نسكن في بيت طيني قديم، يتوسطه ممر طويل مظلم بسقف عال، لكن أعيننا الفت الظلمة الدائمة، حيث لا نوافذ في الجدار، فقط هناك فتحات في السقف تسمح بمرور خيط من الضوء حينما تتعامد أشعة الشمس مع السطح. وبات باستطاعتنا ان نلعب الورق ونتناول الطعام رفقة تلك العتمة الخفيفة المحرضة على النوم في الظهائر القائظة، مع ما يتيحه البناء الطيني من رطوبة طبيعية تدغدغ الحواس. جميع سكان القرية يتوفرون على تصميمات متشابهة للمنازل. فيكون هذا الممر معزولا تماما عن الشمس لأنه محاط بالغرف بحيطانها السميكة : غرفة استقبال الضيوف وغرف النوم وغرفة تخزين المحاصيل. فيه نتحلق حول بعضنا حينما يشتد الحر صيفا، فيمنحنا رطوبة كأننا تحت مكيف هواء، وفيه نمارس الشغب الذي يكون سلاحنا لرفض القيلولة التي تضايقنا ويهنأ بها الكبار، وفيه كذلك نستمع للحكايات والاخبار الرائجة، واحيانا نختلس السمع للحصول على معلومات تكون موضوعا لنا حينما نلتقي بالأقران.
يعلو صوت المذياع الذي قلما ينتبه إليه احد أو يصيخ له السمع، في ذلك الوقت لم تكن هناك أخبار تهمنا في هذه البقعة المنسية، كل ما يعنينا هو سقوط المطر. إن سقط انتعشنا وإن لم يسقط سقطنا، وسقوطنا له علاقة بالتقشف الذي سيتم فرضه علينا جميعا في كل ما يتعلق بتفاصيل حياتنا البسيطة.
يشتغل المذياع فقط لأن عليه ان يشتغل، أو لضرورة اشتغاله لأن صوت مذيعيه يساعد على الهدوء واستجلاب النوم، وأحيانا تنبعث منه أغاني رابح درياسة. لم أكن وقتها اعرف جنسيته، كنت اعتقد انه من القرية المجاورة لنا، خصوصا ان اسمه رابح، ولهجته قريبة منا. كنت اطرب لصوته وتعجبني كلماته القريبة من قاموسنا الشعبي. وكان مذياعنا قابلا لأن يتحول إلى آلة تسجيل بالضغط على زر جانبي، ثم يصبح متاحا لاستقبال أسطوانة وقراءتها، وتمكيننا من الاستماع لما يخزنه شريطها البني الدقيق.
لم تكن لنا أسطوانات كثيرة، ربما لدينا واحدة او اثنتين، ما اذكره أننا كنا نميز بينهما باللون، الزرقاء فيها قرآن يتلوه مقرئ شرقي، والبيضاء تسجيل قديم لغناء تراثي محلي، وقد امحت الكتابة على واجهتيهما، علتهما نقط سوداء كثيرة بعضها ينسب إلى الذباب…
ذات يوم وجهنا سؤالا جماعيا لأمي: ألا تتوفرين على شريط موسيقي نشغله قبل نفاذ بطاريات المذياع؟
وكنا نسميه مذياعا لأنه يقوم بذلك الدور اكثر من قيامه بشغل المسجلة.
تجيبنا امي: في صندوق جدكم شريط نادر، لو أقنعتموه بإخراجه ستستمتعون به كثيرا.
من يغني فيه؟
إنه تسجيل عائلي قديم، لا غناء فيه، فيه كلام وأصوات.
ثم نتودد لأمي بأن تخبرنا بتفاصيل اكثر عن ذلك الشريط العجيب، وباننا لا نؤمن بالمفاجأة أو الاكتشاف، نريد معرفة خباياه قبل سماعها.
تأكدنا بالمراس بأن جسرنا نحو الشريط هو جدتي، وعلينا معرفة سره كي ننقل إليها توددنا ورجاءنا بأن تتدخل لدى جدي حتى يقتنع بتسليمه لنا.
تقول لنا امي بغير قليل من الحسرة والخيبة: إنه تسجيل صوتي لمن أصبحوا رجالا الآن، حينما كانوا صغارا في الابتدائي، عمكم الكبير يلقن اخاه الصغير محفوظة، وصراخ ابنتي التي ماتت يسمع في بعض المرات، وعمكم الفقيه يرتل القرآن، وجدتكم تغني غناء شعبيا تطلب فيه من الله عودة قريبة لابنها المغترب إلى الديار.
إنه شريط عزيز على جدكم، ويخبئه بعناية في صندوقه ويغلق عليه ولا يخبر احدا بموضع القفل.
رددت أمي كثيرا على مسامعنا بأنها رزقت أنثى جميلة في بداية زواجها، لكن مشيئة الله أرادت أن تحلق الطفلة باتجاه السماء، وهي الآن عصفورة في الجنة، تراهن أمي عليها كي ترشها بماء الزهر وتستقبلها بالريحان هناك. وفي كل مرة أسمع كلام امي أتعلق بأختي التي استنفدت رصيدها من الدنيا قبل ان أحل بها، وفي عمق نفسي وددت لو أمهلها الردى لتبقى بيننا، فكانت فرصة الاستماع لصراخها مطمحا كبيرا عجز عقلي الصغير عن استيعابه، كيف لشريط ان يحتفظ بصوت من مات؟
رغبنا جميعا أن نسمع صوت عمي الطفل وهو في سنته الابتدائية الاولى أو الثانية يعيد خلف اخيه أبيات محفوظة من زمان مدرستهم العتيقة، ونسمع صوت جدتي يصدح بالغناء، لذلك قررنا وضع خطة محكمة للحصول على الشريط مهما كلفنا الأمر.
في المساء نصعد إلى السطوح، وننام تحت النجوم، وعندما يأتينا ضيوف المدن يسمون نومتنا تلك، بالنوم في فندق ألف نجمة.
قبل العشاء نتحلق حول جدتي لتعيد علينا الحكايات، وهي في هذه المهمة محترفة وحكاءة متفردة، لا تسرع ولا تلتهم الحروف، ومستعدة لأن تبدأ من جديد إن فات أحد الأحفاد مقطع أثناء انسحابه لقضاء حاجة.
اتذكر عناوين حكاياتها دون قدرة على تذكر الاحداث كاملة، أحفر في ذاكرتي عميقا علني أعثر عليها لحكايتها او كتابتها، فأجد بصعوبة أسماء الأبطال والبطلات وبعض مميزاتهم دون ظفر بخيط الحكاية وبدايتها ونهايتها.
بعد جولة في ذاكرتي اعود خائبا بعنوانين فقط: (حكاية طلة ذات الجدائل الطويلة) وحكاية الاخت التي ناولتها زوجات إخوتها بيض الأفاعي ففقس البيض في بطنها وانتفخ وتم طردها من البيت درءا للفضيحة. وكان عنوان الحكاية: (اسمع يا كيس. اسمع يا ولدي حب الرمان…)
بعد ان صلت جدتي العشاء واتبعتها النوافل، عادت إلى فراشها فوجدتنا متحلقين حوله بانتظارها. قبل ان تشرع في طقسها الليلي المعتاد، الذي يكون فسحة لنا في انتظار مقدم جدي من المسجد، توجهنا إليها بطلبنا على شكل هجوم وتودد: عافاك الله جدتي، نريدك ان تتدخلي ليخرج جدي الشريط من صندوقه ويمنحنا فرصة الاستماع إليه، نحن نعرف بانه يخبئ شريطا قديما فيه تسجيل لأصوات من الماضي، ونريد الاستماع والاستمتاع، ونعدك بالحفاظ عليه وإرجاعه سليما مثلما تسلمناه.
جدتي لا تعرف كيف ترد طلبا ولا تستطيع تخييب رجاء احد، جدتي كتلة من الهدوء والطيبوبة والنوايا الحسنة، جدتي هي اللطف والرقة والحنان تسير على قدمين. لذلك طمأنتنا بانها ستتوسط لدى جدي وتسعى لإقناعه بتمكيننا من الشريط.
عاد جدي من المسجد يسبقه نور مصباحه اليدوي وحنحنته المعروفة، انصرفنا من حول جدتي إلى الفراش المهيأ للجماعة، والذي تتوسطه مائدة قصيرة الأرجل فوقها مصباح غازي يرسل ضوءً شديد الاقتصاد مائلا إلى الصفرة. وقد تحولنا جميعا إلى آذان في انتظار الحوار الذي سيدور بين العجوزين.
استل جدي قدميه من بلغته الصفراء، دخل فراشه ملقيا التحية ثم جلس. حضوره يُغْني عن وجود الساعة، لأنه يعني إعداد وجبة العشاء وإحضارها. عودته وقت مضبوط لا تأخر بعده، ولا علة لأحد لم ينضبط لذلك الوقت ولا عذر لِكَنةٍ لم تقم بالواجب في هذا الوقت الذي يحكمه الفراغ من تأدية الصلاة. شتاء يأتي باكرا، وفي الصيف يتأخر نظرا لكون ميقات الصلاة يتأثر بالفصول.
من بقي خارج البيت بعد دخول جدي، تكون وضعيته صعبة، قد يظل يطرق الباب طويلا دون ان يسمعه أحد، لان جدي لما يدخل يغلق الباب الخشبي الثقيل بالقفل الخشبي الصلد، ويدعم الإغلاق بعمود يضعه مائلا يربط بين وسط الباب وأرضية الممر.
جدتي تعلم جيدا حجم انتظاراتنا، وتدرك المثل القائل بأن الحديد يضرب ساخنا. لذلك سارعت متوسلة ومتوددة إلى تقديم طلبنا إليه قبل ان تعطيه فرصة للخوض معها في أي نقاش جانبي: بالله عليك، الأولاد يرغبون في الاستماع للكاسيتة القديمة المخبأة عندك، لا تخيب رجاءهم في ولا فيك، لن يفسدوها وانا أضمن لك ذلك.
جدي يعتبر طلبات جدتي أحيانا تكسيرا لهيبته وتدليلا زائدا لنا ومسا بصرامته وحزمه، مما قد يجعله مزمجرا بعض المرات ومحذرا لها بان ليونتها الزائدة ستضيعنا، وستجعلنا مثل ابناء فلان وفلان … ويعطيها امثلة تعرفها هي ويعرفها هو، وكيف ان تخنيث الأبناء يعود عليهم بالسلب، ويوجه نظرها إلى أن أم فلان هي سببه في احتراف الخمول والتعويل على الغير وبان الأخرى هي التي منعت بحبها الزائد فلانا بألا يهاجر، فحرمته من امتيازات المغامرة التي عاد منها أقرانه بالخير العميم…لكنها لا تعقب عليه، بل تتركه يسترسل في أمثلته إلى أن ينهي فتعود لطلبها وهي تدعو له بالخير والحج والرحمة …
جدي لا يعلن موافقته مباشرة وبسرعة، إذ لا بد ان يشرطها بشيء أو يضيف إليها تعليقا أو تعقيبا. لذلك احتفظ برده إلى ان أسمعه لنا وكأنه تحذير ونحن نتناول العشاء، دون ان يوجه الخطاب لشخص محدد ودون ان ينظر في وجه احد استرسل يقول: ما الذي ستستفيدونه من سماعكم لكلام؟ ليس في الشريط كمان ولا بندير، عمكم الكبير يلقن أخاه الصغير محفوظة وعمكم الفقيه يقرأ القرآن…
ما المحفوظة يا جدي؟ هل هي من قبيل المحفوظات التي يتم تدريسها لنا اليوم ونطالب بحفظها تحت التهديد بالعقاب؟
أنا لا اعرف ما تدرسون، لكنه يلقنه محفوظة الغراب.
الغراب الذي حصل على جبنة طرية وحاول الثعلب الماكر انتزاعها منه بالحيلة فجاءه متمسكنا يطلب منه ان يغني له، مثنيا على صوته العذب الرخيم الجميل، فإذا هم الغراب بفتح منقاره سقطت الجبنة والتقطها الثعلب وفر بها.
عمي الصغير أصبح الآن طالبا في كلية العلوم، وسماع صوته الطفل إنجاز كبير لنا، قد نستخرج منه ما يجعلنا نصنع به قفشات عنه، وقد نتجرأ لنسخر منه، وعمي الفقيه غادرنا إلى المشارطة في مسجد بعيد لا نعرف بلدته، وسماع صوته مرتلا يخفف من الحنين إليه ويقرب من مخيلتنا ملامح وجهه التي بدأت تغيب من صفحة الذاكرة. وصراخ اختي الراحلة سيجعلنا جميعا نسمع صوت من مات قبل وجودنا. فعلا إنها متعة عظيمة…
استيقظ جدي لصلاة الفجر كعادته، ومنها انطلق مباشرة إلى شؤون الحقول والمواشي، وظللنا نائمين إلى ان لامست خيوط الشمس أقدامنا. على مائدة الفطور كنا ننظر إلى جدتي نظرات يملأها السؤال حول مخرجات الحوار ومآل الطلب. ولأن جدتي لا تحب إفساد الفرح ولا التماطل ولا تتلذذ بضغوط الانتظار أخرجت من تحت غطائها الأسود أسطوانة بلون رمادي باهت وقدمتها لنا مبتسمة: ها هي، حافظوا عليها وردوها لي قبل الظهر.
تسابقنا باتجاه الراديو، ضغطنا على زر التحويل ليفسح لنا إمكانية الاستماع للشريط، انفتح الباب الصغير الذي في الواجهة، وضعنا الشريط في مكانه، أغلقنا الباب الصغير، ضغطنا على زر التشغيل ولم نسمع شيئا. فقط طقطقات وصوت متحشرج يصعب فك كلماته. أخرجنا الشريط وأعدنا إدخاله بعد عكس الوجه، فاستمعنا لنفس الصوت الغابر الغامض كأنه خارج من بئر سحيقة.
في المكان الذي نجتمع فيه رفقة أطفال الدرب، كان لا بد ان نفتخر بإنجازنا، وأن ندعي بان لدينا شريطا قديما مسجلا بأصوات من كبروا الآن عندما كانوا صغارا ومراهقين، وكان علي شخصيا أن اضيف إلى كلام أخي باننا استمعنا إلى صوت عمي الفقيه وهو يجود سورة ياسين بطريقة أحسن مما يفعله فقيه مسجدنا، وبان صوت عمي دافئ ومحرض على الإيمان، وبأنه لو كان يؤم الناس هنا لما وجد المتأخر مكانا له في صف بسبب صوته الجاذب. وباننا سمعنا صوت اختي الكبيرة التي ماتت قبل مجيئنا إلى الدنيا.
هل كان علينا أن ننسج حكاية بكل ذلك الإفراط في التأويل، كيف استطاعت عقولنا الصغيرة تحويل الحشرجة إلى أصوات وحوارات.
في المساء لما انكمشت حولي، أغمضت كل حواسي تجاه العالم، وفتحتها تجاه الشريط الرمادي، وإذا بي أسمع بشكل واضح وفصيح صراخ اختي بفعل لسع الذباب أو الجوع (لست ادري) وصوت عمي الكبير يلقن عمي الصغير محفوظة هذا مطلعها:
حط غراب فوق غصن شجرة // وجبنة في فمه مدورة