالحياة. كتب في أدب الرحلة، وفي النقد، وفي سيمياء الخلق، وكأن في داخله كتّابًا متعددين يسكنون تحت جلد شاعر واحد.
في "رحلة في السواد"، لم يكن أدب الرحلات مجرّد وصفٍ لمدينة أو طريق، بل كان انغماسًا في الداخل، في ذاكرة المكان كما تسكن القلب. أما "متحف النصوص"، فليس متحفًا جامدًا، بل صالة حيّة تعجّ بالحكايات والرموز، تعيد للنصوص حياتها لتتجوّل بين القارئ والكاتب بروح ثالثة. نال الطريحي جوائزًا عدة، من الشعر إلى القصة إلى المسرح، لكنه ظل متواضعًا، ساكنًا في ظلّ الإبداع لا في ضوء التصفيق. كتب عنه النقاد والباحثون، ودرست نصوصه الجامعات، ووجد فيه الباحثون مادّة خصبة للتأويل والتفكيك، لأنه ببساطة لم يكن شاعرًا تقليديًا، بل مشروعًا فكريًا في ثوب شاعر.
عاش الطريحي في القصيدة، لكنه لم ينعزل عن الواقع. شارك في المؤتمرات، وكتب عن قضايا التربية، وعن تعليم اللغة، وربط بين الجمال والتنشئة، بين البلاغة والإنسان، وكأنه يرى في الحرف خلاصًا تربويًا ووطنيًا معًا. وإن أردنا أن نلخصه في جملة، قلنا: صادق الطريحي شاعر يكتب كما يُصلّي، باحترام وخشوع، بشكّ ويقين، بافتتان بالعالم، وغضب نبيل عليه. هو الحليّ الذي لم يتخلّ عن بيئته، لكنه ارتفع بها إلى أفق القصيدة العربية الحديثة، ليصير جزءًا من نسيجها المتماسك، واحدًا من أولئك الذين يجعلون الكلمة بيتًا، والقصيدة وطنًا، والشعر ضرورة لا زينة. وقصيدته (قاربٌ عبر الفرات) تمثل نموذجًا متفردًا للشعر العربي المعاصر الذي يزاوج بين الهمّ الحضاري والقلق الوجودي، من خلال بنية رمزية ولغة مشحونة بالتوتر والتحول. النصّ يتناول رحلة الإنسان العراقي وسط الانهيارات التي أصابت الذاكرة، اللغة، والتاريخ.
تدور القصيدة حول شخصية رمزية تعبر نهر الفرات بقارب بدائي، في إشارة إلى رغبة في الخلاص أو الإنقاذ، لكنها تصطدم بتحولات مرعبة في الواقع: لغة مشوّهة، نصوص مفرغة من معناها، تاريخ مقلوب، ومصائر مفرومة كما يُفرم الجسد في شاحنة الحليب، في مشهد يجمع العبثي بالواقعي. القصيدة من الشعر الحر، تميل إلى النثرية، لكنها تحتفظ بإيقاع داخلي عبر التكرار والتوازي. وفيها تداخل سردي وشعري، يتصاعد من تأمل رمزي إلى انهيار لغوي ووجودي. وتزخر بالمفردات الرمزية الفرات، سومر، برج بابل، ننسون، نسرُوخ: إشارات حضارية وأسطورية تفتح النص على أفق تأويلي واسع، تربط الماضي السومري بالحاضر السياسي. الزيت، الحافظة، القاموس، النبأ، الحليب: مفردات ذات دلالات مقلوبة، يتحول فيها الغذاء إلى خطر، واللغة إلى رصاصة.
يوظف الشاعر الانهيار اللغوي بوصفه تجليًا لانهيار أوسع: فقدان النطق، النسيان، اختلاط الحروف، كلها إشارات إلى ضياع الهوية وفقدان السيطرة على أدوات التعبير والمعرفة. وتتحول "الميمات" (ماء، ميم) إلى "رصاص"، والهاء إلى "حجارة"، في تلاعب صوتي كثيف يعكس تشوه الواقع. والقصيدة تنتقد السلطة والإعلام والمؤسسة الدينية بصور رمزية محكمة،وفيها نقد لاذع للواقع المزوّر: "زيتٌ وحافظةٌ لتغيير النصوص"، حيث تصبح الحقيقة خاضعة للتعديل والطمس. أما مواطن الجمال البارزة فيها فتبدو في لغتها الكثيفة والمتعددة الدلالات. والصور الشعرية الصادمة والنافذة. والمفارقة القوية بين الماضي المجيد والحاضر المأزوم. والتكرار الفني الذي يعمّق الإيقاع النفسي للنص.
أخيراً يمكننا القول أن "قاربٌ عبر الفرات" ليست قصيدة عبور، بل قصيدة سقوط متكرر في مستنقع الخراب الحضاري. بأسلوبه الرمزي، يُعيد صادق الطريحي كتابة مأساة العراق بلغة شعرية شاهقة، تكشف هشاشة النص، والذات، والمعنى في زمن تتبدّل فيه الحقائق وتُفرم المصائر.