من بلد "جوخة الحارثى" و"زهران القاسمى" تأتى الكاتبة العمانية "ليلى عبد الله" لتؤكد تسارع الأدب العمانى خاصة، والخليجى عامة، نحو اللحاق بالآداب العربية –السابقة فى مضمار الأدب- والأدب العالمى، لتعلن أن الإنسان فى هذه المنطقة، يتمتع بالحس الإنسانى، ويسعى أن يتساوى مع غيره من البشر. يشعر بالديمقراطية، والمعاملة الإنسانية.

ذوّاق الملك

ليلى عبد الله

 

كان آخر أحلامي أن أموت بداء الملوك!

إذ لم أفكّر في ميتة مختلفة عمّا ألفَه مئات الفقراء أمثالي في هذه المملكة، إلّا أنّ الفكرة خطرت ببالي حين أذاع بواق القصر عن حاجة الملك إلى متذوّقين لطعامه مقابل خمس قطع ذهبية. وهذه النّقود لم تمنح حتّى لجنديٍّ يتفانى في ساحة المعركة، لابدّ للملك أن يكون سخيّاً؛ فهو يعي أنّ من يمتلك الشّجاعة للتّقدّم إلى الوظيفة، سيعرّض روحه للمغادرة باكراً، لقد مات عشرات من البسطاء الذين أغراهم رنين الذّهب، وربّما يكون مصيري كمصيرهم، خصوصاً أنّ للملك خصوماً، يحيكون مؤامراتهم في قصره.

فما حيلتي؟!، حياتي أشبه بالموت، سأقبل بالمقامرة رغم معارضة زوجتي، لعلّي أنقذها وأطفالي من شبح الجوع.

 سرت إلى القصر كمن يلقي بنفسه في بحيرة عامرة بتماسيحَ جائعةٍ، وكنت مع آخرين من طهاة وسقاة وذوّاقين تحت إشراف الملك نفسه، طواقم متعددة في بلاط المطبخ الملكيّ، يعدّون أطعمة مختلفة لا أحد يدري من أيّ طاقم سيختار الملك طعامه الشّخصيّ. وفوق ذلك كان الذّواقون يتوزّعون تحت متابعة مربية الملك ليتذوّقوا الأطعمة كلّها، بأن تؤخَذَ لقمة من كل قدر قبل أن يختار الملك طعاماً لذوّاقه الخاص.

 في أوّل ليلة تملّكني الذّهول لحجم المأكولات، ما لذّ وطاب منها، بقيت حائراً: أيّها ستقتلني؟!

كان الملك شديد الحرص أكثر ممّا توقعت، فهو لا يكتفي بجعل ذوّاقه الخاص، يتناول عيّنة من الطّبق، بل ينتظر لدقائق، فإذا لم يسقط غارقاً في رغوة بيضاء تخرج من فمه، يكون بذلك قد نجا الطّبق من سمّ الأعداء. كنت على يقين بأنّني سأموت خلال تذوّق الطّعام؛ لذا عقدت العزم على الاستمتاع بكلّ لقمة أضعها في فمي، فتعمّدت أن آخذ لقمة كبيرة وأبطئ في مضغها.

 كنّا قليلين والطّعام الملكيّ وفير، وما يتبقّى يُرمى قبل أن يفسد _ يا إلهي _ ما ألذّ لحم فخذ الغزال الطّري، وهو يسري في جوفي، شيء كالسّحر، بل هو السّحر بعينه!

مرّت الليلة الأولى، لم أصدّق نفسي، لقد نجوت!

في الليلة الأخرى، ذهبت كمحارب إلى وليمة الموت، كنت على أتمّ الاستعداد، قد ينتهي أمري هذه الليلة، لكن سأموت شبعانَ، كما تمنّيت، وهذا الشّعور المتدفّق بحدّ ذاته يدفعني نحو الموت منتصراً.

فُرشت أمامنا مائدة عامرة، والبخار يتصاعد من أطباقها الشّهية، والرائحة من لذتها تكاد تدوخني، وفي ذلك اليوم، دخل علينا الملك، فأمرني أن أبدأ بالطّبق الرّئيس، بأن أقتطع الذّبيحة من منتصفها، عادة ما يكون السّمّ مدسوساً في قاع الوجبة لا أطرافها، كم كان الملك متشكّكا!

 كنت ألتهم دون خوف، وهو ما جعل الملك وأعوانه مندهشين، آكل بشراهة وشحم الشّواء يفيض بطراوته من بين أصابعي، ألعق بلساني الرّطب كل إصبع من أصابعي بلذّة مضاعفة، ثمّ أمدّ يدي اللزجة إلى الطّبق وأنتشل لقمة كبيرة من فخذ الذّبيحة وأحشوها في فمي، بينما يسيح دهنها على ملابسي مخلّفا بقعاً ذهبيةً، وكان همّي أن أشبع قبل أن أشهد نهايتي على يد عدوّ خفيّ أجهله تماما ويجهلني، عدو لستُ غايته!

انتهى عشاء الليلة الثّانية، ولم يكن عشائي الأخير على ما يبدو، كم كنت محظوظاً !، التهمت كلّ ما كان في الأطباق، ونجا الملك كما نجوتُ بمعدة ممتلئة، لم أعبئْها بهذا القدر من الطّعام منذ ولادتي.

طلبني الملك لأكون ذوّاقه الخاص، كان يستمتع بطريقة التهامي للطّعام أكثر من استمتاعه بوجبته، ومع مرور الأيّام، تفاقمت أعباء الحكم، وازداد الجياع في الخارج، وتكالبت شكوك الملك خصوصاً بعد موت أحد الذّواقين، وأخذ نصيب معدة الملك يقلّ من الطّعام.

 يتناول الملك لقيمات معدودة، بينما يراقبني، وأنا أزدرد ما تصل إليه يداي، أزداد تخمةً، بينما الملك يزداد نحافةً، وكان الملك يرى في نجاتي تهديداً مبطناً وحيلة، يريد منها أعداؤه أن يسترخي مطمئناً، ويستغني بها عن متذوّقه، فيكون حينها لقمة سائغة، لكن: هيهات ، هيهات.. كم كانت نبرة الملك حادة، وهو يرفع سبابته مهدداً أعداءه الوهميين! 

صار مع مرور الأيّام يطلب منّي أن ألتهم نصف الولائم، بل زاد تشكّكه الصّارم إلى الحدّ الذي جعله يستغني عن تناول الأطباق، ويكتفي بتناول القليل من الفواكه فتضاعف حجمي، وصار جسمي مترهّلاً من الشّحوم، وبدا الملك كخيط رفيع كاد أن ينقطع في أيّة لحظة من شدّة نحولته.

وبعد ثلاث سنين قضيتها في القصر، قضى الملك نحبه بسبب سوء التّغذية؛ وظلّت المؤامرات تعيش بعده، وقد عدت إلى أسرتي التي تحسّنت أحوالها بفضل ما أرسله لها من بريق الذّهب، إلّا أنّني عدت مريضاً بالنّقرس.